عبد الله السناوي *
عندما أفلتت ملاسنات الرئيسين الأمريكي «جو بايدن» والروسي «فلاديمير بوتين» عن أي قيد معتاد في التخاطب بين رؤساء الدول تراقصت أشباح الحرب الباردة من جديد في التغطيات الصحفية الدولية.
التاريخ لا يعيد نفسه والحقائق تختلف.
هذه حقيقة رئيسية في أية قراءة موضوعية للمشاهد الهزلية، التي تابعها العالم مستغربا ومشدوها.
لا أمريكا هي ذات الإمبراطورية المتفردة بقوتها وثرائها، التي فرضت بعد الحرب العالمية الثانية قيادتها للعالم الغربي.. ولا روسيا هي الاتحاد السوفيتي، الذى تمكن من فرض سيطرته على أوروبا الشرقية ومناطق واسعة من العالم حين انقسم العالم أيديولوجيا واستراتيجيا وعسكريا واقتصاديا إلى معسكرين كبيرين.
بانهيار جدار برلين في (9) تشرين الثاني/ نوفمبر عام (1989) انتهت الحرب الباردة وتقوض الاتحاد السوفيتي بعده، انفردت القوة الأمريكية بالنظام الدولي وحدها ونشأت أوضاع خلل في التوازنات التي تحكم العلاقات الدولية دفع ثمنها فادحا في العالم العربي.
بإيحاء الصور بدت ملاسنات «بايدن» و«بوتين» كأنها استعارة لبعض أجواء الحرب الباردة، فالأول يصف الثاني بأنه «قاتل» و«بلا روح» على خلفية تقرير استخباراتي أمريكي جديد ينسب إليه السماح بالتدخل في انتخابات الرئاسة الأمريكية، التي جرت الخريف الماضي.. والثاني يوحى بأن الأول فقد سيطرته على عباراته بحكم التقدم في السن مدعيا أنه يتمنى له الصحة، رغم أنه هو نفسه لم يعد شابا بعدد السنين، قبل أن يزيد بـ«أننا عادة نرى ما بأنفسنا في الآخرين، ونظن أنهم على ما نحن عليه».
لم تكن الأزمة بذاتها مفاجأة بقدر ما كانت في الطريقة، التي جرت بها والانحدار الذى وصلت إليه.
على مدى ولاية الرئيس السابق «دونالد ترامب» دأب الديمقراطيون في مجلس النواب بأغلبيتهم النسبية على توجيه الاتهامات إلى روسيا بالتدخل في الانتخابات التي صعدت به عام (2016)، جرت مسائلات مطولة استهدفت عزله غير أنه أفلت بأغلبية جمهورية محدودة فى مجلس الشيوخ، الذى تحول إلى هيئة محاكمة.
نفس الاتهامات تكررت بتقرير استخباراتي جديد عن انتخابات (2020)، التي كسبها «بايدن» وشكك في نزاهتها «ترامب» وشهدت آخر فصولها اقتحام أنصار الأخير مبنى الكونجرس الأمريكي في مشهد مأساوي شكك في الديمقراطية الأمريكية.
باليقين فإن هذا التقرير الاستخباراتي طلبه الرئيس الأمريكي نفسه لأهداف سياسية عملت في وقت واحد على المضي قدما في مطاردة شبح عودة الرئيس السابق للبيت الأبيض إذا ما ترشح في انتخابات (2024) وإعادة ترتيب أولويات السياسة الخارجية الأمريكية في عصر جديد باستدعاء العدو الروسي إلى مقدمة المشهد، باستعارة «أزمان القيادة والهيبة»، التي توافرت للولايات المتحدة في سنوات الحرب الباردة.
في تلك السنوات جرت حروب بالوكالة في أماكن عديدة بالعالم وأفضى التوازن النووي إلى نوع من الردع المتبادل وكانت الحروب الاستخباراتية والدعائية على رأس العناوين الرئيسية في ساحات الصراع.
بدت القطيعة شبه كاملة.
لم يعد ذلك ممكنا الآن، لا موسكو بوارد أن تبنى حول نفسها ستارا حديديا جديدا في عالم السماوات المفتوحة وتدفق المعلومات وتداخل المصالح الاقتصادية.. ولا بطاقة واشنطن أن تعلن حربا تجارية وسياسية ودعائية على روسيا قادرة على حشد الأنصار في العالم الغربي، الذى كانت تقوده بلا منازع.
