الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

من الحوار السياسي إلى الحوار الإيديولوجي



حزب الاتحاد الاشتراكـي العربـي
                                                               حرية * اشتراكية * وحدة

         في سوريــة

                                                              (نشـرة داخليـة)

                                            

الدكتور جمال الأتاسي

«
إن إعطـاء الثـورة العربيـة مضامينهـا وأبعادهـا كثــورة واحـدة يقتضي السـير على طـريـق صنـع وحــدة أداتهــا أو الحــركـــة العــربيـــة الثوريـــــــــة الــــــــــواحـــــــــدة»

     مثلما ترجع البذرة إلى الأرض تخصب من جديد، تعود الثورة إلى تربتها الأصلية وجماهيرها العربية لتتجدد حيويتها وحياتها . ومن قلب الجماهير يمكن للثورة العربية أن تأخذ مسارها من جديد نحو أهدافها . فالثورة اليوم ملك الجماهير والجماهير وحدها، وملك الطلائع الثورية التي تنهض في قلب الجماهير ومن صفوفها، في ارتباطٍ مباشر وتفاعل دائب معها . فكل ما قام باسم الثورة من نظم وتنظيمات وكل ما قام على مبادئها من قوى وأحزاب، في الوطن العربي وأياً كان التقييم لمعطياتها وانجازاتها السلبية منها والإيجابية، فإنها لا تعطي كبير رصيد أو أمل (إن لم يكن رصيدها سلبياً) في مواصلة المسار التاريخي لحركة الثورة العربية نحو أهدافها، ولا تعطي طريق المستقبل .

     إننا في سلسلة نشراتنا عن « تشرين والمستقبل العربي » تابعنا مجرى الأحداث وحركة القوى والنظم العربية، وحركة القوى المعادية لأمتنا، وعملنا على تبديد الكثير من الأوهام والتمويهات التي تحيط بهذه الحركة، وعملنا على فضح المخططات الإمبريالية والصهيونية ومخططات الرجعية العربية لنقف في النهاية عند هذه النقطة، أي نحو المستقبل وطريق المستقبل . والسؤال الذي بقينا نطرحه على أنفسنا ويطرحه كل من يحمل تطلعات ثورية ويلتزم حياتياً وفكرياً بمشروع الثورة العربية وأهدافها هو: ماذا بعد ذلك وما العمل للخروج بحركة الثورة العربية من هذا التخبط والتمزق الذي تعيشه؟؟؟

     هناك بديهية لا بد أن تظل ماثلة أمام أعيننا، وهي أن الصراع العربي الإسرائيلي صراعٌ تاريخي وليس مرهوناً بفترة محددة من الزمن أو بحربٍ محدودة تتحرك بعدها الدنيا ويأتي الحل دفعة واحدة أو على دفعات مقسطة . وحرب تشرين في كل ظروفها ومعطياتها وانعكاساتها على الواقع العربي والواقع الإسرائيلي وعلى الظروف الدولية، ما جاءت إلا لتؤكد هذه الحقيقة ولتضع الجميع في النهاية أمام استمرارية هذا الصراع . والذين راهنوا على الحل أو مشوا على طريق التسويات بل وحتى الذين تواطؤوا وولغوا في المساومات يصطدمون اليوم بهذا الجدار . فليس من حل والصراع سيستمر ويتواصل إلى أمدٍ غير منظور . إن هذا الصراع يمكن أن يستمر جيلاً وأجيالاً وسيبرد قليلاً أو يحتد ويتفاقم وفق معطيات الواقع العربي ومعطيات الواقع الإسرائيلي والتحالف الإمبريالي الصهيوني الذي يغذيه ووفق المعطيات الدولية وواقع الصراعات العالمية . وسيظل هذا الصراع ينذر أمتنا بالخطر، وسيظل هذا الواقع يفعل في المواقف والتقديرات، وسيظل يلزمنا بتقييمات نسبية لطبيعة النظم والقوى الراهنة ولمواقفها ومعطياتها أمام هذا الصراع.

