الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كتاب الحوار مقدمة العمل، والديمقراطية غاية وطريق … الحلقة الثالثة عشرة و الأخيرة

الحوار

مقدمة العمل والديمقراطية،

غاية وطريق

والثورة العربية

مازالت ثورة وطنية ديمقراطية

 

حزب الاتحاد الاشتراكي العربي                                                         د. جمال الأتاسي

            في سورية                                                                               1979

 

الحلقة الثالثة عشرة والأخيرة*: خـاتمـة

 

لقد كان من الصعب أن نحيط بهذه المسألة، أي مسألة الديمقراطية كهدف أساسي من أهداف النضال العربي لا بدّ أن يتقدم على غيره من الأهداف وكطريق أيضاً لبلوغ الأهداف، من جميع جوانبها في هذا البحث. فالديمقراطيو كتجسيد للحرية السياسية والحرية الاجتماعية، وكنظام يساعد على تفتح حرية الفرد في إطار تحرر المجتمع وتقدمه، هو نظام مستقبلي وليس تكراراً لصورة تحققت في الماضي. وإن العمل على توضيح مقومات هذا المسار الديمقراطي والتزاماته، هو الهدف المباشر الذي ندعو للإسهام في التفكير به وفي النضال من أجله.

وإن هذا البحث الأولي عن الثورة الوطنية الديمقراطية ومهماتها، وعن مكانها في إطار الفكر الثوري العالمي ومعطياته الإنسانية، الذي نقدمه كمداخل إلى ” حوارنا الديمقراطي ” هذا، ليس بحثاً مشتركاً أو متفقاً عليه بين المشاركين في هذا ” الحوار ” أو المدعوين للمشاركة فيه، بل هو محاولة أولية لفتح باب الحوار وتحريضه، ولتحديد إطار عام للأرض الفكرية والسياسية التي ندير عليها حوارنا وللمسائل الأساسية المطروحة علينا وعلى جميع الملتزمين بقضية تحرر الأمة العربية وتقدمها ووحدتها. أولئك الذين يعذبهم واقع الضياع والتبعثر والعجز الذي تتعثر به حركة التقدم العربي في مرحلتها الراهنة ويجدون أنفسهم مطالبين بالعمل المشترك لإيجاد مخرج من هذا الضياع والتعثر. فعدا الالتزام المشترك بقضية التحرر الإنساني والتقدم، وعدا الالتزام المشترك بقضية الأمة العربية وأهدافها، وإنها قضية ثورة ولا تتحقق أهدافها إلا بمنهج ثوري وتغيير ثوري، هناك مبدأ أساسي وقناعة مشتركة يشداننا ويؤلفان بيننا منذ البداية، ويجدان تعبيرهما في أن الديمقراطية غاية لنا وطريق. وإن الوحدة فيما بيننا، وعلى أي مستوى من المستويات الفكرية والسياسية والنضالية، إذا ما كنا ننشد من خلال الحوار الوصول إلى صيغة في التلاقي والوحدة، فهي صيغة لا بدّ أن تحمل أيضاً قبول التنوع والتعدد في إطارها. وننطلق جميعاً من أن الحرية هي في المعرفة أولاً، وأن السياسة هي تعامل مع حركة الواقع وحركة التاريخ، لا دونهما ولا فوقهما. ويقول جميعاً بذلك المبدأ الديمقراطي الأول وهو العقلانية في السياسة، أي بتخاطب العقول وبقدرة العقل الإنساني على التصدي للمسائل التي تطرحها العلاقات بين البشر ومصالحهم وصراعاتهم وعلى إيجاد حلول لها وسن التشريعات الناظمة لتلك العلاقات وتوجيه بناء الدولة والمجتمع.

