الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

سلسلة حرب تشرين والمستقبل العربي 5/6

د. جمال الأتاسي

خامساً
– من تصفية آثار عدوان حزيران إلى تصفية آثار استراتيجية عبد الناصر

     وفي تشرين حاربت الجيوش العربية ستة عشر يوماً على جبهتين، وكادت حرب تشرين أن تكون مجيدة.. كادت أن تكون حرب تحرير أو المنطلق إلى التحرير وأن تنتقل بحركـة التحرر العربي خطوة إلى الأمام وأن تكون تاريخية وتضع مآثـر وأمجاداً.. من تلك التي تبقى للأجيال مصدر اعتزاز.. تستنهض الهمم.. وتعزّز الثقة بالأمة ومستقبلها، كادت.. لولا أن عمرهـا كان قصيراً وحركة تطويق اندفاعاتها كانت سريعة، لولا أن الذين أطلقوها جعلوها في تصميمهم منذ البداية محدودة، وجعلوها محكومة….

     لقد وضعتنا حرب تشرين على أبواب مرحلة تاريخية جديدة، وكادت أن تكون نقطة التحول الذي ينفض الركود ويصنع التغييرات الكبرى وكادت تُسطر أمجاداً.. إلا أنها وبالتأكيد ليست تلك الأمجاد التي تُقرع لها طبول الحفلات الرسمية، بل هي تلك التي كادت أن تكون ما لم تكن، تلك التي مشت إليها الجماهير وتطلعت.. من غير أن تُتاح لها فرص تحقيقها ومن غير أن تتحقق، تلك التي اكتشفت جماهير الأمة العربية الواحدة من المحيط إلى الخليج أنها في الإمكان وتكاد تكون في متناول يدها وإذا بهـا تجّمُد وتُسمّر في أرضها.. ستة عشر يوماً من القتال، وإذ توقفنا لا مهزومين.. ولا منتصرين.. ومن غير أن نصل إلى تحرير الأرض التي هدفت هذه الحرب لتحريرها، وقف البعض بعد أن دون أمجادنا بهذه الحرب وقالوا أنها كانت حرب التحرر من الخوف والعجز.. وكانت حرب تحرير الإرادة.. وقد كادت حرب تشرين أن تكون حرب تحرير الإرادة..؟ إن الإرادة التي كادت أن تتحرر ولم تتحرر هي إرادة الجماهير العريضة.. لا إرادة النظم والحكام..؟ والحرب تحركت وتوقفت وفق إرادة الحكام ووفق إرادة قوى خارجية مهيمنة في العالم، وكذلك تطورت الأمور بعد ذلك وتتطور، في غيبة الجماهير ومن غير أن يكون لها فيها إرادة.. وهذه الحرب أرادتها جماهير أمتنا العربية كلها، وظلت ست سنوات على الانتظار وهي تطلبها، وظلت نظم المواجهة ست سنوات على الإعداد لها وفق معطيات هذه النظم.. ومن جُملة معطياتها حجب حركتها عن الجماهير.. وحجب إرادة الجماهير.. إلا أنها ومنذ طلقاتها الأولى اندفعت الجماهير بكليتها معها من غير أن يطلب الحكام أن تندفع، وأعطتها آفاقاً وأبعاداً لم تكن في حسبان الحاسبين والمخططين، وعاشتها لتكون حرب تحرير، تحرير من العدوان.. وتحرير لإرادتها.. إذ هما لا ينفصلان على طريق النضال لتحقيق أهداف جماهير أمتنا..

     وتحرير الإرادة.. يظل تعبيراً مجرداً.. ما لم يرتسم على أرض الواقع في حركة وعي وتنظيم تمشي بتصميم إلى هدف، وإرادة الجماهير كانت مغلولة بعـوامل كثيرة من القسر فرضت نفسها عليها وفلَّت حركتها من بينها طبيعة علاقـة النظم بالجماهير وقسرية هذه النظم، إلا أن من بينها قبلَ ذلك الظروف الطبقية وعوامل الاستغلال والتخلف وكل ما أعملته فيها من تفتيت وما وضعته على حركة وعيها وتنظيمها من عقبات وقيود..؟

     كانت حرب التحرير مطلب الجماهير ولقد تركزت إرادة قواها كلها وراء هذا المطلب، فالجماهير كانت تدرك بوعيها المباشر، أن العدوان الذي فرض نفسه بقوة السلاح لا يُقتلع إلا بالقوة.. ولكن وبدلاً من أن تكون إرادة الجماهير هي الدافع والحافز لشق الطريق نحو المعركة، ولتفرض على النظم التغييرات التي… يفرضها منطق حرب التحرير، في بناء التلاحم الوطني والقومي، فإن ((نظم المواجهة)) أخذت تحاصر حركة الجماهير وتلجمها..؟ من خلال مطلب الجماهير ذاتها..؟ إذ هي تستعد للمعركة والظرف خطير وليس للناس أن يرفعوا أصواتهم إلا بتأييد النظم والقبول بما تفعل.. وبين الذي كانت تفعله تفتيت حركة الجماهير.. وبين الذي كانت تفعله تمييع الوحدة الوطنية ووضعتها في قوالب شكلية.. وبين الذي كانت تفعله تمييع الوحدة القومية ووضعتها في  أطر فارغة…

     ورفضت الجماهير في كثير منها، ورفضت طلائعها التقدمية، أن تطرح الشك والتشكيك، فالتزامها.. الوطني تقدم على كل مطلب، وقبلت بمخاطرة الانتظار إلى أن تستعد النظم وتتقوى بالعتاد الجديد وإلى أن تجد الظرف المُواتي لتطُلق شرارة الحرب.. فالجماهير لم تحاصر النظم إلا بإيجابيتها في سبيل المعركة، وكان لا بد بعد ذلك أن تأتي المعركة، وعليها كان الرهان الكبير وأصبحت المُعول.. والأمل.. ولم يبق إلا المعركة كاشـفاً وإلا المعركة طريقاً.. لكي  تلمس النظم مباشرة تناقضاتها ونقائصها.. ولكي تضطر ولو من خلال المعركة ولصالحهـا أن تُغيّر….

     ولتغيير علاقاتها بالجماهير قبل كل شيء ولتغيير التركيب الذي تقوم عليه جيوشها ومرتكزاتها الاجتماعية و الشعبية.

     فنظاما مصر وسورية مدا تضامنهما من أجل المعركة وفي سبيلها صنعا روابطهما العسكرية والسياسية كما صنعا مع ليبيا الاتحاد الثلاثي، وناديا بشعارات كثيرة اعطياها لعُدة المعركة، فهي معركة الأمة كلها دفاعاً عن المصير وهي معركة وجود أو لا وجود، وهي معركة لهدف دحر العدوان وتحرير الأرض، ولأهداف ما بعد التحرير، وهي معركة لا ضد إسرائيل وحدها بل ومَن وراء إسرائيل فهي معركة ضد الامبريالية الأمريكية والصهيونية العالمية.. وكل شيء أصبح مرهوناً بالمعركة ولا بد للجهود أن تنصب لها وحدهـا… وأمسكت الجماهير بهذه الشعارات وهي تنتظر، ثم انفجر الصدام العسكري الكبير في السويس والجولان وامتد القتال واتسع، وأخذت ظروف الحرب تفعل فعلها، وكان لا بد أن تفعل، وبدأت الحرب تغير حياة الناس كلها.. ما لم تضعه النظم والقيادات الحاكمة أخذت الحرب تضعه، ما لم يتنظم بجهد الحكومات… والأحزاب بدأ يتحرك بعفوية باتجاه أن يتنظم، بدأ من القاعدة، بدأ من العلاقات المباشرة بين أفراد الشعب، بدأ من خطوط القتال وفي صفوف المقاتلين لينتقل إلى المعامل وإلى أحياء المدن والقـرى وإلى كل مكان والمشاركة الجماهيرية أخذت تصّعد وتتقدم بمقدار ما كانت الحرب تتسع وتزداد ضراوة وتمتد.

