الثورة السورية ثورة غير مسبوقة وهي ذات بعد مستقبلي مؤكد، ومن منظور مستقبلي أيضاً، والمستقبل بالتعريف هو ممكنات الحاضر.
أراهن على حركات سياسية جديدة شابة تقطع مع الأحزاب التقليدية فكرياً وسياسياً وتنظيمياً وأخلاقياً.
أدهشتني سلمية الثورة، بل أدهشتني الثورة، ولا سيما سلميتها، ويحزنني أن هذه السلمية تتقلص شيئاً فشيئاً.
حوار مع المفكّر السوري جاد الكريم الجباعي بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لانطلاقة ثورة الحرّية في سوريا:
- هيئة التحرير: في حوار سابق مع frog (منشور بتاريخ 25/5/2011) وصفت ما يجري في سوريا بأنّه “حدث تاريخي يفجر جميع الأوضاع والبنى القائمة والعلاقات القائمة، ويفتح إمكانات إعادة بناء ليس بمقدور أحد أن يتنبأ بآلياتها وأساليبها وإيقاع حركتها ووتائر نموها”. الآن وبعد مضي عام كامل على انطلاق ثورة الحرية في سوريا، كيف تقرأ مجرياتها وتفاعلاتها؟
– جاد الكريم الجباعي: حين وصفت ما يجري في سورية بأنه “حدث تاريخي” حاولت أن أتجنب استعمال كلمة “ثورة”، لا مفهوم الثورة، لما يختزنه الذهن من دلالات لهذه الكلمة لا تنطبق كلها على ما أسميته “الحدث التاريخي” السوري، بما هو “عمل تاريخي كلي”، مختلف عن الثورات التي حدثت في بلادنا بعد الحرب العالمية الثانية. وبما هو حدث مباغت، انفجر في وجه سلطة كانت مطمئنة إلى أن الأمور مستقرة ومستتبة لها. حدثٌ فاجأ السلطة، وفاجأ المثقفين والسياسيين، وفاجأ دوائر الاستخبارات العالمية والدول الصديقة والمعادية على السواء، ووضع المنطقة كلها في حالة من القلق والارتباك. ولا أرى فيه اليوم سوى ثورة غير مسبوقة في تاريخنا، على الأقل، إن لم أقل في التاريخ، بحكم طابعها الشبابي ومشاركة المرأة فيها مشاركة ملحوظة، وبحكم سلميتها، وهو الأهم، فضلاً عن عمقها الإنساني ومحتواها الديمقراطي. وكونها ثورة على نظام لطالما وصفته بأنه نظام هجين يجمع بين خصائص الاستبداد القديم، الذي هو السمة الأبرز لتاريخنا السياسي، والتوتاليتارية الحديثة بنماذجها الفاشية والنازية والستالينية، ونسخها المختلفة، ويبدي مظاهر شتى متناقضة. وما زلت أعتقد أن هذه الثورة ستفجر جميع الأوضاع والبنى القائمة والعلاقات القائمة، وتفتح إمكانات بناء وإعادة بناء ليس بمقدور أحد تحديدها مسبقاً. لقد قامت الثورة، “هنا رودس، فلنرقص هنا” على إيقاعها.
وقد رأيت فيه، وما زلت على رأيي، حدثاً زلزالياً، لا يزلزل أركان السلطة فقط، ولا أركان النظام القومي الاشتراكي الإسلامي فحسب، بل أركان البنى المجتمعية التي تحمل جرثومة الاستبداد، وتعيد إنتاجه على مختلف الصعد. آية ذلك أن الثورة السورية أيقظت الفرد السوري، وأيقظت الإنسان فيه، وفتحت طريقاً إلى صيرورة المواطنين الأحرار كل شيء، بعد أن كانوا رعايا متساوين في كونهم لا شيء، وفتحت طريقاً إلى إعادة إنتاج الوطنية السورية والارتقاء بها على رافعة إنسانية تقرن المساواة بالحرية.