     إلا أن هذا الصراع الذي سيظل محوراً أساسياً في حركة النضال العربي، لا يجوز أن يحاصر العقول والقوى فتجّمد عنده وترّكن للانتظار . فليس هناك من نقطة منظورة يتوقف عندها هذا الصدام التاريخي ولو لمهلة نقف فيها فنُصفي حساباتنا الداخلية والعربية ثم نواصل الحركة… وإذا كنا مطالبين، وطنياً وقومياً، بأن نظل نُقدّر وزن هذا الصراع وخطورته الكبرى على مصائرنا وأن نظل نرصده ونعطي تقييمات واقعية للقوى المباشرة الفاعلة فيه وللتغييرات التي تَجدّ والقوى التي تتحرك مواقعها وتتبدل لنقف مساندين هنا أو مطالبين هناك أو نقف موقف الكشف والتوضيح أو التنديد، فإننا إلى جانب ذلك ومقدماً على ذلك، لا بد أن نركز اهتمامنا حول الخروج بحركة الثورة العربية من مآزقها وأن نعمل دائبين، بالتفاعل والتعامل مع كل من يلتقي معنا حول هذا الهدف، لتمكين طريق الثورة وبناء أداتها، فذلك هو الحاسم في النهاية سواءٌ بالنسبة لصراعنا التاريخي مع إسرائيل ولصراعنا مع الصهيونية والإمبريالية العالمية، أو بالنسبة لأية قضية من قضايا أمتنا المصيريــة .

     إننا لم ننتظر حرب تشرين ومعطياتها لنؤكد هذه الحقيقة، فلقد كانت قناعاتنا من قبل (راجع نشره الاتحاد في مناسبة 28 أيلول عام 1973) ومع ذلك فإن الظروف المباشرة للصراع وإنذارات الخطر والحروب قد حاصرتنا وستظل تحاصرنا، إلا أنها لا يجوز أن تُجمّد حركتنا باتجاه المستقبل وصُنع ضماناتــه .

     ونحن في الاتحاد الاشتراكي عندما طالبنا أنفسنا قبل عام ونيف، وبعد الخروج من تجربة التعامل الجبهوي مع نظام الحكم وبعد لفظ الزمرة الانتهازية والمأجورة من صفوف الاتحاد، بالهجرة باتجاه الجماهير وبتحريك الحوار مع قواعد القوى التقدمية في قطرنا على مسمع من جماهير شعبنا، فإن موقفنا كان تعبيراً واعياً عن هذه الحقيقة وعن حاجات المستقبل وعن طبيعة المرحلة الراهنة التي تمر بها أمتنا . وبالهجرة باتجاه الجماهير أردنا أولاً أن نجدد حيوية حركتنا من خلال ارتباطها المباشر بحركة الجماهير والعمل على التقدم بهذه الحركة وبوعيها، وأردنا أن نحرر حزبنا مما علق به من شوائب ومن تراخٍ وتردد ومن عناصر وأفكار وسطية وانتهازية وأردنا أن نسهم في تمهيد السبيل أمام بناء حركة الثورة وبنـاء أداة الثــورة .

     فالمطلوب اليوم تأصيل الثورة وتجذيرها، وأن تتحول الحركة التي يتفتح عنها الوعي الجماهيري العام إلى حركة تنظيم . فالثورة وجماهير الثورة بحاجة للأداة التي تقود نضالها وتضع منهاج عملها على طريق أهدافها . إنه الطريق الشاق والشاق جداً في هذه المرحلة، وضمن الظروف القسرية التي تحيط بنا وبحركة الجماهير، ولكنه الطريق الصحيح، ولا بد للسير في هذا الطريق من مقدمـات .

     إن نشراتنا المتسلسلة في متابعة الأحداث منذ حرب تشرين كانت نوعاً من الحوار المفتوح مع قواعد ((القوى التقدمية)) بهدف الوصول إلى قناعات مشتركة حول تقييم المرحلة التي تمر بها أمتنا، وقد سجلنا خطوات لابأس بها في هذا السبيل . وفي تلك النشرات كنا نتوجه لوعي الجماهير وحركة الجماهير أكثر مما نتوجه إلى مطالبة النظم . قد لا نكون قلنا وأوضحنا كل الذي يجب أن يقال ويوضّح، ولكننا في مراقبتنا وتحليلنا لتطور الأحداث من منطلقاتنا الناصرية التقدمية وبالاحتكام إلى استراتيجية عبد الناصر استطعنا أن نستكشف مسبقاً إلى أين تسير حركة السياسات وأن نضع توقعات جاءت تطورات الأحداث مصداقاً لها .