     إن يقظة الوعي الوطني كانت تتنامى وكأن الأمة كلها أخذت تحس بوجودها في أيام الخطر.. ووحدة المصير لم تعد شعاراً، بل أصبحت التعبير المباشر عن حركة الأحداث اليومية في حياة الجميع.. الأنظار كلها مشدودة إلى المعركة، وجـو المعركة أخذ يغيّر حياة الجميع، وكان الشعور بالمسؤولية لدى المواطنين كبيراً.. فالعمال في معاملهم أخذوا يشعرون بواجبهم أكثر من أي وقتٍ مضى.. لقد ذهبت طائرات العدو تزرع التخريب والدمار، وضربت معامل الطاقـة والإنتاج وأرادت أن تشل الحركة وأن تشل العمل والإنتاج، فكان الرد مزيداً من العمل و مزيداً من ثبات العمال في مواقعهم ومزيداً من التضامن بين العمال، وأحس العمال أنهم قوة مقاتلة ثباتها أساسي مثل ثبات العسكريين..  والنُظم لم تنظم حياة المواطنين ومشاركاتهم على أساس الحرب، إلا أن الناس تحركوا بأنفسهم لينظموا حياتهم المعاشية على أساس الحرب وظـروف الشدة وأخذت تسود بينهم روح المشاركة والتعاون، أخذوا يموتون معاً تحت ضرب القنابل، فلا بد أن يعيشوا في مشاركة، وفي مشاركة وأخوة جماعية، أخذوا يهتمون بقوّتهم وحماية أطفالهم ومواساة المنكوبين منهم والحرب أخذت تجمع وتوحد، وأخذت تغير طبيعة حياة الجميع.. وفي كل يوم جديد يستمر فيه القتال كانت الجماهير تنّشَدُ لبعضها وتتطلع بتفاؤل أكبر للمستقبل، وتتحمل أكثر وأكثر.. الجنود يقاتلون فماذا يفعلُ الآخرون..؟ وهل هناك أقل من أن يصمدوا وراء المقاتلين وأن يعبروا بشتى الوسائل عن استعدادهم لتحمل جو الحرب وعن إرادتهـم في أن تستمر الحرب إلى أن تُحقق هدفها..؟

     لقد بدأت الجيوش العربية قتالها حسب الأوامر الصادرة ووفق الخطط المرسومة، وللجيوش تكوينها الذي فرضته طبيعة النظم ومصالحها الأمنية الخاصة ومراكز القوى فيها.. إلا أنها جيوش وطنية وظروف الحرب.. والإعداد للحرب ألزمت النظم بتوسيع قاعدتها، كما تقدمت بها عتاداً وتدريباً، إنه نسبي، ولكنها تقدمت وعصفت الحرب وأخذ جوها يخلق روح القتال ويحرك الشهامة والرجولة ويبرز دور المقاتل إلا أنه أخذ يكشف أيضاً نقائص التركيب في التكوين والقيادات، واستمرار الحرب أخذ يؤثر في طبيعة العلاقات داخل القوات المسلحة لتتقدم الكفاءات ويتراجع التخاذل والتراخي وكادت الحرب تفرض تغيير التركيب، كادت تعزل الذين عاشوا في الانتهاز والترف والترفيعات الاستثنائية، وتُقدم المناضل والكفء والمُستقل، فالحرب أخذت تتقدم بالطابع الوطني للجيش، وبهذا أخذت تتقدم بالتلاحم الوطني داخل الجيش… وبالتلاحم بين الجيش والشعب.. والسلاح في يد المقاتلين برز هذه المرة كسلاح فعال يُدمر طائرات العدو ويُمزق دروعه، وبرز كسلاح يحمل هوية، وهويته ليست أنه سلاح من دول وشعوب صديقة فحسب بل وأنه سلاح فعال في حماية الوطن وفي خدمة التحرير والتقدم.. لقد سقطت الكثير من الدعايات التي نشرتها القوى الرجعية وقوى الإمبريالية والصهيونية ضد هوية سلاحنا وكفـاءته، ولكن برز أيضاً أن قوة السلاح هي في تصميم اليد التي تضرب به، وبرز أن المقاتلين المصممين على القتال يفرضون موقفاً على الأمة والعالم، وبرز أن قوى التقدم إذا ما حملت السلاح وتقدمت إلى القتال تستطيع أن تسحب الأمة كلها في تيارها.

     من قبل كان الكلام عن إسرائيل يشير دائماً إلى من وراء إسرائيل وإلى أن إسرائيل امتداد للإمبريالية.. ولكن الشعب عاش حقيقة إسرائيل هذه كواقع في الحرب.. فالقنابل التي كانت تنقض على المساكن والمعامل وتُمزق أطفالنا أشلاء هي قنابل الإمبريالية.. وسلاح الولايات المتحدة الأمريكية الجديد في يد العدو الإسرائيلي هو الذي صد هجومنا في الجولان وهو الذي مكن الإسرائيليين من الانتقال إلى غرب القنال، والإمبريالية الأمريكية لم تكتف باستخدام كل وسائل النقل وأسرعها لعون إسرائيل بأسلحة الخطر بل واستنفرت قواعدها الذرية لإرهاب العالم كله ودعم إسرائيل ضد العرب.

     أشياء كثيرة أخذت تتحرك وتتولد في حس الجماهير ووعيها وما لم تفعله النظم التي قاتلت وما لم تفعله ((الأحزاب والقوى التقدمية)) المتمشية مع حركة النظم، بدأت تفعله الحركة العفويـة للجماهير من خلال التجاوب مع المعركة ومن خلال ما كانت تتعذب به من انسحاق ومهـانة وهذه الحركة العفوية للجماهير لم تنحصر في أقطار المواجهة، بل امتدت وانتشرت لتعم جماهير الأمة العربية كلها وقد انتقلت بتطلعاتها إلى جبهات القتال، وبرزت وحدة الأمة في مواجهة ما كان يتهدد وجود هذه الأمة.. إن ما عام على السطح في لهفة النظم لبعضها وتجاوب الحكومات العربية وتضامنها لم يكن إلا استجابة جزئية لما كان يتحرك ويتأجج على الصعيد الشعبي العام.. فالوحدة السطحية والمؤقتة التي برزت تضامناً بين الحكومات، ومن مواقع التجزئة كانت وراءها الوحدة الفعلية، وحدة الوجود ووحدة الهدف والمصير في حس الجماهير العربية و تطلعها.

     و في هذا الجو القومي العام، وما كان له من انعكاسات على الجو العالمي، فإن النظم العربية كلها العتيقة منها والجديدة، اليمينية الرجعية أو التي صنفت في اليسار، وجدت نفسها تنتقل كلها إلى موقف ضد الإمبريالية الأمريكية ومُعارض لها في أقل الحدود.. فملكُ الأردن، ذاك الذي ما كان من الممكن أن يبقى عرشه ويعيش إلا بدعم تلك الإمبريالية وحمايتها، كان بحاجة لألف تبرير وبرقية واتصال كل يوم لئلا ينقض شعب الأردن عليه أو يفتح بنفسه جبهة القتال الشرقية، وكانت فديتهُ أمام شعبه كتيبة من المدرعات أرسلها لجبهة القتال في سورية.. والسعودية ومـن لف لفها من ممالك وإمارات النفط والمال، دفعت للنظامين المقاتلين ((البدل)) أو البديل المادي عن المشاركة في القتال، وأعطيت فرصة أن تشارك رمزياً لتبرئة ذمتها أمام الأمة، بل وأكثر مـن ذلك، فهي قد اكتشفت من خلال مصالحها أن من مصلحتها أن تشارك وأن ثمة حداً من التناقض بينها وبين الإمبريالية الأمريكية التي استهانت بكل ولاءاتها السابقة لها.

