عرف السودان العمل النقابي مطلع القرن العشرين، ابتداءً من 1908 عندما أعلن عمال مناشير الغابات في عهد الاستعمار الإضراب للمطالبة بتحسين الأجور وبيئة العمل، ليتم عام 1947 تأسيس الهيئة النقابية الأولى لعمال السكك الحديد، ونتيجة للضغوط التي مارستها الحركة النقابية رضخت السلطة الاستعمارية واعترفت بالحق في التنظيم النقابي. أما قانون العمل والعمال فقد صدر في 1948، لتنال الحركة النقابية السودانية شرعيتها. وأصبحت إحدى الأذرع الرئيسة في تغيير الأنظمة الشمولية، ما جعلها محل استهداف لهذه الأنظمة عند وصولها إلى السلطة.
يعتقد رئيس نقابة أطباء السودان البروفيسور أحمد عبد الله الشيخ، أن “الحركة النقابية من الحركات المؤثّرة وأدت أدواراً نضالية مشهودة في تغيير أنظمة الحكم العسكري، وغالباً ما كانت من ضحايا الأنظمة تلك التي تلجأ إلى حلّها وتجميد نشاطها واعتقال مناضليها لسنوات من دون محاكمات”.
وفيما يؤكد أن “إضرابات النقابات حق شرعي وسلمي، يراعي حقوق أصحاب المصلحة، وإن كان يعطّل عجلة العمل في الدولة لفترة محدّدة حسب طبيعة المطالب”، يدعو إلى “استفادة النقابات من تجاربها السابقة، لأن كثرة الإضرابات خلال حقبة الديمقراطية قد تكون نقمة، واللجوء إليها خيار مؤلم يكون بعد استنفاد المحاولات المطلبية مع الجهات المعنية”. ويشدّد على “أهمية اتّباع السلطات في الدولة النظم الدستورية، فضلاً عن عدم تهديدها ومحاصرتها النقابات”.
ويعرض الشيخ آليات رفع القاعدة النقابية مطالبها إلى مجلس النقابة بحسب ظروف العمل والعاملين، موضحاً “أنها تُناقش بصدر رحب، مع وضع مصلحة البلاد في المقام الأول، أي ألّا نجعل المصالح والمكتسبات الشخصية هدفاً أساسياً، لأن ما حدث من دمار للسودان خلال 30 عاماً يستوجب من الجميع العمل على رفعة الوطن كي لا ينهار، وذلك من خلال التمسّك بخيار الديمقراطية، ووضع خطة إيجابية كل في اختصاصه تكون مواكبة لمتطلبات العصر”.
ويتوقّف رئيس نقابة أطباء السودان عند القانون الجديد للنقابات الذي أُعدّ ورُفع إلى وزير العدل لمراجعته قبل المصادقة عليه، مرّ بمناقشات عدّة عبر لقاءات وورش عمل، إذ طرح قانون 2010 أن يُعدّل، لكن هذا الاقتراح رُفض لكون القانون المعني وُضع في عهد النظام السابق الذي حجّم النقابات ومارس كل صنوف التعذيب بحق أعضائها، ليستقر الأمر على تعديل قانون 1977″. ويرى الشيخ أن “المشروع الجديد للقانون المقترح لعام 2020 يُعتبر جيداً بالمقاييس كلّها ويحتوي على بنود وأفكار جديدة من شأنها أن تسهم في تطوّر الحركة النقابية وتجعلها ساعداً لنمو البلاد واستقرارها”.
قانون المنشأة
ويروي عضو نقابة المهندسين السودانيين عثمان ضو البيت أن “النقابات المهنية في البلاد بقيت متعثّرة على الرغم من سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير في أبريل (نيسان) 2019، الذي حاول منذ استلامه الحكم بانقلاب عسكري عام 1989 تدجينها، لما عُرف عن دورها في الأنظمة العسكرية بأنها كانت رأس الحربة في التغيير، لذلك فصل أعضاءها وشرّدهم واعتقلهم، فضلاً عن إلغاء قانون النقابات لعام 1977، وظلّ يُسيِّر هذه النقابات لفترة طويلة عن طريق التعيين وليس الانتخاب من القواعد، حتى جاء عام 2010 بقانون المنشأة وهو عبارة عن قانون للتحكّم في النقابات، إذ كان شبه مساومة بين السلطة والمعارضة آنذاك في ضوء تبعات اتفاقيات نيفاشا للسلام التي وقّعتها الحكومة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق عام 2005، والتي حصلت بموجبها دولة جنوب السودان على الانفصال في 2011”.
