( الحرية أولاً ) ينشر حصرياً كتاب «من الأمة إلى الطائفة، سورية في حكم البعث والعسكر» بأجزائه الثلاثة كاملاً للكاتب الأستاذ: ’’ميشيل كيلو‘‘.. الحلقة الخامسة : الوعد والواقع
من الأمة إلى الطائفة
سورية في حكم البعث
قراءة نقدية
ميشيل كيلو
باريس ٢٠١٧/٢٠١٩
الوعد والواقع:
ـ إلى أي حد اتفقت نظرة البعث إلى الأمة العربية مع واقعها، وكم كانت الدولة السورية تشبه ذلك الكيان الانفصالي/الرجعي، الذي لطالما أدانه عفلق وتوعده وطالب بالثورة عليه؟. هل كان الشعب متماهياً مع فطرة ثابتة سكنته منذ اقترن الاسلام بالعروبة، واجتمع في أفراده الدين الحنيف والانتماء القومي؟. وما السر في أن معظم دعاة إحياء الأمة السابقين لـ’عفلق‘، وهو نفسه، كانوا من غير المسلمين، بينما دعا أغلب المسلمين إلى وحدة الأمة الاسلامية؟. وهل كانت الدولة، التي تأسست على يد سايكس وبيكو بعد خروج العثمانيين من سورية، دولة تعادي الوحدة العربية وتحتجز تحققها أو السير نحوها، ولا همّ لها غير تعزيز كيانها القطري: بما أن خيارها الوحيد تلخص توطيد انفصاليتها ورجعيتها؟. وهل كانت القطرية تعني فقط المحافظة على تجزئة الأمة العربية ومنع وحدتها؟. وهل كان حكام الدولة رجعيون بحكم قطريتها، المتماثلة في جميع الدول، فهي في سورية نفسها في السعودية، وفي السودان عينها في المغرب واليمن والعراق ومصر …الخ؟. وهل كانت الدولة القطرية الجهة الوحيدة التي تقرر هوية النظم، دون اي دور للشعب والمجتمع، وللعوامل الخارجية؟. وهل كان تعين الدولة بالقطرية والحكومات بنزعتي الانفصال والرجعية تعين نتيجة بسبب، فهو تعين حتمي تتطابق نتائجه في جميع الأقطار والدول، وتحول بين الدولة “القطرية” وبين أن تمتلك أي قدر مهما كان محدوداً من النزوع التقدمي أو القومي، أو المعادي للاستعمار والسيطرة الاجنبية، أو المتأثر بالإرادة الشعبية والمطالب المجتمعية، كمطلب الحرية والعدالة الاجتماعية، على سبيل المثال لا الحصر؟. وهل صحيح أن الدول القطرية كانت جميعها متساوية في بناها وخياراتها النظرية والعملية، وأنه يصح اعتبارها أسيرة واقع يتعالى على أي تباين تمليه إرادات وخيارات قياداتها وأحزابها، بما في ذلك قيادة “البعث”، المؤتمن على إنجاز المهمة التي أسندها عفلق إليه، رغم استحالة تحقيقها بسبب ما عزاه إليها من أدوار وصفات متعالية على الإرادات البشرية ونابعة من طبيعة افتراضية تتمتع بإرادة فاعلة في جميع الأحوال، ولا تنفعل بأي عامل من خارجها؟. وهل يسوغ تاريخها إصدار حكم مبرم وقطعي عليها، يجعل منها دولاً لا تلزمها بنيتها بأن تكون رجعية، وأن تلغي حرية وإرادة شعبها وحكامها، يستوي في ذلك إن كانوا شيوعيين أو بعثيين أو إسلاميين أو ليبراليين، فهم أسرى قدر لا حيلة لهم حياله، وليس بمقدورهم التدخل فيه، مهما تعارضت خياراتهم معه؟. وهل من الصحيح أيضاً أن حكام الدول العربية كانوا انفصاليين ويديرونها في فضاء يخلو من علاقات وموازين قوى داخلية، ويمتلئ بعلاقات وموازين تستجيب لهوية دولهم الانفصالية وهويتهم الرجعية، ولأهوائهم، كأن أقطارهم خلو من أي طرف سياسي أو اجتماعي يستطيع التدخل في مواقفهم، والنضال لتغييرها أو تعديلها أو التأثير فيها؟. ثم، متى كان هناك دولة على مر التاريخ اقتصرت على حكام عينوا طابعها بمفردهم؟. وهل كانت الدول العربية جميعها مصطنعة، فبركتها اتفاقية سايكس/بيكو، أم أن بعضها، كمصر مثلاً، قديم قدم التاريخ، بينما نشأ أو أنشيء بعضها الآخر في صراع ضار ومديد ضد استعمار استيطاني كالجزائر، وتخلق بعضها الآخر قبل سايكس/بيكو كالعراق وتونس والمغرب؟. في واحد من نصوصه عن الفكر القومي، ينتقد “ياسين الحافظ” فكر مؤسس البعث بسبب طابعه غير التاريخي، الذي لا يرى في المجتمعات العربية كيانات تتسم بالتراتب والتنوع والتفاوت، ويتبنى رؤية مقطوعة الصلة بواقع العرب التاريخي ماضياً وحاضراً، يسندها إلى افكار مسبقة تقفز عن حقائق التاريخ. ويلفت ياسين الحافظ النظر إلى ” أن أولوية ما هو قومي ليس ضرباً من العصبية القومية… وتكون الأمة من صنع التاريخ لا من صنع الطبيعة، وهو ظاهرة حديثة نسبياً، ويطرح مسألة التطورات الممكنة، التي ستخضع لها هذه الظاهرة في المستقبل”(24).