     هذه وأشياء كثيرة غيرها حركتها ظروف حرب تشرين، واهتزت مصالح عالمية كبرى.. ولكن الرهان الكبير الذي راهنت عليه جماهير الأمة العربية، من خلال القتال وبأمل أن يستمر القتال أكثر مما استمر وبأمل أن يغيرنا القتال وأن نتغير إلى ما هو أكثر تقدماً، أي أكثر وحدة من خلال القتال.. الرهان الثوري على تلك الحركة العفوية للجماهير وعلى الجو الذي خلقته لنفسها قطرياً وقومياً أيام الحرب، وأن تنتقل بالحرب من حرب تسخين إلى حرب تحرير فعلية، وإلى حرب تحرير للإرادة بغرض التغيير، وأن تنقلبَ من حركةٍ عفوية إلى حركةِ تنظيمٍ واعٍ، هذا الرهان- على قوى النضال وعلى قوى السلاح المُندفع راجع بإصرار لهدف التحرير وللتغيير الثوري من خلال امتداد الحرب- لم يربح وما كان من الممكن أن يربح حسب الأبعاد التي أعطتها النظم لحرب تشرين.

     إن معطيات حرب تشرين ظلت معطيات النظم التي صممتها وظلت قادرة على فرض سيطرتها على حركتها وإيقافها، والمؤشرات التي أعطتها الجماهير في حركتها العفوية وتجاوبها الوطني والقومي غير المحدود، ظلت دليلاً على وجود هذه الأمة وحيويتها وظلت مؤشرات للمستقبل.. إنها مؤشرات لم تأتِ في هذا الظرف الخطير المتأجج كما جاءت في ظروف سابقة من قبل، كما جاءت يوم الوحدة ويوم الانفصال ويوم حرب السويس عام 56 و يوم التاسع والعاشر من حزيران عام 67، لم تأتِ لتؤكد أن حركة الجماهير متقدمة على حركة النظم بكثير فحسب بل ولتؤكد أنها متقدمة على كل القيادات السياسية المتصدية في الساحة، ولم تكن في الساحة من قيادات ثورية فعلية تستطيع أن تقود حركة الجماهير في لحظة التأجج وأن تستلم زمام المبادرة، والحرب ما استمرت وما كان من الممكن ضمن معطيات الأطراف الفاعلة فيها كلها، أن تمتد طويلاً وتتسع لتوّلدَ قيادات جديدة وتوّلدَ التغيير.

      ومع ذلك ومع كل العثرات والثغرات، فإن تلك الحرب وعند النقطة التي توقفت عندها على أساس.. القرار 338 لوقف إطلاق النار، بل وعندما تكشفت أبعادها كحرب تسخين للقضية وتحريك، ظلت في معطياتها حتى تلك اللحظة، معطيات القتال ومعطيات العمل العربي ومعطيات الموقف الدولي، ظلت حركة إلى الأمام بالنسبة لسنوات الركود الثلاث التي سبقتها، وظلت تؤهـل الموقف العربي لأن يفرض تراجعات على العدو، وأن يصمد عند مطلب انسحاب العدو من الأراضي التي احتلتها في عدوان حزيران كلها.. إلا أن الحرب وقد حوصرت وحُددت، ثم اختُصرت وأوقفت.. فإن المباغتة الكبرى فيها واللعبة التي لُعبت ومازالت تُلعب، ليست في النقطة التي وقفت عندها الحرب بل في التحولات التي جرت متسارعة بعد ذلك، تحت شعار الانتقال من المعركة العسكرية إلى المعركة السياسية.. فالعرب بعد أن قاتلوا وأشهروا كل أسلحتهم، بما فيها سلاح النفط والثروات النفطية.. وقدّراً لا بأس به من التضامن العربي، والعرب بعد أن كشفوا عن طاقاتهم الكبرى المؤثرة والفاعلة في العالم إذا بمعركتهم التي أشهروها ضد الإمبريالية الأمريكية تُختصر هي أيضاً وتُموّه للتحول إلى مصالحة كبرى مع الولايات المتحدة الأمريكية وكأن الحرب ما قامت إلا للوصول إلى هذه المصالحة وما تعنيه هذه المصالحة من تغيير جذري لا في مواقف بعض النظم العربية كالنظام المصري فحسب بل وفي طبيعـة تلك النظـم وتركيبها الاجتماعي والسياسي ومواقفها والمبادئ التي تقوم عليها.

     ولكن هذه المصالحة والتحول كانت لها مقدماتها التي سبقت حرب تشرين بكثيـر..

     إن حزبنا، حزب الاتحاد الاشتراكي العربي في سورية، قد وقف منذ بدايات التحول عن طريق عبد الناصر في مصر، أي منذ أحداث 15 مايو (أيار) عام 1971، لينبّه إلى المنزلقات الخطيرة لهذا التحول وانعكاساته على حركة النضال العربي كلها وعلى استراتيجية معركة ((إزالة آثار العدوان)) ولقد وقف حزبنا ليرفع صوته وينبّه من هذا المنزلق ويحذر أكثر عندما فجر النظام المصري أزمة إخراج الخبراء السوفيات وكشفنا عن خلفيات تلك الأزمة، وما تعنيه من تراجع عن مقومات أساسية من مقومات الاستراتيجية التي سار بها عبد الناصر على رأس حركة النضال العربي التحرري، وما تعنيها أيضاً من تحول باتجاه إرضاء الإمبريالية الأمريكية والرجعية العربية وتحقيق مطلب هام من مطالبهما.. بل ووقفنا في وجه بوادر التعاطف مع ذلك الموقف المصري من قِبل النظام السوري، وكانت مواقـفنا تلك عاملاً من عوامل الأزمة التي نشبت بيننا وبين النظام السوري وأدت إلى خروجنا من ((الجبهة الوطنية التقدمية)).

     إن تلك التحولات التي جرت شيئاً فشيئاً داخل مصر وتحت ستارات من التمويه- تحت ستار أخذ رصيد أكبر من دعم القوى العربية والدولية لتحقيق هدف ((تحرير الأرض وإزالة آثار العدوان))- هي التي نقلت مصر من النضال العربي وكل الذي قدمته في حرب تشرين، إلى حركة التراجع العربي في تعاون وثيق مع السعودية ومصالحة وثيقـة مع الولايات المتحدة الأمريكية، ولتمارس ضغطها مع السعودية أيضاً لإيقاف استعمال سلاح النفط ضد حليفـة إسرائيل الكبرى، ذلك السلاح الذي يكاد يبقى وحدهُ ضاغطاً وتعبيراً عن قدر غير كبير من التضامن العربي، بعد أن جاءت اتفاقية فصل القوات بين مصر وإسرائيل لتفرض حصاراً على الموقـف العربي وتجميدا لأية امكانية لاستئناف القتال والضغط بالسلاح.. ويستتبـع ذلك كل الذي يستتبعه اليوم في مصر من تغييرات- من تحولات يمينية اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وفي العلاقات العربية والدولية، ومن انقضاض كبير على خط عبد الناصر وتراث عبد الناصر، ومن يقظة للنعرات الاقليمية والانعزالية داخل مصر، ومن صعود للبرجوازية المصرية التقليدية ولعملاء الإمبريالية وصنائعها.

     ومصر بهذا التراجع- مصر بوزنها الأساسي والكبير في الأمة العربية وفي معركة التحرر العربي- لا تنفرد بموقف فقط، بل تكاد تفرض على الأمة كلها موقف التراجع، والرجعية العربية مرتاحة لهذا الذي يجري في مصر، والإمبريالية الأمريكية تبارك بارتياح كبير، وإسرائيل تهلل له وتُمجده وتسميه تحولاً سلمياً وإيجابياً يُفضله موشي ديان (كما قال في تصريح له في الكنيست) على احتفاظ إسرائيل بمضيق السويس وبترول سيناء.

     قد يكون من الظلم لمصر أن نحمل النظام الحاكم فيها وحدهُ مسؤولية التراجع والتعثر الراهن في الموقف العربي فثمة نظم عربية عديدة أخرى أسهمت بشكلٍ أو بآخر بصنع هذا التعثر.. ولكن مسؤولية مصر هي بمقدار وزنها الكبير في الأمة العربية، وبمقدار الدور الذي اعطته لنفسها مصر عبد الناصر وأعطته الأمة العربية لها وأعطاه العالم.. لقد كانت مصر عبد الناصر تحمل مسؤولية الأمة العربية، وبخاصة في معركة ((إزالة آثار العدوان))، وتراجع مصر في هذه المرحلة من تاريخنا يفرض نفسه كتراجع في حركة النضال العربي كلها.. فعندما هُزمت مصر في حرب حزيران هُزمت الأمة العربية كلها ووقف عبد الناصر ليحمل مسؤولية الهزيمة، وقال إننا هُزمنا ولا بد أن أتنحى، وقدم عبد الناصر زكريا محيي الدين ليكون بديلاً، وفي حزيران كانت الضربة مذهـلة وسريعة إلى حد اللامعقول بحيث أذهلت عبد الناصر نفسه وكادت تفرض عليه أن ينسحب عن مسرح القيادة ويتوارى..

