غسان ناصر *
يستضيف مركز حرمون للدراسات المعاصرة، هذا الأسبوع، الناشطة الحقوقية في المجتمع المدني السيدة آمنة خولاني، المعتقلة السابقة، والعضوة المؤسّسة والمنسقة العامة لحركة “عائلات من أجل الحرية”، وعضو مجلس إدارة “المجلس السوري-البريطاني”، والمساهمة في عدد من التجمعات السورية المدنية والسياسية. ولها ثلاثة أشقاء شهداء تحت التعذيب في سجون النظام الأسدي، هم: مجد وعبد الستار ومحمد.
ضيفتنا، ابنة مدينة داريا بريف دمشق، حاصلة على شهادة ماجستير في الآداب من جامعة دمشق – قسم التاريخ. ومنحتها وزارة الخارجية الأميركية في آذار/ مارس 2020 “الجائزة الدولية للمرأة الشجاعة” (IWOC)، التي تمنحها الوزارة لنساء أظهرن شجاعة في الدفاع عن حقوق الإنسان، وقيادة استثنائية في الدفاع عن السلام والعدالة وحقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة.
خولاني، أكدت في حوارها معنا، أنه ما زال للمرأة الدور الأكبر في بناء سلام مستدام في سورية، ذلك لأنها لم تنخرط بالعنف وحمل السلاح؛ وبالتالي فهي لا تخشى من المحاسبة والمساءلة التي قد تأتي مع أي انتقال سياسي. ورأت أنّ بناء سورية الجديدة سيكون مسؤولية النساء، أسوة بنساء ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث أثبتت المرأة السورية أنها قادرة على الاستجابة للتحديات بطاقة وإبداع على المستويات كافة.
وشددت الناشطة الحقوقية في سياق حديثها عن “عائلات من أجل الحرية”، على أنّ الناشطات في الحركة يعملن على خلق رأي عام عالمي حول قضية الاعتقال في سورية، وعلى محاربة النسيان وحفظ الذاكرة ورفع الأصوات في كل المحافل الدولية، وفي دوائر صنع القرار العالمي، وقرع الأجراس ليسمع كلّ من صمّوا آذانهم عن قضية المعتقلين والمختفين قسريًّا في المعتقلات السورية، مبينةً أنه سيتم قريبًا إطلاق “ميثاق الحقيقة والعدالة” الذي سيكون المرجع في قضية الاعتقال في سورية، من حيث الرؤية والمطالب. وهو نتاج جهد جماعي وعمل مشترك من مجموعات حقوقية وإنسانية سورية هي: (حركة “عائلات من أجل الحرية”، وروابط “معتقلي صيدنايا”، و”عائلات قيصر”، و”مسار وتعافي”).
هنا نص الحوار:
– بداية، من هي السيدة آمنة خولاني؟ وما الذي دفعها إلى الانخراط في ثورة الحرية والكرامة في آذار/ مارس 2011؟
= ناشطة حقوقية. ولدتُ في مدينة داريّا، نشأتُ في أسرة أتاحت لي كل الدعم المعنوي والمادي، الذي مكنني وصنع شخصيتي، فكان أبي وأمي (حفظهما الله) وإخوتي، ولاحقًا زوجي، وما يزالون، خيرَ سندٍ لي في درب النضال الذي اخترته. وكان مفهوم العدالة والحرية للناس عامة وللنساء خاصة هو ما رُبيت عليه منذ الصغر. كانت رغبة والدي أن أدرس الحقوق وأُصبح قاضية، لكني اخترت دراسة التاريخ لعشقي له، عندما سأل أقاربي والدي: ما الفائدة من دراسة ابنتك في الجامعة؟ ردّ عليهم مازحًا: “بنتي بدها تحكي باسم بلدها في الأمم المتحدة”، لذلك عندما تكلمت أول مرة في الأمم المتحدة في جنيف، بكيت، لأني تذكرت كلام والدي. كانت أختي عائشة أول فتاة من داريّا تدرس في مدينة أخرى (جامعة حلب – قسم أدب انجليزي)، وتسكن فيها كل فترة الدراسة، وكان ذلك كسرًا للأعراف الاجتماعية المحافظة في داريّا، في تسعينيات القرن المنصرم.
كانت لي تجربة في النضال السلمي عام 2003، قبل انطلاق الثورة السورية. حيث كنت واحدة من مجموعة من الشباب والبنات في داريا ندرس الفكر اللاعنفي المدني، مع المفكر السوري الإسلامي التنويري عبد الأكرم السقا، المعتقل منذ بداية الثورة في سجون النظام، والذي أخذ من فكر جودت سعيد وغيره، وكان بمقام الأب الروحي للمجموعة، وأطلق علينا فيما بعد (مجموعة شباب داريا 2003)، أذكر منهم يحيى الشربجي وحنان اللكود. حيث أطلقنا حملة تضمنت عددًا من النشاطات السلمية (توزيع روزنامة لمحاربة الرشوة، إنشاء مركز ثقافي شبابي، سبل السلام/ مظاهرة صامتة، توزيع “بروشورات” للتوعية ضد التدخين، حملة شبابية لتنظيف شوارع داريا). ويوجد روابط على “يوتيوب” لكل هذه الأنشطة، التي قوبلت من قبل الأجهزة الأمنية باعتقال كل المشاركين والمشاركات في الحملة. وكنت أنا وزوجي وأخي وأختي منهم، وقُدم الشباب للمحكمة الميدانية العسكرية، وتم تحويلهم إلى سجن صيدنايا، بينما تُركنا نحن البنات بعد شهر. في ذلك الوقت كانت المرة الأولى التي نتواصل فيها مع الناشطة الحقوقية رزان زيتونة، والمنظمات الحقوقية الدولية “أمنستي” وغيرها، حتى تم إطلاق سراح الشباب، بعد سنتين ونصف من الاعتقال. كانت تجربة طويلة ومؤلمة وعلمتني الكثير من المهارات والخبرات، وكانت البداية في النضال الحقوقي، خاصة أنها كانت في زمن الخوف والرعب الذي زرعه النظام في قلوب السوريين.