فما كان المقصد من هذا البحث إذن إلا التأكيد على خط عام، لمواصلة الحوار والدفع به نحو أهدافه، ولذا فقد جاء طرحاً للعديد من المسائل أكثر من أن يحمل إجابات محددة عليها، وإذا ما قدم إجابات حول بعض الأمور فما ذلك إلا محاولة، وهي مطروحة للنقاش والنقد، كما وأنها قابلة للمراجعة على ضوء ما يقدمه الآخرون من معطيات جديدة. ومن هذا المنطلق يأخذ هذا العنوان الذي اخترناه    ” الحوار الديمقراطي ” منحاه. فهو لا يتوقف عند التعبير عن موضوعات وقناعات تمت صياغتها مسبقاً بين عناصر أو فئات تنطلق منها للتبشير الأيديولوجي والسياسي، بل هو دعوة لكل من يعذبهم واقع الضياع والظلم والاستغلال الذي نعيشه، ولكل من يفهم مسألة تقدم أمتهم وتحررها، للبحث عن خط ناظم فكري واستراتيجي للخروج من هذا الواقع.

إننا جميعاً، على تعددنا وتنوعنا الذي فرضه التاريخ السياسي والفكري لكل فرد منا أو فئة، وقبلنا استمراريته كواقع، نعيش أزمة. كلنا يواجهها في داخله تمزقاً ومن حوله تشتتاً وضياعاً، كما يواجه شتى أنواع الإرهاب الفكري والسياسي من القوى المتسلطة والمهيمنة، يضاف له كل ما يعوم على السطح من انتهاز وتضليل. وكثيرون اولئك الذين هربوا بمثلهم وأخلاقياتهم من هذا الواقع إلى العزوف أو إلى أبراج الانتظار، والتأمل أو قالوا بالقنوط واللاجدوى. وغيرهم هرب بثورته إلى الفوضوية والتحريض الفوضوي أو إلى مواجهة إرهاب الاستبداد السلطوي بحركات إرهاب مضاد وقاصر عن التغيير، أو إلى مواجهة عصبيات الهيمنة السلطوية بردود أخرى من العصبية والتعصب توغل في الضياع ولا تؤدي إلى غاية. ونريدها محاولة جدية ودؤوبة لجمع شتات القوى الباقية على تمسكها بوجودها الفاعل وعلى تشبثها بالاستمرار على طريق العمل والنضال، والتي تؤمن أن طريق الثورة العربية طريق صعب وطويل، وأن الأزمة الراهنة التي تمر بها حركة التقدم العربي هي أزمة تعثر لا مرحلة احتضار، ونريدها محاولة للتصدي لهذه الأزمة بكل معطياتها، وأن نقدم الأمل وندعو العازفين للخروج عن عزوفهم، لنعمل بجهد مشترك على وعي هذه الأزمة التي تمر بها أمتنا واستيعابها والتعبير عنها، كل في البداية على طريقته، ولكن هدفنا الجماعي يبقى ولا شك، في الدفع على طريق الوصول إلى تصور مشترك للخروج من الأزمة، عبر الحوار والنقد المتعدد الجوانب لمعطيات هذا الواقع، في سبيل استخلاص مقومات استراتيجية مشتركة نلتقي عليها، وتكون هي المقدمة لصياغة نضال مشترك وللدفع على طريق تلاحم القوى، والتوجه إلى إقامة تحالف وطني ديمقراطي عريض مرتكزه الأول الاستناد إلى قاعدة ديمقراطية للاندماج الوطني نتقدم منها على طريق الثورة الوطنية الديمقراطية ذات التوجه الاشتراكي، في النضال والتغيير وفي البناء والتنظيم. فمن البديهي إذن، القول أن مقصدنا الذي تنطوي عليه مبادؤنا جميعاً وقناعاتنا وتطلعاتنا، هو الإسهام في الدفع بحركة التغيير الثوري التي لا بدّ أن يتفجر عنها المجتمع العربي للخروج من هذا الواقع، واقع التمزق والتجزئة والضياع، واقع التأخر وتسلط قوى الاستغلال والاستبداد والفساد، لتحقق جماهير الأمة بإرادة جماعية ثورتها وتمسك بزما مبادرتها التاريخية، ولتحقق بالديمقراطية تحررها ووحدتها وإنسانيتها.