ـ تريد الأسئلة السابقة إلقاء الضوء على الأسباب التي جعلت الواقع يسير في دروب مجافية لرؤية الأستاذ عفلق، ولِما فكر فيه واقترحه من تصورات وخطط، لأنه لم يكن صحيحاً القول أو الاعتقاد أنه لم يكن هناك، في واقع العرب، غير طريق واحدة صاعدة حتماً إلى دولة الأمة، وأن سلوك الطريق التي اقترحها البعث هو أمر حتمي بدوره، ولا مفر من اختياره والسير فيه كطريق لا بدائل له، يحتم أن يكون تقويض الدول القائمة، وقيام دولة واحدة للأمة من مشارق الأرض إلى مغاربها، سبيل العرب الوحيدة إلى وحدتهم، التي ستحكم بالنظر على دولهم بالاندماج فيها “بسحبة” واحدة، تخلو من مراحل وسيطة، وإلا لكان المفكر القومي ومؤسس البعث قد تطرق إليها في كتاباته.
ـ لم يترك الأستاذ عفلق أي خيار للعرب غير أن يكونوا وحدويين وثوريين أو انفصاليين ورجعيين. ولم يرَ في اي “دولة” قائمة غير قطريتها. ولم يُقـر بوجود مراحل انتقالية إلى الوحدة، فالدولة العربية تبقى انفصالية، وإن اسقطت حركة ثورية/ وحدوية نظامها الرجعي، إذا لم تذهب إلى الوحدة، التي ستنقلها من بؤس الواقع إلى عالم مثالي، بما أنها لم تعد قطرية، ويستحيل أن يكون حكامها من غير الثوريين.
ـ بتساوي الدول في قطريتها وحكامها في رجعيتهم وانفصاليتهم، وبغياب المراحل الانتقالية من النظم القطرية إلى الوحدة، يغدو العمل القومي مجرد كلمات تفتقر إلى برامج وخطط يهتدي النضال الوحدوي بها. ولا تتعين هوية دولة الوحدة، التي تبدو كياناً تجريدياً ينتج نفسه كلامياً من فكرته، بما في الدولة القائمة من خصائص وظروف، بل تقطع معها قطعاً جذرياً كأنها ما تكن قائمة على الإطلاق.
ـ وقد فات الاستاذ عفلق أن الوحدة في البلدان الاوروبية جميعها ترتبت على مشروع تحديث تغييري سبقها تحقيقها، أنجزته تدريجياً وتراكمياً طبقات وفئات جديدة، قادت ما أسمته الماركسية “ثورة ديمقراطية برجوازية”، جعلت النضال من أجل دولة/ الأمة رافعة مشروع مجتمعي غطى مجالات السياسة والمجتمع والاقتصاد والأيديولوجيا والفكر والمعرفة المختلفة، واعترف بالإنسان كفرد يتمتع بحقوق يصونها القانون، وراهن على إقامة نظام دستوري حامله المواطنة والإقرار بسيادة الشعب كمصدر ومرجعية لشرعية الحكومات، وبدور القانون في حماية حقوق المواطن من السلطة، وأنجز ثورة ثقافية بدّلت مكانة الدين من الحياة العامة والكنيسة من المجال العام والمؤمنين، واعترفت بدوره في تغريب إنسان مجتمعاتها عن ذاته، التي عينتها بحريته: رهانه كفرد ومواطن، وهدف نضاله لتغيير واقعه وتحسين شروط وجوده، ونقل المجتمع إلى وضع بديل تنامت مقوماته الأولية خلال قرون، وتطلب انضاجه وانتصاره قيام نظام سياسي تتفق آليات اشتغاله وبناه مع مصالح طبقة جديدة، فرضت سيطرتها أكثر فاكثر على حياة عامة جديدة الأسس، هي البورجوازية، التي أعادت، بمساندة المجتمع، بنيته كهيئة مواطنين أحرار وعامة. هذا التطور، قوض ما كان قائما من إمارات ودويلات وكيانات قائمة، من داخلها، عبر مرحلة انتقال طويلة تنامى خلالها مجتمع جديد قاد ما تراكم فيه من تطور إلى إزالتها في البلدان، التي عرفت تطوراً فكرياً ومعرفياً وطبقياً كافياً للقيام بثورة تكسر غلاف دولته البراني، وتحرّر المجتمع “البرجوازي” منها، كما حدث لأول مرة في فرنسا(25).
ـ تتعين العلاقة، في النموذج الذي اقترحه الأستاذ عفلق، بين الدول القائمة ودولة الوحدة المنشودة بالإرادة، المرتبطة من جانبها بحتميات تمليها فطرة طبيعية ثابتة لدى العربي كفرد، والعرب كأمة، ويقتصر فعلها على سياسة منفصلة عن فاعليتهما الإنسانية والمجتمعية، التي تغطي سائر جوانب وجودهما، وعلاقة الأفراد ببعضهم وبالمجتمع والطبيعة، يتكفل نضالهم وما يحدثه من تحول مجتمعي/ سياسي بترقيهم إلى صعيد يصيرون فيه مواطني دولة تصون حريتهم، وما يترتب عليها من مساواة بين كافة الذوات المجتمعية، في ظل دولة حق وقانون تقوض نظام الفئوية والتمييز القائم، وترسي نمطاً جديداً من انتاج الوجود الاجتماعي والإنساني، أو تكون نتيجة له. بالواحدية السياسية الإرادية، المستلهمة من مقولات ومفاهيم غير قابلة للتعيين الملموس كالروح الخالدة، والشخصية العربية، والفطرة، تغيب الفاعلية الإنسانية، فردية كانت أو عامة، عن فكر عفلق، ويحل محلها تكليف سياسي يحقق أهدافه بقدر ما يصدر عن “البعث”، أي عنه هو شخصياً، بصفته كحزب الحاضنة الشاملة والمعيار الأوحد لموقف الانسان من وجوده، المرتبط بـ”الوحدة والحرية والاشتراكية”، وسجله عفلق في شروط تقبل التسمية ولا تقبل التعيين، لن يكون دور الإنسان فيها حراً، إذا لم يكرر في حاضره ما توقعن في ماضيه، بنعمة الإسلام، فلا عجب أن ينصب دور” البعث” على ربط المسألة القومية بقوام ما بعدي، متعال، وله من الثبات ما يحول دون خروجه من جوهرانيته: وبالتالي من هويته التي غير القابلة للتبدل أو التغيير، وتحدد إرادته وخياراته رغم ذلك بها، وإلا غاب عن ذاته وانعدمت فاعليته. غيّب عفلق عن مشروعه تلك المفردات، التي سيحولها تغييبها إلى أمة افتراضية، متخيلة قدر ما هي وهمية، أبقاها حاضرة في نصوصه كواقعة تتمتع بجميع صفات الله الحسنى، رغم غيابها عن الدور الذي أسنده إليها خلال أكثر من نصف تاريخها، بعد الإسلام، كان غيابها أثناءه مطلقاً أو شبه مطلق عن جميع المجالات، التي افترض تعسفياً أن فعلها استمر فيها، دون أن