مع بوادر الربيع العربي، شاركت في الاعتصام أمام السفارة الليبية بدمشق، ومع انطلاق الثورة السورية كان من الطبيعي أن أكون قلبًا وقالبًا في الصفوف الأولى للثورة من أول يوم، فهي حلم لكل الأحرار في سورية. وكان أن انخرطت في القيادة والمشاركة في التظاهرات السلمية الشعبية والاعتصامات في داريا ودمشق، بعد أشهر من انطلاق الثورة، استُدعيت إلى فرع الأمن السياسي للتحقيق معي والتوقيع على تعهد بعدم المتابعة في الحراك الناشئ، لكني حرصت على الاستمرار في النشاط الثوري، بالرغم من المعوقات الاجتماعية (العادات والتقاليد) كتجاهل دور المرأة، والمعوقات العملية (كوني مدرسة في القطاع الحكومي) حيث تم توقيفي عن عملي في التعليم، لكن دعم أسرتي وزوجي ساعدني في الاستمرار.
عملت في الحراك السلمي الثوري، وساهمت في كل الأنشطة السلمية ومنها: توزيع الصحف والمنشورات الثورية، والبخّ على الجدران، والمشاركة في حملات التوعية داخل المنازل، والدعوة للعصيان المدني، بالإضافة إلى حملات إغاثية لأسر الشهداء والمعتقلين، والتوثيق لأسماء الشهداء والمعتقلين، والدعم النفسي لتلك الأسر مع التركيز على النساء والأطفال، وذلك بالتنسيق مع المجلس المحلي لمدينة داريا وغيره من الهيئات المدنية.
وفي بداية الثورة، اعتقل إخوتي الأربعة: محمد لم يكن أخي فحسب بل كان صديقي الذي أحبَّه كل من عرفه لخلقه الرفيع، وهو من مجموعة الأستاذ عبد الاكرم السقا، وكان قد اعتقل في عام 2003. له طفل واحد وُلدَ بعد اعتقاله؛ مجد وهو طالب في السنة الثانية في كلية الحقوق، كان من قادة النضال السلمي في داريّا، عرف عنه رفضه الشديد لتسلّح الثورة، وعبر عن ذلك قبل اعتقاله على صفحته على (فيسبوك)؛ عبد الستار: يعمل بالتجارة، وهو معروف بشهامته ولهفته في مساعدة كل من يحتاجه، اعتقل أثناء محاولة إنقاذ صديقه من يد الأمن في إحدى التظاهرات، لديه طفلان؛ بلال خرج من المعتقل، وكأنه جثة تمشي على الأرض (هو اليوم بخير وعافية)، وأخبرنا بالفاجعة أنّ أخي (محمد) استشهد تحت التعذيب، وظهرت صورته في وثائق “قيصر”، وبرحيل محمد، انطفأ كل شيء حلو بحياتي. إضافة إلى صديقي وأخي الروحي يحيى الشربجي الذي كان بحقّ رائد مدرسة النضال السلمي، وقد التفّ شباب الثورة في داريا حوله، وتعلموا منه مبادئ النضال المدني، مثل أخي مجد وإسلام دباس وغياث مطر وغيرهم الكثير. وهو صاحب فكرة الورد والماء.
في صيف 2018، أصدر النظام شهادات وفاة لعدد كبير من المعتقلين لديه، وكانت الفاجعة الثانية؛ حيث صدرت شهادات وفاة بحق أخويّ (مجد وعبد الستار، وصديقي يحيى الشربجي)، وبلغَنا أنهم أعدموا في سجن صيدنايا، عندها أحسست أنني فقدت نصف روحي، وأنني أصبحت أعيش بنصف روح، أنا الكبرى بين إخوتي، وأشعر بالفخر لأنّ عائلتي وزوجي هم بحقّ أكبر سندٍ لي في النضال.
ستّة من أفراد العائلة في معتقلات الأسد:
– أنت سجينة سياسية سابقة، ما أسوأ ما فعله بك سجن النظام المستبدّ؟ وما أوّل ما تعلمته من تجربة السجن، وماذا أضافت لك تلك التجربة؟ وما الذي أخذه منك السجن، وممّ حررك؟
= لن أسرد عليكم تجربتي النضالية مع عائلتي بكل بتفاصيلها، فذلك لا يكفيه حوار صحفي بل يحتاج إلى مجلدات من الكتب، وبالرغم من أنني تحدثت ببعض تفاصيلها في عدد كبير من المنصات الإعلامية العالمية والاجتماعات الدولية، فإني إلى الآن لم أتحدث بتفاصيل قصتي كاملة، ربما لأنني أشفق على القارئ من شدتها، فما بالكم بأمي وأبي وكل عائلتي، الذين عشناها وما زلنا نعيش آثارها إلى اليوم، حالنا كحال عشرات آلاف العائلات السورية.
منذ انطلاق الثورة، وطّنت نفسي على الاعتقال أو الشهادة (وأعتقد أنّ كل الثوار فعلوا مثلي)، وكنت أقرأ عن المعتقلات وأجهّز نفسي لمصيرٍ مشابه. قبل مشاركتي في أي تظاهرة، كنت ألبس طبقات من الثياب؛ فالمُعتقَل بارد، وأملأ جيوبي بالمحارم والفوط، كما أني لم أكن أضع دبوسًا في إيشاربي، حتى لا ينغرز الدبوس في رقبتي في حال تعرضت للضرب. تفاصيل صغيرة لكن لا تغيب عن بالي أبدًا. كنتُ أقول لأطفالي عندما أخرج لأي نشاط ثوري: “أنا ما عم أطلع وأترككم لأنو ما بحبكم، بالعكس لأني بحبكم كتير لازم أطلع، لأني ما بتحمل يجي مستقبلكم وسورية مزرعة للأسد”.