ولنا أن نعتبرالحوار الديمقراطي جزيرة صغيرة نريد أن نلتقي عليها – خروجاً بأفكارنا ومحاوراتنا من الغرف الضيقة والأطر المحدودة والخاصة – لتوضع على محك الواقع وتتصدى بالصراحة والوضوح، ليكون وضوحها هذا وديمقراطيتها وتوجهها العام، سياج حمايتها. إن هذا المنبر الضيق أو الجزيرة الصغيرة، هي المتاحة لنا في وسط ذلك الخضم الدعائي والإعلاني الواسع الذي تملكه أو تغذيه قوى التسلط المهيمنة في الوطن العربي، وبودنا أن نقوى على حمايتها، لا بإقامة أسوار من العزلة والكتمان من حولها، وإنما بقتحها لمختلف التيارات الوطنية الديمقراطية، وأن يتقدم منها بصراحة التزاماتنا وما نريد، فليس لدينا ما نحرص على إخفائه وكتمانه، وليس إلا الوضوح طريقاً إلى الحقيقة.

إن حرية ” الكلمة المكتوبة ” والالتزام بها وحمل مسؤولية هذا الالتزام، هو مطلبنا الديمقراطي الأول وهو نقطة البداية في ممارساتنا لهذه الديمقراطية، ونريد لهذا المنبر أن يقوى ويتقوى ليحمل حرية الكلمة وحرية الالتزام. إنه ليس منبر حزب أو جبهة أحزاب، ولا ينحصر لتيار أيديولوجي واحد، وإنما نريده مفتوحاً لكل من يريد الإسهام في هذا الحوار، ومن خلال التزام مشترك واحد، وهو أن الديمقراطية وحرية التعبير والمعتقد والقبول بالتنوع والتعدد في إطار التوجه الوطني، الديمقراطي العام، هو مبدأ هذا الحوار وطريقه، ويبقى هدفه الكبير تحريك إرادة تغيير واقع الضياع الذي نرزح تحت أعبائه، وتحريض حركة الوعي الوطني والقومي والوعي الإنساني التحرري على المستوى الشعبي العام، هذا مع طموحنا إلى أن يكون هذا المنبر إلى جانب ما يتوفر من وسائل أخرى للتعبير والحوار، منطلق بداية لبلورة صيغة علاقات مشتركة ونضال مشترك.

إننا لن نقول لأحد اترك حزبك أو مجموعتك واهجر ما لديك من قناعات فكرية وأيديولوجية وتعال إلينا وإلى قناعاتنا الجاهزة، بل نقول للجميع أن المطلوب أن نبلور معاً القناعات المشتركة وأن نعممها لتكون خطاً ناظماً لحركة عملنا وتقدمنا جميعاً.

لقد قال ذات مرة الثوري المقاتل شي غيفارا، أن معطيات ثورة تكون ” كما هي عليه حيث توقفت هذه الثورة “، ولقد كان لنا بدايات ثورة عربية وتوقفت، والحكم عليها أنها توقفت ومن حيث توقفت. وكل من وضع أمله في هذه الثورة، أو أسهم فيها بشكل أو بآخر، مطالب بالمراجعة وبنقد متعمق لنفسه ومساره، بل وللقناعات التي شكلها كمصادر كان يحكم من خلالها على الواقع والأحداث والآخرين. مثل هذه المراجعة النقدية مطلوبة، من كل مفكر ومن كل حركة أو حزب، وبدونها لا يستطيع حدنا الوصول إلى موقف صحيح في تقييم هذا الواقع والتصدي له، فهو واقع قد شاركنا، ولو بتصوراتنا ونقائصنا وعدم بعد نظرنا ونظرتنا على الأقل، في ضعفه. وتلك مسألة لا بدّ منها للإمساك من جديد ببداية صحيحة.

