الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كتاب «من الأمة إلى الطائفة، سورية في حكم البعث والعسكر» للكاتب: ’’ميشيل كيلو‘‘.. الحلقة السادسة

( الحرية أولاً ) ينشر حصرياً كتاب «من الأمة إلى الطائفة، سورية في حكم البعث والعسكر» بأجزائه الثلاثة كاملاً للكاتب الأستاذ: ’’ميشيل كيلو‘‘.. الحلقة السادسة: (بين القطري والقومي، وعفلق والسياسات الدولية، وعفلق والواقع العربي)

من الأمة إلى الطائفة 

سورية في حكم البعث

    قراءة نقدية

ميشيل كيلو

باريس ٢٠١٧/٢٠١٩

بين القطري والقومي:

   بين الكيان القطري القائم، الذي لم تتطابق هويته وأفعاله غالباً مع ما اتهمه عفلق به أو نسبه إليه، والكيان القومي الافتراضي، الذي لم يلتفت القائد البعثي لما يلازمه من مشكلات قديمة أعيد إنتاجها في شروط جديدة محكوم معظمها بتفاعل الخارج مع الواقع العربي، من الحتمي أن يغيّب احتمال تحول الكيان القطري تدريجياً إلى دولة وطنية، ما أن تستجيب لإرادة شعبها، وتتفاعل بإيجابية مع مطالبه ومصالحه، حتى تنفتح على مهام قومية التوجهات والأبعاد، بعضها من المهام التي تنفتح عليها دولة الأمة. لم ير قائد “البعث” أولوية النضال لتحويل الدولة القائمة إلى كيان يندرج في سياق أمّوي، ويُلزمه تفاعله الإيجابي مع شعبه، النزّاع إلى الوحدة والديمقراطية، بتعميق وترجيح ما هو وطني في سياساته، وتنمية ما هو قومي في ممارساته، وتبني الوحدة كمشروع ينمي ماهيته القومية على حساب هويته القطرية، التي تغدو وطنية المضامين من جهة، وتوطد من جهة أخرى ما فيه من عناصر وعي حديثة، وحوافز نمو مجتمعي وسياسي. لم يتوقف عفلق عند ما كان يجري في “دولة سورية القطرية” من تحول نحو دولة وطنية تتخطى مهامها وسياساتها ما نسبه إلى قطريتها المحكومة بالعداء للأمة، ويفترض أنه لا حيلة لها فيه، بما انه مسجل في بنيتها ووظيفتها، كما يقول عفلق نفسه!. والغريب أنه تجاهل هذا، مع أن “البعث” كان منخرطاً بهذا القدر أو ذاك فيه، ومع أن الوحدة ترتبت على ما انتهجته “الدولة القطرية” السورية من سياسات، وتخلق فيها من موازين قوى تدحض نظرته إلى القطرية وما انطوت عليه من أحكام مسبقة وخاطئة، دحضها تعاونه مع بعضها، واشتراكه شخصياً وبعض رفاقه في حكوماتها، وإرساله نواباً إلى برلمانها.

