الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

قطار الربيع العربي وعشر سنوات على انطلاقته

     نصف قرن من الزمان عاشته شعوب الأمة العربية، في ظل نظم الفساد والإفساد، والقهر والإرهاب والنهب والتبعية والإذلال؛ نظم الردة والارتداد عن كل المكاسب التي حققتها الشعوب عبر ثوراتها الوطنية ضد الاحتلالات والوصاية التي عانت منها عقب الحرب العالمية الأولى؛ حتى باتت هذه النظم تترنح في قاع القاع؛ وباتت المنطقة الممتدة من أقاصي العراق إلى أقاصي المغرب العربي، تموج باحتمالات الانفجار الكبير، انفجار ربما لا يذهب بهذه النظم وحسب، وإنما أيضا بأية إمكانية لإعادة بناء الدولة، وفق مفهومها العصري الحديث، دولة المواطن وحقوق المواطنة والإنسان .

     لقد كانت الكوارث التي سببتها هذه النظم من الضخامة، لدرجة تكفي كل واحدة منها لإشعال ثورة .

     فلم تعد القضية قضية شرعية هذه النظم- أو لا شرعيتها- بل تعدتها لتطال مسألة الهوية الوطنية والقومية، ومسألة واقع مر، ومستقبل قاتم مجهول، ومسألة الفساد والإفساد، ووصولهما إلى درجة غير مسبوقة، حيث وصلت إلى كل مناحي الحياة؛ في السياسة كما في الثقافة، وفي الاقتصاد والتعليم- على كافة مستوياته- بل ووصل إلى ساحة الدين عبر ما يسمونهم برجال الدين، الذين أصبحوا مطية للحاكم، وشركاء معه، في تضليل الناس وهدر كرامتهم وحقوقهم .

     كانت النظم تعيش في كهفها الشيطاني، معزولة عن شعوبها، ومحمية بإحكام من قبل جيوش وأجهزة مخابراتية وظيفية بأجندات غير وطنية، تربت على عقائد فاسدة قائمة على حماية العروش، وليس على حماية الدول وقاطنيها .

     كانت الشعوب في وادٍ غير ذي زرع ولا ضرع، تعيش بؤسها اليومي مدفوعة بالحاجة لكسب قوت يومها بعيداً عن السياسة والمشاركة بالشأن العام، الخوف يحاصرها ويتسلل إلى كافة مناحي حياتها بل ووصل إلى داخل البيوت، ساكنيها وجيرانها، فتزعزع الأمل بأية إصلاحات، وتخلعت المبادئ والأخلاق، وأصبحت الثوابت الوطنية مدعاة للتندر .

     وهكذا كانت المعارضات الوطنية أيضاً محاصرة وفي وادٍ آخر، محاصرة من قبل أجهزة نفس أنظمة القمع والإرهاب، تحاول التواصل مع شعوبها فتمنعها ظروفها الذاتية والموضوعية، خاصة السرية التي فرضتها أجهزة الأمن وقوانين الطوارئ، أو كانت منسية في معتقلات تلك الأنظمة؛ وجاءت محاولاتها الجادة والصادقة في تثوير الشارع العربي، تلقى الإحجام والتردد واللامبالاة، وأحيانا الرفض كما جرى بعد منتصف آذار 1980 في سورية مثلاً، وكان سبب ذلك الخوف والجرائم واستمرار انتهاك القوانين والدساتير، الذي غطى على أية إمكانية لحلحلة هذا الجمود، تطلعاً لحركة وطنية تجّبر الأنظمة على تحقيق إصلاحات، توقف الانهيار والتردي، الذي تسارع وصولاً إلى القاع والمستنقع الذي يهدد بإغراق الجميع فيه .

     كانت المفاجأة في تونس يوم 17كانون الأول /ديسمبر 2010، لينطلق قطار ثورات الربيع العربي سريعاً في 2011، فيسقط بن علي ويتبعه مبارك ومن ثم القذافي، مدللاً على هشاشة هذه النظم القطرية البائسة، وعدم قدرتها على مواجهة شعوبها، فيما لو قررت المواجهة . ذلك أغرى بقية الشعوب العربية بالتحرك، طلباً لأهدافٍ مشروعة، في استخلاص حقوقها وتقرير مصيرها، عبر المطالبة أولاً بإصلاح النظام، ذلك الشعار الذي تطور إلى المطالبة بإسقاط النظم، بسبب رفض الأخيرة  القيام بأية اصلاحات .