     وبعد نشرة الأول من أيار توقفنا عن متابعة ذلك التحليل السياسي وعن ملاحقة الأحداث، وقد وجدنا أنفسنا أمام ظرفٍ جديدة تطالبنا بإعادة تقييم طاقاتنا وتكتيكاتنا لمواجهتها ولنقوى على الثبات في مواقعنا والتقدم منها . فنظام الحكم في سورية لا يضيق ذرعاً بمواقفنا فحسب بل وبوجودنا كتنظيم، وتعمل أجهزته بإصرار وبمختلف الأساليب لإنهاء هذا الوجود، والزمرة الانتهازية التي أُخرِجت مُسَخَرة لخدمة هذا الغرض وتُحرّض ضدنا . كما أن هناك نظماً عربية أخرى وقوى تسير في ركابها وتُحرِضها لا تريد لنا أن نبقى . إن فكرنا الناصري المتقدم وإن مواقفنا العقلانية والواضحة وإن وجودنا كحزب وإصرارنا على منطلق الحزب الثوري في بناء حركة الثورة العربية- الحركة العربية الواحدة– لمما يُحرج تلك المجموعات ((الناصرية الرسمية)) التي تسير في ركاب النظم وتوَجّه بأجهزتها وأموالها، وتريد تجميع ((الناصريين)) حول تلك النظم وراء شعارات الناصرية ووراء أفكار وتفسيرات رجعية ومتخلفة لها . فهؤلاءِ أيضاً يدسون ويندسون ويشوهون المسيرة الناصرية في محاولة لتلفيق طراز غريب غامض من التجميع تحت اسم الناصريين وتنظيم ((الحركـــة الواحــــدة)) .

     وفي مواجهة هذه الظروف التي تحيط بنا، وبنا خاصة، لا بد أن نقوى على الثبات وأن نؤكد وجودنا ولا بدّ أن نتقدم على طريقٍ واضحة، وفق منهاج فكري واستراتيجي واضح، وليس كتعميق الأفكار وتحديدها ما يعطينا اليوم التماسك وما يعطينا القدرة على الثبات في مواجهة هذه الظروف وعلى الفعل في الآخريــن .

     إن المنطلقات التي صدرت عن اللجنة المركزية كتمهيد أو كخطوات عامة لمنهاج عمل مرحلي هي منطلقات أولية تمت صياغتها قبيّل حرب تشرين، وهي إذا ما كانت في كثير منها تمثل التزاماتٍ عامة ومبادئ أساسية توجّه عملنا، فإنها غير كافية للإجابة على متطلبات المرحلة، كما وأنها ليست الدليل الذي نستطيع أن نشق به طريق الثورة أمام الجماهير . نحن مطالبون بأن نتقدم أكثر بكثير مما تقدمنا عليه، ولا نقوى على مثل هذا التقدم لتحمّل أعباء مهماتنا كطليعة ثورية ما لم يتقدم حزبنا أولاً، فكراً وتماسكاً وعملاً . والفكر، الفكر الواضح المتماسك المتقدم، هو ضمانتنا وهو الأرض الصلبة التي تبقى دائماً الرصيد الثابت . لقد كان دورنا خلال الأعوام الأخيرة الماضية أن نحرض حركة التفاعل بيننا وبين القوى التقدمية وبينها وبين جماهير الشعب، إلا أن هذا التحريض استنفد أغراضه ولا بد أن نكون اليوم أكثر وضوحاً وأن نقول بشكلٍ دقيق إلى أين نريد أن نمضي بحركة التفاعل هذه وما هو هدفها ومؤداها . إننا نهدف إلى النهوض بحركة الجماهير وإلى تنظيم أداتها الطليعية، فلا بد أن نتقدم ببرنامج عمل وصيغة النهوض بهذه الحركة وتنظيم أداتها . إننا وغيرنا مع هذه الشراذم المبعثرة على مدى الوطن العربي من طلائع الثورة العربية التحررية الاشتراكية، لا تصنع ثورة ولا تقوى على تغيير، بل وهي في أوضاعها الراهنة عاجزة عن الوقوف بجماهير الأمة لتكن صامدة في وجه حركة التراجع في السياسات والنظم وعاجزة عن احباط ما يحاك للمنطقة من أحابيل بقصد تطويعها للمخطط الإمبريالي الجديد . فأمام عملية التفتيت والتمزيق لحركة الجماهير وقوى التقدم تتمادى ولا تتوقف، لا بد من التصدي بنهوض جديد وبرنامج عمل جديد يهدف إلى إيقاف التساقط والتفتيت، وإلى تنظيم وتوحيد من يلتقون على وحدة الهدف، ويهدف إلى بلورة الوعي الثوري للجماهير وإلى تعميق خط التقدم وتنظيم قواه وصولاً إلى بناء أداة الثورة العربية الواحــدة .