يعرج على الاسباب التي دفعته إلى قراءته الغريبة عن التاريخ والواقع، أو يبدي اهتماماً بما إذا كان السبب في ذلك يرجع إلى افتقار الفرد العربي إلى الحرية، وما يقترن بامتلاكها من وعي حركي، تراكمي وتدرجي، على صعيد المجتمع ايضاً، أو إلى دوران المجتمع في دائرة مغلقة، أعجزته عن نيل كسر الاحتجازات الداخلية والخارجية التي فككته وجعلته موضوعاً للآخرين، فقد القدرة على وعي واقعه، وتلمس بدائله، وامتلاك نخب تستطيع حشد قوى كافية لتحول ثقافي يساعد على كسر ما تراكم في واقعه طيلة قرون من ركود ايديولوجي وقيمي ومسبقات تديّنية، علق الاستاذ ـ ويا للعجب ـ بعث العرب على تجددها في راهنهم، متجاهلاً أن راهنهم تخطاها، وأنه كان عليه ربط غياب العرب عن أنفسهم بها، بدل الزعم بأن غيابها هو سبب تفككهم. نسي عفلق في حماسته لدورها المخلص أطروحته حول “حضورها” الدائم، التجريدي والمتعالي على الزمن، في فطرة النفس العربية، التي ربط “رسالتها الخالدة” بها، واعتقد أنها ستبارح حتماً عطالتها، وستفعل فعلها الثوري الوحدوي، دون أن يقدم أية شروح أو أدلة تثبت ذلك، وكيف يقدم إن كانت السمات المتعالية لروح الأمة هي حالة الطبيعة المحايثة لوجودها، بخصائصها الفريدة المغايرة لخصائص وسمات الأمم الأخرى، التي تجعل هوية العرب القومية مختلفة عن الهويات التاريخية المعروفة، وقوميتهم الروحية المصدر والمجهولة التعين بالنسبة لأتباعها، مباينة لغيرها من القوميات، المادية الخصائص، المفتقرة إلى نعمة الإسلام كفطرة تقتصر على دين العرب: مناط هويتهم ورسالتهم التي أغناها منشؤها السامي، غير الأرضي، وأبعدها عن ما تعينت به سائر الأمم الأخرى من روافع تكونها كأمم أسستها البرجوازية، بينما قومية العرب عابرة للأزمنة، أكسبها منشؤها الديني الرسالي، وقدمها، وثباتها، طابعاً لطالما تحدى السياسة ومفاعيلها، كما عرفتها أوروبا، واستمد حزب عفلق بعض تعاليه من بعثها في وعي وواقع الأمة، ومن تذكيرها بما هو ثاوٍ في أعماق روحها . يقول عفلق في نص عنوانه واجب العمل القومي: لو أردنا أن نصف هذه الأمة وصفاً مجملاً لقلنا أنها أمة عظيمة الماضي هزيلة الحاضر ومجزأة في داخلها، وتخضع لحكم الاجنبي في أكثر أقطارها، ونتج عن ذل؛ أن هذه الأمة تريد أن تتحرر من الأجنبي وأن توحد أجزاءها وتنهض من تأخرها لتستطيع تحقيق امكاناتها كلها وتسترجع هكذا رسالتها الخالدة بين الأمم(26). كيف ستفعل الأمة ذلك؟. يحدد عفلق المهام ولا يحدد كيف ستتحقق، مع أن هذا الكيف هو أساس الفكر والعمل السياسي، الذي تبّقى المهام بدونه مجرد تسميات لفظية.
ـ بالفارق بين أمة تتشكل في تطور يصنعه البشر بإرداتهم الحرة، من خلال سياق شامل يتخطى السياسة، رفض عفلق اعتماده طريقاً إلى الوحدة القومية، فبقي فهمها لديه مقطوعاً عن مقدماته التنويرية ومتمماته النهضوية، وبين أمة متعالية على التاريخ، ذات منشأ رسالي مستقل عن إرادة البشر، رغم أنه يعينها ويحكمها، كان من تحصيل الحاصل أن يعفي عفلق نفسه من التعريج على ما قاد العرب إلى عصر انحطاط مديد، تمزقوا خلاله بشرياً وجغرافياً ودولوياً واقتصادياً وروحياً، وتوزعوا أول ما توزعوا على دول تصارعت واحتربت، كما كان من المنطقي أن يكتفى باتهام الشعوبية بما آلت إليه أوضاعهم من تحولات انحدارية في الحكم وحوامله العسكرية/ البيروقراطية والدينية، وبدل أن يلقي نظرة دراسية متأنية على البنى السياسية والاجتماعية للدولة العربية/ الاسلامية، التي لم تعرف مفاهيم الفرد، والمجتمع، والقانون، والعدالة، والمساواة، والحرية، والحق الطبيعي أو الوضعي، والمواطنة، والإنسان كاسم نوع بعيداً عن صفاته… الخ، ولم يكن لأي من هذه المفردات أي دور في تنظيم علاقات حكامها برعاياهم، ولم تسهم في نقل العالم الماورائي إلى العالم الأرضي وتوطينه فيه، أو في إخراج التطور من نسق مغلق اتسم بالثبات والركود، والدوران في مسار تكراري لا يتبدل، أرضي الأسباب، ومُنبتّ العلاقة بالقداسة، يرجعه أرسطو إلى تعين الانسان بمواضعات ثانوية تشوه تعريف الإنسان بذاته الحرة التي لا يعرفه سواها، ويعيده الفكر السياسي السائد، بما في ذلك عفلق، إلى تعريفه بهذه المواضعات، ومنها انتماؤه القومي، أو الديني، أو الطبقي، أو الثقافي، أو الاجتماعي… الخ”(27). باسم الفرادة والخصوصية، عرف عفلق الأمة بواحدة من مواضعاتها، هي الانتماء القومي المتعين بعوامل ما ورائية، لا مكان فيها للإنسان الحر وتشابكاته الواقعية، التي لم تُثر اهتمامه على الإطلاق. وتمسك بتعريفه ليرفض التشابه بين العروبة والقوميات الأخرى، ويعيد هوية ووجود الأمة إلى الإسلام كمصدر استمدت ثباتها منه، وتوطن في “الشخصية العربية وروحها الخالدة”، التي آمن عفلق أن الأمة ستعود ببعثها إليه بما هو ذاتها الغائبة/ الحاضرة، وستمتلك الروافع الفكرية والوظيفية، التي يحرر استخدامها فطرة العرب الوحدوية من عطالتها التاريخية، كأنه لا علاقة لهم بالواقع التاريخي الذي احتجز فطرتهم الوحدوية المزعومة وغيبها وشتتها، فلم تعرف طيلة عشرات القرون أية فاعلية قومية، وأي مجال يستحق أن يعتبر قومياً، أو أي جهد سياسي هدفه إقامة دولة عربية واحدة، باستثناء فترة صلاح الدين الايوبي القصيرة، التي وحّد خلالها مصر وسوريا على أساس رد العدوان الفرنجي، قبل أن تتمزق من جديد تحت وطأة الصراع بين أبنائه.
