الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

ابن خلدون والنظام السلطوي العربي

نور الدين ثنيو *

مازال فكر ابن خلدون حاضرا في حياتنا السياسية والثقافية، ما دام النظام العربي لم يبرح بعد منطقة الحكم السلطوي، وهي الوضعية التي صُنِّف فيها مؤخرا. لا يزال فكر ابن خلدون يلاحق النظام السياسي العربي، ما دام لم يخرج من الحالة الديكتاتورية والتسلطية التي هو عليها منذ عصر النهضة العربية الحديثة والمعاصرة. فقد امتد الزمن المعاصر، وطال أكثر مما يجب، لكي يوفر إمكانية إعادة الدولة العربية إلى الوضع اللائق بها، كما فعل العديد من دول العالم الغربي منه وغير الغربي.

فقد تطورت الأوضاع في مجتمعنا الدولي بالقدر الذي احتاجت إلى إعادة التفكير في قضايا التقدم والتأخر، وفق إشكاليات متجددة تتماشي والوعي العالمي الجديد. فإشكالية التقدم والتأخر على ما ألفناه في العالم العربي، وكما جاء في كتاب المفكر والمناضل القومي شكيب أرسلان، في ثلاثينيات القرن الماضي، «لماذا تخلف العرب وتقدم غيرهم؟» لم تعد إشكالية إجرائية، صالحة كمشروع لتنمية مجتمع وبناء دولة، لأن القضية بذاتها انتهت مع نهاية سياقها التاريخي، الذي يعد المحيط والصلب في الوقت ذاته، الذي يجب أن تعالج فيه مسألة بناء الدولة ورسوخها كمؤسسة عمومية لا تقبل الاستئثار والاستغلال.

واليوم، نحاول أن نقرأ ونعيد قراءة ابن خلدون لهذا السبب والغرض بالذات، أي لوجود مشكلة في نظام الحكم العربي الحديث والمعاصر.. ولعلّنا لا نغالي ولا نجانب الصواب، إذا قلنا إن الثورات العربية القائمة في غير بلد عربي، تستدعي بالضرورة والحَتم، مسألة العصبية، فقد آلت أوضاع العرب إلى التفكك والانهيار والدمار والخراب، بسبب طول مكوث العائلة في الحكم، في سياق تاريخي لا يحفل إلا بالتحديث والتجديد، وإعادة التفعيل والتطوير المتواصل، في عهد ازدهار قيم الديمقراطية ومبادئها. وعند فتح أفق التفكير في نظرية العصبية، نجد ابن خلدون يربطها بالعمران، على اعتبار أن الجماعة الحاكمة هي التي تشيِّد العمران، وهي أيضا التي تدمِّره، وحالا إذا تبرز إشكالية الدولة ومؤسساتها وبناء واستقرار المدن وعالم الريف ونوعية التنمية، التي تعد الأساس الصلد، الذي تستقر عليه الدولة في مدلولها الحديث والمعاصر. وهكذا، فإن نظرية العصبية، أو الجماعة الحاكمة بحكم القرابة، أو الدين، أو القبيلة والجهة، هي التي استدعت في الحالة العربية القائمة اليوم فكر ابن خلدون، والسياق الذي ظهر فيه، وإجراء المقارنة بين الحالتين، خاصة التوكيد على اللحظة المؤذنة بزوال أنظمة الحكم السلطوية المستبدة، وفشلها الذريع في محاولة توريث حكم جمهوري، والاحتفاظ به كملك لعائلة الرئيس. وهذا لعمري يقع على طرف مناقض تماما لمنطق التاريخ، وطبائع العمران كما يوضحها ابن خلدون على النحو التالي: «هي تبدل الأحوال في الأمم والأجيال، بتبدل الأعصار “العصور” ومرور الأيام .. لأن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونِحَلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول: سنَّة الله التي تدخلت في عباده». في هذه الفقرة توكيد واضح يصل إلى حد النظرية في التاريخ، عندما تشير إلى مسألة تغير الأحوال والسياقات والأزمنة، التي تحث على ضرورة تغير طريقة الحكم، ونظام الإدارة والقيادة، وهذا جانب يؤكده تاريخ النظام العربي الحديث والمعاصر، أما الجانب الآخر الذي أكد عليه ابن خلدون، فإن إشكالية الريف والحضر يجب أن تتم من خلال الدولة وليس «ترييف الدولة» بمعنى أن الدولة تقوم في الحضر، وتواصل تطورها في المدينة ومنها، إلى مجموعة من المدن ضمن نظام حكم واحد، إلى التجمعات البشرية والمؤسساتية الكبرى على ما تشهد على ذلك الدول الحديثة. وعند مطابقة فكرة ابن خلدون حول الريف والحضر، أو عند معاينة عملية الانتقال، التي يجب أن تجري عبر الدولة ذات الخاصية النزيهة والبعيدة عن الريف وأجوائه، نقول إن الحالة العربية الراهنة وما يسودها من ثورات وانقلابات، وإخفاق في نظام الحكم، يعزى بالأساس إلى عدم الحسم في مسألة الانتقال من الذهنية البدوية وعالم الريف إلى المدينة والمدَنِيّة وقِيَمها الحضارية والإنسانية، بل كل ما تم أن الحاكم وحاشيته القادمة من عالم الريف، واصلت الحكم بما تملك من القدرة على البطش وانعدام أخلاق المدينة وسلاستها، وعاندت في السلطة إلى حد الانهيار التام.

