الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

جمال أتاسي في ذكراه

محمد عمر كرداس

     في30 آذار عام 2000 غادرنا المفكر والسياسي والمناضل والانسان جمال أتاسي عن عمر ناهز 78 عاماً، غادرنا في مرحلة من تاريخ سورية كانت بأشد الحاجة لأمثاله بفكرهم المستنير وتجربتهم النضالية واستشرافهم للمستقبل، بعد أن حضّر وحضَر مؤتمر حزبه الثامن الذي أراده نقلة نوعية في مسيرة الحزب المعارض، حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي الذي أسس عام 1964، كحزب معارض لسلطة الاستبداد والحزب الواحد الذي كرسها حزب البعث، وهو البعثي العتيق الذي ترك ذلك الحزب لصالح حركة وحدوية ناصرية، اشترك في تأسيس الحزب وأصبح عام 1968 أمينه العام؛ في مؤتمر الحزب الأخير شارك بفعالية في التحضير وحضر لقاءات مندوبي بعض المحافظات ليستمع لنقاشاتهم، وليشاركهم تطلعاتهم. كانت كلمته في افتتاح المؤتمر الذي حضره لأول مرة ضيوف من أحزاب معارضه، دليل عمل ورؤية مستقبلية لعمل الحزب وللتغيير الوطني الديمقراطي، وَطرَحَ على المؤتمر اقتراح الخروج للعلانية بعد أكثر من ثلاثين عاماً من السرية، وهكذا كان، فقد أعلن المؤتمر أسماء مكتبه السياسي مع البيان الصادر عن أعمال المؤتمر .

     كان المرض قد اشتد عليه قبل المؤتمر بفترة قصيرة وأصبح بحاجة لعمل جراحي، في إحدى الخلوات معه في فترة الاعداد للمؤتمر طلبتُ منه أن يُجري العملية قبل المؤتمر، ولكنه قال لي بأن النتائج غير مضمونة ولابد من عقد المؤتمر أولاً، دخل المشفى بعد المؤتمر فوراً وكما توقع فلم يتحمل  جسمه النحيل المرهق وغادرنا .

     قام الحزب والتجمع بمناسبة الأربعين لوفاته بتنظيم مهرجان خطابي علني لأول مرة في تاريخه شارك فيها وجوه سياسية وفكرية من أصدقائه ومريديه ومن أكثر الأقطار العربية في دمشق، كما شاركت جماهير الحزب من جميع محافظات القطر في هذا المهرجان .

     لن أتطرق في هذه العجالة لفكر وسياسة جمال الأتاسي فهو أفضل من يعبر عن نفسه، وهنا، على الموقع { الحرية أولا } نجد فكره وكتاباته في كل المناسبات التي مرت على سورية والوطن العربي وحتى الأحداث العالمية الهامة التي مرت في تلك الحقبة. وإنما سأتكلم عن بعض المواقف التي أتذكرها والتي يمكن أن يكون هذا مجالها…. فعندما كان يشارك في التحضير لإطلاق جبهة عام 1968 المُعارضة في سورية بعد هزيمة حزيران 9671، والتي رفض الحزب الحاكم المشاركة فيها، طلب منه أكرم الحوراني أحد أقطاب تلك الجبهة أن يخرجا معاً إلى خارج سورية قبل إطلاق الجبهة لأن الحكم البعثي سيقوم باعتقالهما مع رموز الجبهة الآخرين، رفض جمال الأتاسي الخروج وقال له المعارضة الحقيقية هي في قلب البلد وبين الجماهير، وكان أن خرج أكرم الحوراني ولم يعد، حتى أن النظام الحاكم رفض إدخال جثمانه ليدفن في بلده، وكان أيضاً أن اعتُقل جمال اتاسي هو ومجموعة واسعة من المشاركين في تلك الجبهة .

     عندما سُمح له بمغادرة سورية عام 1990 بعد منع مغادرة لعشرين عاماً، ذهب إلى فرنسا لإجراء عملية جراحية ثم عاد ليشارك في فعاليات المؤتمر القومي العربي الذي تأسس حديثاً وانتخب في أمانته العامة، وعندما وجد أن المؤتمر بدأ يفقد بوصلته الشعبية وأصبح يضم بعض رجالات السلطة في بعض الاقطار وخاصة في سورية، أرسل معنا خطاب استقالته للأمين العام للمؤتمر وكان وقتها المناضل عبد الحميد المهري رئيس حزب جبهة التحرير الجزائرية لاحقاً، وعلل الاستقالة التي سلمتُها للمهري في القاهرة عام 1998 بأن المؤتمر يفقد بوصلته، وبدل أن يشكل مرجعية جماهيرية عربية بدأ ينحاز للسلطات الحاكمة أكثر. وطبعاً غادرّنا معه المؤتمر بعد تلك الجلسة في القاهرة .

     لا تتسع صفحات مقال أو أكثر لتوفي جمال أتاسي حقه وتحيط بكل مآثره وأملنا فيما جمعناه من تراثه ليكون مؤطراً في كتاب أو أكثر وأعاقت الظروف في سورية إتمام ما بدأناه، ونتمنى الآن أن تكون هناك فرصة لإخراج هذا التراث في فترة قريبة.

     رحم الله جمال أتاسي، فبفقده فقدنا مناضلاً وسياسياً وإنساناً قل مثيله .


محمد عمر كرداس
كاتب وسياسي سوري

 

 

التعليقات مغلقة.