ـ نسب عفلق الخروج من الاحتجاز الأمّوي إلى قوى خفية أكد مراراً وتكرارا أنها لصيقة بالشخصية العربية، من خلال آليات تصدر عن ذات أخرى متعالية وكامنة فيها في آن معا، دون أن يقارب أو يدرس كيفيات ترجمتها في الواقع، لسبب بسيط هو أنه لم يعرف ماهيتها، أو لم يفكر بأن يعرفها.!
ـ بدل متوالية ثورة ثقافية/ تبدل اجتماعي/ تغيير سياسي بتشابكاتها المتنوعة وطنياً وقومياً، وما يحملها من صراعات يخوضها ويصنعها بشر بأكثر الصور ملموسية، يتم التغيير لدى عفلق انطلاقاً من فطرة غيبية تفعل فعلها، الغامض دوماً، في بشر لا يمارسون أي فاعلية إنسانية، يكمن دورهم في الاستجابة لروح ثورية فيهم، يذكرهم البعث بها من خلال بث روحه في جيل جديد يتولى تجسيدها في دولة/ أمة. هكذا، يطلب عفلق من ثابت إيديولوجي قاوم التغيير على مر تاريخ هزائم وانهيارات عربي مديد، أن يكون قوة تغيير ثوري، ويتجاهل في كل ما كتبه دوره المستمر في مقاومة التغيير، لاعتقاده أن “الشخصية العربية” ستقوم بالمهمة، بما أنها تخترق العرب لمجرد كونهم عرباً: عمالاً كانوا أو برجوازيين صغاراً أو اقطاعيين أو رأسماليين، رجالاً أو نساءً، أطفالاً أو شيوخاً، متعلمين أو أميين، وتحملهم إلى دولة الأمة، وإن لم يكن لهم مصالح وأهداف موحدة من قيامها، أو كانت أهدافهم ومصالحهم تتناقض مع أهداف ومصالح غيرهم من أبناء عمومتهم وإخوتهم. لم يقر الأستاذ بدور هذه المواضعات الملموسة، أو بإمكانية أو احتمال أن تكون موجودة، ولها تأثير ما على فطرتهم ! .
ـ كيف ستمّحى الفروق بين العرب، وما هي البرامج التي سيتبعونها ليلاحقوا هدفاً واحداً يعلو على أي هدف آخر؟. الجواب: هذا شغل فطرتهم. ولكن ما هي فطرتهم، الفاعلة وعديمة الفاعلية في آن معاً، والمحايثة رغم ذلك لوجودهم في جميع حالاته: في الهزيمة والنصر، الوحدة والتجزئة، دولهم المستقلة والمستعمرة، مع أنها فارقتهم منذ قرون؟. لا جواب!.
ـ غابت مفردات المشروع التحديثي، وغاب أساسه الشعبي عن رؤية “البعث”، وحضرت مطالبه، التي ربط تحقيقها بمقومات عصية على التعيين السياسي أو الفكري الملموس، لكنه أكد أنها كامنة في النفس العربية، وستفضي إلى وحدة العرب الحتمية، بمجرد أن تتفعل، ولأن ما يتفرع عنه من مجريات لا يمكن أن يكون غير قومي في جوهره، ولن ينبثق عنه أي شيء آخر غير الوحدة، بمجرد أن يتبناه الجيل الجديد، البعثي، الذي سيوطن الوحدة في بيئة اندماجية مصحوبة بالحرية والاشتراكية، بقوة حتمية لا راد لها. هكذا، لا يمكن لحركة الواقع، ولما يلازمها أو يستبقها من أفعال بشرية، أن تكون غير انعكاس خارجي ولا إرادي للفطرة القومية، التي تنبثق عنها . بهذا الفهم، يرى عفلق للسياسية وظيفة واحدة هي تذكير العرب بفطرتهم، وتحريرها من معوقات القطرية والتجزئة. ويقصر وظيفة “البعث” على إعداد جيل جديد سيتولى إزالتهما. بكلام آخر: ليس جرد الواقع القائم معرفياً، وكشف ما يتسم به من خصائص ومسارات تحفزه أو تكبحه، مهمة الحزب الرئيسة، فالسياسة ليست هنا، إنها في تفعيل فعل الفطرة في البشر، الذي لا حاجة لأن يسبقه وعي تنتجه ثورة ثقافية من النمط الذي عرفته الثورات العالمية، ويحتاج إليه العرب أكثر من أي شيء غيره، ما دام ما قاله عفلق عن الرسول العربي في ذكرى مولده، وعن راهنية الاسلام في وعي العرب، هو ثورته الثقافية التي ستقوض الوعي والواقع القطريين، وتنفرد بكونها ثورة شاملة تبعث الماضي في الحاضر، وترفض شطره إلى ثورتين: واحدة في الوعي وأخرى في الواقع، فالوحدة هي ثورة العرب وحاملة الحرية والاشتراكية، ولن تكون هناك ثورة قبلها في ظل القطرية وطبقتها الانفصالية/ الرجعية الحاكمة، ولن تقوم ثورة بعدها، على أي صعيد سياسي منفصل أو مستقل عن فعل الفطرة بمساراته الخفية، وبما تمنحه “للبعث” من حصانة تحول دون انجراره إلى تسويات وحلول وسطاً مع الواقع القطري.