     والضربة كانت موجهة لعبد الناصر وما يمثله عبد الناصر، وللأمة العربية من خلال عبد الناصر.. والتراجع أمام ضربة العدوان كان في أن ينسحب عبد الناصر.. فأهداف العدوان الإسرائيلي بهذا المنحى كانت واضحة.. وكانت معروفة وكذلك كانت أهداف الإمبريالية الأمريكية شريكة إسرائيل في العدوان.. فإسقاط عبد الناصر كان الهدف للإمبريالية الأمريكية، وبذلك كانت على تلاقٍ مُطلق مع الهدف الصهيوني.. ومطالب الحلف الامبريالي الصهيوني كانت معروفة عند العدوان وقبله وبعده.. مطالبه أن تتراجع مصر عن قيادتها للنضال العربي أي عن هدف الوحدة، واقع تُقلص مصر قواتها المسلحة، بل وأن تقبل الرقابة الأمريكية على حركة تسليحها، وأن تسحب مصر تأثيرها الثوري في العالم الثالث، وأن تنسحب من علاقات الصداقة مع الاتحاد السوفياتي وتنسحب المصالح السوفياتية من المنطقة، بل وأن يغير النظام خط سيرة التقدم الاجتماعي والتحويل الاشتراكي…

     وفي داخل النظام المصري كان زكريا محيي الدين يمثل خطاً مُعارضاً إلى حدٍ ما لخط عبد الناصر فمنطلقهُ اقليمي وطني وهو معارض لطريق عبد الناصر في قضية الوحدة العربية ومعارض لمسار التحويل الاشتراكي والبناء الديموقراطي الشعبي، ومعارض أيضاً لمسار عبد الناصر الدولي في العالم الثالث وفي تعزيز العلاقات مع الدول الاشتراكية.. فتقديم زكريا محيي الدين في لحظة ذهـول الهزيمة كان يمثل تراجعاً أمام العدوان وأمام تلك الهجمة الإمبريالية الشرسة المطالبة برأس عبد الناصر.. كان عبد الناصر يفكر في تلك اللحظة أن تخليه يُمكن أن يخفف الهجمة الشرسة لإنقاذ ما يمكن انقاذه بعد الهزيمة، وكان عبد الناصر يفكر أن ينزل إلى صف الجماهير ليبدأ بدايةً جديدة…

     ولكن المفاجأة جاءت عندها من الجماهير.. إلى تحرك طوفانها على الفور في مصر، رافضةً زكريا محيي الدين و خط زكريا محيي الدين ومصممة على بقاء عبد الناصر، أي على الصمود واستمرار الثورة وعلى التصدي للهجمة الامبريالية الصهيونية، وتحركت مع جماهير مصر جماهير الأمة العربية كلها…

     إن حركة الجماهير هي التي صمدت، فصمد عبد الناصر، وهي قد استوعبت في لحظة الانهيار الكبير مما استوعبه عبد الناصر.. فالعدوان الذي استهدف إسقاط عبد الناصر إنما يستهدف من وراء ذلك ضرب حركة الجماهير وإسقاط الثورة الاجتماعية في مصر وإسقاط الناصرية، أي إسقاط استراتيجية الثورة العربية كثورة تحرير واشتراكية ووحدة.. وبإرادة الجماهير بقي عبد الناصر وصمد على طريق الثورة وعلى طريق القومية العربية وحمل الأمانة في أن يقود النضال لرد الهزيمة ((وتصفية آثار العدوان)) وليكون هذا الرد على طريق الثورة العربية والمدخل إلى تحقيقها…

     إن عبد الناصر ظل بعد ذلك يحتكم دائماً إلى حركة الجماهير في 9 و 10 حزيران وما أعطته من مؤشرات وما أبرزته من استعداد الجماهير العربية للتضحية بغير حدود على طريق الصمود في سبيل حماية خط الثورة والتقدم وما تطالب به الجماهير من تغيير في سبيل تعميق الثورة وما تطالب به من تغيير للوقوف في وجه التحدي الإمبريالي الصهيوني.. ومشى عبد الناصر على طريق الصمود، وانسحب زكريا محيي الدين وخط زكريا محيي الدين من الساحة، وانسحبت خطوط أخرى لا تتفق مع مسيرة عبد الناصر وصُفيت مراكز التخاذل، وبدأ عبد الناصر بالتغيير.. بتغيير بنية الجيش أولاً إذ هو أداة الصمود الأولى.. ومشى في استراتيجيته العريضة لتحقيق الهدف المرحلي الذي حمل أمانته بعزم وتصميم،  هدف رد العدوان وإزالة آثاره كلها…

     ولولا ما غيّره عبد الناصر ولولا ما بناه عبد الناصر لما كانت حرب تشرين ولا كان ذلك الاقتحام الشجاع لقناة السويس وخط بارليف، ولما كان ذلك الترافـق الأولي في حركة القتال  بين مصر وسورية ولا كان ذلك الالتزام السوفياتي ودعمه الكبير أيام القتال، ولا كانت الكثير من الاستجابات الإيجابية العربية والأفريقية والدولية.

     إن استراتيجية عبد الناصر، أو ما بقي منها، من هذه الاستراتيجية، من رصيد بعد غياب عبد الناصر…؟ هي التي قاتلت في حرب تشريـن.. وهي التي أعطت، وهي التي حركت عنفوان الجماهير العربية، وأبرزت وجود الأمة وحملت تباشير تغيير كبير وأعطت مؤشرات جديدة لميلاد عربي جديد..

     وعلى هذه التباشير كان الالتفاف، ولإحباط ما بقي من استراتيجية عبد الناصر بعد غياب عبد الناصر تحركت الإمبريالية الأمريكية وطوقـت حرب تشريـن، ليبدأ الارتداد، ولتُحوّل نتائج الحرب ضد معطياتها الاستراتيجية الأولية، ولتبدو تلك الحرب وكأنها ليست محددة ومقننة فحسب، بل وكأنها مرسومة لتقف حيث وقفت ولترتد بعد ذلك ضد نفسها عبر هذا التحول في مواقف النظم والقيادات السياسية وعبر حملة المُراضاة للإمبريالية الأمريكية وعبر ذلك الهجوم المُركز الذي يتصاعد ضد عهد عبد الناصر…

     فأين جماهير 9 و10حزيران؟ أين الجماهير العظيمة التي مشت وراء نعش عبد الناصر في تصميم جماعي على ((تكملة)) المشوار الذي بدأه عبد الناصر..؟

     إن الذي رفضته الجماهير وعبد الناصر، بل والذي رفضه زكريا محيي الدين نفسه وحتى الذي رفضه الرئيس السادات في بدايات عام 1971من مقترحات أمريكية وإسرائيلية آلية روجرز عن الفصل بين القوات على قناة السويس والانتقال لقوات القنال لتفتح القنال وتعمر مدن القنال وتدخل بعدها في المفاوضات الطويلة، هو الذي تقبل به اليوم القيادة المصرية بعد كل أمجادها وانتصاراتها في حرب تشرين.