أقصى ما يملكه «بايدن» الآن فرض عقوبات اقتصادية جديدة على روسيا، كطلقات إنذار محدودة لا تتجاوز المناوشات لتحديد مراكز المتصارعين في عالم جديد يوشك أن يولد من تحت أطلال جائحة «كورونا».
استدعاء «العدو الروسي» من ذاكرة التاريخ يصادم الحقائق المستجدة، فالخطر الأول الذى يتهدد المصالح الأمريكية يأتي من الشرق حيث التنين الصيني، المرجح أن يتساوى ناتجه القومي الإجمالي مع الولايات المتحدة خلال هذا العقد.
إذا ما حدث تحالف بين موسكو وبكين، وهو سيناريو مرجح للغاية، فإن المعادلات الدولية قد تميل لغير صالح التحالف الغربي في عالم ما بعد «كورونا».
يقال إن التاريخ لا يعيد نفسه إلا هزلياً.
شيء من الهزل السياسي شاب استدعاء الحرب الباردة رغم غياب حقائقها منذ أكثر من ثلاثة عقود.
من علامات الهزل السياسي أن تبدأ الأزمة بسؤال في حديث تلفزيوني عما إذا كان الرئيس الأمريكي يعتقد أن نظيره الروسي «قاتل».. ثم يجد معاونو «بايدن» أنه لابد عليهم أن يوضحوا للرأي العام أن ما قاله الرئيس لم تكن فلتة لسان، وأنه كان يقصد ما قاله تماما وغير نادم عليه حتى لا يطعن في قدرته الذهنية على إدارة مصالح بلاده.
ومن علامات الهزل السياسي بحث كل طرف في الأزمة المستجدة عن مسوغات تبرر موقفه، شرعية أو غير شرعية، صحيحة أو منتحلة، داخل الموضوع أو خارجه.
الأمريكيون ينعون على الروس إهدار حقوق الإنسان واضطهاد المعارضين السياسيين، مثل «إليكسي نافالني»، الذى تعرض للتسميم ثم المحاكمة والسجن، والتدخل العسكري في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، فيما الروس يعتبرون التعريض بـ«بوتين» بهذه الطريقة إهانة جماعية.
الملاسنات تمددت إلى التاريخ بإشارة «بوتين» إلى طبيعة نشأة الولايات المتحدة، حين ارتكب المستعمرون الأوروبيون الذين وفدوا إلى الأراضي الجديدة مذابح جماعية بحق السكان الأصليين في أمريكا وإلى أن الولايات المتحدة كانت الدولة الوحيدة التي استخدمت سلاحا نوويا ضد دولة أخرى.
إذا دخل العرب في صياغة لائحة اتهامات القتل فإنها سوف تتمدد إلى ما لا يمكن حصره.
ثم وصل الهزل السياسي إلى حد اقتراح «بوتين» إجراء مناظرة مع «بايدن» عبر وسائل التواصل الحديثة يشهدها ويحكم عليها العالم بأسره!
بمنطق أو بغير منطق استبيح كل شيء، ما هو تاريخي وما يعوزه الدليل، ما هو شخصي وما يتعلق بمصالح الدول العليا، غير أن طرفي الأزمة المستجدة يدركان أن اللعبة لا تتجاوز التوظيف السياسي، كل لأسبابه الداخلية!
لا «بايدن» سوف يمضى في التصعيد إلى أكثر من العقوبات واستثارة ذكريات الحرب الباردة حين كانت لأمريكا الكلمة الأولى في المعادلات الدولية؛ ولا «بوتين» بوارد قطع العلاقات مع الولايات المتحدة، فقد أكد جازما على رغبة بلاده في «الإبقاء على العلاقات على النحو الذى تراه».
الملاسنات في جوهرها تعبير عن أوضاع قلق وتأزم يستبق نظام دولي جديد يوشك أن يولد من تحت ضربات جائحة «كورونا».
«بايدن» يستدعى شبح «ترامب» لإكساب رئاسته ما تحتاجه من شعبية الاقتناع العام بجدارته بالحكم بعيدا عن إرث سلفه الذى نال بفداحة من صورة الولايات المتحدة.
و«بوتين» يوظف ما تورط فيه نظيره الأمريكي من تفلت لفظي لإكساب نفسه شرعية جديدة تبرر طول البقاء في الحكم.
* كاتب صحفي مصري
المصدر: الشروق
التعليقات مغلقة.