في مثل ذات السياق الذي يمر به العالم العربي اليوم، كتب ابن خلدون كتابه المعروف «المقدمة» القرن الرابع عشر، وأراده أن يكون معاينة وكشفاً لأسباب تردي الوضع العربي والإسلامي العام. فهو الشاهد على أفول حضارة الإسلام وعلومه، وعلى تقهقر المجتمعات العربية إن في بلاد المغرب أو المشرق. وبالجملة، وعبر التحليل والنقد، ينتهي صاحب المقدمة، إلى أن استسلام الجماعة الحاكمة إلى الدّعة والتَّرف يفضي لا محالة إلى الزوال والفناء، وهذا ما يقع، مع اختلاف العصرين، وتفاوتهما الحضاري اليوم، في البلاد العربية من انهيار متلاحق لأنظمة عربية سلطوية تصلبت وتكلست فيها شرايين العصبية في الحكَّام لعقود من الزمن، إلى حد المواجهة المباشرة مع شعوبها. عند شرحه لنظرية العصبية في صِلتها بالحكم والدولة، يولي ابن خلدون، بعد مسح نقدي ومعايشة واقعية، مسألة «العصبية» العناية التي تستحق لفهم أسباب صعود وسقوط الدول والعائلات الحاكمة. فإذا تولت جماعة الحكم والقيادة على أساس من التمَكُّن والسؤدد والقوة، استطاعت أن تشَيَّد المُلك والسلطة والدولة، إلا أن العصبية ذاتها إذا طالها الفساد وانتابها التَّصلب ستؤول إلى زوال حتما، وهذا ما يجري في عالمنا المعاصر، على ما نشهد من ثورات تعصف بأنظمة حكم سلطوية، هي ذاتها التي تولت الحكم ما بعد الاستقلال على أساس من التَّمَكن والغلبة والشدة، سواء حيال القوى الرجعية الداخلية أو الاستعمار ومخلفاته على صعيد الحياة الدولية. ولمزيد من التوضيح، نقول إن تعليق مسألة الحكم على العصبية، سواء عند ممارسة السلطة لترسيخ السيادة وازدهار الدولة، أو عند فساد العصبية واضمحلالها، فإن الشاهد القوي على هذه النظرية، هو واقعنا الراهن الذي أكد حقيقة أن التمادي في الحكم والعناد فيه، رغم تبدل وتغير الأحوال، يفضي قطعاً إلى الفناء والزوال. الحقيقة التي لا يماري فيها أحد هي أن العصبية مفتاح واقعي وعلمي لكشف وتحليل أسباب التراجع العربي المعاصر، على أساس أن الحكم اقترن بالعائلة والقرابة، وعِصابة الحزب والجهة والسلالة.. وكأن الوضع السياسي لا يزال على حاله منذ عصر ابن خلدون.

* كاتب وأكاديمي جزائري

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.