ميشيل كيلو **
تلفت نظري في اللاذقية، مدينة آبائي وأجدادي، أوراق النعي، التي تنتشر بكثافة علي حيطان البلد، كما يسميها أبناؤها. وفي حين تكون أوراق النعي المدينية مرتبة ومطبوعة وفق نموذج محدد، تتسم أوراق نعي الريفيين بعدم الترتيب، وبكثير من الفوضي في توزيع مكوناتها وفي نوع حروف الطباعة الخشنة المستعملة فيها، والورق الأقرب إلي الأصفر الذي تطبع عليه.
غير أن ظاهرة مهمة لطالما لفتت نظري وأنا اخترق شوارع مدينتي، هي أن أبناء الريف يكونون في أغلب الأحيان من العسكريين، بينما تربط أبناء المدينة علاقة بعيدة وواهية بالجيش، حتي ليندر أن تلمس وجود عسكري ما في أوراق النعي الخاصة بهم، بينما تكاد أوراق النعي الريفية تخلو، من جانبها، من وجود أي مدني، إلا في ما يتصل في الحالتين بالمسنين، الذين كان عمرهم يوم الثامن من آذار/مارس ثلاثين أو أربعين عاما، فلم ينخرطوا في سلك العسكر!
ومع أن كلتا ورقتي النعي تبدأ بالآية الكريمة، التي تتحدث عن النفس المطمئنة العائدة إلي ربها راضية مرضية، فأنهما تفترقان في كل شيء بعد المقدمة، ليعكس افتراقهما افتراق ظروف واقع وحياة أبناء الريف، الذين يعيش معظمهم علي ريع السلطة وخاصة العسكري منه، وواقع أبناء المدينة، الذين هم غالبا أصحاب حرف أو أعمال حرة أو موظفون متوسطون وصغار، ويظهر، كما لو أنه وثيقة رسمية، طبائع الأمور في بلد تستقطب سلطته أبناء الريف في الجيش والأمن خاصة، وتمنحهم وظائف ومراكز قيادية في دوائرها ومرافقها الرسمية، وتشجعهم علي الانخراط في الجندية وما يتفرع عنها من دوائر وأجهزة، في حين يعتمد أبناء المدينة علي أنفسهم ومواردهم الخاصة غالبا، حتي ليعتقد المرء أنهم يعيشون خارج أية علاقة مع أي شيء رسمي أو سلطوي، ويستغرب كيف تمكنوا من البقاء علي هامش وخارج سلطة تمسك بكل شيء وتقرر كل شيء في بلدهم، وكيف حققوا التقدم المادي الذي بلغوه، مع أنهم يعيشون خارج عالمها الرسمي: الذي هو موزع الأرزاق الرئيسي علي الريفيين.
لوعدنا إلي أوراق النعي، لوجدنا أنها تلقي الضوء علي حقائق التوزيع الطبقي والسياسي لمدينة طالما تعايش فيها بسلام وتفاعل أخوي أبناء الأديان والمذاهب والطوائف المختلفة، وكذلك المنتسبون إلي إثنيات متباينة، يقينا لو أنني وجدت قبل أربعين عاما في نفسي الجرأة للحديث عن طوائف، لرجمني أبناء المدينة والريف. أما اليوم، ومع أن الطوائف ضرب من بنية تحتية للوعي العام في سورية، فإن أحدا لا يجرؤ علي الحديث عنها، ليس لاعتقاد الناس أنها غير موجودة، بل خوفا من سلطة تدعي أنها أقامت وحدة وطنية صهرت الشعب في بوتقة ألغت جميع أنواع الفروق العقائدية والإثنية، وجعلت أي حديث عن طوائف خيانة وطنية مثبتة تستحق العقاب.
تقول ورقة النعي الريفية، بعد الآية الكريمة، إن الفقيد هو العقيد أو العميد أو المقدم فلان الفلاني، وأن أبناءه هم ـ بحسب رتبته ـ المقدم أو الرائد أو النقيب أو الملازم أول نضال أو ثائر أو كفاح أو رفيق أو خليل أو إبراهيم أو إسماعيل أو حسن أو علي… الخ، وأصهاره أزواج بناته ثورة أو ثائرة أو نضال أو رفيقة أو أمل أو شروق هم المقدم المهندس أو الرائد الطبيب أو الملازم الأول الإلكتروني أو المستشار الفني أو المزارع… الخ. بينما ستجد بين اخوته مدرسا أو معلما أو عضو قيادة شعبة في الحزب أو محاميا أو قاضيا أو مهاجرا، دون أن يبطل ذلك الطابع العسكري الغالب علي الأجيال الجديدة من أسرته أو علي من يمتون إليها بصلة. فاتني القول: إن ورقة النعي تخبرنا أن الصلاة علي روح الفقيد ستتم في جامع القرية، وان العزاء فيه سيقبل يوم كذا وكذا في بيته الريفي، مع أنه ربما يكون ولد في المدينة ومات فيها، ولم يمض أو يعمل غير أيام قليلة في الضيعة.