ـ هذه الجوانية المحايثة للشخصية العربية، الكفيلة بإنجاز الوحدة على صعيد الفطرة كشرط لإنجازها على صعيد الواقع، تقابلها في رؤية عفلق برانية تعبر عن نفسها في ما تؤسسه من تناف ماهوي بين الجزئي (الدولة القطرية) والكلي (دولة الأمة)، ومن رفض للجزئي كشر مطلق تعيش دولته وتمارس وظائفها الخيانية بقدر ما تجعل الكلي افتراضياً، وتحتجز قبوله والانصياع له كقوة روحية ذات رسالة، بها وحدها خروج العرب من موتهم القطري، وتحولهم إلى حال وحدوية تتفق وفطرتهم كأمة خالدة الرسالة، أنتجتها إرادة ما فوق وما قبل سياسية، تسقط الشخصية العربية إن استبدلت الكلي/المتعالي بما في واقعها من جزئي وقطري، ولم تتذكر أنه لن تستقيم في غيابه حال العرب جماعات وأفراداً، وسيتخلق بحضوره فيهم خيارهم الطبيعي/ التاريخي: ما فوق وما قبل السياسي، ليتجهوا عندئذ إلى حيث تريد الفطرة لهم أن يذهبوا: وحدتهم القومية. أمِنَ المبالغة الوقوف هنا عند مفارقة تتسم بقدر كبير من الغموض هي التالية: إذا كانت القومية فطرة الشخصية العربية المتعالية، التي يمتزج فيها الديني بالدنيوي وبالعكس، ما الذي أدى إلى تفكك الدولة العربية/ الاسلامية، وحال دون استعادتها طيلة عشرة قرون ونيف؟ أهو نقص في الفطرة وعيب في الشخصية، أم أن الدولة القطرية أقوى منهما، ونجحت في تعطيلهما؟. اليس الايمان بالفطرة والبناء عليها خطأ كالاستهانة بالدولة القطرية، التي لن تسقط بسياسة باعثها وحاملها الفطرة، بل ببرامج وخطط، ظلت غائبة عن عفلق، تبني وعياً مطابقاً يفضي تفعيله إلى تغيير تراكمي، أي تدريجي، حافل بتوسطات إن انقطع خيطها فقدت السياسة القدرة على بلوغ أهدافها، وأضاع النضال طاقاته التغييرية في صعيديهـا الذاتي والموضوعي.
ـ يقول الراحل ياسين الحافظ عن المعطيات الأيديولوجية والسياسية للنظرة البورجوازية الصغيرة إلى القضية القومية : “إن البورجوازية الصغيرة اذ نفت تاريخية الأمة مذهبت الواقعة القومية وحولتها إلى أيديولوجيا كاملة، لذا، فإن تأكيدها على الحقيقة القومية لم يعد وسيلة لتلمس خصائص الحركة القومية في سيرها الواقعي وتطورها الملموس، وأداة لرؤية ما هو خاص ومباشر وعياني في الواقع القومي، بل أصبح وعياً زائفاً للواقع الموضوعي، وأفكاراً منعزلة تتناسل ذاتياً وبطريقة مجردة لتقطع كل آصرة لها مع الواقع الحي المباشر…وإذا كان ممكناً الحديث عن قيم حضارية لهذا الشعب أو ذاك، فإن هذه القيم ليست قيم نمطية انسلت من روح خالدة ذات خصائص مطلقة وثابتة، بل هي تعبير عن معاناة تمت خلال فترة تاريخية معينة… وعلى هذا الأساس فإن الخصائص القومية ليست سجايا روح أزلية ثابتة وخالدة تهبط على الواقع الاجتماعي في شتى مراحل تطوره، بل هي تتولد وتتكون وتتبلور عبر التطور التاريخي”(28).
ـ ماذا يربط فهم عفلق بالمشروع الذي تحقق بأشكال متنوعة في تاريخ أوروبا الحديث، وأدى إلى تأسيس الدولة/ الأمة في سياق تطور متشعب طال علاقات الإنسان بنفسه وبالطبيعة والمجتمع، ومر بتحولات متعددة المستويات، انطلقت من المجتمع أو ارتدت إليه، أو عكست تبدل المجال السياسي أو انعكست عليه؟. ألم تستبق الوحدة في تجارب أوروبا ثورة ثقافية كانت هي المرحلة الأولى من ثورة مجتمعية شاملة، انتقلت بعد تراكم متشعب غالباً ما كان بطيئاً إلى المجال السياسي، في توجه ذهب من الديني والأيديولوجي إلى النهضوي والتنويري، والفكري والفلسفي، وصولاً إلى المجتمعي/ الثوري، الذي أنتج دولة/ الأمة كمؤسسة سياسية من نمط جديد، لمجتمع جديد استند نظامه على المواطنة كعلاقة قانونية ملزمة للدولة والفرد، وارتبط بتبني مدونة كاملة عن حقوق الانسان والمواطن، أنتجها تطور انقلابي طال السياسة مفاهيماً وممارسات، بينما تجاهل الفكر البعثي حقوق الإنسان كرافعة وحدوية، وعندما تولى أتباعه السلطة ألغوها تماماً، في سياق تخليهم التام عنها وعن النهج القومي برمته.