                                               *          *          *

     لقد كادت حرب تشرين إذن أن تكون مجيدة، وكادت أن تكون نقلة كبرى نحو المستقبل، وكادت أن تحقق هدف المرحلة، إلا أن حركة الالتفاف عليها من قوى الردة وقوى الإمبريالية بدأت تضع معوقات مُهـلكة على طريق تحقيق ذلك الهدف، ليبدو هدف ((إزالة عدوان حزيران)) وكأنه مازال بعيد المنال…؟

     إن أصدقاء قضيتنا في العالم، يستغربون اليوم، بعد كل المعطيات التي برزت من حول حرب تشرين وبعد أن اقتربنا كثيراً من تحقيق الهدف، كيف نتعثر بغباء وكيف نتخلى عن مواقع ونُفرط بإمكانيات ومكاسب كثيرة جاءت لصالحنا!…

     يسـتغربون كيف يصبح العدو الأول لقضيتنا العربية في تحرير الأرض والوحدة وبناء التقدم ألا وهـو الإمبريالية الأمريكية، المرجع الذي تركن إليه النظم العربية ليكون الحكم بينها وبين إسرائيل وليكون وحده بوجه إسرائيل لتتراجع، فالإمبريالية لا يمكن بأية حال أن تعمل إلا لصالح إسرائيل وإلا ضد القضية العربية، تلك بديهية أولى بالنسبة للجماهير العربية والذين يموهون في ذلك إنما يُدينون أنفسهم إما بالغباء وإما بالتفريط.. وللتصدي للعبة الإمبريالية الجديدة، وللتصدي للتحول والتراجع العربي المواكب لهذه اللعبة لا بد من كشفها والوقوف في وجهها لردعها واحباطها…

     إننا اليوم لن نمضي بعيداً مع المعطيات الجماهيرية لحرب تشرين ومما تتقدم به من مؤشرات للمستقبل وما تفرضه من مراجعة لاستراتيجية الثورة العربية الاشتراكية الوحدوية، بل نرصد حركتنا العربية باتجاه تحقيق الهدف المرحلي، هدف إزالة آثار العدوان، وما يعترض سبيل تحقيق هذا الهدف…

     أولاً: إن الاستراتيجية التي تقدمت بها السياسة العربية والتي يمكن أن تصل بنا، أو كادت أن تصل بنا، إلى تحقيق هدف دحر عدوان حزيران، تستند إلى عدة مرتكزات أساسية، كثيراً ما عددناها وأكدنا عليها وعلى الطريق التي صعّد بها عبد الناصر في بنائها..

     1 – مصر أولاً- مصر قوية صامدة موحدة وطنياً في خط التقدم وعلى طريق الاشتراكيـة.. ومصر ملتحمة بالمصير القومي وفي خط الوحدة العربية وفي طليعة حركة النضال العربي.. أو كما حدد عبد الناصر: مصر على طريق تحرير الأرض وإزالة آثار عدوان حزيران عن الأرض العربية، صموداً اقتصادياً فاقتحاماً للتحرير.. ولو حملت مصر لوحدها عبء هذه المعركة…

     2 – مصر وسورية معاً صعوداً على طريق المواجهة متلاحمتين متماسكتين عسكرياً وسياسياً وقومياً.. ومصر وسوريا معاً في القتال وما يرفدهما من خلال التصميم على المواجهة المسلحة معاً والصمود بهذه المواجهة من قوى عربية ومن دعم عربي ومن تضامن عربي…

     3 – مصر وسورية والمقاومة الفلسطينية معهما، سواء من خلال الجبهة الشرقية إذا ما أمكن النهوض بها، أو بدون هذه الجبهة الشرقية، ومع المقاومة الفلسطينية وما تمثله هذه المقاومة من حيث المبدأ من رفض لقطع النضال.. في سبيل الهدف المرحلي عن هدف التحرير الشامل وعن التطلع بتصميم إلى أهداف المستقبل..

     4 – قوى المواجهة العربية في علاقـات صداقة وتعاون وثيق مع منظومة الدول الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي، والدفع بعلاقات الصداقة هذه إلى أقصى حد ممكن، من خلال الترابط الفعلي بين تحررنا القومي ونضال شعوب العالم وقوى التقدم والتحرر في العالم ضد الامبريالية، ومن خلال توافق كبير في هذا الخط الاستراتيجي بين مصالحنا ومصالح الاتحاد السوفياتي وبقية الدول الاشتراكية والإفادة من تطوير هذه العلاقات في تدعيم نضالنا سياسياً واقتصادياً وتعزيز قدراتنا القتالية وتسليح جيوشنا وتدريبها…

     5 – مد جسور من التعاون مع الأقطار الاسلامية وأقطار العالم الثالث والإفادة من كل إيجابية ممكنة في هذا الإطار ولصالح نضالنا العادل ولمحاصرة العدو ولقطع ما يحاول أن يمتد به من علاقات مع تلك الأقطار …

     6 – تحديد معسكر الأعداء في هذه المعركة.. فهي معركة ضد إسرائيل ومن يُساند إسرائيل في عدوانها على أرضنا العربية….

     أي تحديد معسكر الأعداء بالحلف الأمريكي الصهيوني، والإفادة من أي تناقض بين هذا الحلف وبين القوى الدولية الأخرى جاء فيه خدمة نضالنا.

      وبمعطيات هذه الاستراتيجية التي سار فيها عبد الناصر تقدمنا رغم كل ما وقف على طريقها من عثـرات وبعد كل ما اعتورها من التواءات بعد غياب عبد الناصر.. وبمعطيات هذه الاستراتيجية كادت حرب تشرين أن تكون نصراً.. فمصر حاربت بجيش عبد الناصر الذي كان قد تدرب كله على اجتياز الحاجز المائي أيام عبد الناصر، بل حاربت بجزء من هذا الجيش.. وسورية خاضت الحرب مع مصر في توقيت واحد وتنسيق كامل في البدايـة.. والمقاومة الفلسطينية دخلت المعركة في حدود طاقاتها التي بقيت.. والدعم العربي للقوى المقاتلة تحرك مالاً وسلاحاً ونفطاً وسياسة بل وقوات مسلحة.. والدعم السوفياتي تواصل بسرعة وبقوة أيام القتال وفي ساعات المحن.. والدول الأفريقية مشت الواحدة بعد الأخرى تتمرد على النفوذ الأمريكي وتقطع علاقاتها مع إسرائيل، كما تمرد على الإمبريالية الأمريكية وحركتها المُستعجلة لتعزيز عدوانية إسرائيل عددٌ من حلفائها.

     وحركة الحرب أيقظت العالم، كما لم يستيقظ من قبل، على حقيقة الوجود العربي وعلى حقيقة وجود إسرائيل وعلى الالتحام العضوي والعدواني بين إسرائيل والإمبريالية العالمية، وكادت هذه اليقظة أن تعزل إسرائيل عزلة تامة وأن تعزل معها الولايات المتحدة الأمريكية على الأصعدة الدولية كلها.. لقد تكشفت إسرائيل على حقيقتها كمسخ إمبريالي نفخه الغرور والتعصب لتضخم وتورم بما أمدته به الإمبريالية والصهيونية وبما استمده أيضاً من العجز العربي ومن تخلف العرب وتبعثرهم .

فالعرب قاتلوا وأبرزوا تضامنهم وما عندهم من طاقات، وأعطاهم ظرف الحرب والظرف العالمي ما أمكن أن يعطي. ولكن واذ لم يكن هناك في الساحة من قيادة في مستوى هذه المرحلة كقيادة عبد الناصر تقّدر على الامساك بتلك المعطيات، ولضبط الاستمرار على طريق استراتيجية دحر العدوان وإذ كانت بعض الظواهر غير ما هو مبطن وراءها، فان الامبريالية الأمريكية استطاعت ان تفك الحصار من حولها، وأن تطوق الاستراتيجية العربية بما أفسحت لها بعض القيادات العربية من مجال… واستطاعت ان تتقدم وكأنها ملكة العالم ومالكة الحلول..؟

     ثانياً: إن اللعبة الامبريالية الأمريكية اليوم إنما تتحرك تحت ستار التقدم نحو حل لأزمة الشرق الأوسط ((والنزاع العربي الإسرائيلي)) لترد على استراتيجية التحرر العربي ولتُفكك مقوماتها الواحدة تلو الأخرى، حمايةً ((لأمن إسرائيل)) أي لوجودها الاستعماري الصهيوني، وتمكيناً لمصالحها الإمبريالية في المنطقة وفي العالم …

     إن المبادرة العربية في حرب تشرين لم تُمكن العدو الإسرائيلي هذه المرة من الانفراد بالجبهات العربية الواحدة بعد الأخرى في القتال، ولكن اللعبة الأمريكية أخذت تمكنه من الانفراد بهذه الجبهات في المعركة السياسية التي تدور رحاها بعد قرار وقف إطلاق النار.