   ـ كان عفلق يرى بأم عينه كيف يلزم نضال الشعب من أجل حماية الاستقلال الوطني ونيل الحرية، وإحباط مآرب الإمبريالية والصهيونية، الحكومات السورية المتعاقبة بنهج وطني، حمل سياساتها أكثر فأكثر إلى آفاق أضمرت خيارات قومية متزايدة الوضوح، انتجها ميزان قوى عزز تعزيزاً متزايداً نظرتها إلى مهامها الوطنية بدلالة بعدها القومي، الذي أدى بعد حين إلى قيام أول دولة وحدوية في تاريخ العرب الحديث، هي “الجمهورية العربية المتحدة” (١٩٥٨ ـ ١٩٦١)، التي أقيمت لرد تحديات واجهت مصر وسورية، وأخطار استهدفت استقلالهما، وجسد التصدي لها تصاعد النضال الوطني والشعور القومي بالتزامن مع مواجهة ضغوط الاستعمار على الدولتين، وبروز جمال عبد الناصر، في “القطر” المصري، كقائد وطني يمارس السياسة في بلاده بدلالاتها القومية، لذلك رأى الشعب السوري فيه مُعبّراً عن آماله وطالب بالوحدة معه لاعتقاده أنه سيتكفل بالتصدي الناجع للمشاريع الإمبريالية، وللخطر الصهيوني، وسيضع العرب في مكان لائق بهم بين أمم العالم المستقلة، ويطلق تنمية اقتصادية/ اجتماعية طموحة من شأنها دفع العرب على دروب التحديث والتقدم، ومساعدة الشعوب العربية على رفض حكوماتها التقليدية والمحافظة، التي شوهت الإسلام بتحويله إلى مادة في صراع سياسي لا يدور أصلاً حول الدين، ولا علاقة له به، موضوعه المصير الذي يجب أن يختاره العرب لأنفسهم، وهل هو المحافظة على أمر قائم انتجته قرون من التخلف والتراجع الروحي والمادي، أم بناء مجتمع حديث يبارح العرب بقيامه تأخرهم، وينتجون عالماً يقيهم السيطرة الأجنبية على بلدانهم وثرواتهم، ويحول سياساتهم إلى عامل استنهاض يحرر إرادتهم؟.


عفلق والسياسات الدولية:

   لم يولِ عفلق هذه المسائل الأهمية التي تستحقها، بسبب ما تبناه من سياسات استبعادية أملتها نظرته حول التنافي المطلق بين الدولة القطرية والفكرة القومية، وما ألزمته به من أحكام مسبقة في الصراع السياسي اليومي، حالت بينه وبين الاعتراف بان ما يجري في سوريا يقوض مُسبقاته حول ما كان يفترضه من تماهٍ بين التجزئة وبناها، والحكومات القطرية وخياراتها، ويميل إليه من تحويلها إلى أخويات عدوة للأمة، تنتظم في أحزاب انفصالية، رجعية بالضرورة ورغماً عنها، تضم محافظين، وتقليديين، وإسلاميين، وشيوعيين وليبراليين. اتخذ عفلق موقفاً من الشأن القطري أربكه أيما إرباك، حدّه الأول رؤية بناها على حتمية التخلص من أي نظام لمجرد أنه قطري، وحدّه الثاني منع سقوطه بيد خصوم البعث الداخليين، وخاصة منهم الشيوعيين، الذين تزايدت قوتهم الظاهرية بعد دخول السوفيات إلى سورية، والدور الذي شرعوا يلعبونه في جدل الداخل والخارج، وعوّض الحزب الشيوعي عن غربته الداخلية، وعن صعوبات التفاعل بإيجابية مع قطاعات واسعة من الشعب، نافسه “البعث” عليها وكان أقرب إليها، رغم إهماله المثير للاستغراب لما كان للصداقة مع السوفيات وللصراع ضد الإمبريالية من دور مفصلي بالنسبة للدول حديثة الاستقلال، وتجاهله للفارق بين الدورين السوفييتي والأميركي بالنسبة لسورية والعرب، الذي جعله لا يدّرج هذا العامل الداخلي، خارجي المركز، في رؤية محورها العلاقة الجدلية بين ما في المجال العربي من سياسات وخيارات متنوعة ومتعارضة وبين السياسات والصراعات الدولية، التي بنى الشيوعيون البعد الخارجي من سياساتهم عليها، وجعلوا علاقتهم المتناقضة مع موسكو وواشنطن رافعة انتشارهم الداخلي ومكانتهم الوطنية، بينما كان البعث يتحفظ على السوفييت بحجة أنهم يعطون مصالحهم الأولوية في علاقاتهم الدولية!.

