الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

موقفـــــنا خـــارج المهرجـان الكبيـــــر


الاتحاد الاشتراكـي العربـي
                                                                                    حرية * اشتراكية * وحدة

       في سوريــة

 

 (نشـرة داخليـة خاصة بالأعضــاء)

                                                           

الدكتور جمال الأتاسي

     النظام في حركة لا تتوقف ليغطي البلاد بمهرجانه الكبير, مهرجان التشريح والبيعة والاستفتاء لمنصب الرئاسة, معبئاً لذلك جميع طاقاته وقواه وأجهزته ووسائل دعايته وإعلامه, وموظِفاً لخدمة هذا المأرب, المواقف السياسية المتشددة وشتى المظاهر والاجراءات, بما في ذلك المنح والعطايا وزيادات الرواتب والأجور . إلا أنه بالتأكيد ليس مهرجاننا, وما يسمونه في هذا المجال ممارسة للديمقراطية ليس من الديمقراطية في شيء, ولا يجسد أي منهج ديمقراطي ننشده فموقفنا منه هو الاستنكاف, والانسحاب خارج إطار هذا المهرجان الزاخم ومن يلفهم معه, بإحساناته أو عن مخافة أو عصبية, وهذا هو الموقف الذي نتحد به مع المشاعر الحقيقية لجماهير شعبنا المسحوقة التي تؤّثر العزوف وتكتم الغيظ . فأمام غطرسة المهرجان الكبير, لا يبقى من مجال لموقف آخر ولا يبقى لكلمة لا من مكان, ولا يعود أمام كلمة نعم من شرط, لتصبح كلمة ( لا وكلمة نعم ) سيان أمام صناديق الاستفتاء والصورة التي صيغ عليها الاستفتاء . ونماذج ديمقراطية هذا النظام أو ما ينادى به من ديمقراطية شعبية, قد خبِرَتها جماهير شعبنا, وعانت ثمراتها من القاعدة إلى القمة ومن المجالس المحلية والنقابات والمنظمات الشعبية, إلى مجلس الشعب الذي أعطانا على شاشة التلفزيون عندما اتخذ مكانه في المهرجان .. صورة جلية عن مكانه ودورة التشريعي .. وطريقته في التعبير عن ديمقراطيته ….

     قبل سبع سنوات بدأ هذا النظام بناء هيكله من فوق, وجرى استفتاء شعبي على ترشيح الرئيس, وأسهمنا مؤيدين كما أسهمت قطاعات واسعة من جماهير شعبنا وبإرادة حرة تقريباً من خلال الأمل الوطني ومن خلال الوعد الديمقراطي . وقامت لنا تجربة مع هذا النظام وقدّر من المشاركة . ولقد جاء تعاملنا معه في البداية من منطق الانفتاح الديمقراطي للقوى الوطنية والديمقراطية جميعها, وتحت شعار بناء الوحدة الوطنية في سبيل نهوض جماهيري وطني جديد للتصدي لمهمات المرحلة . وكان الحوار مفتوحاً بيننا وبين قيادة النظام في هذا السبيل عندما جاء الاستفتاء, وقدمنا كما قدمت الجماهير حماستها وثقتها, وكان التقدير العفوي أن الثقة التي تُقــدَم هكذا كبيرة معطاءة من الجماهير لا بد أن ترتد باتجاه الجماهير انفتاحاً ديمقراطياً وثقة بإرادة الجماهير وتطلعاتها وحرية, فقد أعطي هذا النظام في بداية صعوده مناخاً جماهيرياً منفتحاً ومواتيا, وأعطي أفضل الفرص لتصحيح المسار وتصحيح البناء السياسي وتصحيح علاقته بالقوى الوطنية وبالجماهير . إنها كانت محاولة جاءت في ظروف معينة ولكنها أخطأت التقدير . إنها أخطأت من حيث تقييم قدرتها على الفعل في فتح النظام للديمقراطية والتفاعل الديمقراطي, كما أخطأت من حيث تقييم طبيعة القوى المتصدية لهذا الفعل والتفاعل وما تمثله بالنسبة للواقع الاجتماعي وحركة الجماهير، كما اخطأت في التقدير الشامل لخلفيات النظام ومرتكزاته الاجتماعية الفعلية وتركيبه الايديولوجية والطبقية, وما يحكم نمو الطبقة الجديدة البيروقراطية من مصالح وعصبيات ومراكز قوى وارتباطات .