     وفي هذا السبيل فإن الحوار الذي مضينا به على المستوى السياسي لا بد أن يسّحب إلى المستوى النظري الذي يلتزم بكل ما يتطلب هذا المستوى من جدية والتزام إيديولوجي . إن الوصول إلى منطلقات موحدة في فهم تاريخنا المعاصر وفهم تاريخ أمتنا وما تحركه من دوافع وصراعات، وإرساء قواعد مشتركة في التفكير والبحث، والوصول إلى قناعات موحدة حول مضامين الأهداف التي ترمي إليها والقواعد التي نرتكز عليها في رسم استراتيجية نضالنا للوصول إلى تلك الأهداف هي الأساس الذي لا بد منه للتقدم نحو بناء الأداة الموحدة للثورة العربية الواحدة . وفي هذا الإطار أيضاً يمكن أن نسير بخطى واضحة على طريق بلورة الوعي الطبقي والسياسي للجماهير في مساره العام، إذ أن هذا الوعي وما يخلقه من روابط عريضة، يشكل القاعدة والمرتكز لتلاقي طلائع الثورة ولوحدة قوى الثورة، هذه الوحدة التي لا تبنى إلا في قلب الجماهير وبالاستناد إليها والتفاعل الدائب معها . إذ لا بد أن نحدد منذ البداية وبشكل واضح ما هي مقومات القاعدة الطبقية التي ترتكز إليها أداة الثورة العربية وما هي إيديولوجيتهــا .

     وللتقدم على هذا الطريق لا بد من إدارة الحوار حول عدد من المسائل المتعلقة بقضية الثورة العربية كثورة تحررية اشتراكية وحدوية . ونأتي اليوم على طرح البعض من هذه المسائل ثم نتابع أن نطرحها أولاً في إطار تنظيمنا لبلورة قناعاتنا حولها وإغنائها بالمناقشة، ثم نتوجه بحوارنا إلى الآخرين ونطالبهم بتحديدٍ لمفاهيمهم وقناعاتهم . إن الحوار الجدي والهادف والمسؤول سيكشف لنا أن نقاط الالتقاء كثيرة وأن أكثر نقاط الاختلاف ناجمة عن نقص في الوضوح وعدم التحديد . كثيرون أولئك الذين ينادون بأهداف واحدة للنضال العربي ويقولون بوحدة الثورة العربية ويقولون بالحاجة إلى أداة واحدة وصلبة لهذه الثورة على مدى الوطن العربي الكبير . وهناك محاولات من قَبل في هذا السبيل وتجارب، وهناك اليوم من جديد طروح ونداءات . ولكن ما من فرد وما من حزب أو تنظيم يستطيع اليوم أن يقول أنه أصبح مالكاً لنظرية الثورة ولبرنامج العمل الذي يقدم دليلاً للثورة العربية ولوحدة العمل الثـوري العربـي . فلنبدأ بطرح نقـاط للحـوار والبحث والإغنــاء :