     ويمكن تلخيص معطيات هذه اللعبة بل المؤامرة الأمريكية الصهيونية على المصير العربي في أنها تستهدف الانتقال بحركة الصراع للتحول من معركة تصفية آثار عدوان حرب حزيران إلى عملية تصفية متدرجة ومتصاعدة لاستراتيجية التحرير العربي واستراتيجية عبد الناصر لدحر العدوان.. إن المساعي ((الحميدة)) والمجهـودات ((الإيجابية والبناءة)) التي بذلتها السياسة الأمريكية للوصول إلى تسوية فك تشابك القوات على جبهة السويس بشكل منفرد بين مصر وإسرائيل، بعد تباعد سورية واستبعاد الاتحاد السوفياتي والتجاوز عن الأمم المتحدة بل وعن مؤتمر جنيف، وعبر التغييرات التي أُدخلت على قيادات الجيش في مصر وعلى السياسة المصرية تجاه أمريكا وفي السياسة الداخلية المصرية، إنما هي الحلقة الأولى في ضرب استراتيجية دحر العدوان، فالتواء رأس الاستراتيجية ومرتكزها الأول يُلوي الاستراتيجية كلها.

     صحيح أن هذا الالتواء كانت له مقدمات من قبل، إلا أنه ظل محاصراً بظروف المعركة ومحصوراً، وظلت ((الجمل الثورية)) والشعارات التحررية والتقدمية والوحدوية والاشتراكية مرفوعة، إلا أن الأمور بدأت تأخذ أبعادها في التحول، وأخذت الموازين تنقلب: فإسرائيل أصبحت تواجّه.. وكأنها مجردة عـن الدول الأخرى التي قطعت علاقاتها معها لصالح معركة مصر ومعركة الأمة العربية مع الامبريالية.. ومصر أصبحت هي الضاغطة لإعادة سيولـة النفط العربي للولايات المتحدة الأمريكية، وكانت هي المُنادية ومنذ حرب حزيران باستعمال سلاح النفط في المعركة، وبالتحديد ضد أمريكا والاحتكارات الأمريكية.

     فتحوّل مصر هو بداية التفكك.. وتعبيراً عن هذا التحول أخذوا في مصر يُنزلون صـور عبد الناصر وأُفسح المجال أمام الموتورين وأمام عملاء الإمبريالية لتصعيد الحملة ضد العهد الناصري والأنكى من ذلك أنها حملة تمارس بإسم الديموقراطية وحرية الصحافة والرأي.. إلا أن الديموقراطية لا تطوق حركة الجماهير وتحبس أصوات التحرر وتكف الألسنة الحرة الشريفة، ليتقدم أعداء الثورة لتقييم الثورة وجهد الثورة، ولتتحرك وتصعد أبواق قوى الردة.

     إن إنزال صور عبد الناصر لا يعني مجرد إنزال صور رئيس قضى لتُرفع محلها صور الرئيس الجديد الصاعد..؟ بل هي جزء من عمليةٍ كبرى لإنزال خط في الكفاح والتقدم.. وإنزال خط عبد الناصر، فالحملة تجري لتشويه مكتسبات ثورة 23 تموز كلها وتُلطخها…

     إنها حملة ضد التحويل الاشتراكي وضد ثمرات القطاع العام وما أعطت وضد الخط العربي الوحدوي لمصر وضد صداقة الاتحاد السوفياتي وارتباط مصر بخط التحرر العالمي، أي هي حملة مُركزة ضد الجماهير وضد وعي الجماهير وضد جدوى النضال، ليكّفـرَ الناس بقيم التقدم وليُشّغلوا بالمكتسبات الجديدة ووعود الازدهار والمعونات التي تقدمها الإمبريالية والرأسمالية، وليقولوا ما جدوى عشرين عاماً من النضال ولماذا كانت هذه الحرب التشرينية كلها التي كانت ستضعنا في النهاية وتضع ثورة 23 تموز عند نقطة الصفر…

     إن تقدم الصحافي ((العريق)) علي أمين ليقول كناطق شبه رسمي وينشر بأن الرئيس السادات قد أسر له بأن الملك فيصل ((هو بطل معركة عبور القنال أي هو المخطط لحرب تشرين، وبأن الملك فيصل هو (بطل معركة الزيت) فإن هذا لا تفهمه الجماهير كمجرد دغدغة لغرور ((العاهل)) بل هو إنزالٌ لقيادة مصر ولمعركة مصر ورفعٌ للرجعية العربية، أو هو بالأحرى إشارة إلى أن ما يجري اليوم من تحولات في السياسات والمواقف إنما هو مُرتب مسبقاً مع زعامة الرجعية العربية.. إن إنزال مكانة عبد الناصر إنما يعني اليوم إنزال مكانة مصر ذاتها الوطنية والقومية والتقدمية، وهو يواجّه باستنكار من الجماهير العربية كلها ومن كل قوى التقدم والتحرر في العالم..

    أما الذين يرتاحون للانقضاض على عبد الناصر والعهد الناصري ممن يُحسبون على قوى التقدم والديموقراطية، مثلما ارتاحوا لحركة الردة أيام الانفصال أو مثل ما ارتاح بعضهم عند قرار عبد الناصر بالتنحي بعد هزيمة حزيران، فهم إنما يحفرون قبورهم بأيديهم لأن الارتداد ضد عبد الناصر هو ارتداد ضد كل تقدم وديموقراطية وهو الطعنة الكبرى الموجهة للتحرر ولكرامة الأمة ولشرفها…

     ثالثاً: إن الإمبريالية الأمريكية وهي تحبك لعبتها لعزل مصر وتحويلها عن طريق عبد الناصر ولإنزال مكانتها القيادية في الأمة العربية لتعزيز رصيد الرجعية العربية، فإنها بعد ((تحييد)) مركز الثقل العربي تمشي مع إسرائيل لمحاصرة المرتكزات الاستراتيجية الأخرى في الموقف العربي وأولها الترابط بين مصر وسورية وحركة التضامن العـربي .

     إن الترابط المصري السوري إذا ما اعتراه بعض التعثر في الأيام الأخيرة من حرب تشرين، من حيث تطور تلازم التنسيق في المعركة وبخاصة عند ملابسات قرار وقف إطلاق النار كما ظهرت، فإن هذا الترابط أصبح عرضة للانهيار بعد أن تم التوصل إلى فصل القوات على الجبهة المصرية من غير أن يرافقه اتفاق حول الفصل على الجبهة السورية وحول مصير الجولان.. إن مصر إذا ما ظلت تحتفظ بضغطها في المعركة السياسية فهي قد أخرجت نفسها من كل امكانية للضغط العسكري، وهذا ما وضع السياسـة السوريـة في مأزق .

     فإسرائيل مازالت ترفض الإعلان عن استعدادها للانسحاب من هضبة الجولان بل هي تعلن إصرارها على الاحتفاظ بها، والتعامل بالمدفعية مع العدو على الجبهة السورية ولو جرى يومياً، والإمساك بعشرات الأسرى من الإسرائيليين لم يعد يشكل عنصراً هاماً في الضغط على العدو ولا تفجير الموقف.. وسواء كانت القيادة السورية على علم بالتنسيق المصري السعودي الذي يتطلع في النهاية إلى حل أمريكي أم أنها استُجرت استجراراً، فإنها اليوم محاصرة بهذا التنسيق ومحاصرة بالتماس الحل الأمريكي، محاصرة بتجميد القوات المصرية، ومحاصرة بضغوط من داخل الوضع السوري والنظام السوري، ومحاصرة بتقلص الدعم العربي وتراجعه ومحاصرة بفتور ضغط الموقف على العالم.