     وهكذا وفي مثل هذا المناخ, وعلى عكس ما تجري عليه الأمور عادة في البناء السياسي للدولة والمجتمع وفي إقامة العلاقات والمؤسسات الديمقراطية, فإن النظام قام بتجديد بنائه من فوق أي من القمة لا من القاعدة, لتبقى المؤسسات والتنظيمات الشعبية مقطوعة عن القمة في إرادتها وتعبيرها وأشكالاً جوفاء, ولتبقى الحرية كلاماً ووعوداً, ولتصبح الوحدة الوطنية تابعية وولاء .. ولتفتح أبواب الانتهازية على مصراعيها …..

     لقد مشينا في التعامل الجبهوي مع النظام وقوى أخرى, وفي الحوار شوطاً ثم تخلينا, بعد أن وجدنا أنفسنا في دوامة اللا جدوى وخابت الوعود . فالنظام وقد جاء من فوق, أي من فوق حركة الجماهير وفوق إرادتها, وبفعل مراكز القوى وصراعاتها على السلطة، اعتمد مراكز القوى، وجانبَ ما أرادته له ومنه الجماهير، ومضى من هذا المنطلق في نهجه المعروف، أي في الاستيلاء من فوق وبتنمية مراكز القوى وعصبياتها, لا على الحكم ومصالح الدولة وحركة الاقتصاد فحسب, بل وعلى كافة المؤسسات والتنظيمات وعاملاً على محاصرة حركة الجماهير وتطويقها في إطار من الهيمنة المطلقة بحيث لم يبّقِ من مجال في إطاره ولا قريباً منه, لأي تفاعل ديمقراطي ولا لأي فعل وطني وشعبي وظل القرار قرار النظام وحــده في قمته, وقرار مراكز قــواه وأجهزته في كل شــيء وفــي كل مجال .

     لقد جاءت القطيعة بيننا وبين هذا النظام بمناسبة إعلان الدستور والاستفتاء عليه, ولو أن خلافنا معه كان قائماً قبل ذلك, ليتفجر بمناسبة صياغة الدستور وإقراره, أي عندما أراد النظام أن يكرس طابعه المطلق وهيمنته الفئوية في وثيقة دستورية وفي تشريـع البـلاد .

     إننا لم نُخادع أنفسنا في مراحل التعامل والحوار, ولكننا أخطأنا في بعض التقديرات, وكنا محكومين بظرف وطني وقومي خاص, إننا لم نترك للنظام أن يستجرنا خطوة بعد خطوة إلى مواقع الانتهازية والتابعية كما كان الأمر بالنسبة لعدد من القوى العاملة معه, ولكن تعاملنا جاء في مرحلة كنا نحاول فيها التوفيق بين نهجين في العمل – أولهما يرصد حركة الحاضر والامكانات الوطنية لنظم المواجهة, وخلق أفضل الشروط لحشد الطاقات في سبيل التصدي للهدف المرحلي المباشر الذي يجسده شعار الدفع على طريق المعركة ضد الحلف الإمبريالي الصهيوني في سبيل دحر العدوان وإزالة أثاره – وثانيهما نهج يبني للمستقبل ويرصد حركة الجماهير وطريق بناء تلاحمها الثوري وأدوات نضالها وعياً وتنظيمياً, في سبيل الأهداف الكبرى للجماهير واستراتيجية تحقيقها, أي أنه نهجٌ لمرحلة ما بعد إزالة العدوان وإجلاء العدو بالقتال عن الأراضي العربية التي احتلتها في حرب حزيران .