في تشرين الأول/ أكتوبر 2013، اعتقلني عناصر المخابرات الجوية أنا وزوجي، من أمام أطفالي، وتعرضت للتعذيب الجسدي والنفسي، ولكن ما لم أتوقعه، عندما سألني المحقق: “هل تحبين زوجك؟” لم أفهم لماذا يسأل، ولكني قلت له: “نعم”. وبعد إجابتي بنعم، أحضروه وشرعوا بضربه أمامي، عندها كنت مستعدة لأي شي “شو بدك بقول”. في المعتقل، كان همّي على أمي وأبي، لأنّ المحنة لا تطيقها الجبال (6 من العائلة في المعتقل)، بينما كان بالي مطمئنًا على أطفالي، فقد كنت واثقة أنّ أهلي لهم خير معيل. وعندما نقلت إلى سجن عدرا، كانت أمي وأختي غفران تواظبان على زيارتي كل أسبوع، بالرغم من خطورة وصعوبة الطريق، وكانت تلك الزيارة تعطيني الكثير من القوة على تحمل السجن.
في المعتقل، كان عليّ أن أقتل الوقت بأي طريقة حتى لا يقتلني، فاتفقت مع بعض النساء على أن أعلمهن القراءة والكتابة، مقابل أن يعلمنني (شغل الخرز والدبكة الشعبية)؛ ربما هذه من الذكريات الإيجابية القليلة في المعتقل.
يوم خروجي من المعتقل بكيت، من الفرحة بحريتي، ومن الألم لأني سأترك كل أولئك النساء والأطفال ورائي كلهنّ متهمات بتهم «إرهاب»! بعضهنّ لم يكن لهنّ علاقة بأي شيء، ولكنهنّ أُخذن بدلًا من شخصٍ آخر. شعرتُ وأنا أتركهنّ بإحساسٍ كبيرٍ بالخيانة، ووعدتهنّ أن أكون صوتهنّ؛ ألّا أسكت «لا تسامحوني إذا نسيتكنّ»، وخرجتُ بعدها مدفوعةً بإيماني بالحرية والعدالة. ولن أبالغ إذا قلت: إنّ المعتقل زاد من إيماني بعدالة قضيتي.
بعد خروجي من المعتقل في آذار/ مارس 2014، تم فصلي تعسفيًا من وظيفتي وعادت الملاحقة الأمنية لي. فاضطررت إلى الهرب بطريقة غير شرعية إلى لبنان، وتحمل مسؤولية أطفالي الثلاثة لوحدي حتى خروج زوجي من المعتقل بعد اعتقاله سنتين ونصف. عشت في لبنان أربع سنوات، ونتيجة الضغوط الأمنية والظروف المعيشية الصعبة على السوريين في لبنان فقد غادرنا لبنان لنقيم في بريطانيا.
أنا إنسانة مؤمنة، وأؤمن أنّ الله سبحانه وتعالى خلقني لأقوم بشيءٍ ذي قيمة على هذه الأرض. هذه القيمة لا تكون بالجلوس في البيت؛ إيماني يدفعني للوقوف في وجه كل أنواع الظلم، والمطالبة بالعدالة والحرية لكل السوريين بغض النظر عن انتماءاتهم.
– نلتِ في آذار/ مارس الماضي “الجائزة الدولية للمرأة الشجاعة”(IWOC) التي تمنحها وزارة الخارجية الأميركية. بتقديرك، ما الذي تضيفه مثل هذي الجوائز إلى نضالات المرأة السورية، ودعم حقوقها في المشاركة في الحياة السياسية بحرية ودون قمع من أي جهة كانت؟ وماذا عنت لك على الصعيد الشخصي؟
= في الحقيقة، كنت مترددة جدًا في قبول الجائزة، وعندما تم إخباري في السفارة الأميركية في لندن بأنّ الخارجية الأميركية قد منحتني (الجائزة الدولية للمرأة الشجاعة)، قلت لهم وأنا أبكي: “لم أكن أنتظر جائزة منكم، ولكني أنتظر منكم دعم قضيتي، إذا أردتم تكريمي، فساعدوني في إطلاق سراح المعتقلين ومحاسبة الأسد ونظامه، إذا أردتم تكريمي أوقفوا القصف على ملايين المدنيين في إدلب، أنتم أقوى دولة في العالم ولستم دولة ضعيفة.. أنتم قادرون على فعل الكثير من أجل حقوق الإنسان في سورية، أكثر من منحي جائزة”. كانت مدة الرحلة لفعاليات التكريم ثلاثة أسابيع: الأسبوع الأول في العاصمة واشنطن، والثاني في ولاية ألاباما، والثالث في ولاية لوس أنجلوس. في واشنطن، تم توزيع الجوائز من قبل وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو، والسيدة الأولى السابقة ميلانيا ترامب. بعد ذلك كان هناك اجتماعات مكثفة في مكاتب الخارجية الأميركية والكونغرس والبيت الأبيض، ولقاءات مع المسؤولين في أعلى المستويات من صنّاع القرار الأميركي، بالإضافة إلى جولة في عدد من الجامعات ومنظمات المجتمع المدني الأميركي، إضافة إلى اللقاءات الإعلامية. في الأسبوع الثاني، أعطوني فرصة اختيار الولاية التي أرغب في متابعة جولتي فيها، فاخترت ولاية ألاباما مهد انطلاق ثورة الحقوق المدنية للسود مدينة (روزا بارك ومارتن لوثر كينغ) في برلمانها، واجتمعت مع عدد من السياسيين والحقوقيين فيها وطلاب مدارس، وقضيت يومًا كاملًا مع إحدى العائلات فيها، وقمت بجولة في متاحف المدينة وجامعتها، ولقبوني بـ (روزا بارك سورية)، وتركت زيارة ألاباما أثرًا كبيرًا في نفسي، من حيث تشابه الحال بين ما جرى فيها من إبادة للسود وما يجري لنا في سورية. رأيت فيها حكاية سورية الثورة والألم وبعده الأمل بالوصول للهدف.
