تهامة الجندي *
هطلٌ غزير، وسيارة الأجرة عالقة في زحام الصباح وعلى الزجاج الغارق بدموع السماء، لا أرى سوى وجه ’السّاروت‘ نحيلاً وخارجاً لتوه من عاصمة الثورة، ترّتد بي الذاكرة، فأراه على منصّة التظاهر، يرفع قبضته القوية، ويغني “جنّة يا وطنّا”. خذلناك يا جيفارا حمص، والوطن الجنة أضحى خرائب بلا مواطنين. أوزع ألمي ويأسي على جهات الأرض، مصير كتيبة البيّاضة هو ذاته مصير باقي كتائب “الجيش الحر” التي بسطت سيطرتها على معظم المعابر والبلاد في البداية، ثم حُوصرت وانقطع عنها السلاح والغذاء، فيما ارتفعت الأعلام السوداء القادمة من كل الدول، حتى تقتل حلمنا بالدولة المدنية وحقوق المواطنة.
حقوق المواطنة هي التي أخرجتنا عن صمتنا، وهي التي أخرجتني من بيتي في هذا الصباح الماطر، حتى ألتقي بحسان عباس مؤسس “الرابطة السورية للمواطنة”، وهي هيئة مدنية طوعية، تُعنى بالشأن العام، قامت في سوريا بالتزامن مع الحديث عن الإصلاحات وتعديل الدستور، أواخر عام 2011، وانتقل قسم كبير من أعضائها إلى بيروت. تؤمن أن أي شكل قد تنتهي إليه الأزمة السورية، لن يستطيع بناء الدولة المدنية الديمقراطية المنشودة، ما لم يقم على أساس المواطنة الكاملة.
ومحدّثي ناشط معروف من نشطاء المجتمع المدني والحراك السلّمي منذ أيام “ربيع دمشق”، وعن إنشاء الرابطة في زمن الثورة، قال: “بعد الانتفاضة دخلت سوريا مرحلة التغيير الأكيد، والمجتمع السوري يعيش حالة عوز في المواطنة، يعيش مواطنة منقوصة ومقموعة، ورأينا أنه من الضروري تهيئة الكوادر من الشبّان بشكل خاص، لحمل المسؤولية، وتحقيق التغيير من منظور المواطنة بعد انتهاء الأحداث، أطلقنا شعار “المواطنة هي الحل”، وبدأنا نعمل في سوريا بشكل سرّي، على تمّكين الشباب ووضع البرامج، لنشر ثقافة المواطنة ورفع الوعي بها، وأهم من هذا وذاك تعريف الناس بالمواطنة، وتحميسهم للوقوف إلى جانبها، وخلال سنتين من العمل نستطيع القول إن جهودنا لاقت صدى، ووصلنا إلى ما يعادل أربعة أو خمسة آلاف شخص من خلال برامجنا المختلفة. طبعا ليس لدينا انتساب إلى الرابطة بمعنى العضوية، عندنا عاملين ومؤيدين لأهدافنا وبرامجنا، وآليات عملنا لا يمكن إخضاعها للإحصاء، فحين نطبع كتابا على سبيل المثال، لا ندري من يقتنيه ويقرأه، ويتحمّس لما فيه”.
هل من صلة بين رابطة المواطنة و”ربيع دمشق”؟ سألت محدّثي، فقال: الانتفاضة التي تحوّلت إلى ثورة ثم إلى دراما فتراجيديا، كانت امتداد لربيع دمشق، والتجمعات التي قامت في بداية الحراك أغلبها كانت من نشطائه أو ممن تأثروا به. “ربيع دمشق” أسس لمخزون ثقافي منشور ومكتوب ومطّلع عليه، قائم على فكرة أن ثقافة الخوف يمكن خرّقها، وأن مملكة الصمت ليست أزلية، يمكن ان تُكسر، ثم جاء الإطار التونسي والمصري الذي شجع الناس على الخروج إلى التظاهر، لكن قبل ذلك كان المجتمع المدني موجود، لم يكن بدعة، كان يعيش تحت القمع الشديد، وهناك حبل سري ما بين ربيع دمشق وما قبله، سورية لم تكن مستنقعا، كانت تبدو كذلك للناظر على السطح، هؤلاء الشباب لم يأتوا من العدم، جاؤوا من مجريات وأحداث وواقع يتطور”.
