برهان غليون *
1- حصاد نصف قرن من الحماقة السياسية وانعدام المسؤولية الجماعية:
كشفت الثورات التي شهدتها الأقطار العربية في العقد الماضي عن الأسس المنخورة والفاسدة التي قامت عليها منظومة الحكم والإدارة في البلاد العربية. ولا تكاد دولة عربية واحدة تنجح في الهرب بنفسها من دائرة الانهيار والفوضى والاضطراب الشامل الذي يدمّر أسس السلام والتفاهم والتضامن داخل المجتمع الواحد، وبين الشعوب القاطنة الإقليم نفسه، من دون أن تظهر في الأفق معالم صحوة وعودة إلى الحد الأدنى من التفاهم والتعاون والاتساق.
يدفع العالم العربي ضريبة نصف قرن من سياسةٍ بائسةٍ تقوم على الإهمال والجشع وشهوة السلطة والجهل وانعدام الشعور بالمسؤولية الجماعية، ووضع السلطة في خدمة المصالح الخاصة لأهل الحكم وأبنائهم وأعوانهم وأزلامهم، في الوقت الذي لم يكفّ التقدم الحضاري، الاقتصادي والتقني، لكن أيضا القانوني والسياسي والأخلاقي، في المجتمعات المركزية، عن توجيه تحدّياتٍ لم تحاول النظم السياسية القائمة حتى النظر إليها، والتعرّف إلى آثارها، ولم تنهل منها إلا ما يساعدها على إخضاع مجتمعاتها وإذلالها، وتعميق الهوّة التي تفصلها عنها. وهكذا تراكمت المعضلات والمشكلات التي لا حل لها، وكبرت المظالم والاختناقات والتناقضات التي لا تجد مجالا للتنفيس عنها أو للتخفيف من آثارها. فما كان منها إلا أن تفجّرت في وجه أهل الحكم أنفسهم، وفجّرت معها الصراعات العميقة، الاجتماعية والسياسية والثقافية والأيديولوجية التي كان في اعتقاد هؤلاء أن الأنظمة القهرية والقاهرة التي أفرزتها قادرة على تجميدها، بل إخمادها إلى الأبد.
لم يعد هناك أبد اليوم. أما الزمن فقد انصهر في لحظة واحدة لن تبرح فيها الشعوب انتفاضاتها حتى تتحقق من الوصول إلى أهدافها. وكل المحاولات التي تقوم بها بقايا النظم القديمة المتعفنة وأنصارها وحماتها لإعادة الجمهور إلى القفص وكبت التناقضات والإغلاق عليها من جديد وكبتها، لن تقود إلا إلى جعل طوفان العنف الجارف القادم أكثر قوة ودموية مما حصل حتى الآن.
لا يمكن حل المسائل الاجتماعية المتنامية بموازاة نمو المجتمعات، وتقدّم اندماجها في الزمانية العالمية، وتطلعاتها الحضارية، بالكذب والخداع والعنف المعمّم الذي اعتادت عليه الأجهزة الأمنية التي تكاد تصبح الوجه الأبرز للدولة والسلطة ذاتها. ولا يمكن القفز عليها بوعود خلبية لم يعد الجمهور يثق بأيٍّ من أصحابها، مهما كان أصله وفصله وعلمه وسحره وعقيدته الدينية والسياسية. يريد الناس اليوم أفعالا قوية وصريحة وواضحة، تبرز سير الإصلاحات المطلوبة بالعين المجرّدة. ويريدونها سريعة، بل فورية، ترد على أوجاعهم وتخفّف معاناتهم وبؤسهم، وترد على قلقهم على الحاضر وخوفهم من المستقبل المظلم عليهم وعلى أبنائهم. ومهما فعل أهل الحكم الجدد سوف يبدو هزيلا بالمقارنة مع المطلوب تحقيقه، لتخفيف الضغوط وتسكين المخاوف وتنفيس التوتر وتهدئة الاضطراب. وليس هناك من شك في أن الجمود والشلل اللذين تبديهما أكثر النظم العربية ينذران بولادة حقبة ثانية من العواصف والزوابع التي تهدّد الجميع، وتدمر كل ما تصادفه في طريقها.