     إننا لم نكن نؤمن بالتركيب القائم للنظم, ولا في أنها تشكل طريقاً للمستقبل من خلال تركيبها ونهجها, ولكننا كنا محكومين بظروف المعركة, وكنا نعمل للتوافق مع النهج الذي اختطه عبدالناصر في استراتيجيته بعد الهزيمة, لتعبئة الطاقات صموداً على طريق الصمود والتصدي فالتحرير وغيبت المنون عبد الناصر وهو في إبان التصدي, وبقينا نتعامل مع الظروف الوطنية والقومية ولمدة بعد غيابه, من خلال ذلك النهج وفي سبيل التقدم على المسار ذاته, كان تقيمنا للنظم من خلال موقفها الوطني وما يمكن أن تقدمه المعركة, وحسب الدور الذي يمكن أن تحتله في استراتيجية المواجهة, وكان العمل الوطني في هذا السبيل ومن هذا النهج والمنطلق, تعامل معها ما كان التعامل مجدياً للدفع على هذا الطريق . ولكننا مقابل ذلك, كنا نؤكد دائماً من خلال مواقفنا أن مفهومنا للعمل الوطني يتجاوز ذلك التعامل وذلك الهدف, إلى تصور أبعد لحل أزمة العمل الديمقراطي والبناء السياسي والتلاحم الوطني بين القوى, ليظل نهجنا الأساسي يصب على طريق بناء أداة الثورة العربية فكراً وتنظيماً . وهذا ما يطرح بالضرورة تجاوز النظم أو أن يقوى بعضها او واحد منها, من خلال التعامل الوطني وظروف الصراع على التغيير الديمقراطي وعلى تجاوز نفسه .

     وكانت صورة عبد الناصر في التقدم والتغيير والتجاوز ماثلة أمامنا, وبعد غياب عبد الناصر تبدلت أمور كثيرة, ولكن التغيرات والتحولات لم تأخذ أبعادها الصريحة في البداية, وبقيت لمدة تُوارب وتتستر, أو أننا لم نستطع أن ننفذ إليها بالقدر الكافي لنستوعب أبعادها كلها منذ البداية ونحدد مواقفنا منها ونسّقط الرهان عليها في معركة التحرير والتقدم, ونلغيها من حساب المستقبل . ومع ذلك بل وفي إطار تلك الاستمرارية في النهج الثنائي بعد غياب عبد الناصر فإننا لما وجدنا أن دفعنا للعمل الوطني والجبهوي في إطار التعامل مع النظام ومؤسساته في تعثر, ولما رأينا أن هذا التعامل لا يفسح لنا مجالاً لأي فعل حقيقي أو تأثير في الدفع على طريق الهدف المرحلي, ولا مجال فعل أو تأثير في التحويل الديمقراطي للبنيان السياسي وللعلاقات بين القوى, ثم إن هذا التعامل أخذ يحاصرنا ويعزلنا ويقطع علينا وعلى جميع القوى الوطنية الديمقراطية طريق بناء حركة الجماهير باتجاه أهدافها الكبرى، بينما أخذ النظام يُحّكم قبضته ويحاول فرض هيمنته المطلقة ويقطع على هذه الحركة طريق المستقبل, انسلخنا عن ذلك النظام وخرجنا من جميع دوائر هيمنته . لقد وقفنا في مجلس الشعب أولاً معارضين للدستور واستنكفنا عنه, وقاطعنا الاستفتاء عليه, وتسلسلت من هذا المنطلق بعد ذلك مواقفنا من مؤسسات النظام ام ومهرجانات هيمنته .