أتحدث عن ثورة غير مسبوقة، لا من منظور أبناء جيلي، بل من منظور الشابات والشباب المشاركين فيها بإرادة حرة، ليست إرادة حزب أو تنظيم أو تيار أيديولوجي أو أي مؤسسة من مؤسسات المجتمع التقليدي أو المؤسسات المتقلدة، ومن منظور الذين يتوقون إلى المشاركة فيها، ولسوف يشاركون. فلا يخلو أن تكون بعض أو معظم هذه الإرادات الفردية الواعية والهادفة متعارضة مع إرادة الآباء والأمهات والشيوخ والزعماء أو الوجهاء التقليديين. إذاً أتحدث عن ثورة ذات بعد مستقبلي مؤكد، ومن منظور مستقبلي أيضاً، والمستقبل بالتعريف هو ممكنات الحاضر.
- هيئة التحرير: كثيرة هي التحليلات التي تعتبر أنّ ضعف المعارضة السورية وتشتّتها، وعدم تبلور جسم سياسي واحد يمثّل الشارع الثائر يعدّ نقطة الضعف الأساسيّة التي تنعكس سلباً على نتائج الحراك الشعبي على الأرض، خصوصاً وأنّ أداء “المجلس الوطني السوري” لم يرقَ إلى مستوى التّحديات السياسيّة التي واجهته، سواء لجهة توحيد المعارضة، أو حتّى تحقيق الانسجام والتوافق على موقف سياسي موحّد بين مكوّناته ذاتها. هل تتفّق مع هذا الرأي؟ وهل من صيغ سياسيّة بديلة تخدم الثوار على الأرض؟
– جاد الكريم الجباعي: ما من شك في أن ثمة فجوة بين الثورة وتعبيرها السياسي، إذا افترضنا أن الأحزاب التقليدية الهرمة أحد أشكال هذا التعبير، وهو افتراض غير دقيق، إذ الأحزاب التقليدية كلها من طبيعة السلطة الشمولية ذاتها. ومن ثم فإن الثورة لم تنتج بعد تعبيرها السياسي، بحكم العنف الهمجي الذي تواجَه به، لا بحكم قصور ذاتي محتمل، وإن كانت قد أبدعت في إنتاج إعلامها الحر. ولا يساورني شك في أن تعبيرها السياسي يتشكل شيئاً فشيئاً، وإحدى علامات تشكله النقد المتواتر للبنى السياسية التقليدية وعدم الثقة بها. وقد لا يطول الوقت، على ما أرجو، حتى تتبلور تشكيلات سياسية شابة تنجز قطيعة فكرية وسياسية وأخلاقية مع الأحزاب التقليدية، التي ستمضي مع النظام إلى غير رجعة.
أما الضجيج المفتعل حول “وحدة المعارضة” فلم يكن منذ انطلاق الثورة، وليس اليوم سوى لأحد أمرين: إما لتلبية طلب خارجي ممن يريدون الاطمئنان على مصالحهم بعد سقوط السلطة وتغير النظام، وإما لتلبية طلب السلطة ذاتها، ما دامت قد اعترفت بوجود معارضة داخلية “شريفة”. السلطة تريد توليف معارضة داخلية شريفة على شاكلتها وشاكلة شرفها للإجهاز على الثورة، وثمة من هم مستعدون لذلك. والقوى الخارجية تريد بديلاً مضموناً. ثمة طرفان فقط يطالبان بوحدة المعارضة: السلطة والقوى الخارجية.