   ـ كتب عفلق في مقالة عنوانها “العرب والاتحاد السوفياتي”، على هامش زيارة قام بها وزير خارجيته ديميتري شيبيلوف عامي ١٩٥٦/١٩٥٧ إلى دمشق :”في أحاديث حزبية عن” القومية العربية وموقفها من الشيوعية” فرقنا تفريقاً واضحاً بين الشيوعية كنظرية وكحزب قائم في بلادنا ينطلق من نظرة ومقاييس غير نظرة هذا البلاد ومقاييسها القومية، وبين الاتحاد السوفياتي كدولة تقدمية كبرى يمكن أن يكون لها وزن خطير في دعم قضايا الشعوب وفي تعديل طغيان الدول الاستعمارية”، وأضاف متحدثاً بلغة متوجسة: “إن العرب لا يرون أي موجب لمعاداة دولة عظيمة كروسيا ما تزال منذ نشوء نظامها الجديد تظهر العطف على الشعوب المناضلة في سبيل حريتها واستقلالها، بل إن العرب ليأملون أن تنتج نوايا الدولة السوفييتية أثراً عملياً طيباً في السياسة الدولية، فتتوثق صداقتهم لها بقدر ما يلمسون من صدق هذه النوايا ومن اتفاقها مع مصلحتهم القومية”(32). بدل الصداقة يتحدث الاستاذ عفلق عن عدم معاداة، وبدل الحديث عن دور السوفيات في ردع العدوان على مصر والعرب عام ١٩٥٦ يتحدث عن “اظهارها العطف” على الشعوب المناضلة، ويختتم حديثه بإبداء الأمل في أن تنتج نوايا السوفييت أثراً طيباً في السياسة الدولية، فيصادقهم العرب بقدر ما يلمسون صدق نواياهم في المجال الدولي. قال عفلق هذا أول مرة عام ١٩٤٤، ولم يجد ما يوجب تغييره أواسط الخمسينات، عندما كانت الثورة المصرية وسورية تتلقيان السلاح السوفياتي، وتعقدان صفقات اقتصادية بدأت بها نهضة مصر الاقتصادية الحديثة، وتعزز أكثر فاكثر لقاؤها مع موسكو.

   ـ لم يبّن عفلق نظرية سياسية تشمل البدائل الداخلية والخارجية لسياسات العرب “القطرية”، وإن حدد بعضها، دون تبيان سبل بلوغها برنامجياً وخططياً، وبالتالي مجتمعياً. يرجع إلى هذا النقص، خلو خطابه التعميمي من السياسة: كتوسطات تنزل من خلالها الفكرة/ الخطة/ البرنامج/ الاستراتيجية من مستواها المجرد إلى مستوى الواقع البشري الملموس، من خلال تحويلها إلى وعي يصير عاماً بقدر ما تترجم إلى مراحل تراكمية، تكاملية الطابع، وتكون في الوقت نفسه انتقالية بقدر ما تحملها قوى تمتلك المبادرة الاستباقية، وتنجز تحولات متتابعة لصالحها، في علاقات القوى. هذا النقص، الذي أملاه غياب فكرة التوسط عن رؤية عفلق، وإيمانه بأن التحقق المباشر للفطرة العربية في الواقع لا يحتاج إلى توسطات، خفّض رؤيته السياسية إلى قبول ورفض أوضاع قرَن بهما صفات قفزت عن حقيقتها.