قبل وصولي إلى هناك، كنت أرسلت إلى الخارجية الأميركية مجموعة من الاقتراحات لاجتماعات وأنشطة أرغب في إقامتها في واشنطن، وبالفعل تم الموافقة عليها جميعًا، وأبرزها أني كنتُ أقدّم للشخصيات التي ألتقيها في أميركا (زجاجات ماء وعليها وردة بيضاء) كالتي وزعها أخي مجد وأصدقاؤه على عساكر النظام أثناء التظاهرات السلمية في داريا، وكنت أحكي لهم قصتها، وأطلب منهم أن يحتفظوا بها على مكاتبهم ليتذكروا أنها كانت تهمة لإعدام خيرة الشباب في سورية، حتى إن رئيس برلمان ولاية ألاباما، وعدني أن يصورها ويضعها في البرلمان.
كانت الجائزة فرصة مهمة لعرض قضيتي، وبطاقة عبور لمقابلة صنّاع القرار الأميركي في أعلى المستويات، لذلك حرصت على أن أستثمر كل دقيقة من تلك اللقاءات. صدقًا، كنت لا أنام إلّا ساعات قليلة، بسبب فرق التوقيت وضغط الاجتماعات واللقاءات مع فعاليات اجتماعية وثقافية في أميركا. وفي نهاية الرحلة، قلت لهم: “يمكن ندمتوا أنو عطيتوني الجائزة، لأني لحوحة وطماعة كتير بكل شي متعلق بحقوق أهل بلدي، ولح أبقي هيك وإذا أنتوا تعبتوا أنا ما لح أتعب”، ضحكوا وقالوا لي: “يا ريت كل الطمع بالعالم يكون متل طمعك”. كانت رحلة متعبة، وأتمنى أن أكون قد قمت ببعض واجبي تجاه سورية الحبيبة.
على الصعيد الشخصي، كانت الرحلة فرصةً للتعرف إلى عدد كبير من أبناء الجالية السورية في واشنطن، وقد لقيت الحفاوة والتكريم من أصدقائي وصديقاتي هناك ومن كثير من السوريين الذين لم أعرفهم من قبل. وقد كنت فخورة كوني سورية، فقد كنت أكثر سيدة حضر معها الحفل ناسٌ من أهل بلدها، من بين السيدات اللواتي مُنحن الجائزة. أيضًا، وقد وصلتني رسائل كثيرة مملوءة بالحب والثقة، خاصة من البنات والشباب الذين كنت أدرّسهم عندما كانوا في الثانوية في سورية ولبنان، حيث كانت تجمعني بهم علاقة صداقة أكثر من كونها علاقة طالب بمدرّسته، وكثير منهم يعدّوني قدوة لهم.
للمرأة الدور الأكبر في بناء سلام مستدام في سورية:
– من منظورك، إلى أيّ حدّ يمكن للمرأة السورية أن تقوم الآن، في ظل تعقيدات الوضع السوري، بدور سياسي لإحلال السلام في سورية والنهوض بها وبنائها؟
= منذ اليوم الأول لانطلاق الثورة السورية، كانت المرأة في مقدّمة صفوف الثوار، فقد أطلقت الثورة قدرات النساء، وخلقت ما أحبّ أن أسميه (حالة الوعي القسريّ لدور المرأة وعند المرأة)، فالتحدي الذي فرضه غياب الرجل المعيل دفعها إلى الاعتماد على نفسها، ودفع المجتمع الذكوري إلى تقبّل قيامها بكل تلك المهمات تحت ضغط الحاجة، وكان ذلك أحد أدوات التمكين لها. لقد كانت ثورة المرأة السورية ثورتين: ثورة على الاستبداد السياسي، وثورة على الاستبداد الاجتماعي؛ فكأنها تحارب تنينًا برأسين. ومع الأسف، في كثير من الأحيان، كان على المرأة ضمن مجتمع الثورة نفسه أن تناضل من أجل نقل دورها من التنميط إلى التمكين، وتصرخ في وجه البرامج والمنظمات التي تقوم بذلك. ومع ذلك ما زال للمرأة الدور الأكبر في بناء سلام مستدام في سورية، وذلك لأكثر من سبب، أوّلها أن المرأة السورية عمومًا لم تنخرط في العنف وحمل السلاح؛ وبذلك فهي لا تخشى من المحاسبة والمساءلة التي قد تأتي مع أي انتقال سياسي. إضافة إلى الخبرات والمهارات التي اكتسبتها المرأة السورية خلال سنوات الثورة. وأضف إلى ذلك الواقع الحالي الذي يقول إنّ غالبية سكان سورية هم من النساء، بعد أن قُتل واعتُقل وهُجّر معظم رجال سورية، وإنّ البناء سيكون مسؤولية النساء أسوة بنساء ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية.
– كيف ترين وضع المرأة الحالي الحقيقي في الداخل السوري، خاصة في المناطق المحررة الخاضعة لسلطات الأمر الواقع في الشمال وشمال شرق سورية، وما الطرق الممكنة لإيجاد حلول لهذا الوضع؟
= الحقيقة أنّ الوضع في الداخل السوري أشبه بكارثة إنسانية، وخاصة في الشتاء، سواء في مناطق النظام أو المناطق الخارجة عن سيطرته في الشمال السوري؛ فمع غياب كل المقومات الأساسية للحياة (الكهرباء والغاز والوقود والإنترنت وغيرها)، هناك القصف الذي تختلف شدته بين الحين والآخر، لكنه لا ينقطع قطّ، هذا بالإضافة إلى الانتهاكات التي تمارسها سلطات الأمر الواقع على المدنيين وخاصة النساء. لكن مع ذلك أثبتت المرأة السورية أنها قادرة على الاستجابة للتحديات بطاقة وإبداع على كل المستويات؛ فهناك المرأة الكاتبة والرسامة والطبيبة والمحامية والمهندسة والطالبة على مقاعد الجامعة.. والكثير من النساء اللواتي أسمع عنهنّ أو أتواصل معهنّ في الشمال السوري هنّ مصدر إلهام وفخر لي، حيث الكثيرات منهنّ طالبات وموظفات وأمهات وثائرات في آن واحد؛ كزميلتي في حركتنا “عائلات من أجل الحرية” مياسة الشيخ أحمد، ومنسقة فريق الحركة في الداخل، وهي تنشط كمتطوعة في الحركة، وطالبة جامعية وموظفة وأم لثلاثة أطفال بعد استشهاد زوجها في المعتقل، ومثلها كثيرات في سورية.