- هيئة التحرير: لكنّ البعض يصرّ على ضرورة توحيد المعارضة كمقدّمة ضروريّة لإيجاد بديل للنظام، ما قولك؟
– جاد الكريم الجباعي: المؤسف هنا أن كثيرين منا يجرون وراء الإعلام، فيفلت الواقع من ساحة رؤيتهم. يتحدث الإعلام عن عدم تبلور “بديل” للنظام أو عن عدم وجود مثل هذا البديل الموثوق به، ويعللون موقفهم من الثورة بذلك. أنا لا أرى بديلاً من النظام القائم وسلطته الشمولية سوى إرادة الشعب. هذه الإرادة هي أحد عناصر المجهول الذي أشرت إليه. من يتحدث عن بديل ناجز أو عن ضرورة إنجاز بديل بالسرعة الممكنة إما أنه يعتقد أنه هو أو حزبه أو جماعته هذا البديل، وإما أنه يريد بديلاً على هواه ووفق مصالحه. وفي الحالين يراد استثناء الشعب واستبعاده. لم أشعر مرة بارتياح إزاء “تشتت المعارضة” التقليدية مثلما أشعر اليوم، فإن تشتتها وضعفها يبعثان على التفاؤل بأن أياً منها لن يتمكن من سرقة الثورة أو اختطافها.
لعل ما تشكو منه الأحزاب التقليدية الهرمة في ثورة الشباب، وهو كثرة التنسيقيات والمجموعات والهيئات والائتلافات على الأرض واختلافها، أو كثرة المدونات والصفحات الفردية والجماعية على شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي .. واختلافها، لعل ما تشكو منه الأحزاب التقليدية والسلطة والقوى الخارجية هو من أهم ميزات الثورة السورية وعوامل حيويتها وديناميتها، ومما يحول دون هيمنة هذه الأحزاب عليها، ودون اقتدار السلطة على احتوائها، والقوى الخارجية على تحملها. أجل إنها “فوضى”!
- هيئة التحرير: أليست “الفوضى” هي الفزّاعة التي يرفعها المستبدّون العرب كخطر يتهدّد للبلاد في حال سقوطهم، وأنّ هذا جزء من “المؤامرة” الغربيّة؟
– جاد الكريم الجباعي: من قال إنّ الفوضى ليست شقيقة الحرية وأساس النظام؟ الذين يكرهون الفوضى لمجرد أن أحد الأمريكيين تحدث عن “الفوضى الخلاقة” في العراق، لا يثقون بالشعب السوري، ولا يعرفون معنى الحرية ولا آليات تشكل نظام جديد. هؤلاء مثلهم مثل القوى الخارجية، يريدون بديلاً جاهزاً ومضموناً، كالمجلس العسكري المصري، على سبيل المثال. ما رأيكم إذا كان كارل ماركس قد تحدث عن قيمة الفوضى بصفتها أساس النظام الاجتماعي وأساس تشكل مجتمع مدني حديث بعد انحلال البنى التقليدية، قبل أن يتحدث عن ذلك أي أمريكي؟ هل يحسِّن هذا من سمعة الفوضى قليلاً؟ ألا يؤدي تفكيك أي نظام إلى حال من الفوضى يطلق عليها “مرحلة انتقالية”؟ الفوضى بالضبط مرحلة انتقالية يتشكل فيها نظام جديد على أشلاء نظام بائد. في المرحلة الانتقالية يمكن أن تظهر إلى العلن جميع خبايا المجتمع وخفاياه، وجميع مشكلاته وأمراضه، وجميع إمكاناته وإبداعاته وقدرته على ابتكار الحياة.
- هيئة التحرير: كيف تقيّم أداء المعارضة السورية بظروفها الحاليّة وهل هي مؤهّلة لقيادة المرحلة الانتقاليّة؟
– جاد الكريم الجباعي: لست معجباً بالمجلس الوطني ولا بأي ائتلاف أو هيئة تدَّعي تمثيل الشعب السوري أو أكثرية الشعب، ولا سيما من يدَّعون تمثيل الأكثرية العربية أو السنية، مع احترامي لأشخاص المجلس والهيئات الأخرى، وبعضهم إن لم أقل معظمهم من أصدقائي الذين أحترمهم وأثق بهم. ولكم كنت أتمنى لو ينأى المثقفون بأنفسهم عن الانخراط في هذه التشكيلات السياسوية البائسة، وينحازون إلى الثورة انحيازاً مبدئياً ونهائياً، بصفتهم مثقفين وقادة رأي، فيسهمون في استكشاف ممكناتها وبلورة خياراتها واشتقاق طريقها إلى المستقبل، ويعيدون الاعتبار من ثم إلى حرية الفكر والضمير، ويعملون على مفهمة الواقع القائم وتنظيره، فيساعدون على بلورة تعبير فكري وفني وجمالي وأخلاقي وسياسي عن الثورة من قلبها، إذ الفرصة مواتية للتعلم من الواقع هذه المرة، لا من الكتب فقط.