لماذا انتقلتم إلى بيروت، وما هو الفرق بين العمل داخل سوريا وخارجها؟ قال: بات العمل في الداخل خطيرا جدا، نتروّى كثيرا قبل البدء بأي نشاط، مع أن أنشطتنا توّعوية، لكننا نحذر، حتى لا نخسر المزيد من الشباب، فدخول السجن اليوم، يعني عدم الخروج منه، أو الموت فيه تحت التعذيب، أما في لبنان فثمة مجتمع مدني سوري لبناني ناشط جدا في أجواء اللجوء، لكن تسعون بالمئة من نشاطه ينحصر بالإغاثة الغذائية فقط، وعلى الرغم من أهمية هذا الجانب، فإن الأمور يجب أن لا تقف عند إغاثة الغرائز من مأكل ومشرب، بل تتعداها إلى إغاثة الفكر، بمعنى تنمية المواهب والمدارك والوعي السياسي، هؤلاء المهجّرين لن يقضوا أربع سنوات، من دون أن يضعوا تصوّرا لبلدهم الذي سيعودون إليه، أظن أن طبيعة المجتمع السوري لا يمكنها البقاء إلا في حالة المواطنية، لكن الظروف التي عاشها السوريون جعلتهم يغيبون عنها، يكفي أن هناك سبع حركات تحكي بالمواطنة، وأن أي مجموعة سياسية تطلق بيانا، تتوجه به نحو المواطن، لأن المواطنة هي المفهوم العابر للطوائف والإثنيات وكل تصدّعات المجتمع”.
انطلقت “الرابطة السورية للمواطنة” من ثلاثة برامج، وثلاثة مشاريع، واليوم لديها تسعة برامج، وثلاثة وعشرون مشروعا. وتساءلت: كيف تعلنون عن أنشطتكم وبرامجكم في ظروف العمل السري؟ قال حسان: نعلن بكل الطرق الممكنة، عن طريق الاتصال المباشر، أو عن طريق وسائل الاتصال الحديثة، لدينا موقعنا على الإنترنت، وثلاث صفحات على الفيسبوك، إلى جانب شبكة واسعة من الأصدقاء داخل سوريا. كنا نجازف ونجتمع، رغم الخطر وحظر التجمّعات. حدث لنا مثلا، أن دعينا إلى لقاء حول الدستور السوري في نهاية 2011، مع باحثين متخصّصين، وحضر اللقاء ما يقرب من ثمانين شخصا، وقبل أن نبدأ، وصلنا خبر أن رجال الأمن سيكّبسون المكان، نقلنا الخبر إلى المشاركين، وقلنا لهم، لا يمكننا أن نكون مسؤولين عن أمن أي منكم، لأن أحدا لا يستطيع أن يفعل أي شيء أمام الأمن، أجرينا تصويت ديمقراطي، إن كانوا يرغبون أن نكمل، وليحدث ما يحدث، أم نعود إلى بيوتنا؟ الغالبية العظمى كان رأيها أن نعود إلى منازلنا، وفضضّنا الاجتماع بكل بساطة”.
واحد من برامج الرابطة التسعة يُدعى “المعرفة”، مخصص للأنشطة الثقافية، وينضوي على ثلاثة مشاريع، الأول “النادي السينمائي” يُقام بالتشارك مع فضاء نسوية في بيروت، عرض 17 فيلما لجودتها وتطرقها لموضوع المواطنة. والمشروع الثاني “ندوات” تم إيقافه في بيروت، لصعوبة جمع السوريين حول نشاط ثقافي، كما ذكر حسان، وأضاف: “إما لا يأتون، أو يأتون بأعداد قليلة جدا. كنا نقيم ندوتين، أو طاولتين مستديرتين في الشهر، بين سوريا وبيروت أقمنا 33 جلسة حوار، كانت تضم من عشرة إلى ثمانين شخصا، وفي واحدة منها ارتفع العدد إلى 115 مشاركا”.
المشروع الثالث “نشر”، عمره خمسة شهور، يُعنى بإصدار المطبوعات في ثلاثة محاور: “شهادات سورية”، وهي نصوص ذات طابع أدبي، يكتبها الشباب حول تجاربهم، صدر منها أربعة كتب، وأربعة لا تزال قيد الطبع. الثاني “سلسلة المواطنة” صدر عنها كتاب “أصوات سورية من زمن ما قبل الثورة”، وسيصدر آخر، بعد أسبوع عن واقع المرأة السورية، والمحور الثالث “التربية المدنية”، كتيبات ذات طابع فكري مبسّط، من تأليف باحثين سوريين، لنشر ثقافة المواطنة، ستصدر منها خلال الأسابيع القليلة القادمة خمسة كتيبات حول العلمانية، المجتمع المدني، حقوق الطفل، الوضع الاقتصادي بعد الأزمات، والديمقراطية، وقال محدّثي: “عندنا جدول بالمواضيع الهامة التي نريد أن نُعرّف بها، ونحن من نتصل بالباحثين الذين سيشتغلون عليها، أما الشهادات السورية فهي تأتي من ذاتها، وتمر عبر لجنة قراءة المخطوطات، ونحن نسعى حتى نهاية 2014، أن نصدر بين عشرين وخمسة وعشرين كتابا، بألف نسخة”.