   ـ ترك غياب مفهوم التوسطات انعكاسات جدية على بنية وسياسات “البعث”، وألزمه بتبني موقف غيبي وبالتالي مجرد، في عالم يعيش صراعاً واقعياً ومصيرياً بين معسكر اشتراكي متعثر ومتراجع، ورأسمالي متقدم وعدائي، اختلفت رؤية عفلق له عن حياد عبد الناصر الإيجابي، وما اعتمده من مواقف وضعت الصراع الدولي في خدمة سياسة تنموية في المجال الوطني، ولم تقتصر على توحيد العرب في المجال القومي، كما في سياسات عفلق، وترفض خوفه من التغلغل السوفياتي. قال عفلق في الأحاديث الحزبية، التي طبعت عام ١٩٤٤: “لقد فرقنا تفريقاً واضحاً بين الشيوعية كنظرية وكحزب قائم في بلادنا… ومن أجل ذلك، كان وجود الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية يحمل في طياته إلى جانب الأضرار المعروفة ضرراً مباشراً آخر هو تشويه نظرة الشعب العربي إلى الروابط المصلحية التي يمكن ان يلتقي بها مع الاتحاد السوفياتي في سياسته الخارجية، إذ لا شك أن النظرة إلى هذه الروابط كان يمكن أن تكون أكثر تحررا لولا ما يلتبس التقارب من الاتحاد السوفياتي من تهديد الكيان القومي بانتشار الشيوعية، وهكذا نصل إلى هذه النتيجة، وهي أنه بمقدار ما ننشط ونَحوّل بنشاطنا الإيجابي دون انتشار الحزب الشيوعي، وبمقدار ما تضيق وتتقلص رقعة هذا الحزب أمام توسع حركتنا بمقدار ما يسهل تكوين سياسة عربية مستقلة تستطيع الإفادة من وجود الاتحاد السوفياتي… وليس ثمة ما يثبت أن كل دفاع عن مصالح الاتحاد السوفياتي وكل تقوية له يعودان حتماً بالنفع على حرية الشعوب بالشكل الآلي المتعسف الذي يفترضه المنطق الشيوعي، خاصة إذا عرفنا أن الاتحاد السوفياتي دولة تخضع لمقتضيات مصلحتها القومية ولمقتضيات الدولة المستقلة التي لا تنسجم دوماً مع حاجات وظروف الشعوب الثائرة”(33). هذا الخلط بين الحزب الشيوعي، الذي يمثل في نظر عفلق خطراً على الأمة، وبين الدولة العظمى التي كان دورها الإيجابي يتعاظم بالنسبة للتحرر العربي، أثار شكوك عفلق، لسبب غريب هو أن مصالح الاتحاد السوفياتي ليست متماهية مع المصالح العربية كما فهمها.

   ـ اتخذ الاستاذ الراحل موقفاً أشد غرابة تجاه الحياد الإيجابي قال فيه: “إن حركة البعث ترى أنه ليس من مصلحة الأمة العربية، في المرحلة الحاضرة من التاريخ، أن ينهار أي من المعسكرين الرأسمالي أو الاشتراكي، وهي لهذا قد دعت منذ البداية إلى الحياد… وسياسته التي تعني الحكم على كلا الطرفين بالخطأ، وإن كان ذلك لا يشترط تساوي الخطأ أو تساوي الضرر”(34). فهم الاستاذ الراحل الحياد كنأي بالنفس عن المعسكرين في الخارج، وكنهج يعني الحياد فيه المحافظة على المعسكرين المتصارعين دولياً والحد من انتشار الشيوعية في الداخل القومي. ورغم ما قاله حول عدم تساوي الطرفين الرأسمالي والاشتراكي في الخطأ أو الضرر، فإنه بنى موقفه على الاقتناع بعدم إخضاع تطور العرب القومي لصراع النظامين الرأسمالي والاشتراكي، وبضرورة أخذ مسافة واحدة منهما، لأن الانحياز إلى أي من المعسكرين يضر بالعرب، وكذلك انهيار أي منهما. بهذا الموقف، الذي املته رؤية تخطاها واقع العرب والعالم، لم تأخذ في حسبانها استحالة إخراج الصراع الدولي من الحياة العربية، وخالفت رؤية وفهم من أسسوا حركة الحياد الايجابي وعدم الانحياز: جمال عبد الناصر العربي المصري، وجواهر لال نهرو الهندي، وجوزيف بروز تيتو اليوغسلافي، وأحمد سوكارنو الأندونيسي، وتشو إن لاي الصيني: الذين بنوا حركتهم على التحرر من الاستعمار والإمبريالية الجديدة، ومساعدة الشعوب المستعمرة على نيل استقلالها، وتبنوا سياسات أبعدتهم أكثر فأكثر عن المعسكر الرأسمالي ونظامه الدولي، اعتبرتها واشنطن حمّالة أخطار، وطرفاً في صراعها مع السوفيات، تثير إعلاناته خشيتها من ابتعاد حركات الاستقلال الوطني الواسعة عنها، أو عدائها لها، لذلك أخضعتها لمقولة: من ليس معنا فهو ضدنا، وترجمتها إلى سياسات هجومية تجلت في الحرب على فيتنام، والأحلاف العسكرية التي نشرتها في كل مكان، وفي أزمة برلين، وامتناعها عن تمويل مشروع السد العالي في مصر، ورفضها تأميم قناة السويس عام ١٩٥٦، وتشكيكها في حياد الحركة بسبب وجود زعيمين شيوعيين بين مؤسسيها الأربعة هما، جوزيف بروز تيتو اليوغوسلافي، وشو إن لاي الصيني، اللذان برزا بقوة في مؤتمرها الأول، الذي عقد عام ١٩٥٤ في مدينة باندونغ بأندونيسيا، وطاردتها أميركا منذ ذلك التاريخ، لاعتقادها باستحالة أن يكون هناك حياد في السياسات الدولية.