وبعدها ومنها، يمكن أن نقول أنا نريد الإسهام مع الآخرين، ومن خلال معاناة التجربة واستيعابها، في استكشاف طريقنا إلى التقدم، وإلى التعامل مع روح العصر وما وصل إليه نضج الوعي الإنساني لقضايا التحرر والتقدم، ونريد استكشاف المقومات النظرية والعملية للخط الاستراتيجي العام الناظم لحركة قوانا الوطنية ونضالها ضد التخلف والتجزئة وضد الاستغلال والظلم، والذي يرسم مساراً للتحرر ومساراً نحو الأهداف الكبرى.

وليس المطلوب في النهاية أن نصل من الحوار إلى صياغة نظرية فلسفية شمولية،           أو استخلاص أيديولوجية عامة واحدة تتقدم بقناعاتها أمام الجميع، فذلك جهد حضاري مازال فوق مطامحنا وفوق معطيات واقعنا. فكل مطمحنا الآن أن نصل إلى صياغة استراتيجية عمل وطني بعيدة المدى، يمكن أن تصب فيها تيارات فلسفية وأيديولوجيات متعددة تلتقي على أهداف وطنية وقومية وعالمية مشتركة، وعلى تصور مشترك لبلوغ تلك الأهداف، وتقبل بالتفاعل مع بعضها والتعامل ديمقراطياً، لا بمحاولات الهيمنة والاحتواء ولا بالإرهاب الفكري وفرض القوالب والمقولات الجاهزة لدى هذا الطرف أو ذاك، ويبقى الحكم بينها والحكم عليها في النهاية – تقدم الوعي السياسي العام وتقدم حركة الجماهير في اندماجها الوطني وصعود مشاركتها وما يمكن أن تعطي من دفع في هذا الاتجاه أو ذاك، أي ما تفرضه حركة الواقع المتغير وهو يتغير ويتقدم.

إن مسألة النظرية كناظم للعمل أو دليل، أو كأيديولوجية تأخذ بها إيماناً أو قناعة عقلانية قاعدة جماهيرية أو فئة اجتماعية أو حزب، مسألة مطروحة للحوار أيضاً. فليس المطلوب تجميد هذا الجهد النظري بل تحريضه وتنميته، وليس المطلوب وضع الأيديولوجيات والنظريات على الرف والمجيء إلى التجريبية والواقعية، بل العكس. إن المطلوب من الحزب السياسي مازال مطلوباً منه، وهو المجال، لصياغة هذه الأيديولوجية، وبلورة قناعات مشتركة بين أفراده ومنهج تفكير وعمل. وليس المطلوب من المفكرين الاستغناء عن الجهد الدؤوب لتكوين فلسفة لهم في الحياة وفي العمل، بل إن مثل هذا الجهد انحناء كبير ولا بدّ منه للتقدم. ولكن ما أردنا التأكيد عليه هو أن ليس هناك بعد من شيء جاهز ومأخوذ به على وجه التعميم، وكل ما يأتي من هذا المصدر أو ذاك يبقى إضاءات على الطريق. وقناعتنا تذهب اليوم إلى أن حدود الإلزام الفكري يجب أن تقف عند قواعد العمل الاستراتيجي ومضامين أهدافه وصيغ التحرك المشترك نحو تحقيقها. فالنظرية في النهاية يجب أن يعطيها الواقع وأن تكون مطابقة لحاجاته وأن تتفاعل معه.