     1 – إن الصيغ التي تطرح بها المسائل ويتوجه الفكر إلى مواجهتها وتحليلها توصلاً إلى طرح حلولها، أي أن منهاج التفكير والبحث على قدر كبير من الأهمية . ولذا اعتمدنا دائماً في تفكيرنا وفي التحليل والبحث والتوقع، المنهج الدياليكتيكي (الجدلي) . فمن يقول بالثورة يقول بمبدأ الصراع في حركة التاريخ وتقدم الأفكار ويقول بالوعي الذي يتقدم عبر استيعاب حركة الصراع هذه، محيطاً بالواقع وما يتفاعل فيه ويصطرع من عوامل وقوى وتناقضات، دافعاً إلى حلّها وتجاوزها، هادفاً للمستقبل وعاملاً لتغيير الواقع من خلال مشروع إنساني معقول، يغتني بالممارسة ويتعلم من التجربة والمراجعة الدائمة . وبهذا المنهاج أي المنهج الجدلي، في البحث والتفكير وفي فهم صراعات البشر ومسيرة التاريخ نهض الفكر الثوري في هذا العصر ومازال يتقدم، وهو المنهج الذي تقدم به الفكر الناصري الثوري وممارسات عبد الناصر منذ بداية الستينات، أي في مرحلة صياغة (ميثاق العمل الوطني) ودخول تجربة التحويل الاشتراكي، وتركيز المنطلقات الأساسية للثورة العربية كثورة ديمقراطية واشتراكية، كثورة تحرر وطني ووحدة قومية، وكثورة إنسانية تضع نفسها في المسار التاريخي لحركة التحرر العالمي وتعمل لاستيعاب ظروف العصر وتحرير الإنسان وتسهم في صنع الحضارة الإنسانية . إن الممارسة الناصرية، لولا جدليتها ولولا استيعابها لظروف العصر وحركة الصراع العالمي والصراع الطبقي على أرضها، ولولا تقدمها بهذه الجدلية باتجاهيّ الشمولية والتخصيص، ولولا دفعها دائماً باتجاه التقدم، ولولا تجاوزها لمقولاتها الأولى، لولا كل ذلك لتحولت إلى عملية تمويه للواقع ولتوقفت ثوريتها واستهلكها المجتمع التقليدي والعقل التقليدي والمحافظ بين ما يستهلكه من موجات وانتفاضات تنهض لمدة ثم تتراخى وتجّمد وتموت . وهناك من جمدوا حين أرادوا تجميد الناصرية وتمثّلتهم قوى الرجعة والردة أو سخرتهم لتشويش مسيرة التقدم وتشويش مسيرة الثورة العربية . إن تلخيص الناصرية بمقولات محصورة جاءت في مرحلة من مراحل التجربة الناصرية والوقوف عندها لا ينسجم في شيء مع الفكر الجدلي والمتحرك لعبد الناصر وهو نوع من الجمود الأيديولوجي الذي سقطت فيه الكثير من القوى العربية ومنها تلك التي تأخذ بنظريات ومذاهب جاهزة . إن هذا التلخيص الجامد للناصرية لا يختلف في كثير عن موقف أولئك الذين يأخذون بالتلخيصات الستالينية للماركسية وللمادية الجدلية والمادية التاريخية في مواد أو قواعد ثابتة ومعدودة أو مثل ذلك الأسلوب البعثي في طرح شعارات وقواعد، توضع في كتب التعليم وتلقن لأطفال المدارس مثل خلود الرسالة وترداد الأهداف كأقانيم مقدسة .

     لا بد أن نبدأ من رفض هذا النمط من التزوير الأيديولوجي والتجميد . لقد قال عبد الناصر بوحدة الفكر، أي بالأيديولوجية، كأساس لبناء وحدة أداة الثورة، إلا أنه قال أيضاً بضرورة أن يحمل هذا الفكر القدرة الثورية على تطوير نفسه، أي أن تكون هذه القدرة متضمنة في طريقتـه ومنهاجــه .

     2 – لا بد أن نعيد تقييم تجربتنا ومسار حركتنا ومواقفنا، فكرياً وسياسياً ونضالياً، كما نطالب الآخرين بأن يعيدوا تقييم تجاربهم والحركات التي ينتمون إليها . هذا مطلوب من كل القوى والمجموعات التي ترفع شعارات الثورة العربية، وتتطلع جدياً إلى توحيد منطلقات الثورة العربية وتنظيم أداتها والوقوف في وجه قوى الثورة المضادة وتجديد مسيرة الثورة العربية التحررية الاشتراكية الوحدوية نحو أهدافهــا .