   ـ اختط عفلق بموقفه من الواقع الدولي نهجاً مجافياً لما ساد الأوساط السياسية التقدمية والقومية من إدراك لأهمية التفاعل الإيجابي المتبادل بين الثورة العربية وما سمي في حينه الثورة العالمية ومعسكرها الاشتراكي، الذي كان يتخذ مواقف بدا معها كرافعة دولية للنضال العربي، فكان من مصلحة قواه الثورية والوحدوية أن تفصل علاقاتها معه عن مواقفها من الاحزاب الشيوعية المحلية، بينما ربط عفلق موقف العرب من الاتحاد السوفياتي بمدى نجاحهم في تقييد الحركة الشيوعية المحلية، فإن تمكنوا من إضعافها تراجع خطر الشيوعية والدولة العظمى “الصديقة”، وان لم يتمكنوا، يصير عليهم تقييد علاقاتهم بالسوفييت. هذه الرؤية، المقطوعة الصلة بالوضع الدولي كما تخلق بعد انقسام العالم إلى معسكرين رأسمالي وشيوعي، تتجاهل أن تحرر الشعوب، وخاصة منها العرب، يتوقف على ما تناله من دعم إحدى القوتين الدوليتين، وتواجهه من مقاومة الأخرى.

   ـ قاوم هذه الحقيقة المفصلية بالنسبة للنضال العربي، ورأى في الاتحاد السوفياتي جهة يجب التعامل معها بدلالة علاقتها مع الأحزاب الشيوعية العربية، شأنه في ذلك شأن عتاة الإسلاميين والمحافظين العرب، مع أنه كان يرى ما بلغته علاقات مصر مع موسكو من تطور وتفاعل إيجابيين، دون أن تتأثر بسياسة عبد الناصر تجاه شيوعيي مصر، الذين كانوا يمضون معظم وقتهم في سجونه!. سوغ عفلق موقفه بالمحافظة على استقلال العرب وعدم انحيازهم إلى أحد المعسكرين الدوليين، رغم اعترافه أنهما غير متساويين في الخطأ أو الضرر، وتوجسه من انهيار المعسكر الرأسمالي أو الاشتراكي، وما سيترتب على ذلك من تبدل في موقعهم من المعسكر المنتصر، كما في مجمل السياسات الدولية، علماً بأن مأساة فلسطين عام ١٩٤٨ كان يجب أن تلقنه درساً آخر، كسياسي ربط سقوطها بالنظم العربية القائمة، وبالرأسمالية الدولية، والصهيونية!.