أراهن على حركة / حركات سياسية جديدة شابة تقطع مع الأحزاب التقليدية فكرياً وسياسياً وتنظيمياً وأخلاقياً، وأحسب أن نواها (جمع نواة) وبذورها تتشكل في الواقع. وألوم من يسعى إلى “توحيد المعارضة” التقليدية التي لا سبيل إلى توحيدها، فيعيق عملية تشكل قوى سياسية جديدة. إن مطلب “توحيد المعارضة” ليس سوى اصطناع سقف واطئ للثورة، وليس سوى قيد على حركتها وحد لآفاقها. المتحمسون لتوحيد المعارضة التقليدية أو استيلاد جسم سياسي بعملية قيصرية كانوا يظنون أن المسالة مسألة أسابيع أو أشهر قليلة ثم يتقاسمون الغنيمة، وأخشى أن المسالة لا تزال كذلك.
- هيئة التحرير: منذ تشكيل ما بات يعرف بـ “الجيش السوري الحر” ثمّة من يتحدّث عن “مكوّن عسكري” للثورة السوريّة وأنّ وجود هذا المكوّن “لا يطعن في سلميّتها”. في المقابل هناك من يعتقد أنّ النظام هو الذي جرّ المنتفضين نحو “فخّ العسكرة والعمل المسلّح”، والذي هو في النهاية لمصلحة النظام، وتأكيد لروايته منذ اليوم الأول عن وجود “عصابات مسلّحة” وليس ثورة سلميّة تطلب الحرّية. ما رأيك بذلك؟
– جاد الكريم الجباعي: كل من ينظر إلى المسألة من زاوية موضوعية لا بد أن يدرك أن انشقاق عناصر من الجيش النظامي والإدارة أمر متوقع، بل مؤكد، ولا سيما حين يتبين أن ما تتذرع به السلطة لتبرير حربها على الشعب لا أساس له، أو ليس كافياً لتبرير هذا المستوى من العنف، على الأقل. ومن البديهي أن ينضم المنشقون إلى صفوف الثوار، ويدافعوا عن المتظاهرين السلميين. بل لا بد أن يتوقع المرء أن يبادر بعض المتظاهرين إلى حماية المظاهرات من اعتداءات الشبيحة وقوات الأمن والجيش التي واجهت المتظاهرين من اللحظة الأولى بهمجية غير مسبوقة تطرح أسئلة جدية حول بواعثها. لكن هذا لا يسوغ تشكل “مكوّن عسكري” للثورة، مستقل بذاته، على نحو ما نسمع ونرى. ما يسمى “مكوّن عسكري” هو بداية لعسكرة الثورة، قد يحولها من ثورة مدنية سلمية إلى ثورة مسلحة. وأكثر من ذلك قد يتحول هذا المكوّن إلى مؤسسة تبتلع الثورة وتجهضها، وتنقل البلاد من حل إلى حال مشابهة، تحت عناوين مختلفة. إضافة إلى أن من يسلّح جيشاً ويدربه ويموله ويمده بما يحتاج إليه من عتاد وتجهيزات لا بد أن يؤثر في قراره راهناً ومستقبلاً.