     ولا بد من إعادة تقييم مسار حركة النضال العربي خلال المرحلة التاريخية التي شهدت نهوض التيارات السياسية التقدمية الاشتراكية الوحدوية في الوطن العربي، وبخاصة منذ بداية الخمسينات حتى اليوم . فلقد تعددت الثورات العربية أو ما سمي بالثورات، وتعددت البؤر والحركات الثورية، وكلٌ يحاصر نفسه بتجربته لا يتخطاها ولا يقوى على الامتداد بها، وليس وراء ذلك مجرد الغرور والطموح، بل هي المصالح الفئوية والإقليمية وضعف المقومات الثورية والصلة الديمقراطية بالجماهير . فلا بد من مراجعة هذه التجارب وكلٌ مطالبٌ بمراجعة تجربته . إننا في الاتحاد الاشتراكي ننتمي لثورة 23 تموز ( يوليو) الناصرية ونعتقد بأنها قدَرَت لوحدها أن تتخطى الإطار الإقليمي، ولكن هذه الثورة حوصرت وتراجعت، سواء في امتدادها الجماهيري والقومي، أو في تعميق تجربتها على أرضها . ولما كنا مازلنا نعتقد بأنها ((الثـورة الأم)) وأنها جاءت تعبيراً عن مطامح جماهير الأمة العربية في مشرقها ومغربها، وأنها جاءت تعبيراً عن مرحلة تاريخية كبرى في حياة هذه الأمة ولم تُستنفد بعد أغراضها، فإننا مطالبون قبل غيرنا بمراجعة هذه الثورة من خلال الاستيعاب والتمثل والنقد والتجاوز، وثورة 23 تموز بالنسبة لنا هي ما حركت وتحرك على الصعيد الجماهيري وما ظل من رصيد لأهدافها في قلب الجماهير، وليس ما يتحرك باسمها على المستوى الرسمي وفي عمليات أجهزة النظم . وثورة 23 تموز هي المد الأكبر في حركة الثورة العربية، وهي ثورة تأخذ مقولاتها عندما أصبحت ناصرية، أي عندما أصبح لهـا برنامج عمل ( الميثـاق ) وعندما أخذت بُعّدهـا القومي الاشتراكي وتقدمت بحركة الجماهير وبوعيها وعندما تقدمت بنضالها ضد الإمبريالية وفق استراتيجية جذرية واضحة المعالم والأبعاد، وعندما أخذت مضمونها الطبقي في صيغة (تحالف قوى الشعب العامل) كتحالف تسود فيه الطبقات الكادحة وتقوده طلائع ثورية ملتزمة بالاشتراكية العلمية، وعندما حملت مسؤولياتها القومية بدءاً من  الخوض في تجربة الوحدة مع سورية مروراً بدعمها بحركات الثورة والتقدم على مدى الوطن العربي وانتصارها لكل إرادة في التحرر والتغيير القومي في كل قطر من أقطـار العروبـة .

     فدعوة الحوار بيننا وبين الآخرين ليست دعوة في سبيل (تلاقي ثورات) أو لتلاقٍ في منتصف الطريق بين هذه الحركة الثورية وتلك بل هي دفع على طريق التخطي والتجاوز لتلاقٍ في أفق جديد نتقدم فيه على كل ما سبق ونتمثل فيه كل الذي سبق . إن هذه الجدلية في حركة التقدم تمثلت في تجربة عبد الناصر، وثورة 23 تموز تقدمت كثورة للقومية العربية إذ أخذ بها عبد الناصر دائماً وفي كل شوط من أشواطها طريق التجاوز والتمثل . فتجربة الوحدة كانت تجاوزاً إلى أفق جديد، وكذلك تجربة التحويل الاشتراكي، وكذلك شوط وفي مواجهة ظروف الانتكاس والفشل . هناك بين التقدميين العرب من يشهدون لتجربة عبد الناصر بأنها تجربة تقدمت على غيرها من التجارب الثورية المسماة كذلك على مستوى الوطن العربي، ولكن لا ينظرون إليها من حيث جدليتها في التقدم والتجاوز ويضعونها أمام جدار الفشل في حرب حزيران وكأنه الحكم النهائي عليها . إن حرب حزيران كانت فشلاً في مواجهة ظروف العدوان وجملة التحديات التي واجهت الثورة العربية، ولكن قناعاتنا تذهب إلى أن تجربة عبد الناصر صعدت بعد الهزيمة، وأنه قد وضع في استراتيجيته كل مقومات تطوير هذه التجربة وتجاوز مرحلة ما قبل الهزيمة . فلا بد إذاً أن نثبت ذلك فالتقدم بهذه التجربة وفي تعميق فكرها وأبعادها الثورية . ونحن نقدم اليوم، بدل مطلب (وحدة الثورات) العمل في سبيل لقاء الثوريين العرب ووحدتهم وراء منهاج واحد وفي إطار أداة واحـدة .