عفلق والواقع العربي:

   ـ أخيراً، لعل أهم ما غاب عن “البعث” هو تقديم رؤية سياسية تستند إلى برنامج عملي، يبين سبل تحقيق الوحدة العربية، ويدرس هوية القوى الاجتماعية وأدوارها في توحيد الأمة: من العمال والفلاحين إلى الفئات البينية والبرجوازية، ويفسر مواقفها من الدول القائمة وبدائلها، والجهات المؤهلة لقيادة نضال قومي/ وحدوي قابل للإنجاز على صعيدين دولوي وسياسي، ليسا متطابقين دوماً أو بالضرورة، وصولاً إلى تحليل موضوعي قدر الإمكان للواقع العربي، وما يتصف به من خصائص ومشتركات وتناقضات تختلف من دولة لأخرى، لما لهذا التحليل من أهمية في رسم سياسات عقلانية وفاعلة في واقع سبقت تجزئته الاستعمار واتفاقية سايكس/ بيكو، ولا جدوى لرؤية تنسب مشكلات العرب إليهما، وتقصر الرهان القومي على التصدي لما انتجته التجزئة، كأن الفترة السابقة من التاريخ العربي لا تحتاج إلى دراسة وإمعان نظر، بما وقع فيها من انقسام أفضى إلى تأسيس كيانات دولوية متصارعة، في حقبة لم ير الأستاذ عفلق منها غير الفطرة والروح القومية والشخصية العربية والرسالة الخالدة، ولم يوجه أي نقد إليها، واكتفى من الثورية بالمبالغة في إدانة الدول العربية القائمة، وتجريدها من الشرعية، وربط التجزئة بأعوام قليلة مضت من التاريخ الحديث.

   ـ لم يحظ التناثر العربي السابق للاستعمار بأي تحليل وبحث مستقل وتفصيلي لدى عفلق، ولم يدرس آليات تكونه وأوجه تفاعله وتداخله مع تجزئة بلدان المشرق بُعيّد الحرب العالمية الأولى، وقفز عن تجزئة وتفكك الامبراطورية العربية/ الإسلامية خلال نيف وألف عام، واعتبر المجال القومي موحداً في ما أسماه “الفكر القومي”، المنفصل كما يبدو عن الواقع القومي، والذي لا يعاني هو أيضاً من مشكلات مزمنة، أنتجتها قرون تخلف وتأخر، صار العرب فيها موضوعاً لإرادات ومصالح أجنبية معادية لهم، وفقدوا خلالها ما كان باقياً لهم من تكور على ذاتهم، ومن مشتركات جامعة، وما عرفوه من أواصر طبيعية غدا جزء مهم منها عائقاً يكبح تقدمهم وقدرتهم على كسر اقفاص تشتتهم، ورؤية أنفسهم بمنظار وحدوي، وقوميتهم في سياق كوني.

   ـ أي فكر قومي يمكن أن يمارس دوراً فاعلاً في الوحدة القومية، إن هو تجاهل مسألتي التخلف والتأخر وأثرهما في إنتاج التفكك العربي، والعجز عن وقفه أو مبارحته، ولم يدرس أثرهما على الوحدة وأثرها عليهما، والعقبات الداخلية والقومية والدولية المتنوعة، التي واجهت العرب، وافقدتهم أحيانا الرغبة في تخطيها، ناهيك عن توفير القدرة لمواجهة من يقف وراءها من قوى، أهمها محلياً إسرائيل، التي انتزعت فلسطين منهم ورسمت خطوطاً حمراء لتقدمهم القومي والمجتمعي، بينما أخضعهم النظام الدولي لأنماط من التبعية فاقمت تخلفهم الثقافي والفكري، وتأخرهم السياسي والاقتصادي/ الاجتماعي، وعززت فشلهم في امتلاك وعي مطابق لحاجاتهم في عصر تفاوت نمو مفصلي بين أنظمة ودول العالم، وصراعات عمالقة افتقرت دولهم وشعوبهم إلى معظم المفردات الضرورية لخوضها، في ظل التفاقم المتعاظم لهوة التقدم بين المجتمعات المتطورة وبينهم، وما لها من دور في تمسكهم الهوسي بماضيهم كزمن لا يتحداهم فيه أحد، تضافر ما انتجه من غربة عن حاضرهم مع الأصولية ليحرفهم عن مقاصدهم، ويعمق الفجوة بين ما يعيشون فيه من تجزئة معندة، وبين حلمهم القومي بقرأتيـه: البعثية الحزبية والناصرية الدولوية، المفتوحة على مجال قومي حققت نجاحاً لا يستهان به في ترقية وعيه، وتوحيده حول فكرة ومطلب الوحدة، وأسهمت في بناء ميزان قوى عربي قومي الأرجحية، لكنه لم يكن كافياً لتخطي التجزئة في الواقع، بعد التخلي عن شرعيتها في الوعي، الذي بدا لوهلة أن انتشاره يمحو الفوارق بين معسكري العرب المتصارعين، ويرسخ قيادة مصر المحورية للنضال العربي، وللتوافق على قضايا كثيرة مع التقليدية العربية، التي كانت تمعن في تقلدة وتديين شعوب بلدانها، لما لهما من تأثير بالنسبة لتخطي الصراع ساحته القومية، وانتقاله إلى عمق الحياة المجتمعية، حيث تكمن حصانات التجزئة والتأخر، وتفيد التقليدية من الرفض الدولي للوحدة العربية، لما ستحدثه من تبدل جدي في منطقة هي قلب العالم الاستراتيجي، ومن استقلالية عن السياسات والمصالح الدولية.