الواجب يحتم علينا جميعًا الإضاءة على بطولة هؤلاء النساء، والمطالبة بتمكين حقيقي لهنّ. وأشدد جدًا على كلمة (حقيقي) لا بتمكين تجميلي أو تنميطي. فعلى الرغم من الدور الكبير للمنظمات السورية في تمكين المرأة، هناك -مع الأسف- كثير من هذه المشاريع تقوم بدور تجميلي فقط! ولو كانت كلها تقوم بدورها لكان الوضع أفضل بكثير مما هو الآن.
– كونك إحدى مؤسّسات “حركة عائلات من أجل الحرية” ومنسقتها العامة، كيف تقدمين الحركة لقراء مركز حرمون؟
= هي حركة حقوقية تعمل على دعم وتمكين عائلات المعتقلين، ليكونوا هم المحامين عن القضية، الحركة تقودها نساء سوريات من أهالي المعتقلين للمطالبة بالإفراج عن أحبتهنّ.
في شباط/ فبراير 2017، اجتمعنا خمس سيدات، بعضنا تلتقي الأخرى للمرة الأولى، يجمعنا الهدف البعيد المقدس لنا جميعًا، ونحن من خلفيات سياسية واجتماعية متنوعة، وبالرغم من ذلك كان لدينا القدرة على الاتفاق وتحديد أولوياتنا ومطالبنا، وكتبنا الورقة التالية: من نحن؟ “نحن عائلات سورية تطالب بالحرية لأبنائها. نحن نطالب باسم كل من له معتقل في سورية وليست مطالبنا شخصية. موقفنا ضد الإخفاء القسريّ والاعتقال التعسفيّ الذي يرتكب من النظام السوري وكل أطراف النزاع. نريد التأثير على الرأي العام لنتمكن من الضغط لتحقيق مطالبنا. لا نريد أن تكتفي الحملة بالأشخاص الحالين، وإنما نريد أن نستمر في العمل ليكون جهدًا تراكميًا يشمل أكبر عدد من العائلات بغض النظر عن انتماءاتهم”.
بدأنا خمس سيدات. نحن اليوم أكثر من مئة سيدة، وكلنا متطوعات لا نتلقى أي راتب عن هذا العمل. نحن نعمل على خلق رأي عام عالمي حول قضية الاعتقال في سورية. ونعمل على محاربة النسيان وحفظ الذاكرة، ونرفع أصواتنا في كل المحافل الدولية، وفي دوائر صنع القرار العالمي، ونقرع الأجراس ليسمع كل من صموا آذانهم عن قضيتنا.
– عند تأسيس “حركة عائلات من أجل الحرية”، قمتم بدعوة سيدات وصبايا من خلفيات ورؤى سياسة مختلفة، منهنّ سيداتٌ مواليات للنظام بعضٌ من ذويهن معتقلٌ لدى فصائل مُعارِضَة. على أي أسس وخلفيات تمّت هذه الدعوة؟ وماذا كانت الحصيلة؟
= لأننا نؤمن بأنّ عملنا حقوقي إنساني، وأنّ قضيتنا هي والحرية والعدالة للجميع؛ لذلك منذ لقائنا الأول تعاملنا مع اختلافنا على أنه عنصر قوة، وسعينا إلى أن يكون الاختلاف حاضرًا في الحركة، لا بل أن يصبح شكلًا نمطيًّا للحركة، قمنا بدعوة سيدات من خلفيات مختلفة، حتى إننا قمنا بدعوة سيدات مواليات ممن لديهنّ معتقلون لدى فصائل المعارضة. طبعًا لم تنضم أي واحدة، لكن كان وما يزال باب الحركة مفتوحًا لكل أهالي المعتقلين في سورية، بغض النظر عن الجهة التي ارتكبت جريمة الاعتقال والإخفاء القسريّ.
حَرَمّتُ بعثة المجرم في مجلس الأمن من رؤية دموعي:
– خصص مجلس الأمن الدولي جلسةً للاستماع إلى عائلات الضحايا والمختفين قسريًّا في سورية. وكان أن حضرتِ في آب/ أغسطس 2019 للإدلاء بشهادتك بقصد إدانة النظام وفضح ممارساته الوحشية. كيف تقيمين على الصعيد الشخصي تلك الجلسة؟ وماذا كانت ردود مندوبي الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن حينها؟
= في آب/ أغسطس 2019، كانت الجلسة الرسمية الأولى التي عقدها مجلس الأمن من أجل قضية المعتقلين في سورية، وكانت الجلسة بدعوة الخارجية الأميركية. الحقيقة، بالرغم من أنني معتادة على الحديث في المؤتمرات الدولية، شعرت يومها بمزيج من القوة والعزيمة والتوتر وثقل المسؤولية على كتفي في أعلى منصة لصنع القرار العالمي، وبحضور سفراء دول العالم، ومنهم سفير النظام السوري. وكانت أول مرة سأوجه كلامي مباشرة إلى بعثة المجرم (حيث كان يجلس مقابلي تمامًا)، تحدثتُ باسم كل أهالي المعتقلين وليس فقط “عائلات الحرية”. وطالبتهم بقرارٍ من مجلس الأمن لإطلاق سراح كل المعتقلين في سورية عند النظام السوري وباقي أطراف النزاع، قلت لهم: “وأنا أتحدث إليكم، هناك معتقلون جدد وآخرون يموتون تحت التعذيب”. طالبتهم أن ينتقلوا من مرحلة التصريحات إلى مرحلة الفعل، لأنّ الوقت ثمنه أرواح وعذابات أحبتنا في المعتقلات. لم تغب صور إخوتي والمعتقلين عن ذهني أثناء الكلمة، وكادت دموعي أن تنهمر، لكني حبستها مع غصتي لأني لا أريد لبعثة النظام أن ترى دموعي.