2 – “الظلم المنذر بخراب العمران” وبالغزو الأجنبي:
صحيحٌ أن سياسات إيران الخامنئية وأطماعها التوسعية واستراتيجيتها الخبيثة الالتفافية والطائفية تلعب دورا كبيرا في زعزعة نظم الحكم والمنظومات الأيديولوجية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمنطقة برمتها، خصوصا في المشرق، ولكن من الصحيح أيضا أن هذه الزوبعة الكبرى الإيرانية ما كان يمكن أن تُحدث ما أحدثته من آثار لولا الهشاشة والركاكة التي تسم بنيات هذه المنظومات الحاكمة العربية، والأسس الواهية التي تقوم عليها سياسات الحكومات المحلية تجاه قضايا المجتمعات الرئيسة والحاسمة أولا، وتجاه النخب الاجتماعية المختلفة التي همّشت تماما أو أجبرت على الصمت، أو لم يعد لها خيار سوى الرحيل أو الموت البطيء في سجون مظلمة أبدية، لصالح مجموعات ضيئلة وضعت يدها على جميع موارد الدولة وسلطاتها، ورأت في الآخرين جميعا أعداء ومنافسين، ووصفتهم، قبل أن ينبسوا ببنت شفة، بالمتآمرين والحاقدين الذين لا هم لهم سوى العمل على تقويض سلطة الحاكمين، وتنغيص العيش عليهم، وإخراجهم من الحكم والحلول محلهم.
لم تقم هذه النخب التي تحولت اليوم إلى ما يشبه المافيات المحترفة والجبارة، بما تحوزه من موارد هائلة جرّاء سيطرتها على الدولة، التي جعلت منها المحاور الشرعي الوحيد للمجتمع الدولي والمؤسسات العالمية، بأي مبادرة أو استعدادات من شأنها أن تساعد الشعوب على مواجهة العاصفة أو حتى الحد من آثارها. وها هو نظام مثل نظام الوحش (الاسم الحقيقي للأسد) الذي تعترف المنظمات الحقوقية العالمية اليوم صراحةً بمسؤوليته عن ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وتنشر الوثائق الدامغة عن هذه الاتهامات، يسرح ويمرح كما يشاء على ما تبقى له من الجغرافيا السورية، ويستمر في اعتقال السوريين وتعذيبهم وقتلهم من دون عقاب، ويستمع أعضاء مجلس الأمن لمرافعات مندوبه وشتائمه بشكل دائم، بل لا يمانعون في ترشيح هذا الأخير لرئاسة لجنة نزع الاستعمار، وهو الذي يمثّل نظاما يمارس شكلا مطوّرا وأكثر عنفا منه، داخل حدود سورية نفسها، وضد الشعب الذي يفترض أن يكون المسؤول الأول عن حمايته وضمان أمنه والدفاع عن حقوق كل فرد فيه.
بل إن العجز الفاضح عن بلورة رد متّسق ومتكامل وموحد على عاصفة الموت الإيرانية يعكس، بشكل أكبر، هذا الشلل الذي أصيبت به النظم العربية، فلا رد عسكري ولا سياسي ولا ثقافي ولا حتى ديني على الغزو السافر الذي تتعرّض له المجتمعات العربية من ولاية الفقيه الإيراني، والذي نجح في التوطن في أربعة أقطار عربية بصورة واسعة، وربما يصعب الرجوع عن كثير من آثارها في المستقبل. فلا تزال الخلافات وتسعير العداوات العربية العربية بين الأقطار المختلفة، وداخل كل قطر، هي النشاط الأبرز، بل محور نشاط المجموعات الحاكمة على المستويات جميعا: السياسي والفكري والأمني والاستراتيجي. فبدل أن تقوم بتفعيل اتفاقيات الدفاع المشترك، أو التنسيق في ما بينها، أو الإعلان عن تضامنها في مواجهة الغزو الخارجي والعداون الموصوف عليها واحدها بعد الآخر، تسعى البلدان العربية الأكثر قوة وثراء إلى التوظيف في الغزو الإيراني لإعادة تقويم موقفها على حساب البلدان العربية الأخرى، وربما من أجل تعويم نفسها أمام الدول الكبرى، كما لو أنها تريد أن تستفيد من غرق بعضهم لتنتزع الاعتراف العالمي بجدارتها وقدرتها على الهرب من المخاطر، بدل مواجهتها. وبدل إبراز إرادة حقيقية على العمل الإقليمي، والتفاهم مع الأطراف القريبة العربية، وتجميع القوى، وإقامة سد قوي سياسي وعسكري، لمنع التطرّف الإيراني وردعه، ترتمي الدول العربية، واحدتها تلو الأخرى، على خطب ود الجيران، أو تجديد البيعة للسلطانين، الأميركي والروسي، وغيرهما من سلاطين عالم اليوم، والتشبث بالسياسة الانفرادية ذاتها، مع زيادة الاستثمار في تأكيد أواصر الصداقة مع الدول الكبرى، من خلال الإنفاق على سلاح لن يُستعمل، ولن يفيد استخدامه شيئا سوى مزيد من الغرق في التبعية وضياع البوصلة الإقليمية وتعرية الخاصرة، بانتظار مزيد من الضربات الإيرانية القادمة، المباشرة وغير المباشرة. ينبغي البحث عن سبب نجاح الغزو الإيراني واختراقه الدفاعات العربية، بل تدميره المشرق بأسره على رؤوس ساكنيه وشعوبه في تطبيق الدول العربية سياسة واحدة: أنج سعد فقد هلك سعيد. وفي النهاية، لم ينج ولن ينجو أحد. ومن سيوقف التوسع الإيراني هو من سوف يرث مكاسبه ويحصد ثماره.