ـ باعتماد الاستاذ عفلق نهجاً معاكساً، الحق الدنيوي بالديني، وذوّب الواقعي بالمتخيل، والمدني بالطبيعي، كان من الحتمي أن يغفل عن حقيقة السياسة كسيرورة انتقال من حال الفطرة إلى حال المدنية، ويعين المجال السياسي وعلاقاته الشديدة التعقيد بموميائية ماضي ركودي فات زمان أحكامه، وكان من الطبيعي أن يفشل في إعادة إنتاجه كماضٍ مفتوح على الحاضر، لافتقاره إلى المفاهيم والأدوات الضرورية لصناعة تاريخ بأيدي البشر ولهم، لا يتوقف عند ما مضى وانقضى بما هو ماضٍ فقط، لاستحالة العودة إليه من جهة، ولان العالم الحديث أعاد من جهة مقابلة إنتاج الدولة واكتشف المجتمع والطبقة، واخترع الفرد والحرية والمواطنة والقانون والدستور والمجتمع المدني والعدالة والمساواة… إلخ، وجعل تملكها فكرياً وفي الممارسة ضرورياً لتشكل المجتمع القومي والأمة وتفاعلهما الإيجابي مع العصر، من جهة مقابلة؟.
ـ لنقل العرب من القطرية إلى الوحدة، لا مفر لدى الاستاذ الراحل من إحداث قطيعة مكتملة الأركان بين مستويين يعتبر فصلهما مستحيلاً، إلا إذا كان يمكن إلغاء أي أثـر للمجتمع القديم في الجديد، وقطع صلات المجتمعين القومي والقطري حتى كحالتين افتراضيتين. ليجعل القطيعة ممكنة ومقنعة، صاغ عفلق مجتمعين متناقضين ماهوياً، اعتمدهما قبلياً في بنائه المفهومي عوض كشف بناهما وآليات اشتغالهما، وسبل إعادة إنتاجهما، وما يترتب على تطابقهما وتنافرهما من خصائص وسمات تتنوع بتنوع تشابكاتهما المتناقضة ومساراتهما المتبدلة.
ـ الفطرة لدى عفلق هي الفطرة. إنها تعرف ذاتها بذاتها، ولا تحتاج إلى تعريف من خارجها، شأنها في ذلك شأن القطرية، التي هي القطرية، والقومية التي هي القومية، والروح العربية التي هي الروح العربية، والرسالة الخالدة التي تبقي دون تعريف أو تحليل يفصح عن معناها ووظيفتها كرسالة خالدة … إلخ. بما أن القومي هو نقيض القطري ونقضه، فإن من غير من المعقول أو المنطقي أن يلغيه ويحمل في الوقت نفسه صفاته، كلية كانت أو جزئية، خاصة إن تجاوزه بالحرية والاشتراكية. ذلك، يجعل انتكاس القومي إلى القطري، ودولة/ الأمة إلى دولة القطر، ضرباً من الاستحالة، فالتجاوز هنا واحدي الاتجاه، وليس قابلاً للإرجاع، وينجح بما يحدثه فيه من قطع ماهوي يشمل جميع جوانبهما وتجلياتهما، ويرتقي بالمجتمع والدولة إلى نمط من الوجود يتماهى مع فطرتهما، ويقودهما من الأدنى إلى الأعلى، ومن حال القسر إلى فضاء الحرية، ومن الضعف إلى القوة، ومن التأخر إلى التقدم، ومن التناحر والانقسام إلى الانسجام والاندماج، ومن وضع كان المجتمع فيه محكوماً بتناقضه العدائي مع القطرية إلى وضع تجسده دولة الأمة أكمل تجسيد. في هذا المسار التجريدي غير العقلاني، الذي يفصل سيرورة التوحيد القومي عن ما عداها من مسارات اجتماعية/ اقتصادية اجتازتها مجتمعات غادرت للتو أربعة قرون حكم سلطاني/ عثماني، وربع قرن انتداب فرنسي، يحدد عفلق كل أمر انطلاقاً من الوحدة كسيرورة تتعين، وتعين ما عداها، بذاتها، وليس بأي شيء خارجها أو سواها، دون أن يتطرق إلى طرق ووسائل بلوغ هذا التعين، أو إلى ما يتحدد به من تطور يجري خارج أو داخل سياقه المباشر.
ـ بهذا التقييد، يصير الصراع على الوحدة حزبياً، وتخوضه أحزاب تؤيدها وأخرى تناهضها بمعونة ما لديها من تنظيمات انقلابية، بعيداً عن أي دور غير سياسي، ثقافي أو اجتماعي أو اقتصادي، داخلي أو خارجي، وأي إسهام للمجتمع كطرف يمكنه المشاركة في التوحيد القومي من خلال فاعليات مباشرة تنصب على المجال العام وتدور فيه، تؤول في محصلتها النهائية فقط إلى سياسة يمارسها من موقعه ككيانية مستقلة نسبياً عن أحزابها وسلطات دولتها، تمتلك خبرات راكمتها وظلت ماثلة في وعيها الجمعي، وكثيراً ما استعانت بها في مواجهة مشكلاتها، واستقلت مواقفها نسبياً عن مواقف الاحزاب والنخب الناشطة في بلادها، كما أكدته وحدة سوريا ومصر عام ١٩٥٨، التي نسبها “البعث” لسياساته وجهوده، لكنه ما أن ارتد فيما بعد عليها، حتى نبذته الجماهير، التي لو كانت موالية له لما تمسكت بالوحدة، وعزلته وطنياً، واحدثت ندوباً عميقة فيه لم يبرأ إطلاقاً منها.