وسورية التي لم تذهب إلى جنيف اليوم، إلى إجراء حوار ((فصل القوات)) في واشنطن.. مصر مازالت تؤكد أنها لن تذهب إلى جنيف لاستكمال حوار الحل بدون سورية، وإلا بعد أن توافق سورية ويتم فصل القوات على جبهتها.. وإذا تم هذا الفصل بعد كل الذي سبقه، بل وإذا ما تم بناءً على وعود من إسرائيل بالانسحاب من الجولان مرفقاً بشروط أخرى، بفضل تداخلات نيكسون وتوصياته والتأثير الأمريكي على إسرائيل، فماذا يبقى لنا بعد ذلك من قوة ضاغطة إلا الرهان على المساعي الأمريكية الحميدة ولقد ناضلنا عشرين عاماً ضد هذه المساعي …؟

     إن ذهابنا من مثل هذا الموقع الذي أصبحنا فيه إلى جنيف هو غير الذهاب من قبل عندما كانت القوات متداخلة يستنزفها القتال أو احتمالات تفجـر القتال وامتداده وعندما كان الدعـم العربي مجروراً بقوة وتضامن وراء المقاتلين، والعالم في وضع التأزم وسـلاح النفط مُجرد، والاتحاد السوفياتي في الموقع المُتقوي بموقفنا لدعم حقنا ومناصرتنا… إن طريق جنيف بعد اليوم سيكون طويلاً ومضنياً.

     رابعاً: إننا لن نتحدث عـن الاتحاد الثلاثي بين الجمهوريات المصرية والسورية والليبية فلقد كان بالأصل غير ذي مضمون فعال، ولقد انفك بالفعل ولو ظل بالشكل ولم يعلن انفكاكه.. كذلك فإننا لن نلمس لموضوع التضامن العربي في المعركة إلا من بعيد وبإيجاز هذه المرة، فهو بالأساس تضامن قائم على جملة من المتناقضات، ومع ذلك فقد أعطى قدراً لا بأس به في هذه الحرب وأكثر من أي وقت مضى ومن الطبيعي أن تتوجه اللعبة الامبريالية لتطويق هذا التضامن وتفـكيكه وضرب ما أعطى، مستفيدة من تناقضاته الأولية و مما استطاعت أن تخلقه من تناقضات جديدة في صلب العمل العـربي.

     التضامن العربي صعد مع تصاعد القتال، إلا أنه لم يتجمد ولم يتراخى كثيراً عندما توقف إطلاق النار، لقد سحب العراق قواته من الجبهة السورية وما كان له أن يسحبها، وأرسل القذافي صيحات النقد والتحذير والتنديد في غير جدوى.. ولكن مؤتمر قمة الجزائر عُقد، وظل الدعم العربي معلناً، وعزز استخدام سلاح النفط وهدد باستخدام سلاح الأرصدة و كاد يتزلزل النظام النقدي في العالم الرأسمالي كله، ولكن سلاح النفط ظل محكوماً بروابط النفط والمال والاحتكار في العالم.. ولم يفعل في الولايات المتحدة الأمريكية بمقدار ما فعل في غيرها مقابل هي دارت من حوله و حاولت تسخيره لصالحها.. وهي اليوم إذ تُندد باستعماله وتطالب برفع حظره وتهدد، فليس لأنه يضغط كثيراً على رقبة اقتصادها، بل لتفرض نفسها كقوة سائدة ومهيمنة ولتوجه ضربة إلى التضامن العربي ولتقيم انقساماً عربياً من حول النفط وأزمات بين العرب وأطراف من حلفائهم في العالم.. ثم إن تطورات المعركة السياسية و خلفياتها ومنعرجاتها أخذت تعيد إلى السطح الانقسامات والتناقضات العربية بدءاً من الانقسام إلى مجموعـات رفض ومجموعات قبول بين بيـن.

     وبتراخي حمية السلاح يتراخى التضامن، وتقل وتنقلب المساعدات، وتتعدد المواقف وتتجدد المحاور، وتعود وتستيقظ محاور قديمة…

     خامساً: إن الربط بين حركة التحرر العربي المتصادمة مع الامبريالية وحركة التحرر العالمي، وإن التعاون المتنامي مع منظـومة الدول الاشتراكية، مع الاتحاد السوفياتي بخاصة كانت عنصراً هاماً من عناصر استراتيجية المواجهة العربية.. إن ضرب هذا التعاون تحت شعار ((إخراج النفوذ السوفياتي)) من المنطقة ومحاولة فك هذا الترابط هو هدف أساسي من أهداف اللعبة الامبريالية، خدمة لمصالحها ومصالح إسرائيل  وتوافقاً مع الرجعية العربية وقوى الردة والتحول.

     لقد وقف حزبنا دائماً موقف التأييد على الأهمية الكبرى لعلاقات الصداقة مع الاتحاد السوفياتي، من خلال المصالح المتبادلة والتطلعات الاستراتيجية المشتركة، لصالح تحررنا وتقدمنا ودفعنا على طريق هدفنا المرحلي في الخلاص من آثار عدوان حزيران.. قد لا نلتقي مع الاتحاد السوفياتي في بعض مواقفنا الايديولوجية وتقديمنا مطلب الوحدة العربية كهدف استراتيجي قومي أولي، ولكننا نلتقي بالتأكيد لا استراتيجياً فحسب بل وتكتيكياً، وحول هدف التصدي للحلف الامبريالي الصهيوني في سبيل دحر العدوان عن أرضنا.. ولقد تصدى حزبنا دائماً لحملات التشكيك أو لبوادر التغير التي كانت تنال من هذا المُقوم من مقومات استراتيجيتنا التحريرية واليوم وإذ حركة التحول والردة والتوجه باتجاه ((حل أمريكي)) تعمل على ضرب هذا المقوم الاستراتيجي فلا بد من وقفة واضحة وصريحة.

     إن من المُهين أن تتحرك بعض أبواق الدعاية وتلغط الألسنة داخل بعض النظم التي تقول بالتقدم، من الاتحاد السوفياتي وتتغذى من صداقته ودعمه، لتبرر حركة التحول فيها والارتداد بالتهجم على الاتحاد السوفياتي ولتُحمله ما هو من نتائج قصورها وعجزها، وعندما نقف للرد على هذه الحملة فليس ذلك وفاءً لصداقـة الاتحاد السوفياتي بل هو الدفاع عن مقوم أساسي من مقومات استراتيجية تحررنا.. إن الحملة ضد السلاح السوفياتي وتخلفه أو ما زودنا به من عتاد كماً ونوعاً قد ثبت بالنهاية في حرب تشرين، لقد سلمنا بحسب قدرة جيوشنا على الاستيعاب المتزايد وأكثر.. والحملة تقول أنه قد قنن السلاح.. أو لم يمدنا بحاجاتنا أيام القتال، وهو يبيعنا ويتاجر معنا ويربح وأنه يفكر بمصالحه قبل كل شيء.. كما تقول الحملة أنه متفق مع الولايات المتحدة الأمريكية من خلال سياسة الوفاق الدولي الجديد على تقاسم مناطق النفوذ وأنه أخلى المنطقـة لأمريكا، وأنه شبه غائب عن المعركة السياسية الراهنة، إلى آخر ما هنالك …