     3 – إن عملية التلاقي والحوار وتجديد البناء لا بد لها من أرض فكرية مشتركة ولا بد أن تخضع لقواعد نظرية ناظمة لها إذ لا شك أن اللقاء الأيديولوجي، أي اللقاء حول مجموعة الأفكار والتعليلات والمنطلقات النظرية التي توجه العمل، هي القاعدة التي يبنى عليها المعتقد الثوري الموحد اللازم لوحدة أداة هذه الثورة . كثيرون الذين يقفون عند الخلافات الأيديولوجية بين المنادين بالثورة والعمل الثوري في الوطن العربي، ويجعلون منها سداً في وجه وحدة هذه الثورة وتوحيد أداتها . إلا أن من هذه الخلافات ما مصدره عدم الوضوح الكافي لدى الحركات والقوى، أو محاولات التقدم بنظريات وحلول جاهزة ومطبقة في مجتمعات غير مجتمعنا العربي ليجيبوا بها على المسائل التي تطرحها مسيرة تطور المجتمع العربي . كما أن هذه الخلافات ما هي إلا خلافات زائفة تتستر وراءها مصالح خاصة أو تحكمها نوازع وعصبيات، ومصدرها الوقوف عند قناعات جامدة أو تمذهب متعنت، كما أن هناك تعميمات أيديولوجية سببها التصور والعجز أو الانتهاز والديماغوجية، فالحوار النظري المفتوح لا بد أن يبدد أولاً تلك التعميمات الأيديولوجية التي تشوه الواقع وتزيفه وتقيم التناحر والصراع حول مقولات لا تحتاجها حركة الثورة وتشوش مسيرتهـا .

     فإذا أردنا أن نحدد إطاراً عاماً لأيديولوجيات الثورة العربية في أنها (مناهج التفكير والقناعات النظرية التي تأخذ بها، عن عقلانية ووعي، الطلائع التقدمية والمثقفة في مجتمعاتنا العربية، في حركة نضالها القومي، و التي تجيب على المسائل التي تطرحها مسيرة هذا النضال وتقدم لها الحلول) فلا بد من تحديد لهذه المسائل . إننا جميعاً، أي الذين نقول بالثورة العربية، نختصر هذه المسائل تحت عناوين عامة وهي التخلف والتجزئة ونضع أمامها التقدم في العالم وتحديات العصر والصراع مع الإمبريالية العالمية ومع الصهيونية والوجود الصهيوني على أرضنا، ونضع الحلول في التحرك النضالي نحو الأهداف الثلاثة المتلازمة التي تبلّــوَرَ من حولها الوعي الجماهيري العام في مسيرته التاريخية الراهنة وهي الحرية والاشتراكية والوحـدة .

     وإننا نقول جميعاً كقوى تحرر وتقدم بأن ثورتنا العربية هي جزء من الثورة العالمية التي تتحرك نحو أهدافها وفي سبيل تحرير الإنسان وتحرر الشعوب وتحرير المجتمعات البشريـة .

     إن الاتفاق على عمومية ثورتنا العربية وشمولها- أي على ارتباطها بمفاهيم إنسانية عامة وبفهم مشترك لطبيعة الصراعات في العالم والعوامل الموجّهة لحركة التاريخ العام- ثم إن الاتفاق أيضاً على خصوصية ثورتنا في المسائل الخاصة التي تطرحها حركة تطورنا وفي وحدويتها ونزوعها الأساسي إلى بناء الدولة القومية الاشتراكية الديمقراطية للأمة العربية الواحدة يضع الإطار العام لأيديولوجية الثورة العربية . وأن الاتفاق على مضامين الأهداف التي يتحرك نحوها نضالنا وعلى استراتيجية الوصول إلى هذه الأهداف يقدم الدليل النظري والاستراتيجي ويحدد برنامج العمل الكافي لصنع تلاقي القوى ووحدة أداة الثــورة .