ونعود لنقول أن التعصب الأيديولوجي وعدم التلاقي على المبدأ الديمقراطي، كان عاملاً من عوامل التصادم والتبعثر، وقطع طريق اللقاء الاستراتيجي على الأفراد والقوى التي كان من مصلحتها ومصلحة تقدم الأمة أن تلتقي. وإن النزاعات الأيديولوجية التي تختفي وراءها مصالح فئوية وسلطوية أو تعبر عن قصور في الوعي والتقدم، وبخاصة تلك التي أخذت صيغاً من التعصب المذهبي الذي يحاول فرض صيغه الجاهزة على الواقع ويحاول فرض هيمنته بالإرهاب الفكري أو بقسر الوسائل السلطوية أو بتحريض العصبيات المتخلفة، كل ذلك لعب دوراً معطلاً وسلبياً وقدم إضافات جديدة لواقع الضياع واستلاب حرية الإنسان وأعطى رصيداً لقوى الرجعية ولأيديولوجياتها المتوجهة إلى الوراء وجمود التخلف، لا إلى المستقبل وتمثل تقدم معطيات العصر.

ونستشهد بهذا المعرض بالكلمة التي أطلقها المفكر التقدمي الراحل ياسين الحافظ في مقدمة كتابه ” اللاعقلانية في السياسة ” حين قال : ” هل كان ممكناً لروسيا أو الصين أو الفييتنام أن تتقدم لو أن انتليجنسياها كانت رجعية ؟ “. وجاء في مكان آخر من ذلك الكتاب : ” من الممكن للاشتراكي، فقط الاشتراكي الذي أنجزه بلده ثورة ديمقراطية بورجوازية، أن ينتقد الديمقراطية البورجوازية، أن يهاجمها، ان يهاجم الدور الذي تلعبه البورجوازيات الاحتكارية في إفساد وتشويه الديمقراطية، أن يدعو إلى تجاوزها… أما الاشتراكي الذي لم يصنع بلده ثورة ديمقراطية، فإن نقده للديمقراطية يكون إما غبياً أو ماكراً. ذلك لأنه يدين منظومة مايزال بلده من زاوية التطور التاريخي، دونها بمراحل. وبالتالي فإن الاشتراكية التي يطمح إلى بنائها، إذا افتقدت إلى قاعدة ديمقراطية صلبة، فلن تعود اشتراكية بل       ” تأخراكية “.ذلك لأن الاشتراكية عندما تبنى على أرض وسطوية لا يعود يجمعها نسب بالاشتراكية في صورتها الحقة الأصيلة. ذلك لأن الاشتراكية هي في الأصل، فرع من الديمقراطية والتحقيق الأمثل والأكمل لها. إن اشتراكي البلدان المتخلفة، إذا كان أميناً حقاً للاشتراكية، لا يمكنه إلا أن يثمن الإنجاز البورجوازي الديمقراطي، وإن كان عليه، وهو الذي يناضل في عصر الامبريالية، أن يناضل لتجاوزه، تجاوزه بالمعنى الهيكلي، أي أن يحققه ويتخطاه في آن.

” في البلدان التي حققت ثورة ديمقراطية بورجوازية، وبالتالي في البلدان التي تلعب فيها الإرادة القومية دوراً حاسماً، ثمة واقعة جلية : جماع الرأي العام، أي الرأي العام في الحالة التي تتقاطع مصالح الطبقات، أقوى من الحكومات. أما في البلدان التي لم تشهد ثورة ديمقراطية، وبالتالي البلدان التي تعيش مرحلة قبل القومية، رغم كل تغن بالقومية، فالحكم فيها أقوى من الرأي العام… “.

إن مسألة الديمقراطية كانت هي المسألة الكبرى التي وقف عندها ياسين الحافظ، وهي المسألة التي يتوجه إليها من خلال معاناة واقعنا العربي الراهن الكثير من المفكرين التقدميين الملتزمين في أرجاء الوطن العربي، وهي المسألة التي يتوجه إليها ويبدأ منها حوارنا، لتكون الديمقراطية طريقاً لنا وغاية.