   ـ اعتبر عفلق انهيار الوحدة “انتكاساً موقتاً أصاب فكرة الوحدة نفسها وأضعف الثقة بها … لكن خطر الأخطاء التي سببت فشل تجربة الوحدة على القضية القومية ينتهي بمجرد أن يطلع الشعب العربي على هذه الأخطاء ويعرف كيف يصححها ويتلافاها”(35). لم يكن الانفصال “انتكاساً موقتاً”، ولم ينتهي خطر الأخطاء التي سببت فشل الوحدة بمجرد أن اطلع الشعب العربي عليها، ولم يعرف الشعب العربي كيف يصححها ويتلافاها. كان فشل الوحدة الخطوة الأولى في فشل مشروع نهوضي تعثر بعده، ثم تلقى بعد نيف وثلاثة أعوام ضربة قاتلة في حزيران من عام ١٩٦٧، قوضته وأدخلت العرب في طور جديد، مختلف نوعياً عن الطور الذي أعقب انقلاب الجيش المصري على الملكية عام ١٩٥٢، وكانت سمته نقل مصر والعرب من حال هما فيه موضوعاً للآخرين، إلى حال نقيض يكونان فيها ذاتاً تاريخية تتكور حول نفسها في إطار من الاستقلال ووحدة الإرادة والأهداف، وصولاً إلى تحول نوعي في بنية وعلاقات إطراف الأمة.

   ـ باختصار: لم يكن فشل الوحدة مجرد “انتكاس مؤقت”، كما قال عفلق، بل كان بداية عودة الوطن العربي إلى حقبة من التبعية نزعت عديداً من وظائف دوله المستقلة، وأخضعته لإرادات خارجية عمقت تخلفه وتأخره وتفككه، وأعادت سيطرتها على جزء أساسي من علاقاته الخارجية والعربية وحتى علاقات نظمه بشعوبها.

   ـ بعد فشل الوحدة، صارت خطاً أحمراً أميركياً وسوفياتياً، وطويت صفحتها بصورة نهائية، كما طويت صفحة الخط الوطني الذي يمكن أن يفضي في أي دولة إليها، ودخل المشرق تحديداً في زمن مغاير لكل ما كان عليه، بجهود؛ الجيل الجديد، الذي علق عفلق آماله عليه، وأعلن مرات ومرات أنه هو الذي سيبعث الأمة، ويحقق رسالتها الخالدة. وتم تشطير العالم العربي إلى عوالم، وفصلت نهائياً الثروة عن الشعوب، وفتحت ثغرة تحولت إلى هوة عميقة الغور بين المشرق والمغرب، والخليج وبقية العرب، فازدادت القلة الغنية غنى، والأغلبية الفقيرة بؤساً، وغدا من الصعوبة بمكان القيام بانقلاب كانقلاب عام ١٩٥٢ المصري، يغير الأمر القائم وتتجاوز آثاره بلاده إلى الوطن العربي .