إذا انتقلنا إلي أوراق النعي المدينية، وجدنا كلمات تتكرر في كل منها هي الحاج أو الشيخ أو التاجر أو المهندس أو الطبيب أو الأستاذ… الخ، تعلمنا أن هؤلاء من رجال البر والتقوي والخير والإحسان، في حين تعكس أسماؤهم بدورها نزعة دينية سادت خلال السنوات الأربعين الماضية لدي معظم أبناء المدينة، فالمتوفي هو محمد جمعة أو محمد غالب أو محمد سالم ـ أو أي شيء من هذا القبيل ـ وأبناؤه هم بالتأكيد محمد مصطفي، ومحمد عبد الله، ومحمد نديم، ومحمد رجاء، ومحمد واصل، ومحمد حسيب، ومحمد طه، ومحمد خالد، ومحمد عمر… الخ، بينما يوجد دوما اسم فاطمة وخديجة وزهراء وعائشة ومؤمنة وتقية وسميه وآمنة وآية بين أسماء بناته وقريباته، وعبد الستار وعبد الله وعبد الغفور وعبد الرحمن بين أسماء أصهاره واخوته وأبناء أعمامه وأخواله، مشفوعة علي الغالب بصفة الحاج أو الشيخ أو البار أو التقي.
ما أن تقرأ أوراق النعي، حتي تكتشف أنك لست فقط حيال رجال فارقوا الحياة الدنيا، بل كذلك أمام وضع اجتماعي/ سياسي/ ثقافي وطني، بالأحري لا وطني، تفضح الأوراق حقائقه المؤسفة والخطيرة، التي تكونت خلال السنوات التي قالت السلطة فيها إنها تبني عالما من المساواة والإخاء والحرية والمواطنة، وتمحو الفوارق بين الريف والمدينة. عندئذ، ستهز رأسك بأسي، وستخشي ما تشي الأوراق به من مصير بائس ينتظر وطنك، وستترحم علي نفسك، خاصة حين تبحث عبثا في أوراق النعي عن شيء يشي بوجود زواج أو قرابة بين المدينة وريفها، وبين محمد علي وعلي محمد، فلا تعثر علي أثر لأي منهما، رغم أن صورا وملصقات ويافطات كثيرة تنتشر علي جدران المدينة وفي شوارعها تخبرك أنك تعيش في سورية الحديثة ، وأنك تجسد الوطن، لأن الفروق بينك وبين بقية مواطنيك لم تعد موجودة، تحت أي شكل أو مسمي!
هذا الحال، بدأ يتغير في السنوات الأخيرة، حيث تشكلت في المدينة لجان تعني بالعمل الوطني الديمقراطي، انتسب إليها طوعيا ولأغراض بعيدة كل البعد عن أي غنم شخصي، جامعيون ومحامون وعمال ومدرسون وتجار وفلاحون وطلبة… الخ من جميع الاتجاهات السياسية والأديان، جعلوا همهم وصل من انقطع من لحمة بين المواطنين، علي أرضية المواطنة، التي تكفل لهم المساواة والحرية. وذلك بصيص الضوء الوحيد في عتمة الواقع المقيت، الذي جعل مدينة عرفت 56 صحيفة ومجلة ومنتدي بين عامي 1925 و1958 لا تعرف اليوم غير جريدة فقيرة توزع 500 نسخة بشق الأنفس، وتخلو من أي منتدي للحوار أو أية ساحة للتنفس الفكري والروحي والوطني، صار من الضروري جدا أن يقبل رجالها ونساؤها العزاء بعلي محمد في جامع العجان وسط المدينة، ومحمد علي في جامع القرداحة!
* نشر المقال في 16 أيار (مايو) 2006 وكان سبباً في اعتقال الأستاذ ’ميشيل‘ حينذاك
** كاتب وباحث ومحلل سياسي سوري
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.