*          *          *

لقد بدأتُ من واقع الضياع واستلاب الحرية كما واجهه ويواجهه الفكر الديمقراطي أو الفكر الثوري العالمي، ووقفت عند الضياع الذي تعيشه حركة التقدم العربي وضرورة التصدي له والخروج منه. ذلك الضياع الذي تأتي اليوم لتدفع به إلى حدوده القصوى، القوى المضادة للثورة التي صعدت إلى السلطة ومازالت تهيمن. إن هذا الضياع يمكن أن يطول ويمتد، وإن صراع المتناقضات يمكن أن يظل يدور في دوامة العجز ما لم يكتشف طريقاً للتجاوز ومخرجاً، ولكن طريق الضياع يمكن أن يقصر أيضاً، وأن يتفجر الصراع عن حركة تقرره. ذلك كله مرهون بوعي الرجال وهممهم، الرجال الذين يصنعون معاً حركة التقدم، ويلتزمون معاً بقضية أمتهم. وفي النهاية ليس أمامنا من طريق نختاره إلا الطريق الذي تعترضه حركة الواقع نفسه، واقع حياة أمتنا وما يطالب به.

إنه لا حل لمتناقضات الصراع الطبقي ولواقع الظلم والاستغلال في النهاية إلا الحل الاشتراكي. وإنه لا حل أولاً وأخيراً لضياع الأمة وتأخرها وتمزقها شيعاً وطوائف وعشائر وإقليميات إلا طريق الاندماج الوطني والوحدة القومية. والمطلوب أن تتجسد الأهداف في الواقع وحركته، أي في مسيرة تغيير الواقع. وفي هذا كله يبقى طريق الديمقراطية ولا غيره هو الشرط والضمان، وهو الذي يعطي للأهداف منحاها ويجعل منها غايات يناضل البشر فعلاً وجماعة لتحقيقها. وهي التي تعطي للأهداف معناها الإنساني وقيمتها. فالاشتراكية ليست مطلوبة لنزع الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، بل نزع تلك الملكية في سبيل حرية البشر وتقدمهم. والوحدة العربية ليست مطلوبة لأمجاد شخص او حزب أو طائفة بل لإعطاء الإطار الحقيقي للاندماج الوطني ولوجود الأمة ولتفتح إنسانيتها ولتكون لأبنائها الحرية والكرامة.

والثورة الوطنية الديمقراطية التي ننشد ليست مثل السيل الذي يجرف ما يجرف فجأة ويمضي، بل مثل النهر العظيم تتعدد ينابيعه والروافد تأتي كثيرة، ليفيض على الشطآن زرعاً وخصباً، ويمضي إلى مصبه في بحر الإنسانية الواسع.

أيلول 1979

الـفـهـرس

 

– الثورة والديمقراطية – آفاق تاريخية

 

– ثورة الديمقراطية السياسية وثورة الديمقراطية الاجتماعية

 

– النقد المزدوج طريق للاستيعاب

 

– الديمقراطية كمعيار للتقدم

 

– من العام إلى الخاص – ثورات التحرر الوطني

 

– الثورة الوطنية الديمقراطية

 

– الثورة العربية كثورة وطنية ديمقراطية

 

– الثورة الوطنية الديمقراطية ليست لمرحلة بل طريق تتعدد مراحله ومهماته

 

– وتطالب باستراتيجية لبناء قوى الثورة

 

– التقدم الديمقراطي ثم الانكفاء في حركة الجماهير

 

– الحوار الديمقراطي كطريق لتحديد موقف مشترك

 

– خاتمة

 

_____________________

* بهذا نختم كتاب «الحوار مقدمة العمل، والديمقراطية غاية وطريق» الذي تم نشره كاملاً عام 1979؛ وسيشرع موقع «الحرية أولاً» في الأسبوع القادم، بنشر عدة مقالات خطها الدكتور جمال الأتاسي في السبعينات أيضاً؛ وذلك بالذكرى السنوية لوفاته رحمه الله.

التعليقات مغلقة.