ـ غاب المجتمع عن منظور عفلق، لأسباب بينها سياسوية وماضوية نظرته، وتبنيه مقولات ومفاهيم غيبية نافية للسياسة، وافتقاره إلى مشروع تحديثي شامل يقيم دولة الأمة في شرط تاريخي مغاير للشرط الضروري لقيامها، وينهض على أسس فات الأستاذ عفلق إدراك أهميتها بالنسبة لأي تحول قومي، يكون توحيد العرب سياسياً إحدى مهامه، ونتيجة من نتائجه وليس العكس. بالنسبة لعفلق، كان الصراع من أجل الوحدة مجرد صراع أفكار وأحزاب، وليس شأناً تشارك فيه فئات المجتمع المتنوعة، لذلك تجاهله، رغم أنه كان وسيبقى دوماً خيارها المتفاعل مع ما في الواقع من فرص، والفكر من خيارات، لا تقتصر بأي حال على النضال ضد قطرية الدولة ورجعية نظامها، بل تتخطاهما بإدراجهما في سياقات واسعة من طبيعة ثقافية وفكرية، سياسية واقتصادية ومجتمعية، مع ما يحدثه ذلك من تبدل في مكانة ومواقع فئات وطبقات المجتمع، التي يُخرج دورها الصراع الوحدوي من إطاره النخبوي محض السياسوي، ومن المصادرات المفهومية المستندة إلى معطيات تلغي الإرادة والوعي الثوريين لصالح إرادة تمليها فطرة افتراضية، ليس لها ارتدادات فكرية ملموسة في واقع ووعي الأمة، وتستبدل نضال المجتمع بصراع حزبي تخوضه أقليات حزبية بالنيابة عن المجتمع المُغيب، الذي يمثله “البعث” بما يصدر عنه من مواقف لا يأتيه الباطل، لمجرد أنها غائمة، ولا يستطيع أحد تعريفها، أو رفضها في الوقت نفسه، لأن من يرفضها سيجد نفسه في مواجهة المتدينين قومياً وإسلامياً، ولا وعيهم الجمعي، الذي لا يغامر بالتصدي له مناصرو حزب شعبوي يريد أن يكون جماهيرياً، ممن يتحاشون دحض أو استفزاز ما يريدون إحياءه من شعور ديني قومي العائد، أو شعور قومي ديني المنشأ.
ـ أخرج عفلق الوحدة من الممارسة وأدخلها في الفطرة، لشدة اعجابه بالإسلام كدين فطرة، ورغبته في جعل الفكرة القومية ديناً بعثياً حافلاً بمحرمات تحصنه ضد المقاربات النقدية وتلمُّس بدائل له. هل يفسر هذا سبب افتقار كتابات عفلق إلى دراسات حول ما بنى رؤيته عليه: الأمة العربية، تعريفها وهويتها، تاريخ تشكلها وعوامل تجددها، أوضاعها الملموسة وخياراتها الممكنة في الواقع العربي الممزق والمتأخر، وما تركه التاريخ فيها من تجارب، تجزئتها وأسبابها، آليات انتقالها إلى وحدتها، الشخصية العربية والرسالة الخالدة… إلخ. لم يقم الاستاذ بشيء من هذا، رغم أن “الأمة” بقيت رهانه الوحيد، ولعله لاحظ هذا القصور، فاستعاض عن دراسة الأمة بفيض من الصفات التي أطلقها عليها، وتذكّر بصفات الله الحسنى!.
ـ غابت أيضاً جوانب رئيسة من سيرورة الحداثة، الفائقة التعقيد، عن حزب مثل قطاعات من الفئات الوسطى المتعلمة. وغاب ما تطرحه هذه السيرورة من مهام على المجتمع وتمثيلاته السياسية، من المؤكد أنها تتخطى في مجتمعاتنا ما عرفته التجارب الأوروبية من مصاعب وتعقيدات، بسبب الفارق بين تبلورها التدريجي والشامل هناك، الذي دار بصور رئيسة على أصعدة عابرة للسياسة كفاعلية إجرائية ويومية، وأعطى الأولوية لتحرير المجتمع من سيطرة المؤسسة الكنسية على الحياة العامة، وحياته الخاصة بالتالي، وحرر الفكرة القومية من الغيبيات اللصيقة بها، بما حققته هاتان الخطوتان من ترقية للمجال السياسي بتكويناته المتنوعة، ومن قطع للتطور الدوراني، الذي أسهم تلاشيه التدريجي في ارتقاء الفكر الحر والفلسفة، وما أنتجته مباشرة أو بصور غير مباشرة من رؤى وأفكار سياسية جديدة، لذلك، لم يكن من قبيل المصادفة أو أمراً قليل الشأن أن تتلازم نهاية الحروب الدينية في أوروبا، التي دارت بين الكاثوليك والبروتستانت، ودامت من عام ١٦١٨ إلى عام ١٦٤٨، مع القطيعة الجذرية لتداخل الدين مع السياسة، والسياسة مع الدين، وأن توضع أسس الدولة الحديثة، التي تعلمنت، وبنت الوحدة القومية ودولة الأمة، أو جعلت تحقيقها هدفها، في حين جعل عفلق من المستحيل أن تلعب الدولة القائمة دوراً في الوحدة، بذريعة قطريتها، ولم يقارب هذه الاشكالية، وأسلم أمر الأمة والتطور الأمّوي لفطرة متخيلة لصيقة بـ”شخصية عربية” لا وجود لها، قيدت الفعل الأمّوي بدل أن تُطلقه وتُحرره من قيوده، التي جلبها الاستاذ الراحل من الماضي إلى الحاضر، لتكون رافعة “العمل القومي”، بدل أن يخرجها هي أيضاً منه.