   ـ احتجز الواقع الجديد مصر قبل غيرها، وواجهها بمأزقها الذي لا فكاك لها منه، بما لديها من فائض سكاني هائل، بينما تغلق البلدان العربية أبوابها أمام أي تحرك مفتوح لقوى العمل ورأس المال، تاركة بلدان الكثافة الديموغرافية، وخاصة منها مصر، التي تَعتبِر منى خليفة وجولي دافانزو “نموها السكاني تحدياً سياسياً مستمراً، يجب أن يكون الشغل الشاعل لواضعي سياساتها، بما أن عدد سكانها يزداد مليوناً ونصف المليون سنوياً، لذلك تتعثر جهود التنمية الاجتماعية والاقتصادية بسبب ارتفاع معدلات الخصوبة”(36) في ظل ضعف التراكم الرأسمالي، وضيق الرقعة الزراعية، ومحدودية الثروات الطبيعية، وتجريبية سياسات قادتها، وممارساتهم غير التفاعلية أو الإيجابية مع مجتمعهم، وإقصائهم الفئات البينية، المتعلمة والمنتجة عن الحقل السياسي. هذا التشابك الدولي/ العربي، الذي كان يحتوي الواقع العربي لم يلفت نظر الأستاذ عفلق، فلم يقدم قراءة استشرافية له، أو تدعو إلى مواجهته برؤية برنامجية تغطي مجمل الساحة القومية، علماً بأن المعسكر التقليدي كان يمعن في تمسكه بالقديم، وتوظيف قدراته المالية الضخمة وعلاقاته الدولية لإعادة إنتاج الواقع العربي في حاضنته التقليدية والدينية، ويكرس جهده لاختراق المجال القومي والتوطن داخله، باللعب على تناقضاته البعثية/ الناصرية من جهة، ونمط التدين الشعبي السائد فيه من جهة أخرى، والتعاون مع خارج ينشر شبكة كثيفة من القواعد العسكرية في المنطقة، بينما بدأت إسرائيل تعمل لاستمرار وتفاقم التبعثر العربي، وتتلاعب بخلافات معسكريه، وتستغل عجزهما عن حماية بلدانهما، وتخليها عن فلسطين ومنظمة التحرير، وإخضاع قضيتها لصراعات إقليمية وصولاً إلى تهديد الكيانات العربية الكبيرة والمتقدمة حضارياً، بلسان دافيد بن غوريون (١٨٨٦ ـ ١٩٧٣)، أول رئيس وزراء إسرائيلي، الذي قال : “ليست عظمة إسرائيل في سلاحها النووي ولا بترسانتها العسكرية بل هي في تدمير مصر والعراق وسوريا”(37).

___________

هوامش:

(32). ميشيل عفلق: في سبيل البعث، العرب والاتحاد السوفييتي، الجزء الثاني ، الصفحة ٧٧.

(33). ميشيل عفلق : في سبيل البعث، الجزء الثاني، المرجع ذاته، الصفحة ٧٧.

(34). ميشيل عفلق: في الحياد الايجابي، في سبيل البعث، الجزء الاول، الصفحة ٢٤١.

(35). ميشيل عفلق: نكسة الانفصال، من كتاب :في سبيل البعث، الجزء الثاني . الصفحة ٢٢٥.

(36). منى خليفة، جولي دافانزو: النمو السكاني في مصر، مركز الشرق الأوسط للسياسة العامة، برنامج السكان والعمالة في مؤسسة راند ، موقع راند ، الصفحة ٢و٣.

(37). مصطفى فحص: حوار مع بن غوريون، الشرق الاوسط، ١٤/١٢/٢٠١٦ ، العدد ١٣٨٩٦.

………………..

يتبع.. الحلقة السابعة: (عفلق والوحدة، و البعث: حزب الأمة، و نتائج رؤية عفلق) 

«ميشيل كيلو»: كاتب وباحث ومحلل سياسي سوري

التعليقات مغلقة.