ولا بد أن نلاحظ أن لانشقاق أفراد أو مجموعات قليلة العدد بسلاحها الفردي سلبيات عدة، أولها أنه قد يجهض إمكانية انشقاق قطعات عسكرية كاملة بوسعها أن تقيد حركة القطعات الموالية للسلطة ولاء تاماً، بمجرد التلويح باستعمال القوة أو باستعمالها على نطاق محدود. والثانية زيادة وتيرة العنف للقضاء على المنشقين، وإرهاب من يفكرون بالانشقاق. وثالثها تسهيل عمل السلطة وأجهزتها الأمنية في تشكيل عصابات من المجرمين الذين أطلق سراحهم تقتل وتسلب وتنهب وتنتهك الحرمات باسم الجيش الحر أو الكتيبة س أو ع من الكتائب التي تكاثرت وتعددت أسماؤها. ورابعها أن الفوضى التي وصفتها بأنها شقيقة الحرية ليست فوضى السلاح، فهذه الأخيرة، أي فوضى السلاح لا يمكن أن تؤسس لنظام ديمقراطي، لأن “اقتصاد السلاح” هو ما يجعل السياسة حرباً أو امتداداً للحرب، ويهدد من ثم بانفجار حرب أهلية مديدة يخسر فيها الجميع وتولد من الأحقاد والضغائن أكثر مما تستأصل. وأخيراً إن انشقاقات على النحو الذي يجري قد يزيد من تماسك المؤسسة العسكرية / الأمنية وهي النواة المركزية للسلطة، وقوتها الوحيدة ومصدر مشروعيتها الفعلية، ولا سيما حين ترتكب جرائم موصوفة باسم المنشقين أو الجيش الحر أو عندما يرتكب هؤلاء مثل هذه الجرائم بقصد أو بغير قصد.
- هيئة التحرير: عمل النظام بكلّ طاقته العسكرية والأمنية لحسم الأمور على الأرض بالقوّة، مستنداً إلى الدعم المطلق عسكريّاً واقتصاديّاً من حلفائه الإقليميين والدوليين، ثمّ بدعم دبلوماسيّ من روسيا والصين، بوجهه خاص، اللتين لم تتورّعا عن استخدام (الفيتو) في مجلس الأمن أكثر من مرّة لتعطيل المحاولات الرامية لاستصدار قرار يدين النظام وممارساته القمعيّة، كما أنّ تصريحات المسؤولين الغربيين تؤكّد عدم وجود نيّة للتدخّل العسكري في سوريا. ما تقييمك للمواقف الدوليّة حيال ما يجري في سوريا؟ وهل يعني ما تقدّم أنّ سقوط النظام لم يعد وشيكاً كما كان البعض يعتقد، أم أنّ إصرار الشارع المنتفض على المضي في ثورته كفيل بإسقاط النظام رغم كل ذلك؟
– جاد الكريم الجباعي: لست مؤهلاً للإجابة عن هذا السؤال، فلنتركه للتفكير والبحث.
- هيئة التحرير: ما هي برأيك المخاطر التي تنتظر الثورة في المرحلة المقبلة؟
– جاد الكريم الجباعي: قد تنكسر الموجة الأولى من موجات هذه الثورة غداً أو بعد غد، وقد تلتف عليها القوى التقليدية، كما حدث في غير مكان، ولكن الثورة بدأت ومن الصعب أن تتوقف، وحددت لنفسها سمتاً أو اتجاهاً، هو اتجاه نحو المجهول، بغية استكشاف آفاق جديدة لتجاوز الحاضر واستعادة الوجود الإنساني، أو الحياة الإنسانية الحرة الكريمة للفرد والمجتمع، واستعادة الفضاء العام، أي الدولة، وإعادتها إلى المجتمع، منظوراً إليه على أنه بنية حية ومتجددة على الدوام. الأفراد، مشاريع المواطنات والمواطنين، الذين أدركوا بالخبرة أن بوسعهم زلزلة أعتى نظم الاستبداد المحدث وأكثرها همجية لن يتراجعوا ولن يتوقفوا. القوة العسكرية / الأمنية ليست المعنى الأخير للتاريخ. يجب أن نتعلم أن المجتمع قوة سياسية.
- هيئة التحرير: إذاً كيف ترى السيناريوهات المحتملة لتطوّر الأوضاع في سوريا في الفترة المقبلة؟
– جاد الكريم الجباعي: الحديث في السيناريوهات حديثان: حديث الرغبة والإرادة، وهما متلازمتان، في نظري، وحديث العقل.
