الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

 الفلسفة والسياسة

عائشة زكري

ما علاقة الفلسفة بالسياسة؟ سؤال استنكاري طرحه علي أحد الزملاء الأعزاء وهو في حالة من الغضب والغليان يصعب وصفها بكلمات مقتضبة, وبقدر ما لم يكن ينتظر مني الإجابة على سؤاله هذا, كان غضبه وحركات يديه قد قررا وبشكل قطعي انعدام هذه العلاقة . ولم تغب عني, في تلك اللحظة, الخلفية المحركة له من وراء طرحه لهذا السؤال, و كذلك السياق العام الذي انبثق عنه, وبطبيعة الحال لم أشعر بالاستغراب لأنني بقدر ما كنت أعرف جيداً المرامي والأهداف من وراء طرحه لهذا السؤال كنت أرفض إنكار الحقيقة التي يؤكدها التاريخ والتراث المعرفي الإنساني . لكنني تأسفت كثيراً لإنزال النقاش السياسي إلى هذا المستوى من الانحطاط بدل إقراع الحجة بالحجة, وربط الحوادث بملابستها, والبحث عن كل المسببات, وأيضا الدسائس التي قد تنزلق أحيانا في ثنايا الأحداث والظواهر .

حقيقة يصعب اتخاذ المواقف في حالة الهيجان والانفعال, لكن أن يصل المرء إلى إصدار الأحكام الزائفة والقاسية, وإنكار حقائق ساطعة سطوع الشمس في واضحة النهار, هذا هو بالضبط ما يحز في النفس تاركاً جروحاً و وآلاماً عميقين .

زميلي العزيز أتوجه إليك بجوابي هذا .

نعم لقد ارتبطت الفلسفة بالسياسة منذ القرن السابع قبل الميلاد, أي منذ ظهورها على يد الإغريق كنظريات عامة شمولية تحمل رؤيا وتصورات معينة للوجود والفكر والمعرفة والقيم بما فيها المجتمع والدولة (المدينة) . ولنبدأ بأفلاطون (على الرغم من أن هذه العلاقة وجدت أيضاً عند سابقيه مثلا سقراط…) . لقد صاغ أفلاطون أفكاره بشكل متناسق ومنسجم في إطار ما سمي بنظرية المثل, وكان حريصاً على صياغة هذه الأفكار والتصورات من خلال منظور سياسي واضح, هذا المنظور الذي كان هو المنطلق والغاية, ومن هنا أكد في محاورة (الجمهورية) على ضرورة وجود الفيلسوف الحاكم لتخليص المدينة من الشر, ذلك أنه لا يمكن أن يصلح لتسيير المدينة- الدولة إلا الفيلسوف لأنه يمثل العقل, وهو وحده القادر على إدراك الحقيقة .

ولقد سار على نهجه الفلاسفة المسلمون وأخص بالذكر هنا أبو نصر الفارابي في كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة) متبنياً نظرية الفيض, مؤكداً أيضاً على فكرة الفيلسوف الحاكم لأنه يمثل العقل والعاقل والمعقول في آن واحد, وبالتالي إدراك الحقيقة في شموليتها, مشيراً إلى كون هذه الخاصية تتحقق أيضاً في النبي, لكن بما أن زمان النبوة قد مضى وانتهى لذلك لا تصلح أحوال الأمة إلا على يد الفيلسوف ممثل العقل .هذا كله يوضح التأكيد على ارتباط الفلسفة بالسياسة ارتباطاً قوياً, وأنه لا تصلح أحوال الأمة إلا على يد الفيلسوف .

واستمرت هذه العلاقة عند الفلاسفة على مر التاريخ حيث مارسوا السياسة من خلال الفلسفة, وبالتالي عملت الفلسفة على تحديد وتوجيه تصوراتهم السياسية .

وإذا انتقلنا إلى القرن 16 و17 الميلادي حيث تطورت الفلسفة في مسار آخر لكنها لم تفقد الصلة نهائيا بالسياسة, وهنا نتذكر جان جاك روسو, وتوماس هوبز وجان لوك وغيرهم من الذين حاولوا إنقاذ بلدانهم من الحروب والفوضى والصراع الديني الذي كان طاغياً بين الجميع, فوضعوا نظريات لكيفية تأسيس دولة آمنة يتعايش فيها الجميع, وينعمون فيها بالأمن والسلام, من هنا وضعوا نظرية العقد الاجتماعي التي يفترضون فيها أن الناس انتقلوا من حالة الطبيعة الخالية من أية سلطة أو نظام إلى حالة المجتمع وذلك بواسطة عقد أبرموه فيما بينهم محددين أشكال الحكومات الممكنة, كما أكدوا على ضرورة وضع قوانين تنظم العلاقات فيما بينهم .

