رشيد بوطيب *
لا أريد أن أقول بـ ’’رينانية‘‘ سياسية، تربط استمرار الاستبداد في السياق العربي بثقافة أو دين، فتلك الرؤية الثقافوية لا تكتفي بتزييف الوقائع وهي تخلط بين الأعراض والأسباب، ولكنها تقف ظهيراً للاستبداد، سواء أدركت ذلك أم لم تدركه. ولكني أجدني، بالنظر للهيمنة الثقافية للاستبداد في السياق العربي، والتي ترسّخت من خلال سياسات ممنهجة، عبر ضرب النظام التعليمي، وهو أمر يرقى إلى حرب أهلية غير معلنة على الطبقات الفقيرة، وضرب الأحزاب الجماهيرية والصحافة الحرة، والمساهمة في تمييع التقنية ووسائل التواصل الاجتماعي، أجدني أمام هذا الواقع مضطراً للتفكير في سبل بناء ثقافة ديمقراطية مضادة، فبدون هذه الثقافة الديمقراطية النقدية، سيكون من الصعب التفكير- أو التأسيس- لانتقال ديمقراطي حقيقي وقابل للاستمرار.
قد يحتج أحدهم بالقول بأن الديمقراطية نشأت في دول لم تكن فيها ثقافة ديمقراطية. ولكن هذا الرجوع إلى التاريخ يُغفل أن واقعنا العربي الذي يحكمه الاستبداد الداخلي والتدخّل الخارجي والذي تملأ ثقافته الأبويةُ والاتكالية منذ قرون، والذي لم يعرف “تنويراً” ولا “إصلاحاً دينياً”، يختلف في شروطه الموضوعية كثيراً عن واقع البلدان الأوروبية التي نشأت فيها الديمقراطية، وأن المقارنة هنا، تحجب عنا الواقع العربي أكثر.
وحتى وإن فكّر أصحاب هذا الرأي في الديمقراطية، فسيفكرون فيها كمونوديمقراطية، تستند إلى هوية أو ثقافة معيّنة، أو إلى ما سمّاه ’’جاك دريدا‘‘ بالأخواتية أو “الديكتاتورية السياسية للإخوة”. إن للاستبداد في سياقنا العربي آلياته الثقافية الضاربة بجذورها في التاريخ، ولهذا لا نرى سبيلاً إلى نجاح مسلسل الدمقرطة أو الانتقال الديمقراطي بدون التأسيس لما يمكن أن نسميه بالانتقال الثقافي، والذي لا يقل أهمية، في الحالة العربية، عن التطوّر الاقتصادي.
لقد صرّح حاكم عربي يوماً بأنه “لا يمكننا أن نطعم الناس قرآناً”، حين ثم تحذيره من “الخطر الإسلاموي”، ولكن العقود التي أعقبت حكمه، ستثبت قصر نظره. ولم يكن الأمر على تلك الحال في البلد الجار، الذي كان نظامه السياسي على وعي بأهمية العامل الثقافي، وسيبسط هيمنته الثقافية على تفاصيل الحياة الثقافية والدينية والفنية للبلد، بل سنجده يعترض بشدة حتى على محاولات تجديد الموسيقى التقليدية. فالتراث يمثل امتداداً للسلطة وهويتها الثقافية.
يمتلك الاستبداد في السياق العربي سياسة ثقافية واضحة المعالم، فمن يتحدث عن “الأمن الروحي”، يدافع عن نظرة معيّنة وتفسير رسمي للدين، ويقطع الطريق على كل فهم ليبرالي للتديّن. إنه يحول الدين إلى ملكية للسلطة. ولكن قد تبدأ الثقافة الديمقراطية في السياق العربي، بتقديم تفسير “ديمقراطي” للقرآن، كما كتب جاك دريدا والتأسيس، وفقاً له، لذاتية علمانية. فالأمر لا ينتظر نهاية الاستبداد.
إن مهمة كل ثقافة ديمقراطية نقدية أن تفهم الماضي من خلال الحاضر، أي من خلال الفتوحات المعرفية والسياسية والحقوقية للحداثة، ولأن السياق العربي يعرف تضخّماً في استعمال الدين وتحالفاً بين “الدين” والسلطوية، فيجب العمل أولاً على نقض هذا التحالف وتوضيح زيفه، وتوضيح أن الخطاب القرآني يقف ضد الاستبداد. إن الاستبداد يحكمنا بالتراث ويحكمنا بجهلنا به.
إن عزمي بشارة محقٌّ حين يكتب في إصداره الأخير: “الانتقال الديمقراطي وإشكالياته”، أن الشعب لا يحمل بأكلمه ثقافة سياسية واحدة متجانسة حتى نربط في سببية بينها وبين الانتقال الديمقراطي، غير أن ذلك لا يعني أن نتوقف عن إنتاج خطاب مضاد للخطاب الثقافي الرسمي. وبشارة يؤكد ضرورة “نقد الثقافة أو الثقافات السائدة”، حتى وإن لم يرتبط لديه قيام نظام ديمقراطي والتمتع بحقوق المواطنة بتغيير جذري في الثقافة. ولكن لا يجب برأيي أن نغفل أمراً مهماً هنا، وهو أن الاستبداد في السياق العربي من يصنع ثقافة الشعب ويصنع تديّنه، وقد ساق ابن خلدون مثلاً في “المقدمة” ما زال يمتلك برأيي قدرة تفسيرية مدهشة، يقول بأن “الناس على دين الملك”.
أجل، سندفع الثمن غالياً، ونحن في طريقنا إلى الديمقراطية، متى قدمنا تنازلات لثقافة الاستبداد.
إن الانتقال الديمقراطي الذي لا يواكبه “انتقال ثقافي” أو التأسيس بلغة المفكّر اليوناني كورنيليوس كاستورياديس لإيتولوجيا ديمقراطية، قد يؤسس لنظام سياسي ديمقراطي، ولكننا سنظل أمام ديمقراطية بدون ديمقراطيين، كما نعرف ذلك من دول شرق أوروبا التي ترزح اليوم تحت أنظمة شعبوية، رغم الدعم الأوروبي. ولهذا، وحتى إذا لم نربط أوتوماتيكياً بين الانتقال الديمقراطي والتخلص من “هيمنة الأبوية في المجتمع العربي المعاصر”، فإنه لا يمكننا أن ننكر بأن الديمقراطية لن تستطيع الاستمرار في ظل هيمنة البنى الثقافية التقليدية المعادية للحريات العامة.
* أستاذ فلسفة وكاتب من المغرب
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.