     كانت مواقفنا بعد الانسحاب, ترتكز على إدارة الحوار بين القوى الوطنية الديمقراطية والقواعد الجماهيرية, خارج إطار النظام وهيمنته, وكانت تحاول ان تستشف حركة الأحداث وأن ترصد عمليات التحول داخل النظم وداخل الفئات الحاكمة وامتداداتها الطبقية والاجتماعية وتحولات فكرها وسياستها وتحالفاتها . ومن قبل حرب تشرين كان لنا موقفنا الواضح من حركة الارتداد الساداتي في مصر وما تحمله من أبعاد خطيرة بالنسبة لحركة التحرر العربي كلها . ومن قبل حرب تشرين كان لنا موقفنا الواضح من حركة الارتداد الساداتي في مصر وما تحمله من أبعاد خطيرة بالنسبة لحركة التحرر العربي كلها . ومن قبل حرب تشرين أخذ يتضح أمامنا أن حركة النظم لم تعد تحمل في واقعها وتركيبتها وطريقة بنائها, المقومات التي تضعها على طريق استراتيجية التحرير, ولا بالنسبة للهدف المرحلي والمباشر . وجاءت حرب تشرين, وتسارعت بعدها التحولات في الاتجاه السلبي, أي في الاتجاه المعاكس لمصالح جماهير الأمة وأهدافها، وتسلسلت مواقفنا بالمقابل لفضح حركات التحول والارتداد وكشف أبعادها, وأسقطنا من الحساب أي منهج ثانٍ للعمل، إلا النهج الذي يتطلع للبناء الجذري من القاعدة الجماهيرية وحدها باتجاه المستقبل, وإذا ما جاءت في النهاية تلك القفزة الساداتية العمياء التي تجسدت في زيارته لإسرائيل وما أعقبها, لتوجه الضربة القاضية لما تبقى من خيوط – ولو واهية- لاستراتيجية التصدي لآثار هزيمة حزيران, وتنهي بالضرورة مرحلة قتلها التعثر وتألُب قوى الردة, وتضعنا امام مرحلة جديدة .. فالواضح أيضاً بالمقابل أن النظم الباقية ليست من طبيعة تقوى بها على النهوض في مواجهة مهمات هذه المرحلة الجديدة .

     إن الطبيعة الاستبدادية والفئوية والفوقية لهذه النظم, قد زعزعت التماسك الوطني لجماهير الأمة, وهذا التماسك هو الذي يحتاج لبناء جديد, فبدونه وبدون البدء منه يبقى كل بناء آخر واهياً ومعلقاً من فوق . وهذا التماسك أو الاندماج الوطني لجماهير الأمة من خلال مواقعها الاجتماعية والطبقية ومن خلال تطلعاتها وأهدافها, لا يبنى إلا في مناخ من الديمقراطية, وفي مناخ من الحرية, يفتح الباب للوعي والحوار ولنهوض القوى السياسية من مواقع اجتماعية وشعبية صريحة وواضحة, ولتتقدم من هذه المواقع للتعبير والعمل والنضال . إنه لأمر أساسي لا بد أن يأتي مرتكزاً أولياً في صياغة الاستراتيجية العامة لحركة التحرر العربي ولنهوض تقدمي جديد .

     ذلك ما أردنا أن نؤكده اليوم, ونحن نرى نظام الحكم في هذا القطر, بعد أن تحول ما تحول وتعثر ما تعثر, يحاول اليوم أن يرمم بناءه من جديد, بادئاً من القمة ومن فوق, فهو محكوم بمقوماته الخاصة, وهذا نهجه في فرض هيمنته وهيمنة مصالحه وطبقته البيروقراطية في صيغتها الرأسمالية الجديدة .

     إن حركة المهرجان تتسع وتطغى, ولكنه ليس مهرجاننا, بل ولا مهرجان لنا اليوم فأمتنا يمزقها العجز, ولا مهرجان إلا أن تقوى على عجزها وتشق طريق تحررها وثورتها, طريق أن تبني بالديمقراطية نظمها, وأن تبني بالديمقراطية اشتراكيتها, وأن تجد وقبل كل شيء الطريق إلى بنــاء كيانها الموحــد ووحـــــــــدتهـا ..

كانون الثاني  1978                       اللجنة التنفيذيــــة

التعليقات مغلقة.