الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

  عندما ينتهك “فراس طلاس” المقدّسات

حسين عبد العزيز *

أثار الأخوان طلاس، فراس ومناف، في السنوات العشر الماضية، جدلا واسعا في الساحة السورية، من خلال أنشطتهما السياسية والعسكرية وتصريحاتهما الإعلامية. ويكمن الاهتمام الشعبي والإعلامي بمواقف فراس (رجل الأعمال السابق في قطاعات الإسمنت والألبان والبُن والمعادن والأغذية المعلبة والسكر) ومناف (قاد اللواء 104 في الحرس الجمهوري) بحكم علاقتهما السابقة بأولاد حافظ الأسد، وبأنهما كانا جزءا من منظومة الحكم الضيقة في سورية، فهما نجلا وزير الدفاع الأسبق، العماد مصطفى طلاس، المقرّب جدا من حافظ الأسد، وبقي في منصبه 32 عاما. وكان واضحا منذ سنوات أن الأخوين يبحثان عن أدوار سياسية وعسكرية في المشهد السوري، بعدما فشلا في إقناع المعارضة بأهليتهما في أن يكونا جزءا منها.

حمل العام الجاري تحرّكين بارزين للأخوين: أعلن فراس تأسيس “الحزب الوطني السوري”، فيما بدأ مناف التجهيز لرئاسة “مجلس عسكري”، يهدف إلى قيادة البلاد نحو مرحلة انتقالية. وفي ضوء هذين التطوّرين، يبدو مفهوما وطبيعيا أن يدلو كل منهما بتصريحاتٍ عن مستقبل الوضعين، السياسي والعسكري، السوريين، بغض النظر عن مضمون هذه التصريحات ومدى التزامها بالخط السياسي المعارض.

ولكن، أن يدلي فراس طلاس بتصريحاتٍ لصحيفة إسرائيلية، ويعطي قيمة لإسرائيل، من حيث دور إيجابي كان يمكن أن تلعبه في الساحة السورية، فهذا خروجٌ عن المألوف، وضربٌ لكل التابوهات السياسية والأخلاقية في الوعي والوجدان السوريين. إن مجرد قبوله التحدث إلى صحيفة “ماكور ريشون” الإسرائيلية، المحسوبة على اليمين الصهيوني ـ الديني (الاستيطاني)، فهذا اعتراف منه ليس بإسرائيل فحسب، بل بالاستراتيجية الاستيطانية داخل الأراضي العربية المحتلة. وبمجرّد قبوله بفكرة دور “بناء” لإسرائيل في سورية، فهذا يعني وضعها في مصفوفة الجهات القادرة على لعب دور إيجابي في سورية والبلدان العربية.

لو جاءت تصريحات فراس طلاس قبل خمس سنوات أو أكثر، لقلنا إن رغبة الرجل في إسقاط النظام بأية وسيلة دفعته بالخطأ نحو إسرائيل، وإن كان هذا السلوك مرفوضا بالأساس، ولكن أن تأتي تصريحاته في هذه المرحلة، بعدما انتهت العمليات العسكرية الكبرى في سورية، وثبتت مناطق النفوذ، فإن الأمر لا يتعلق بالوضع السوري، بقدر ما يتعلق بأجندةٍ تخدم إسرائيل في عموم المنطقة.

لم يتحدّث الرجل عن حزبه السياسي، ولا عن الدور المفترض لأخيه العسكري. ولم يتحدّث عن الوضع السياسي المستقبلي في سورية، ولا عن الدور الإيراني أو الضربات العسكرية الإسرائيلية، بل تحدّث عن علاقة بشار الأسد بزوجته وأخوته، وعن تصريحاتٍ للأخير عام 2011، لم يعد لها أية قيمة سياسية، ما يوحي أن المقابلة جاءت خارج السياق السياسي والإعلامي.