ـ رغم أن عفلق والبيطار أدركا أكثر من غيرهما أهمية الوحدة بالنسبة للتحرر من الاستعمار والطبقات المستغلة والرجعية، فإن قصر العمل لإقامتها على مجال سياسي شديد الضيق، تنشط فيه أحزاب قليلة العدد، محدودة القدرات، غيّب معظم ما كان ضرورياً لتحديث السياسة كمشروع تاريخي شامل، تقرر جميع دروبه إلى دولة الوحدة كضرورة تاريخية تجسدها الإرادة العامة لأمة تغدو منطلق ومآل أي تحديث يطال حقل السياسة بما هو حقل مجتمعي بالدرجة الأولى، ويتجاوزه إلى المجال العام، الذي غاب في فكر عفلق كمنظومة تغطي تفاصيلها سائر الفعاليات الإنسانية، وأحضره كألفاظ عتمت ما تحدثت عنه أكثر مما أضاءته، كتعريفه القومية بـ”حب قبل كل شيء” و”قدر محبب”، وقوله إن “البعث العربي موقف إيجابي” و”حركة تاريخية” و”إرادة حياة”، و”انقلاب” … إلخ، واعتباره الاشتراكية العربية “اشتراكية علمية زائد روح”(29). هذا الميل إلى القفز عن الواقع وقضاياه الملحة، والذي تبينت فداحته وظهر عجزه بعد انهيار الوحدة السورية المصرية، لم يكفي لمعالجته الانتشاء لنزعة قومية تكتفى بإعادة إنتاج الماضي في الحاضر، بوصفه ماضٍ مستقبلي!. يقول عفلق في مقالة كتبها عام ١٩٥٠ بعنوان “معنى الرسالة الخالدة”: “إن القيم التي نتغنى بها ونعرف معرفة سطحية جامدة أن جدودنا الأبطال قد مثلوها… ثم نعجز عن تحقيق جزء بسيط منها في حياتنا، علينا أن نستكشفها من جديد، وهذا هو معني التقدمية التي تظهر للعقول القاصرة بأنها تنكر التراث القومي والأخلاق القويمة، بينما هي في الحقيقة وصول صحيح إلى القيم الحقيقية الكامنة في النفس العربية، والتي لا يمكن أن ترجع إلينا من نفسها دون أن نتعب ونصعد إليها، وأن نشعر بأننا ولدنا ولادة جديدة واكتشفناها اكتشافاً جديداً”(30). بهذا الافتراق عن الواقع والانغماس الكلامي في القيم الحقيقية الكامنة في النفس العربية، انتقل عفلق من نزعة محافظة إلى أخرى رجعية، أدانت الانحراف عن قيم الأجداد، وأضفت على الماضي راهنية جزم بحتمية وضرورة الانطلاق منها إلى المستقبل، بينما تقوم الحداثة على اختراع القيم الضرورية للانفكاك عن كل ما يعيق في الارتباط بالماضي تخلق الحاضر بشروطه الخاصة، وخاصة تلك التي يكبح الرجوع إليها التقدم، لأسباب منها أنه يستهلك الطاقات في ما يستحيل تحقيقه، ويقوض ما هو ضروري من فكر ومعرفة لمواجهة مشكلات الحاضر، التي تعوق تخلق المستقبل فيه.
ـ يُعرف عفلق الرسالة العربية بأنها: “ايمان قبل كل شيء… فالحقيقة العميقة الراهنة هي أن الإيمان يسبق المعرفة، وأن من الأشياء ما هو بديهي لا يحتاج إلى براهين ودراسات، لأنه يدخل القلب ويمتلك العقل دفعة واحدة… فالرسالة شيء ملازم للأمة… والقصد منها أن لا تعترف هذه الأمة بواقعها السيء، وموقفها المنفعل، ولا تتنازل عن مرتبتها الأصلية بين الأمم، بل تصر على أنها لا تزال هي هي في جوهرها… هذه الأمة التي تستيقظ اليوم وتتحفز للنهوض ليست بنت اليوم، بل هي نفسها قبل ألف وقبل ألوف السنين… هذه الأمة التي أفصحت عن نفسها وعن شعورها بالحياة إفصاحاً متعدداً متنوعاً في تشريع حمورابي وشعر الجاهلية ودين محمد وثقافة عصر المأمون، فيها شعور واحد يهزها في مختلف الأزمان ولها هدف واحد بالرغم من فترات الانقطاع والانحراف”(31).
ـ غاب المشروع السياسي/ المجتمعي الثوري الشامل، الذي لن تتحقق وحدة العرب إلا في سياق انجازه، ولن تتوقعن بالانفكاك عنه، أو بالعودة إلى جوهر مُحايث لأمة ظل ثابتاً طيلة ألوف السنين، فغابت أسئلة إعادة إنتاجها كأمة راهنة، من عصرها ولعصرها، وغابت أيضاً الأفكار الملائمة لابتداع خطاب قومي يفك احتجازه الماضوي، ولذلك، لم يتمكن خطاب عفلق القومي من التصدي للتجزئة عبر برنامج تتضمن خططاً إجرائية يستحيل بدونها بناء دولة الأمة. وغابت أيضاً السياسة كتوسطات تحدد وتضبط انتقال الفكرة من حيزها التأملي إلى الواقع الملموس، لتحقق النتائج المطلوبة استباقياً منها. وغابت أخيراً موازين القوى الكفيلة بإنجاز هذا الانتقال، وتماهت الحالات القطرية، رغم تطور المجتمعات العربية الشديد التباين من مجتمع لآخر، وتفاوت أدوار بلدانها وحكوماتها واحزابها.
ـ للتذكير: انقسم المجال السياسي، الحزبي بالأحرى، في تصانيف عفلق، إلى شياطين قطريين وأخيار قوميين، يقود الأولين الاستعمار والرجعيون الانفصاليون، ويلهم القوميين ويقودهم “البعث”، في صراع بين الخير والشر، تعبر عنه مفردات وأحكام الأستاذ الدينية والمؤدلجة.
___________
هوامش:
(24). ياسين الحافظ: حول بعض قضايا الثورة العربية . دار الحصاد، دمشق ١٩٩٧ ، الصفحتان ٤٨و٤٩.
(25). فريدريك بلوش و ستيفانه ريال: الثورات الفرنسية، دار فايار ١٩٨٩، بالفرنسية، الصفحات ١٨١/ ١٨٣.
(26). ميشيل عفلق، في سبيل البعث، واجب العمل القومي، الجزء الأول، الصفحة ١٥٧.
(27). ارفينج فيشر: هل كان هيجل فيلسوف الدولة البروسية ، كتب رورورو ، برلين ١٩٦٤، ص ٣٤.
(28). ياسين الحافظ: بعض قضايا الثورة العربية ، الاعمال الكاملة، دار الحصاد للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية ١٩٩٧، الصفحتان ٥٠/٥٢.
(29). في سبيل البعث ، الجزء الرابع ، البعث اشتراكية عربية زائد روح، الصفحة ٤٠٩ .
(30). المرجع ذاته ، معنى الرسالة الخالدة ، الجزء الأول، الصفحة ١١٢.
(31). ميشيل عفلق :حول الرسالة العربية، الجزء الأول، الصفحة ذاتها.
………………..
يتبع.. الحلقة السادسة: (بين القطري والقومي، وعفلق والسياسات الدولية، وعفلق والواقع العربي)
«ميشيل كيلو»: كاتب وباحث ومحلل سياسي سوري
التعليقات مغلقة.