كانت مداخلات رؤساء بعثات أميركا وفرنسا، وكذلك ألمانيا وبلجيكا، قوية ومباشرة في مطالبة النظام بإطلاق سراح المعتقلين، وكانت مداخلة ممثل دولة الكويت جيدة، بالنظر لقدراتها وحجمها عالميًا. أما السفير الروسي فقد تحدث في موضوع آخر تمامًا غير موضوع الجلسة، حيث تحدث عن (الأوضاع الإنسانية في سورية واللاجئين والمخيمات و…)، مع أنه كان متوقعًا أن ترفض روسيا عقد الجلسة.
أما سفير النظام، فقد بدأ، كما عادته دائمًا، يكيل التهم لنا (الكذب والتآمر على سورية مع المخابرات العالمية). لكن المداخلة الأقوى والأوضح كانت من سفيرة بريطانيا في مجلس الأمن، السيدة كارين بيرس، حيث طالبت النظام بأن يسمح للمنظمات الدولية وعلى رأسها الصليب الأحمر بالدخول إلى أماكن الاحتجاز في سورية. كما طالبت النظام بتقديم قوائم بأسماء المعتقلين عنده وأماكن احتجازهم. حتى إنها دخلت في سجال مع مبعوث النظام حول كلمته وقالت له -بالمعنى- إننا اعتدنا منكم تكذيب واتهام كل الناشطين، فلماذا لا تسمحون للمنظمات الدولية بالدخول والتأكد؟! وعندما انتهت الجلسة تقدّمت إلي وسلمت عليّ بقوة، مؤكدة دعم بلادها الدائم لحقي وحق كل السوريين في الإفراج عن أحبتهم في أسرع وقت.
كانت الجلسة مهمة جدًا لكنها غير كافية أبدًا، وهي نقطة البداية في طريق طويل وشاق، وما زلنا إلى الآن نحشد ونتابع في ذلك الطريق، ربما يقول البعض ما الفائدة من كل هذا التعب لأنه حتى لو صدر قرار من مجلس الأمن بإطلاق سراح المعتقلين، فإنّ النظام لن يلتزم به وسيكون “حبرًا على ورق”، كغيره من القرارات الدولية! نحن نعي ذلك بوضوح، ولكن بالنسبة إلي هذا القرار سيكون بمنزلة (تثبت حق)، لأنه إن لم نستطع نحن الوصول إلى هدفنا، فعلى أولادنا متابعة الطريق من بعدنا، ولن يضيع حق وراءه مطالب. فنحن كمن يرفع دعوة في المحكمة لإثبات ملكيته لبيته الذي اغتصبه منه جاره الحرامي، وهو يعلم أنّ الفساد من حوله وقوة جاره ستمنع تطبيق أي حكم قضائي في ذلك. لكن يبقى القرار القضائي مهمًا لإثبات حقه على مر الزمان ولكل الأجيال. وفي العام نفسه 2019 تحدثت في اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك، وأكدتُ مطلبنا بقرار مجلس الأمن حول قضية المعتقلين في سورية.
– ماذا عن العلاقات بين مجموعات الدفاع عن الضحايا ومنظمات المجتمع المدني السورية، في نطاق الداخل والخارج أولًا، وفي النطاق الدولي ثانيًا؟
= عندما انطلقت الحركة في جنيف في 2017، كان ذلك بدعم من ثلاث منظمات، هي (“حملة من أجل سورية”، و”دولتي”، و”النساء الآن”)، وهم شركاء استراتيجيون للحركة، وقدّموا لنا الاستشارات والخبرات واللوجستيات اللازمة لتيسير أنشطة حركتنا، ولدينا تحالفات وشراكات مع كثير من المنظمات السورية والدولية، ونسعى دائمًا لتنسيق جهودنا.
منذ بدأت الاجتماعات السياسة والتنسيق بشأن العدالة الانتقالية في سورية، لم يكن هناك تمثيل للضحايا تقريبًا، وإذا تم إشراك الضحايا فكانوا شهودًا فقط، ولاستخدام شهادتهم لرفع الوعي حول الوضع في سورية، أو الحصول على التمويل لمجموعة محددة. لكن منذ سنوات، ظهر تحسن ملحوظ في إشراك الضحايا في النقاشات حول العدالة، حيث دعمت العديد من منظمات المجتمع المدني السوري، مجموعات الضحايا السورية، من خلال تنظيم وخلق مساحة لهم على الطاولة، وعملوا على دعم أصواتهم، عبر خلق مساحة للضحايا للتحدث عن تجاربهم ومطالبهم لبعض الجهات الفاعلة، وهذا شيء إيجابي. لكني أعتقد أنّ العديد من الممارسات المؤذية وغير الصحية لاستغلال الضحايا لا تزال موجودة، وأصبحت أكثر قوة، وما زال هناك كثير من الأمثلة على ضحايا طُلب منهم التحدث ومشاركة تجاربهم من دون إشراكهم بأهداف الحدث، ودون إعطائهم المساحة للتحدث بما يتجاوز تجاربهم والتحدث عن مطالبهم. مع الأسف، يبدو أن بعض الجهات الفاعلة تدعو الضحايا من النساء للتحدث عن تجاربهنّ كطريقة لإظهار أنهم يُضمّنون الضحايا وخاصة من النساء، من المؤكد ضرورة وجود ضحايا على الطاولة، لكن نحتاج إلى إشراكهم بصورة هادفة.