يضيف ضو البيت “بعد ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، ظهرت آراء وأفكار عدّة في شأن قانون النقابات الجديد. فهناك مَن كان يرى إلغاء قانون المنشأة لعام 2010، بينما يفضّل آخرون تعديله لأن هناك بعض المواد يمكن أن تصلح للعمل بها، إلى أن توصّل الجميع إلى قانون النقابات الجديد لعام 2020”.
ولا ينسى عضو نقابة المهندسين السودانيين “أهمية النقابات ودورها في المحافظة على الديمقراطية وقدرتها على دفع الإنتاج ووضع السياسات الداعمة له، خصوصاً أن البلاد تواجه تراجعاً اقتصادياً مريعاً، ما يتطلّب تكاتف الجهود لدفع عملية الاستقرار الاقتصادي وزيادة الإنتاج قدماً”.
إضرابات ومشاكسات
ويعتبر ضو البيت أن “مشاكسة النقابات تضرّ بالعملية الإنتاجية وتناقض التنمية، بالتالي لن تساعد في استقرار البلاد وتحوّلها الديمقراطي، وهذا ما يطرح السؤال عَمّن يضع قانون النقابات، السياسيون أم العاملون في هذه النقابات؟ لأننا شاهدنا في فترة الديمقراطية الثالثة التي أعقبت انتفاضة أبريل 1985 التي أسقطت حكم الرئيس السابق جعفر نميري، أنه بدلاً من أن تكون النقابات أداة للمحافظة على الديمقراطية ودعمها ودعم الإنتاج، أكثرت من الاضطرابات للضغط على الحكومة الديمقراطية القائمة آنذاك، مستغلّةً مساحة الحرية المتاحة، ومن دون مراعاة ظروف السودان الذي يحاصره الفقر وانفلات الأمن”.
ويؤكّد ضو البيت أنه “آن الأوان لتحديد الدور الذي بإمكان النقابات أن تؤدّيه لحفظ الاستقرار السياسي والمساهمة في حلّ المشكلات التي تواجه البلاد بحسب تخصصاتها سواء كان في مجال الكهرباء أو في المياه والصحة والتعليم وغيرها، وإلّا ستُكرر التجربة السابقة. فإما أن تكون هذه النقابات رهن قضايا سياسية تستخدم الإضراب سلاحاً لتحقيق أغراض سياسية، أو أن تنحاز لقضايا منتسبيها من خلال العمل على تحسين ظروفهم المعيشية والمهنية وفق آليات مشروعة، بعيداً من التأثير في عجلة الإنتاج والأداء وعرقلة الديمقراطية.”
قوة ضاربة
ويتذكّر رئيس دائرة المهنيين في حزب “الأمة القومي” السوداني حسن جلالة، أن “الحركة النقابية السودانية استمرت بممارسة نشاطها بقوة وتفانٍ منذ أربعينيات القرن العشرين، وفرضت نفسها وتأثيرها في المشهد العام في البلاد على الرغم من قسوة المستعمر، لكنها تمكّنت من إعلاء صوتها والمحافظة على حقوقها، فضلاً عن المساهمة في عجلة التنمية. وعلى الرغم من محاولات الأنظمة العسكرية، خصوصاً نظام البشير تكبيل صوتها والتنكيل بأعضائها، صمدت وقادت حراك ديسمبر من خلال مظلّة تجمّع المهنيين السودانيين، ما يؤكد أنها قوة ضاربة في كل الأوقات”.
ويضيف جلالة “بعد ثورة ديسمبر وما طرحته من شعارات وأهداف تصبّ في خانة العدالة والديمقراطية، انتظمت جميع الأجسام النقابية الشرعية للعمل على استعادة موقعها ودورها في مراعاة حقوق منتسبيها، وكذلك دورها النضالي في المحافظة على الديمقراطية، إذ أعدّت جهات نقابية وسياسية مسودّات قوانين وتم وضعها في قانون واحد باسم القانون الموحّد للنقابات في السودان لعام 2020، الذي بموجبه أُلغي قانون نقابة المنشأة لعام 2010. وتضمّن القانون الجديد كثيراً من البنود المميزة، من أبرزها عدم فصل أي عضو إلّا بعد محاكمة عادلة، وإجراء الانتخابات كحقّ أساسي إقليمي، ولا يجوز حلّ النقابة إلّا بقرار قضائي. كما كفل القانون ما جاء في اتفاقية منظمة العمل الدولية لعام 1998”.
المصدر: اندبندنت عربية
التعليقات مغلقة.