الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

“بوتين قاتل” .. منعطف سياسي آخر

فاطمة ياسين *

استخدم الرئيس الأميركي، جو بايدن، إشارة “المكالمة الهاتفية الأولى” أسلوباً دبلوماسياً مع عدد من قادة الدول، منذ إعلانه رئيساً ودخوله البيت الأبيض، فأخّر اتصاله الأول مع نتنياهو والملك سلمان بن عبد العزيز مفجّراً شلالاً من الأسئلة والاستفسارات بشأن نواياه تجاههما، وقد ضنّ عليهما باتصاله الموعود، ولكنه لم يتعامل بالطريقة نفسها مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، فلم يمضِ أكثر من خمسة أيام على تنصيبه، حتى تلقى منه الأخير تلك المكالمة، لينجزا معاً اتفاقاً مهماً على تمديد معاهدة “ستارت 3” خمسة أعوام أخرى، وهي معاهدةٌ تنصّ على تخفيض عدد الرؤوس النووية وعدد القواعد التي تطلقها، على الرغم من أنه لم يكن اتصالاً ودوداً، بحسب بياناتٍ نشرت بعده. ففي حين أراد بوتين “تطبيع” العلاقة بين البلدين، كان بايدن حذراً. وقد ذكّر، في أثناء كلامه، بحادثة تسميم المعارض الروسي، أليكسي نافالني، لكن اللافت أن بايدن لم يؤجّل المحادثة، ما يعني أنه لا يرغب في قطع الصلات مع موسكو، ويريد إبقاء بعض الحبال موصولة ليتم جذب بعضها عند الحاجة.

ما يجعل اليوم ملف العلاقات بين البلدين مفروداً على طاولة الساسة والصحافيين المهتمين هو المقابلة التي أجراها بايدن قبل أيام، وردّه المثير على سؤال المذيع: هل تعتقد أن بوتين قاتل؟ فيتمتم لحظة قبل أن يجيب: أظن ذلك… يريد بايدن أن يمسح ما علق في أذهان مراقبي السياسة الأميركية من ليونةٍ مفترضةٍ كان يبديها دونالد ترامب تجاه بوتين بالذات. ومن تقاليد السياسة الأميركية أنه عند تبديل الحزب الحاكم، لا بد أن يُظهر الرئيس الجديد تبايناتٍ كثيرةً في سلوكه السياسي، ليبدو مختلفاً عمن سبقه. وهنا يحاول بايدن أن يفعل ذلك بشدة، ولديه سبب إضافي، هو قناعاته بأن بوتين كان يسعى إلى تشويه سمعته ليخسر الانتخابات، وهو ما أكّده تقرير مخابراتي. ينهي تعليق بايدن عن إجرام بوتين شهرين من الترقب الروسي، بعد حذر استمر طوال المدة السابقة، كي يظهر أين سيضع بايدن قدمه في الخطوة التالية تجاه روسيا. ويبدو من رد فعل بوتين المباشر أن هناك تغيراً سيحصل، ولكن ليس إلى الدرجة القصوى التي بدت في إجابة بايدن. ولذلك جاء رد بوتين مزيجاً من التحليل النفسي المموّه بموقف سياسي، والمشحون بالرغبة في رد الشتيمة الشخصية، حين وجه اتهاماً مبطناً لبايدن بالمرض أو الخرف السياسي بقوله: أتمنّى له الصحة. تبدو خيارات بايدن معروفةً ومحدودةً إلى درجة كبيرة، وقد تنحصر ببضع عقوباتٍ ذات شكل اقتصادي ومحتوى سياسي ستطبق على موسكو، تضاف إلى عقوبات كثيرة سابقة، وقد يتّسع طيفها ليشمل الصين أيضاً، حتى يبدو بايدن ذلك الرئيس العالمي المهتم بشؤون الكرة الأرضية كلها.

ويمكن لهذا التجافي الأميركي الروسي الذي تمليه ظروف السياسة الحالية أن يجرّ ركوداً أوروبياً روسياً أيضاً، ويزيد جرعة الانتقادات لروسيا، ولهذه المواقف أن تبقي ملفاتٍ عديدة عالقة، وبعضها في منتهى الخطورة، خصوصاً التي تشترك فيها إيران، كملفات سورية ولبنان واليمن والعراق، وهي بلدانٌ وصل بعضها إلى حافّة المجاعة العامة، من دون أي بادرة انفراج. ويأتي الآن الموقف الذي يعيد التوتر بين أميركا وروسيا اللتين تملكان كثيراً من مفاتيح الحل في تلك الدول، وهذا سيجعل كل شيء يجد طريقه إلى التأجيل. وقد تعقّدت أمور هذه الملفات حتى غدت تراثاً في المنطقة، لا يستطيع طرفٌ أن ينفرد بإيجاد حل لها عن طريق تحالفاتٍ مؤقتة. وضمن هذا الظرف، يمكن اعتبار رحلة سيرغي لافروف إلى منطقة الخليج محكومة بفشل موضوعي، بسبب الغياب الأميركي عنها، وربما على الدول التي ترجو مخرجاً أن تنتظر أربع سنوات أخرى، أو تغييراً جوهرياً في مسار العلاقات بين أميركا وروسيا، وعلى نحو أدق بين بوتين وبايدن بشكل شخصي.

* كاتبة سورية

المصدر: العربي الجديد

التعليقات مغلقة.