– يعتمد المجتمع المدني اعتمادًا كبيرًا على التمويل المالي في تنفيذ تدخلاته، ولا شكّ في أنّ لموضوع التمويل أهميته، غير أنه يطرح أسئلة لا بدّ منها، وفي مقدمتها؛ كيف تحققون التوازن بين أهدافكم من أيّ عمل تقومون به، وسياسات الممولين وإستراتيجياتهم؟ وهل واجهتم -بصفتكم حركة- تدخلات معينة رأيتم أنها قد تؤذي قضيتكم، أو تُعرِّضَ عملكم للفشل؟
= الرؤية الأساسية في عملنا حقوقية إنسانية، وتقوم على دعم عائلات المعتقلين وتمكينهم، ليكونوا هم المحامين عن القضية، والقادرين على اختراق الوعي العام. ويجب العمل على ترجمة القيمة إلى إنجازات عملية، وهذا بالطبع يحتاج إلى تمويل لاستدامة العمل، ولكن يجب العمل دائمًا على إبقاء التوازن ثابتًا بين القيمة والإنجاز، أن تبقى القيمة مقدمة على الإنجاز، فهي الحصان الذي يقود العربة وعكس مكانهم يُفشل سير العملية.
أتفهّم جيدًا السياسات التمويلية وصعوبتها، ونحن -كحال غيرنا- واجهنا كثيرًا من هذه التحديات، واتّخاذ قرارات من أجل تحقيق إنجازات ضمن فترة زمنية محددة، أو التركيز على فئة معينة من المعتقلين، والتي تسببت في أذية لأهل القضية. إنّ العمل الإنساني، بخاصة مع أهالي المعتقلين في قضية المختفين قسريًّا، هو عمل حساس جدًا، لأنّ التعامل يكون مع معاناة وآلام كبيرة، فكان لزامًا على الداعم والممول -من المفترض أنه يعمل من أجل أهالي المعتقلين- أن يكون أكثر دراية بكيفية الحفاظ على التوازن، بين حساسية مشاعر الأهالي وبين تحقيق أهداف المشروع في العمل الإنساني. لا يمكن فصل أدوات إنجاز أي مشروع عن الهدف الأساسي الذي قام من أجله. حتى لا ينطبق على المشروع قول الراحل محمد الماغوط، في مسرحية «غربة» “نجحت العملية لكن مات المريض”.
نحشد لمنع التطبيع مع النظام وإعادة الإعمار:
– تواتر ظهور روابط الدفاع عن الضحايا المعتقلين والمعتقلات في السنوات الأربع الماضية، وارتفع عدد هذه المجموعات في العامين الأخيرين. فما الدور الذي تؤديه هذه الروابط؟ وما أبرز التحديات والعوائق التي تواجه عملكم؟ وما أولوياتكم ومطالبكم، بصفتكم ذوي المعتقلين والمغيبين قسريًّا؟
= كما تعلمون، إنّ قضية الاعتقال في سورية كبيرة جدًا في حجمها وتأثيرها على السوريين، حيث هناك العديد من الخصائص المختلفة التي تواجهها، بناء على جنسها أو تجربة الاعتقال أو الجهة التي اعتقلتهم، لذلك من المهم وجود مجموعات مختلفة لتوجيه رسائل ومطالب محددة. إن إنشاء مجموعات جديدة هو أمرٌ جيد، لكن بشرط أن يكون قائمًا على الاحتياج أو هناك فجوة في التمثيل ستسدها المجموعات الجديدة، ويصبح مشكلة حين تكون مدفوعة بأجندة منظمات المجتمع المدني أو المموّل لتنفيذ مشاريعهم، وهذا ليس شيئًا خاصًا بالمجتمع المدني السوري، بل أيضًا يتم الدفع به من المنظمات الدولية.
أودّ الإشارة إلى أنّ التضييق على عمل المنظمات، وتقلّص مساحات عملها بعد خسارة كثير من المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، مثل الغوطة وحمص ومناطق أخرى، دفع كثيرًا من المنظمات إلى العمل على قضية الاعتقال باعتبار أنّ المجال هناك ما زال متاحًا. وفي بعض الأحيان، أصبح هذا النوع من العمل «موضة»، فكثرت الجهات التي لديها تمويل تريد أن تؤسّس من خلاله مجموعة ضحايا، وذلك من دون التفكير في استدامة هذه المجموعة والأثر النفسي على أفرادها من ناحية، والأثر العملي على القضية بخلق مجموعات غير مستدامة في الفضاء العام من ناحية أخرى. من الجيد أن تكثر أصوات أهالي الضحايا وأصحاب القضية، ولكن من المهم جدًا الاستراتيجية والآلية التي يضعونها لأنفسهم. من الضروري ألّا يكونوا جزءًا من مشروع أحد أو أداة لتنفيذ مشروع. من الضروري أن يكونوا هم القضية، وكل شيء يتحوّل إلى أدوات لخدمة هذه القضية. أضف إلى ذلك أنه من المهم بناء التحالفات بين أهل القضية أنفسهم، وتسعى دائمًا روابط الضحايا لخلق مساحة من التعاون وتأسيس أرضية مشتركة للمناصرة ولتقوية أصواتنا، ونحاول التنسيق في الجهود متى كان ذلك ممكنًا وإستراتيجيًا. ومن هنا جاءت فكرتنا في حركة “عائلات من أجل الحرية” بضرورة بناء ميثاق جامع، يكون المرجع في قضية الاعتقال في سورية، من حيث الرؤية والمطالب. وهذه الفكرة بحاجة إلى كثير من العمل الجماعي وتنسيق الجهود، وقمنا بطرحها على عدد من روابط الضحايا، فرحّب الجميع بالفكرة، وبالفعل بدأنا العمل معًا في اجتماعات متتالية منذ أكثر من عام، وقد واجهتنا بعض التحديات، لكن المؤكد أن الكل كان حريصًا على تقديم أفضل ما عنده للبناء على الفكرة وتطويرها وتحديد الرؤية والأهداف والمطالب والإستراتيجيات اللازمة لها وكيفية استخدام الميثاق ضمن جهود الحشد والمناصرة لقضية الاعتقال محليًا ودوليًا، وبذلك كان الميثاق نتاج جهد جماعي وعمل مشترك من مجموعة (حركة “عائلات من أجل الحرية”، وروابط “معتقلي صيدنايا”، و”عائلات قيصر”، و”مسار وتعافي”)، وسيتم إطلاقه قريبًا، باسم “ميثاق الحقيقة والعدالة”.
