ياسر الحسيني *
لم يعد خافياً على أحد مدى أهمية الإعلام في حياتنا ودوره المتعاظم في التأثيرعلى الأفراد والجماعات في تعزيز قناعاتهم أو تغييرها، ما ينعكس على السلوك والثقافة المجتمعية بشكل كبير، ومن هنا نستطيع القول أن الحرية لم تعد تعني استقلالية الذات وإرادتها الحرة في التعبير أو المشاركة في الشأن العام، إذ أن الهيمنة الدماغية ـ سلباً أم إيجاباً ـ هي نتاج مجموعة من المعارف المستقاة من البيئة المجتمعية ابتداءاً من البيت والمدرسة وصولاً إلى وسائل الإعلام الكثيرة التي أصبحت المؤثر الأقوى على العقل إلى الدرجة التي تجعل الأفراد يعتقدون أنّهم يمارسون حريّاتهم بمحض إرادتهم، بينما في حقيقة الأمر هي ليست كذلك، بل ممارسات مبرمجة وموجّهة لتخدم مشاريع ومصالح جهات تتحكم بصناعة الرأي. ومن هنا تبرز خطورة الإعلام ووجوب التعاطي معه بأعلى درجات المسؤولية في تعزيز الشعور الوطني لتحقيق مفهوم الدولة الوطنية الديمقراطية قولاً وعملاً.
إنّ عملية التكامل بين حرية الإعلام والحريات الانسانية الأخرى تتجلّى من خلال دور الإعلام في الدفاع عن الحريات وهذه نجدها واضحة في الدول الوطنية الراسخة والتي مضى على نشأتها قرنين أو أكثر من الزمن كما هو حال (فرنسا) على سبيل المثال لا الحصر وقد باتت الديمقراطية متجذّرة في المجتمع كأسلوب حياة، ولم تعد فكرة زعزعة الشعور الوطني تقلق السّاسة، مثلما هو حال معظم الدول الشمولية، أو الدول الجديدة على التجربة الديمقراطية ولمّا تتجذّر فيها بعد، وتكمن الإشكالية في الدول الوطنية الوليدة التي لم تتبلور لديها الحالة لأسباب عديدة منها:
ـ طبيعة الولادة إن كانت بإرادة خارجية وتفاهمات دولية رسمت حدودها مسبقاً، وقررت ماهي الجماعات البشرية التي ستنضوي في هذه الدولة أو تلك، كما حصل للمشرق العربي” الهلال الخصيب” نتيجة اتفاقية (سايكس ـ بيكو) 1916 بين الامبراطوريتين الاستعماريتين آنذاك فرنسا وبريطانيا وتنفيذها من خلال الاحتلال المباشر.
ـ حداثتها ومستوى الوعي لدى المكونات المجتمعية ومدى انسجامها وهامش الحريات المتاحة، بما يضمن حرية الإعلام بعيداً عن الأدلجة والتنميط، وهنا تبدو المسألة معقدة وبحاجة إلى ترتيب الأولويات لضمان نتائج تدعيم مداميك الدولة الوطنية من أجل النهوض والازدهار.
إذ أنّه لايمكن الحديث عن الدولة الوطنية في ظلّ غياب الحريات الإنسانية التي أجمعت عليها البشرية.. تلك المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والموثقة في هيئة الأمم المتحدة1948 والذي جاء في مادته الأولى:” يولد جميع الناس أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضًا بروح الإخاء.”، ومدى تأثير الحريات في تعزيز ركائز الدولة الوطنية وانحسار النعرات الانعزالية بين مكونات المجتمع ليحل محلّها خطاب وطني جامع يؤسّس له إعلام حرّ بكافة صنوفه المرئية والمسموعة والمقروءة. إعلام مضبوط بالمعايير الأخلاقية، وغير مؤدلج لصالح جهة أو حزب، بل تحكمه المصلحة الوطنية العليا فقط.
ويجب أن لا يغيب عن أذهاننا مخاطر الإعلام كونه سلاح ذو حدّين قد ينقلب وبالاً على المجتمع والدولة فيما إذا أسيء استخدامه عن قصد أو عدم كفائة ، ولابدّ من آلية تضمن ضبط إيقاع الإعلام بما يخدم عملية بناء الفرد الوطني من جهة وعدم المساس بفعالية الإعلام ودوره في الدفاع عن الحريات العامة من جهة أخرى، وكذلك قدرته على الوصول والتواصل مع كافة شرائح المجتمع من خلال الإستخدام المدروس للثنائية اللغوية (الفصحى ـ العامية) وتحديد نوعية البرامج، من أجل إيصال المحتوى المعرفي بعيداً عن سوء فهم المتلقي، وخاصة فيما يخصّ القضايا الحساسة والإشكالية التي قد تأتي بنتائج عكسية.
إن حرية الكلمة هي السلاح الأمضى في بناء الديمقراطية، وفي خضم الانفتاح الهائل على العالم الذي توفره وسائط الاتصال الرقمية إذ لم يعد بالإمكان الحد من تدفّق المعلومات (المفيدة ـ الضارّة … الصحيحة ـ المزيفة … البريئة ـ المغرضة)، لابدّ من التأكيد على أهمية وجود رقابة رشيدة يديرها حكماء بما يساعد الإعلام على أداء دوره في التصدّي للأفكار الهدّامة والعمل على زيادة الوعي لدى الأجيال الفتية وتحصينها بالمعرفة والعلم والتربية لوقايتها من محاولات الإختراق والتجنيد، وهذه المهمة لا تقع على عاتق الإعلام منفرداً وإنما تتكامل معه مؤسسات الدولة على الصعيد التربوي والتعليمي والثقافي والفني والرياضي ومنظمات المجتمع المدني كمجموعة مسننات تعمل بتوازن خلّاق في ماكينة الدولة الوطنية الحديثة.
* مهندس وكاتب سوري
المصدر: اشراق
التعليقات مغلقة.