لا أحب أن أخوض في الثاني لسببين: أولهما لأن الثورة تنتمي إلى اللاعقل الذي يؤسس العقل، أي إلى فضاء الإمكان والاحتمال، فضاء الحرية الأولية، غير المبنية، التي تؤسس الحرية العقلية، كما يصفها الفيلسوف الروسي برديائيف، والثورة لا تزال في أوجها، بعد عام على انفجارها، ولم نقم بواجبنا بعد في تعقُّلها أو عقلها. فأي سيناريو هو تقليص وتخفيض وتحديد. والثاني أن من يضع سيناريو أو أكثر ليس بريئاً من المصلحة والهوى، فكل سيناريو يظهر ويخفي ويضمر، وأنا مصلحتي وهواي أن تستمر الثورة سلمية واضحة وشفافة، كانفجار الحقيقة، وأن تشذِّب الزوائد والاستطالات العنفية التي أجبرت عليها، أو التي قد تكون خياراً لبعضنا، ولا نقاش في الخيارات، لكن من يختار السلمية عليه أن يستمسك بها ويثابر فيها إلى النهاية. وهذان الاستمساك والمثابرة هما ما سيحدثان فرقاً نوعياً بين ثورة وثورة. أهم ما في الثورة السورية هو سلميتها، لنا ولغيرنا، فلا يجوز التفريط بها. ولا أغالي إذا قلت إن مستقبل الثورة مرهون بسلميتها أو عدم سلميتها.
حين ذكرت الرغبة والإرادة لم أشر إلى ما يحبط الرغبة وما يعترض الإرادة، لا إهمالاً أو تجاهلاً، ولا استخفافاً بثقل الواقع وحجم العقبات وجسامة التضحيات التي بذلت والتي ستبذل، بل لأننا في الثورة على كل ما يحبط الرغبة وكل ما يعترض الإرادة، بدءاً من إرادة الفرد إلى إرادة الشعب.
ولكي لا يفهم من الكلام استهانة ما بالعقل، أرى أن حديث السيناريوهات متصل، من بعض جوانبه، بالإجابة عن السؤال السابق الذي لا أجدني مؤهلاً للإجابة عنه، لنقص المعطيات المؤكدة أو الضرورية على الأقل، لأنه من دون مثل هذه المعطيات لا نكون إزاء سيناريوهات، بل إزاء نوع من رجم بالغيب، أو نوع من بيع الأوهام لمن يحتاجون إليها، أو محاولة لإشاعة اليأس. كثيرون منا يستخفون بمسألة السيناريوهات فيطلقون العنان لما يسمونه توقعاتهم، وأراني في غنى عن ذلك. نحن في العالم وفي التاريخ.
- هيئة التحرير: هل من كلمة أخيرة توجّهها عبر موقعنا لأولئك الشبّاب الذين ما زالوا مصرّين على سلميّة ثورتهم، الذين يقارعون وحدهم آلة الموت والقمع الهمجيّة بعد أن خذلهم السّاسة وتخلّى عنهم العالم.
– جاد الكريم الجباعي: لست في موقع من يوجه الكلمات، ولا أحب أن أكون في هذا الموقع.
هذه القضية تؤلبني على نفسي وعلى أبناء جيلي، المعارضين والموالين على السواء. لقد قلت وكتبت، غير مرة، أننا مسؤولون فكرياً وسياسياً وأخلاقياً عما آلت إليه أمور وطننا وشعبنا، إذ لم يكن الوطن (سوريا) والشعب (السوري) في مركز وعينا واهتمامنا، إلا لماماً، بل “القضايا الكبرى”. يفهم من القضايا الكبرى، كالوحدة العربية ودحر الإمبريالية والصهيونية العالمية وإقامة الاشتراكية ودكتاتورية البروليتاريا أو الخلافة الإسلامية .. يفهم من هذه القضايا الكبرى أن قضية الوطن والشعب تفصيلات تافهة لا يحسن بنا التوقف عندها، ومن ثم لا يحسن بنا الانشغال بالواقع السوري والاشتغال فيه، لكي نمضي من الواقع إلى الهدف.