“التمّكين” هو البرنامج الآخر للرابطة، وهو عبارة عن ورش تدريبية، تُقام مرة في الشهر أو مرتين، ذات صلة مباشرة بالمواطنة وقيمها ومرجعياتها، من مثال حقوق الإنسان والنوع الاجتماعي، وقريبا تُعقد ورشة عن العلمانية كقيمة من قيم المواطنة، قال حسان، واستطرد: “عقدنا حوالي خمس عشرة ورشة في بيروت، ضمت كل واحدة منها بين 15 و25 متدرّب، نصفهم من الجنس اللطيف، لأننا ننطلق من الإيمان بأن المرأة نصف المجتمع، حتى المدربين لدينا نصفهم من النساء، وورشنا تُقسم إلى نوعين، ورش توعية، يمكن ان يُدعى إليها أشخاص ليس لهم أية معرفة بموضوع الورشة، لكنهم يرغبون أن يكونوا ناشطين في المجتمع المدني، وورش اختصاصية أكثر تقدما، مثل ورشة “المواطنة والإعلام، التي أقمناها قبل فترة وجيزة، وكانت خاصة بالصحفيين الشباب، أو ورشة “العدالة الانتقالية” الخاصة بالمحامين، ممن يرغبون أن يعملوا على هذا الموضوع في المستقبل. أغلب مدربينا من السوريين، وإقامة المتدربين على حسابنا، ونحن ننطلق من مبدأ أن الإنسانية جمعاء، هي قيمة من قيم المواطنة في وطن كبير، لم يعد له حدود بفضل وسائل الاتصال والتواصل، وقد بات مصطلح “المجتمع المدني العالمي” واحدا من المصطلحات المتعارف عليها، مجتمع عابر للأوطان، مثله مثل السوق العابرة للحدود، لذلك ليس لدينا أية مشكلة في التعاون مع الخارج، لا نراه مخيفا ولا متآمرا، لكن عندنا مصفاة قوية جدا لاختيار الداعمين، لا نرضى أن نتعامل، ماليا على الأقل، مع أية هيئة تحمل إشارة أنها تتعامل مع حكومة، نحن نتعامل مع هيئات المجتمع المدني”.
وماذا عن ورشة العدالة الانتقالية؟ سألتُ، قال: هي ليست مجرد ورشة من ورشنا، هي واحدة من برامجنا، فمنذ سنتين وإلى الآن، بعد أن بدأت الأحداث في سوريا تأخذ منحى تدميريا، حرب لها طابع أهلي، ولا أقول أهلية، ظهرت لدينا الكثير من التطلعات والمنظمات حول مسألة العدالة الانتقالية، وقبل أن نصوغ برنامجنا، أخذنا فترة طويلة من التأمل بما يقوله أولئك الناس، واتضح لنا أنهم كانوا متسرعين جدا، أخذوا القضية كما يُروج لها، وتُعالج في مراكز البحوث العالمية، وحاولوا ان ينقلوها ويطبقوها في بلدنا، قلنا هذا جهد مشكور، لكن إذا أردنا أن نبني عدالة انتقالية صحيحة في سوريا، يجب أن نلتقي بالضحايا أولا، ووضعنا برنامجنا بالعكس تماما من برامجهم، بدل أن نأتي بالأفكار ونطبقها على الواقع السوري، نعمل على استنباط الفكرة من سوريا، أقمنا العديد من جلسات الحوار الجماعية مع الضحايا، داخل المجتمع السوري، وفي مجتمع المهجّرين السوريين، ومشروعنا يرمي إلى التدريب على آليات العدالة الانتقالية، الجمع بين ما يريده الناس، وما هو ممكن عمليا، ومشروعنا يتقدم، ويلاقي الإقبال”.
وهل وصلتم إلى أفكار محددة بشأن العدالة الانتقالية في سوريا؟ سألت، وقال: في محصلة كل الجلسات التي عقدناها، يمكن القول إن أكثر ما يريده الناس هو جبّر الضرر، والعودة إلى ديارهم، يريدون سوريا، ولكن ليس كما كانت قبل الثورة، يريدونها وطننا للجميع، ومن المفيد أن يفهم العالم أن قضايا القتل والثأر والانتقام، ليست هي الراسخة في عقول السوريين.
– أتصور ان لا أحد يروج للأفعال الانتقامية سوى “داعش” و”النصرة” وغيرها من الفصائل التكفيرية.