وعلى الرغم من أن تصورات هؤلاء الفلاسفة المشار إليهم سابقاً هي تصورات مثالية منطلقة من مقدمات عقلية نظرية, لكنها تعبر عن اهتماماتهم ومساهماتهم السياسية القوية كفلاسفة استوعبوا مشكلات عصرهم وساهموا في حلها .

وإذا انتقلنا إلى فلسفة عصر الأنوار مثلا مونتسكيو, فولتير… وغيرهم نلاحظ تأثيرها الكبير على الفكر السياسي الفرنسي والإنجليزي وغيرهما لأن هدفها كان تنوير العقل الغربي ومحاولة محو ظلام القرون الوسطى, فانتقلوا من تصحيح العقل وتنقيته من شوائب الخرافة وتوجيهه نحو الفكر العلمي المنطقي من أجل بناء دولة الحرية والعدالة .

وإذا انتقلنا أيضاً إلى القرن 19 نجد الفيلسوف الألماني العظيم فريديريش هيجل الذي أعطانا نظرية قوية في منشأ الدولة وتطورها, حيث كانت فلسفته السياسية مبنية بشكل عقلاني متماسك وتعكس الصراع السياسي الذي عرفته أوربا بشكل عام آنذاك .

وحينما نصل إلى كارل ماركس وفريديريك إنجلز وفلاديدمير لينين وغيرهم من الفلاسفة الماركسيين نجد أن كل أعمالهم تؤكد على ربط الممارسة السياسية بالفلسفة من حيث التنظير للمجتمع والدولة والتاريخ والاقتصاد حيث انطلق هذا التنظير من رؤيا فلسفية مادية جدلية لا يتسع المقام للتفصيل فيها. .

وهكذا إلى أن نصل إلى الفيلسوف الألماني المعاصر هابرماس الذي ربط إنتاجه الفكري بمواقفه السياسية والاجتماعية محاولا إعطاء نموذج جديد للمواقف السياسية بواسطة «نظرية التواصل» مؤكداً على دور الوعي المشترك بين الأفراد في تأسيس هذا التواصل .

هكذا لم تنقطع علاقة الفلسفة بالسياسة نهائياً على مدى تطور الفكر الفلسفي والفكر السياسي معاً فالعلاقة بينهما كانت دائماً ولا زالت علاقة وطيدة . إن الفلسفة كانت أم العلوم, وعلى الرغم من عملية استقلال العلوم عنها والتي تمت ابتداءً من القرن 17م لكنه استقلال لم يقطع حبل الاتصال بينهما بشكل نهائي . إن الفلسفة تفكير عقلاني, منطقي, منهجي ,شكي, شمولي عمومي, وغائي أيضاً, أي أنه يهدف دائماً إلى تحقيق غاية ما داخل المجتمع من وراء الإطار المعرفي الواضح والجلي, وهذه العمليات العقلية تدخل في صلب التفكير السياسي أيضا, وتظهر في الممارسة السياسية, أي في اتخاذ القرارات المختلفة من أجل الحفاظ على استقرار المجتمع وتنظيم العلاقات بين الناس عن طريق رسم الحدود ووضع القوانين التي تحول دون اعتداء القوي على الضعيف مثلاً, وبالتالي تمكن من تثبيت مبدأ الديموقراطية كمطمح أساسي لشعوب العالم .

زميلي العزيز: أردت فقط أن أثير انتباهك إلى هذه العلاقة الوطيدة بين الفلسفة والسياسة, ما دمّت قد أنكرتها بشكل قطعي, لتخمد ثورتك ويهدأ انفعالك, وأهمس في أذنيك بأن الفكر الفلسفي ليس فكراً خيالياً بعيداً عن الواقع, بل بالعكس إنه ينمو ويترعرع داخل الواقع (كيفما كانت توجهاته) ومن خلال معايشته لمشاكله وأحداثه, وبالتالي فهو قادر على المساهمة في إيجاد حلول ناجعة لكل ما يدور داخله .

 

عائشة زكري

كاتبة وباحثة مغربية

 

المصدر: الاتحاد الاشتراكي / المغرب

التعليقات مغلقة.