أبرز ما قاله إن “إسرائيل أخطأت بعدم تدخلها في الحرب الأهلية في سورية”، وإنه “بين عامي 2013 ـ 2015، نظر سوريون كثيرون بشكل إيجابي إلى إسرائيل، وكانت فرصة حقيقية للتغيير ولمستقبل جديد. واليوم عاد الشعب السوري إلى النظر بصورة سلبية لإسرائيل، لأنها أيّدت الروس وبقاء الأسد رئيسا. والآن على إسرائيل أن تفعل كثيرا من أجل تغيير هذه الفكرة السلبية”. وثمة مغالطتان هنا. الأولى، اعتقاد نجل مصطفى طلاس أن إسرائيل تهتم لما يجري في سورية فيما يتعلق بالصراع بين النظام والمعارضة، وإنها تهتم بالحقوق والحريات والديمقراطية ودولة القانون. وتناسى أن الربيع العربي شكل خطرا استراتيجيا كبيرا على إسرائيل، فنشوء دول عربية ديمقراطية هو التهديد الأكبر لها. لم يدرك أن إسرائيل ليست معنية بما يجري في سورية، إلا من من ناحية حصول تهديد لها. ولهذا السبب مالت نحو النظام أكثر مما مالت نحو المعارضة التي يطغى عليها البعد الإسلامي. المغالطة الثانية، قوله إن سوريين كثيرين نظروا بإعجاب إلى إسرائيل في مرحلة معينة، وهذا كلام مناف للحقّ والحقيقة، فالشعب السوري مفرط في أيديولوجيته القومية. وما زال الصراع مع إسرائيل وسيبقى صراعا وجوديا في الهوية السورية، وأن مسألة التعاطي مع إسرائيل تعتبر انتهاكا للمقدّسات في صفوف المعارضة.

على الرغم من هذه المغالطات، ليست المسألة الجوهرية في منطوق كلام فراس طلاس، وإنما في توقيته وغايته والجهة الموجّه إليها هذا الكلام. وهنا تطرح بعض الأسئلة والاستفسارات: ما الذي يجعل صحيفة إسرائيلية ثانوية تتصل بطلاس، وتجري معه لقاءً عبر الهاتف للحديث عن قضايا أصبحت ميتة سياسيا، ولا تحظى بالاهتمام الإعلامي؟ لماذا تهتم صحيفة إسرائيلية محلية معنية بالاستيطان بوضع سياسي مضى عليه عشر سنوات؟

ثمة ملاحظات لا بد من طرحها: أولها، لا تخرج تصريحات طلاس عن محاولة تلطيف صورة إسرائيل من خلال قدرتها على لعب دور في إسقاط النظام السوري، وإنهاء حالة الاستبداد مقدمة لبناء نظام ديمقراطي. ولا تنفصل هذه التصريحات، بطبيعة الحال، عن موجةٍ عربيةٍ متلهفة للتطبيع مع إسرائيل والانفتاح عليها، لعبت الإمارات، حيث يقيم فراس طلاس، فيها دور العرّاب. وهي موجة تعمل، منذ فترة، على تلميع صورة إسرائيل في الوعي العربي، منارة للحرية والسلام. ثانياً، ليس مصادفة أن تأتي تصريحات فراس طلاس في هذا التوقيت، بعدما أصبح له حزب سياسي، وكأنه يبحث عن دور سياسي مستقبلي، يحظى بدعم إماراتي وبرعاية إسرائيلية، وبقبول أميركي. ثالثاً، تهدف مثل هذه التصريحات إلى توجيه ضربة سياسية للمعارضة وتشكيكاً في أخلاقياتها، في وقت تخدم النظام السوري الذي طالما استغلّ مثل هذه الحالات الفردية، لاتهام المعارضة بالعمالة لإسرائيل والولايات المتحدة، وحالة كمال اللبواني ماثلة في الذاكرة. رابعاً، من الواضح أن عقلية طلاس لا تنفصل عن عقلية النظام السوري القائمة على مكيافيلية انتهازية، تساوم على كل شيء من أجل تحقيق مصالحه الضيقة.

هل علينا التذكير بتصريح رامي مخلوف عام 2011 حين قال لصحيفة نيويورك تايمز “إذا لم يكن هناك استقرار في سورية، فلن يكون هناك استقرار في إسرائيل”؟ وهل علينا التذكير أيضا بما جرى في 5 يونيو/ حزيران عام 2011، حين أرسل النظام مئات السوريين والفلسطينيين لاجتياز السياج الحدودي والعبور إلى الجولان المحتلة، في خطوةٍ لم تحدث منذ نهاية حرب أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973؟ .. إنها رسائل سياسية واضحة، مفادها بأن أي تهديدٍ لنظام الحكم في دمشق سينعكس سلبا على إسرائيل، وما المقاومة والممانعة إلا أداتان أيديولوجيتان لخدمة السلطة.

يعيد فراس طلاس اليوم منطق النظام السوري، ولكن هذه المرّة من بوابة الشعب السوري المعارض، البريء منه براءة الذئب من دم يوسف بن يعقوب.

* كاتب سوري

المصدر: العربي الجديد

التعليقات مغلقة.