– برأيك، لماذا تراجعَ دور الهيئة العليا للمفاوضات والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية في المفاوضات مع نظام الأسد، في ما يخص ملفّ المعتقلين والمختفين قسريًّا، خاصة أنّ وفد الهيئة لم يتمكن حتى يومنا هذا من القيام بأي زيارة لسجون ومعتقلات النظام للاطلاع على أوضاعها وما يجري فيها؟
= مع الأسف، لا يخفى على أحد حالة الكلالة التي تعيشها كل الهيئات السياسية التي تمثّل الثورة والمعارضة، وذلك لأسباب داخلية وأسباب خارجة عن إرادتها، وإنجازاتها قليلة في القضايا الإنسانية الواضحة مثل (وضع المخيمات، والمساعدات الطبية، وملف التعليم، والملف الاغاثي وو…) في المناطق التي من المفروض أنها تحت سيطرة المعارضة! كلها ملفات إنسانية وتحتاج إلى دعم كبير. فما بالك بملف المعتقلين، وهو أصعب ملف في الحالة السورية.
– كيف تنظرين اليوم إلى مستقبل سورية، وفي الأفق المنظور يلوح مشروع روسي، مع وجود رغبة عربية-إسرائيلية-غربية، في إعادة تأهيل بشار الأسد ليخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة؟
= مع الأسف، المستقبل القريب ضبابي، ولكن الثابت أن عجلة التاريخ لن تعود للوراء، ولن يكون بشار الأسد جزءًا من مستقبل سورية حتى لو بقي نظامه لفترة أطول. مرّت عشر سنوات والشعب السوري يقتل بكل أصناف الأسلحة وبصمت مطبق من قِبل المجتمع الدولي. وقد فقد السوريون ثقتهم بالعالم، ومع ذلك يجب أن نستمر في العمل على إبقاء النظام السوري تحت الضغط من كل الجهات. فالضغط الذي يمارسه المجتمع المدني السوري، وخاصة في عمليات المساءلة والمحاسبة الجارية في المحاكم الأوروبية ضد النظام السوري وكل المجرمين في سورية ما زال يؤثر في زيادة عزلة النظام عن العالم. وكما تعلمون بعد سقوط الغوطة وحمص و… بيد النظام، بدأ يروج لـ (الانتصار العظيم)، ويطالب المجتمع الدولي برفع العقوبات وفتح السفارات وإعادة الإعمار في المناطق التي تحت سيطرته، وأصبح الحديث في الأجواء عن إعادة التطبيع مع النظام عربيًا ودوليًا، ولذلك وجهنا كل جهودنا في المجتمع المدني السوري للحشد من أجل منع التطبيع مع النظام وإعادة الإعمار، قبل أي انتقال سياسي يضمن إطلاق سراح المعتقلين ومحاسبة كل المجرمين. تحدثت في مؤتمر بروكسل الثالث في عام 2019، وأكدتُ أننا لن نقبل أن نكون شهودًا فقط في المؤتمرات التي تناقش قضيتنا؛ ويجب ألّا تبدأ مرحلة إعادة الإعمار إلّا بعد إطلاق سراح كل المعتقلين، ولكن بعد فترة تراجع ذلك الخطاب.
اليوم، يكثر الحديث حول الانتخابات الرئاسية في سورية، لكني لا أعتقد أنّ أميركا والدول الأوروبية ستدعم ترشح الأسد للانتخابات القادمة. ومن الآن أصدرت العديد من الدول العظمى تصريحات أكدت فيها عدم اعترافها بشرعية الانتخابات القادمة. نحن في “المجلس السوري-البريطاني” أجرينا في الشهر الماضي عددًا من الاجتماعات في الخارجية البريطانية، وأكدوا لنا أنّ بريطانيا لن تعترف بشرعية الانتخابات القادمة، لا أعتقد أنّ المجتمع الدولي سيعيد تأهيل بشار الأسد، لكنه إلى الآن لم يجد البديل الذي يرضيه ليضعه مكان بشار الأسد.
– أخيرًا، ما الذي تودّين أن تضيفيه في نهاية حوارنا معك؟
= كلّ الآلام والتضحيات بالأنفس والمال لم تقف حائلًا دون الاستمرار في أداء الواجب، ضمن الإمكانات المتاحة. ومع السعي لمزيد من العطاء بما تستحقّه المرحلة والوفاء للشهداء والمعتقلين والمهجّرين، أستمد طاقتي من إيماني بالله وإيماني بعدالة قضيتي، ومن روح إخوتي التي لم تغادرنا قط، ومن دعم عائلتي وأصدقائي والناس الذين منحوني ثقتهم. وما زلتُ أحمل في نفسي الأمل بزوال نظام الاستبداد والفساد، وتحقيق حرية سورية والتغيير المجتمعي المبني على مبدأ حق المواطنة لكل السوريين، بالرغم من صعوبة المرحلة واختلاط النضال المدني بالعمل المسلح وتبعاته الثقيلة على البلاد.
* صحافي سوري – فلسطيني
المصدر: حرمون
التعليقات مغلقة.