قلما كنا نتوقف عند جفاف حياتنا الإنسانية ويباسها، ولم نكن نفهم قط معنى الحرية والكرامة الإنسانية، كنا مزهوين بحيونتنا. بل لعلنا كنا نخاف من الحرية. لا يستهجنن أحد ذلك، فإن خوفنا من الحرية هو ما أعاد إنتاج العلاقات التقليدية، ما قبل الوطنية، في البنى والمؤسسات التي يفترض أنها حديثة. والخوف من الحرية اليوم هو ما يثير النزعات المذهبية والطائفية، والخوف من المجهول هو مبعث ما نلاحظه من تردد أو عزوف.
الخوف من الحرية هنا هو المعنى الذي عالجه أريك فروم في كتابه المهم “الخوف من الحرية”، وقد أفدت منه في بحث نشرته بالعنوان ذاته، “الخوف من الحرية”. فماذا تريدني أن أقول لشابات سورية وشبابها؟ سوى: أنا أعتذر منكن أيتها الحرائر، كما أعتذر من بناتي؛ أعتذر منكم أيها الأحرار فرداً فرداً،
كما أعتذر من ابني وأحفادي، لأنني أسهمت، من حيث لا أعي ولا أريد، في ما عانيتم وتعانون منه وفي ما تثورون عليه، فإن كوني قد أسهمت في ذلك من موقع “المعارضة” لا يشفع لي ولا لغيري من المعارضين.
- هيئة التحرير: هذا “اعتذار” عن خياراتك الأيديولوجية والسياسيّة السابقة؟
– جاد الكريم الجباعي: لا يليق بالإنسان أن يعتذر عن خياراته أو يتنكر لها، ولا أن يعتذر عن كونه من هو وكيف هو، أو عن مولده في بيئة اجتماعية وثقافية معينة، بل جدير به أن يعتذر عن نتائج أعماله غير المفيدة، وأن يتعلم كيف يسيطر عليها، ويوجهها الوجهة التي تليق بإنسانيته ووطنيته، والإنسانية قبل الوطنية وفوقها، لأنها أساسها ومحتواها.
منذ الأيام الأولى للثورة قررت ألا أقول، بل أن أستمع، وأتعلم، وأراجع نفسي، وأعيد النظر في كثير من الأحكام والأفكار والتصورات التي كانت بمنزلة المسلمات، وقررت أن أسير خلف الشباب، بل على مسافة منهم، إذ لا العمر يسعفني ولا ما تبقى من القوة والعزم على أن أسير إلى جانبهم وأطرق معهم أبواب المجهول، أعني أبواب المستقبل. وما زلت أعتقد أن تجربتي السابقة لا تفيدهم، ولم تعد تفيدني للمستقبل القريب، إلا بنقدها. لذلك رأيت في الثورة نوعاً من مغامرة في المجهول قد يخسر نفسه من لا يذهب فيها إلى نهاية الشوط ومن لا يتعلم أبجديتها ويتكلم بلغتها.
أدهشتني سلمية الثورة، بل أدهشتني الثورة، ولا سيما سلميتها، ويحزنني أن هذه السلمية تتقلص شيئاً فشيئاً، لأن بعض اليأس قد صار شجاعة، فتباً لليأس، وتباً للشجاعة النابعة منه. ولكنني ما زلت أراهن على إعادة إنتاج سلمية الثورة وأرى فيها، أي في السلمية، عاملاً رئيساً من عوامل انتصارها وتحقيق أهدافها تباعاً.
أريد أن أقول للصبايا والشابات والنساء السوريات أنتن مدهشات. وللأطفال والصبيان والشباب والرجال السوريين أنتم مدهشون. و”أثق بسورية”، كما تقول الصديقة هالة محمد.
* هيئة تحرير موقع الحضارة. وأجري الحوار في 15 آذار 2012
المصدر: موقع الحضارة
التعليقات مغلقة.