     إن الناصرية في حركة تقدمها عبر تطور فكر عبد الناصر وممارساته قد أعطت إجابات على هذه المسائل، إن من هذه الإجابات والمقولات الناصرية ما تأكد ونهض بالوعي الثوري وأخذ أبعاده، ومنها ما لم يُستكمل بعد ويأخذ مضامينه أو أبعاده الشمولية في إطار استراتيجية الثورة العربية . فالقاعدة الطبقية ومقولة التحالف، تحالف قوى الشعب العامل، كمرتكز من ديمقراطية وقاعدة لحركة الثورة، بحاجة للتأكيد من جهة كقاعدة وبحاجة أيضاً للتطوير على ضوء ما برز من تناقضات داخل هذا التحالف وفي تشويهات النظم وتحولاتها . إن فكرة التنظيم السياسي أو الطليعي لا بد أن تتضح وتعطي أبعادها في مفاهيم بناء أداة الثورة والحزب الثوري . إن الاستراتيجية الوحدوية بذاتها بحاجة لاستكمال وتطوير، وكذلك مفهوم حتمية الحل الاشتراكي لا بد أن يأخذ مضامينه كلها مرتكِزاً إلى الدراسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وليعطي بالفعل دليل الطريق العربي إلى الاشتراكية كاشتراكية علمية . هذه ومسائل كثيرة أخرى لا بد من تحديدها والإجابة عليها . فالناصرية تقدمت من منطلقات بسيطة أخذت تمتـلأ تدريجيـاً بمضامين الثورة العربية في شمولهـا ولا بد أن تُثّبِت في تقدم فكرها اليوم قدرتها على الاستيعـاب وعلى أن تكون طريق المستقبل .

     4 – إذا كانت الوحدة هي حجر الأساس في الثورة العربية وإطار بنائها والمحور الذي تتحرك عليه استراتيجيتها في التصدي لأعداء الأمة ولمعوقات تحررها وتقدمها وفي الوصول إلى أهدافها، فإن الديمقراطية مضمون أساسي من مضامين هذه الثورة وهي التي تعطيها حيويتها وقدراتها ومرتكزاتها الجماهيرية الصحيحة . إننا نقول جميعاً أن الثورة العربية تجمع بين مهمات ثورتين تاريخيتين هما الثورة الديمقراطية والثورة الاشتراكية وبين التحرر السياسي والتحرير الاقتصادي، ونقول باستمرارية الثورة وتواصلها ومرحلتها وفق استراتيجية بعيدة المدى، كما ينادي البعض بحرق المراحل . إن هذا يحتاج إلى وقفة مليّة . فالتقدم بالمراحل أو حرقها يصبح هروباً إلى الأمام واستسلاماً إلى ديكتاتوريات استبدادية اوتوقراطية ما لم نتمثل في كل مرحلة نتقدم إليها المهام الأساسية لسابقتها وبخاصة المهام الديمقراطية . والتركيز اليوم على المهام الديمقراطية ضرورة قصوى، إذ هي التي لم نقوى على استيعابها بعد وقفز الكثير منا فوقها أو تساهل بها أو تجاوز عنها . وهذا ما أورد قوى الثورة أو المسماة كذلك موارد الانهيار والتصادم والتبعثر والانسحاق . ولهذا نعيش اليوم في ظل هذه النظم جوّاً يكاد لا يتيح لنا أن ندير حوارنا هذا في الحدود الدنيا اللازمة من الديمقراطية، ولهذا فإن صياغة العمل الجماهيري وبلورة حركة الجماهير تواجه معوقات كثيرة . فلا بد من ترسيخ الديمقراطية في فكرنا وعملنا لنتقدم . إن البناء الديمقراطي لحزب الثورة ولأداة الثورة، أي للحركة العربية الواحدة التي نتطلع إليها، عملٌ بارز وهام في بناء حركة الجماهير وفي وضع ضمانات للمستقبل .

     و عـــلـــى هــــذا الطــريــــــــق سنتــــــابــع الحـــــــــــوار

                    أيلول 1974                                مكتب الفكر والإعلام

التعليقات مغلقة.