3 – الانتحار الجماعي أو سياسة قتل الذات:
ليس هناك أكثر من فوضى الرد العربي على الغزو الإيراني حافزا لدفع الإيرانيين الخمينيين إلى مزيد من التوغل والتجبر والتآمر على البلدان العربية وتفكيكها من الداخل والخارج، لبسط هيمنتهم الإقليمية والتفاهم في ما بعد مع القوى القوية من إسرائيل وتركيا وغيرهما لتقاسم النفوذ والسيطرة في الشرق الأوسط على حساب العرب، ومن أجل تقاسم مواردهم وثرواتهم وأراضيهم أيضا.
وفي الوقت الذي توظف فيه طهران معظم عوائدها، إن لم يكن جميعها، في تمويل التقدّم التقني والصناعات الاستراتيجية، لتعزّز هامش مبادرتها الجيوسياسية واستقلالها، تفاقم النظم العربية من تبعيتها الاستراتيجية، بزيادة الاعتماد على مشتريات السلاح والخبرة الأجنبيين. وفي الوقت الذي توجه فيه طهران جل استثماراتها الخارجية لاختراق المجتمعات المشرقية، فتشكل المليشيات الطائفية، وتسلحها وتدربها، حيثما تمكنت من ذلك، وفي الوقت الذي لا تكفّ فيه عن إقامة المستوطنات وتوسيعها، لفصائل الحرس الثوري الإيراني ومليشياته الأفغانية والباكستانية وغيرها على الأراضي السورية، لتحسم مسألة الهلال الشيعي الذي يربطها بالمتوسط، وتستطيع من خلاله حصار الخليج، وتطويقه إلى أجل غير مسمى، تراهن نظم عربية كثيرة على هجرة السكان إلى أوروبا أملا في الحصول على بعض عوائد الاغتراب، وبعضها لا يتردد في استخدام المتفجرات لتدمير مدنهم وقراهم، ودفعهم إلى الهجرة والنزوح عن أراضيهم لاغتصابها والمتاجرة بها.
وفي الوقت الذي لا تتردّد فيه طهران في التمويل العلني لحركات التشييع المدعوم من الحكومة، مستفيدةً مما يحدثه غزوها وعمل مليشياتها من دمار لشروط حياة المجتمعات العربية، وحاجة الجمهور المشرّد الذي خانته سلطات الأمر الواقع العربية، لسد رمق أبنائه وجوعهم، وتنتظر التحاق ملايين الناس بها، وفي الوقت الذي لا تكفّ فيه عن بناء “الحسينيات” في كل مكان تطأه أقدام مليشياتها وسائحيها، حتى لو اضطرها ذلك إلى اختلاق مراقد صحابة وأولياء لم يسمع بهم أحد من قبل في المناطق التي لا أثر للتشيّع فيها. وفي الوقت الذي لا تكفّ فيه عن بناء الجامعات والمدارس والمعاهد العلمية التي تستخدم اللغة الفارسية، وفي الوقت الذي تجعل فيه من نفسها حامية الحقوق الإسلامية في فلسطين والقدس، وتعزّز مواقعها العسكرية والسياسية والفكرية في قطاع غزة، لا تجد النظم العربية معركة تستحقّ الخوض بتصميم وإصرار لا حدود لهما، وبكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، سوى المعركة ضد “الإسلام” الذي تعتقد خطأ، كما أوهمها بعض المتسمّمين بداء “الحداثة”، من أشباه باحثين إسلامويين أو علمانويين، أنه مصدر الخطر الوجودي عليها، لما ينطوي عليه فكره وتعاليمه من بذور التطرّف والتمرّد والتوحش والفتنة والنوازع الإرهابية. وهي بذلك تتخلى من تلقاء نفسها عن أهم رأسمالها الروحي والثقافي والحضاري دفعة واحدة ومن دون مقابل: عن الإسلام وعن الإرث العربي وعن فلسطين وعن القدس وعن قيم السيادة والاستقلال التي يمثلها التمسّك بالهوية والدفاع عن الكرامة الذاتية الوطنية والدينية. وهي تعتقد أنها بذلك تحمي نفسها ومجتمعاتها من بذور التمرّد أو الاحتجاج الذي تنسبه للاعتقاد الديني، وهي على ثقةٍ من أن تقرّبها من الدول المركزية الكبرى، وشراء ود الولايات المتحدة وروسيا والصين وأوروبا هو الذي يضمن لها الحماية والرعاية والمؤازرة عند الشدة، في وقتٍ لا تقوم فيه إلا بحفر قبرها بيديها.