     أما أن تكـون للاتحاد السوفياتي مصالح وأن يستفيد ويتاجر فليس هذا بعنصر سلبي؛ وفي العلاقات بين الدول توجد دائماً مصالح، إلا أن هذه المصالح السوفيتية لم تأت يوماً لتعرقل تقدمنا أو مسيرة نضالنا بل العكس هو الصحيح.. وفي أيام الشدة أمدنا بالكثير فدعمنا ضد السقوط والاستسلام بعد هزيمة حزيران، وأيام القتال في تشرين كان مدده لا ينقطع ووضع كل وزنه السياسي والدولي في جانبنا.. أما موضوع سياسة ((الوفاق الدولي)) والاستراتيجية الدولية للاتحاد السوفيتي وآفاقها وحدودها وانعكاساتها على الأوضاع العالمية وحركات الثورة والتحرر، فإذا لم يكن من مجال هنا للخوض فيه، فإن آثار هذا الوفاق لم تنعكس سلباً على حربنا العربية في تشرين، وأعطت دوراً أكبر بكثير من ذي قبل للعوامل المحلية ومبادراتنا الذاتية ونفوذ الاتحاد السوفيتي لم يتدخل ليستغل حاجتنا لسلاحه، بل تدخّلَ ليسند تطورنا بوجهٍ عام وليسند تقدمنا نحو هدفنا في تحرير الأرض ودحر العدوان.. بل ونستطيع اليوم وبعد الذي جرى أن نقول إن الاتحاد السوفيتي كان أكثر عقلانية من قيادات نظمنا لحركة تلك النظم باتجاه هذا الهدف وطاقاتها واحتمالاتها ومؤدى حركتها، سواء قبل حرب تشرين أو إبانها أو بعدها، وبهذا يمكن أن نفسر مساعيه لوقف إطلاق النار وكذلك بالدفع إلى دخول الاطراف المعنية كلها في مباحثات جنيف ((للسلام)) والاتحاد السوفيتي لم يغب عن الساحة، وظل واضعـاً ثقله كله إلى جانبنا في المعركة السياسية، ولكن القيادات السياسية المعنية هي التي أخذت تتحول عنه وتستغني، لتوَجه مجهوداتنا السياسية كلها باتجاه الولايات المتحدة الأمريكية ولتجعل أمريكا هذه تنفرد بنا.

     فالاتحاد السوفيتي ومنظومة الدول الاشتراكية معه يظل سنداً كبيراً لحركتنا السياسية وضمانته، وإضعافنا لدوره ليس في صالح قضيتنا.. فليس الاتحاد السوفيتي هو الذي أخلى الساحة لأمريكا بل إن مناورات السياسة العربية الرسمية هي التي تفرض تقليص دوره ودعمه، تقرباً من أمريكا ومراضاة للرجعية العربية والمناورات الموجهة في هذا الاتجاه لا تُضعف الموقف السوفيتي فحسب بل وهي تضعف موقف الدول الأوربية في مسائلتها، وتضع الأقطار العديدة من العالم الثالث في مأزق.. إن الحلف الامبريالي الأمريكي الصهيوني هو وراء هذه الحملة المُركزة ضد الاتحاد السوفيتي تواكبه في ذلك الرجعية العربية.. وهو إنما يستهدف ضرب مقوم أساسي من مقومات استراتيجيتنا التحريرية، وهذا ما تدركه جماهير شعبنا، وهي اليوم وفي مواجهة هذه التحولات تصر أكثر من أي وقت مضى على أن تتمكن جسور الصداقـة التي امتدت بينها وبين الدول والشعوب الاشتراكية، و ستظل هذه الصداقة دعماً كبيراً لحقنا في أي مواجهة مقبلة، سياسية أو غير سياسية مع الامبريالية والصهيونية.

     سادساً: إن المقاومة الفلسطينية إذا لم تقّو على أن تلعب الدور الذي كان من المفروض أن تلعبه في استراتيجية المواجهة لأسباب وتطورات كثيرة معروفة، فإن مجرد وجودها وبقائها يشكل مشكلة بالنسبـة لإسرائيل والامبريالية.. وإذا كانت حركة ((الحل الأمريكي)) تتركز اليوم حول سورية و((فصل القوات)) على جبهتها كمرحلة ثانية من حيث تجزئة المشكلة وتجزئة استراتيجية المواجهة العربية فإن المقاومة الفلسطينية ستأتي في المرحلة الثالثة.. والحديث عن المقاومة هو الحديث عن فلسطين وعن المشكلة الأهم في حركة الصراع، وهو الحديث عن المستقبل.. فبعد فصل في جبهتي مصر وسورية سيكون مطلوباً أن تنزل بنادق المقاومة كلها بشكل أو بآخر.. ثم يكون التقدم نحو الحل أو الوقوف دون الحل.. فالسياسة الأمريكية تبشر بإمكانيات حل ينهي الصراع في المنطقة أو يوقفه إلى أمدٍ بعيد.. ومصر والسعودية على الأقل من بين الأقطار العربية يؤكد ساستهما على أن بين أيديهم ضمانات أو وعود قاطعة لهذا الحل، وبهذا تُحاصر المقاومة ويُحاصر الشعب الفلسطيني لترتيب أمرهما لهذا الحل، فما هو إذن هذا الحل؟ وبأية صيغة سيكون التقدم نحوه؟……..

     لقد سقنا كل هذا لنبين أن الاستراتيجية العربية الهادفة إلى ((إزالة آثار العدوان)) قد أصابتها التواءات وانحرافات كثيرة تهدد مسيرتها نحو هذا الهدف، وإن اللعبة الامبريالية تعمل على تفكيك هذه الاستراتيجية لضرب حركة الثورة العربية وقطع طريقها.. ومقابل ذلك فهي تقدم حلاً، أي وصولاً إلى جزء من الهدف سيكون حجمه بحجم ما يعطي من تراجعات عن أهداف الثورة كثورة وحدة واشتراكية.

     إن قوى التحرر والتقدم في الوطن العـربي مطالبة بالتصدي لهذه اللعبة أو المؤامرة الإمبريالية الجديدة، فالقضية الفلسطينية ليست قضية قطر عربي ولا أقطار المواجهة مجتمعة، بما فيها حركة المقاومة والشعب الفلسطيني، بل هي قضية الأمة العربية كلها ومستقبلها، ولا بد من مواجهتها بموقف قومي، وتحرك قومي.. لا بد من إيقاف حركة التراجع في مصر وسد الثغرة التي أحدثتها هذه الحركة بالنسبـة لاستراتيجية النضال العربي التي بنتها الجماهير وبناها عبد الناصر.

     وإذا كان من الممكن لحركة الجماهير أن تدفع داخل مصر لإيقاف التراجع وللثبات على طريق عبد الناصر،.. فلا بد أيضاً من نهـوض جماهيري قومي عريض بهذا الاتجاه، ولا بد من محاصرة ناصـرية لمصر من خارج مصر أيضاً، وفي مواجهة حركة التحول والتراجع والانحدار لا بد من مُستند ارتكاز جديد للصمود، فالتصدي فالصعود….. لا بد من وقفة مثلما وقف عبد الناصر بشعب مصر بعد الهزيمة فأوقف الانهيار وصنع الصمود و صنع التصدي… ولا بد أن تتأكد القدرة على الوصول إلى هدف التحرير وإزالة آثار العدوان، مع الثبات على طريق الثورة وطريق أهداف جماهير أمتنا.. لقد أثبتت حرب تشرين بمعطياتها الجماهيرية والعامة هذه القدرة.

     لقد أشرنا في النشرة السابقة لحزب الاتحاد الاشتراكي إلى أن أي قطر عربي متقدم وأن أية قوة عربية فعالة، إذا ما وقفـا ووثبا ليكونا بؤرة للصمود، سيوقفان حركة التراجع ويُحبطان المؤامرة الامبريالية وعندما نقول قطراً أو قوة فإن أنظاراً كثيرة تتوجه باتجاه القطر السوري والشعب العربي في سورية وباتجاه الشعب الفـلسطيني وحركة المقاومة، فهما البؤرتان اللتان مازالتا على قدر من التوقد.. ومن خلال هذا التوجه لا بد أن نتابع حركة الأحداث وحركة القوى والأفكار…

     إلا أن معطيات النظام السوري الراهنة في ما يخاطبه ويطوقه وفي محاصرته لنفسه وارتباطاته، وفي طبيعة حركته الداخلية ونوعية صلاته بالجماهير وتأرجح حركته العربية والدولية، تجعله وكأنه محكوم بحركة التحول بدلاً من أن يتقدم لصدهـا.

     وليكون قادراً على الثبات في وجه التحول وليكون صمود وصعود لابد له من تغييرات جذرية وكثيرة.. والتصحيح أو التغيير لابد له من استراتيجية ومن أبعاد ومن إمكانيات.. إلا أنه مطلب ملح، وأنه ليس مطلب المستقبل بل هو مطلب اليوم.. وسنتابع وراء هذا المطلب…؟

                                                          النصف الثاني من آذار 1974

يتبع.. الأخيرة 6/6؛ من هذه السلسلة

التعليقات مغلقة.