– المشكلة ان صوتهم عال، لأن إمكاناتهم كبيرة، وشبكتهم واسعة. شبكة التديّن موجودة أصلا، وهي تتسع أكثر، وتتطرّف في حالات الفقر والقمع والتدهور الأمني وغياب المواطنة. نحن نصادف الكثيرين ممن يحملون الفكر الأصولي، من دون أن يعرفوا الفكر الآخر، وحين نتحدث معهم، نكتشف أن جدار الأصولية والتعصب الذي ظهر في خطابهم الأول، ليس له عمق، وأن العمق الحقيقي هو الرغبة في أن يعيشوا معا. مشكلتنا في أن نوصل صوتنا إليهم، ونكسر هذا الحاجز الوهمي من الأبيض أو الأسود، وأنا لا أتكلم عن طريق ثالث، بل عن طريق جامع.
ضياع التراث، ونهّب الآثار، واحدة من الإشكاليات التي تواجه المجتمع السوري الجديد، ما بعد الثورة، و”ذاكرتي” برنامج يحاول حفظ الذاكرة الجمعية الثقافية على منحيين، الأول: توثيق التراث المادي، الثابت والمنقول، في إطار مركز للأبحاث، يضم مخزن بيانات عن الآثار السورية، بما فيها المسروقة، أو المتضررة من الحرب، ويسعى إلى بناء شبكة من الباحثين الأثريين في العالم، للمساعدة على حماية الآثار السورية، واستعادتها في المستقبل. وفي منحاه الآخر يعمل البرنامج على حفظ التراث اللامادي، ورصد الظواهر المسّتجدة، فواقع النزوح أحدث تفككا في التجمعات السكانية، ما أدى إلى فقد الكثير من حكايات الجدّات، الأغاني، أطباق المطبخ السوري، العادات والتقاليد، وفي المقابل برزت ظاهرات ثقافية جديدة في تجمعات اللاجئين، لم تكن موجودة فيما مضى، كتزويج القاصرات، الذي بات ظاهرة تجد من يدافع عنها، أو كآليات التعامل مع المكان، حيث لا مكان، مثل تحويل خيمة إلى مدرسة، وتعليم الأطفال في ظل غياب المناهج، وهي نماذج ثقافية، يمكن تعميمها ونقلها إلى العالم.
وأسألُ، ماذا عن الظواهر الثقافية الجديدة، في الفن التشكيلي مثلا؟ ويجيب حسان: من الخطأ الذي يقع فيه الكثيرون، بمن فيهم بعض الباحثين، أنهم يظنون أن التراث هو الموروث الثقافي، التراث هو الموروث والمُعاش، مادام الإنسان يعيش فهو يخلق ثقافة جديدة، والثقافة الجديدة ليست هي السينما والكتب والمسرح، هي كيف يتعايش الإنسان مع الفضاء العام.
ثمة برامج أخرى قيد الإنجاز، منها إنشاء مراكز تربوية اجتماعية للسوريين المهجّرين، ترمي إلى نشر ثقافة المواطنة، تحديدا عند الأطفال في دول اللجوء، ما يعني خلق علاقة مع الحاضنة الاجتماعية الجديدة، ليس من منظور حقوق المواطنة، فهؤلاء خارج وطنهم، لكن من منظور حق العيش، والواجب الإنساني، واجب التضامن الاجتماعي في الوطن المًسّتَقبل، إزالة الحواجز والشروخ ما بين المُهجّر والمُسّتَقبل، وإيجاد آليات اندماج مجتمعي للكبار، سيما النساء.
ويتابع حسان عباس: كذلك “أمهات سورية” مشروع جديد، يجمع صور وقصص أكثر من ثلاثين أم مثكولة، أعتقد سيكون له أثر كبير. لأن الأم تروي وجعها، بكل ما عندها من كرامة وتواضع، تعي عمق المسؤولية، حين تحكي عن موت ابنها، ثم تفهم أن موته لم يكن قدرّيا، لأنه مات من أجل وطن يُبنى، وأعتقد أن السلطة السورية لا ترى هذا البعد، تعتقد أنها إذا انتصرت بالسلاح، حلّت المشكلة، أبداً، ثمة ثقافة جديدة اسمها ثقافة التغيير، قد يطول الأمر، لكن الماضي انتهى، ولا يمكن أن يعود، لم تعد سوريا في زمن الأسد.
(1). لقاء الكاتبة مع المرحوم ” د. حسان عباس ” جرى في بيروت، صباح الثامن من أيار 2014.
——————————
* كاتبة وصحافية سورية، مهتمة بالدفاع عن حقوق الإنسان
المصدر: صحيفة المستقبل، ملحق نوافذ 18 أيار 2014
التعليقات مغلقة.