ويشير ذلك كله إلى أنها تعيش في حالة من الهوس الدائم حول مصيرها ومستقبلها، ولا ترى معركةً تستحق أن تُخاض اليوم على اتساع الرقعة العربية سوى معركة تصفية الحساب مع الإسلام السياسي وغير السياسي، ومع كل من لا يزال يفكّر في استلهام مبادئه أو الاستفادة منه لبناء قوى سياسية أو أيديولوجية قادرة على التحرّك والعمل ككيانات فاعلة ومنظمة. لكن النتيجة واضحة، أن المجتمعات العربية تجد نفسها ضحية ثلاث حروب متقاطعة في الوقت نفسه: الحرب الكبرى التي تشنها النخب الحاكمة على قوى النقد والإصلاح والاحتجاج الناشئة، أو التي من المحتمل نشوؤها والعمل على قتلها في المهد قبل أن تنضج أو تتحول إلى واقع، والحرب التي يمثلها الغزو الإيراني الإيديولوجي والسياسي والعسكري أيضا في المشرق باسم الإسلام، ودفاعا عنه ودفاعا عن فلسطين والقدس المقدسة، وعن قيم الاستقلال والسيادة الإقليمية تجاه التدخلات الأجنبية القادمة من خارج المنطقة. والثالثة حرب التدخلات الغربية، الأميركية والروسية والتحالف الدولي باسم الحرب العالمية على الإرهاب، وما تقود إليه من عنفٍ أعمى ساهم في تفكيك بنى المجتمعات وتدمير مدنها وقراها وتهجير سكانها أكثر مما قضى على الشبكات الإرهابية الحقيقية، كما تظهر ذلك تسوية مدن تاريخية عديدة، في العراق وشرق الفرات، بالأرض، والقضاء على حضارتها وشعبها وتحويلها إلى أثرٍ بعد عين.
وباختصار أكثر، إذا تمكّنت النظم العربية التي جمعت الفساد إلى انعدام الكفاءة إلى غياب أي حسّ بالمسؤولية الوطنية أو حتى الأخلاقية، من البقاء، سيحتاج العرب إلى قرن آخر كي يتمكّنوا من استعادة أنفاسهم ووعيهم وإعادة بناء هويتهم وثقافتهم ومجتمعاتهم، وربما لن يستعيدوا شيئا أبدا، ويصبحوا مناطق مفتوحة أمام أي غزو ومسرح حروب متقاطعة للدول الطامعة فيها، كما كانت عليه الجزيرة العربية وحواشيها السورية والعراقية قبل الإسلام، أي مرتعا لإماراتٍ تعيش في حماية الإمبراطوريات القوية، وتوظف شبابها جنودا في حمايتها، وتوفير شروط السلام والازدهار لشعوبها، كما كان حال إمارتي المناذرة والغساسنة أيام زمان.
لم يعد العداء للأمة، أي لفكرة الشعب السيد المسؤول، يمثل، كما ذكرت قبل ثلاثة عقود، وظيفة الدولة في عهد النخب الحاكمة وبطاقة نيلها الشرعية لدى المنظومة الدولية السائدة. لقد أصبحت، أكثر من ذلك، مركز تنظيم التحالف بين القوى المحلية والأجنبية للإيقاع بالشعوب وسلبها حقوقها وحرياتها حتى أصبح من الصعب التمييز بين الغزو الداخلي والغزو الخارجي. هكذا تتحلل الأمم وتتحول هشيما يقدم للقوارض من النخب الحاكمة ما يعزز حلمها في البقاء الذي تتوهم أن يكون الى الأبد. بئس الساسة وبئس السياسة وبئس المصير.
* مفكر وأكاديمي سوري، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.