     وصل القطار تالياً إلى اليمن، ومن ثم انطلق في سورية بمثل هذا اليوم من عام 2011، والتي شهدت أوسع حراك دامي للربيع العربي، حيث امتد الحراك إلى كل المحافظات والمدن والقرى، والتي استخدم فيها نظام القتل والإجرام كافة أنواع الأسلحة الحربية وحتى المحظورة دولياً (المدافع والصواريخ والبراميل المتفجرة والكيماوي والتجويع والحصار والاعتقال والاغتصاب والتهجير والتدمير والمجازر الجماعية الخ …) ولم يكتف نظام العمالة بذلك، بل استجلب الاحتلالات الروسية والإيرانية وقطعان مرتزقتهم . ولتأتينا أمريكا ودول التحالف الأوربي، بحجة حماية الأقليات ولتصبح سورية بلد تتقاسمه مصالح دول الاحتلال متعددة الجنسيات .

     ورغم كل ما حدث في سورية واليمن وليبيا، من عنف وصراع، لم يتوقف قطار الثورات، فوصل إلى العراق ولبنان والجزائر والسودان؛ وربما يصل تالياً إلى دول عربية أخرى، لأن شروط الانفجار مازالت قائمة، ولأن هذه الأنظمة لم تتعلم الدرس، ولم تقم بخطوات جدية باتجاه إصلاحات، تمنع حدوث الانفجار .

     كانت ثورات الربيع العربي، هي السهم الأخير في جعبة شعوب الأمة، تطلعاً لواقع أفضل، ومستقبل أكثر أمناً، عبر المطالبة بالحرية والكرامة والمساواة والعدل، وإنتاج الدولة الوطنية المدنية الديمقراطية الحديثة، التي تواكب العصر ومتطلباته، والتي قوبلت بقطع الطريق على أية إمكانية للوصول إليها، من قبل الثورة المضادة بإشراف النظم التي لم تثر شعوبها عليها بعد، ومن فلول النظم التي سقطت رؤوس الحكم فيها، مضافاً إليها مجموعات أصحاب المصالح الخاصة والتنظيمات المشبوهة، طائفية وميليشياوية (سواءٌ كانت سياسية أو مسلحة أو حتى تيارات ارتزاق حزبية) بعضها أعلن على الملأ، ولاءه لنظم القتل والإجرام، وبعضها تخفى تحت شعارات الثورة ونصرة الثورة وبعضها ما يزال مخدوعاً ومخبولاً بشعارات المقاومة والممانعة والموت لأمريكا وإسرائيل .

     كما لا يخفى على أحد الدور الكبير، الذي لعبته الدول الكبرى ودول الجوار الذين لم يكن همهم سوى تحقق مصالحهم، ولو على حساب الشعوب ودماء الشعوب . وكذلك الموقف الدولي- الذي تعبر عنه الأمم المتحدة- والذي يكتفي باتخاذ قرارات لا يلتزم بها أحد، ويكتفي أمينها العام بالاستنكار والشجب والقلق الشديد .

     إن الموجة الاولى من ثورات الربيع العربي، تحطمت على صخور الثورة المضادة، وهذا شيء متوقع، لِما تملكه الثورة المضادة (نظم الفساد والعمالة العربية مدعومة من النظم العالمية) من إمكانيات في مواجهة الشعوب وثورات الشعوب . لأن ثورات الشعوب العربية، سيكون من نتائجها ليس فقط إسقاط النظم الفاسدة وحسب، ولكن تعديل ميزان القوى والعلاقات الدولية بما يخص المنطقة العربية لصالح سكانها . هذا ما فهمته الدول النافذة، والمتحكمة في مصائر شعوب الأرض، فكانت جبهة واحدة ضد الربيع العربي .

     هي الموجة الأولى، التي عمل الجميع على منعها من الوصول إلى مبتغاها، وسيليها موجات وموجات، وصولاً إلى الأهداف المرجوة، وتواصلاً مع التاريخ الذي انقطع عنا بغيابنا عنه، كأمة وشعوب فاعلة .

     لم يكن رواد قطار الربيع العربي حكراً على النظم الفاسدة التي تقوده إلى الهاوية، ولا على الشعوب الثائرة التي تريد تغيير أنظمتها واستبدالها بقيادات وطنية حقيقية، تقود اتجاهه نحو محطات الأمن والأمان؛ بل كثر الصاعدون إليه والنازلون منه؛ همهم إعادة السيطرة والتحكم، عبر قيادات تلبي طلباتهم وتحقق مصالحهم وتنفذ أجنداتهم .

     وكم من الصاعدين والنازلين شهدنا عبر السنوات العشر . خبرناهم وعرفنا مقاصدهم . وكم من هؤلاء سنشهد في قادم الأيام !

      كان بابا الفاتيكان الذي قام بزيارة (حج) إلى العراق، ليبشرنا بالدعوة إلى سلام إبراهيمي بين الأديان الثلاث، هدفه إدماج دولة الكيان الصهيوني في نسيج المنطقة العربية، واحداً من هؤلاء .  وممن قفزوا إلى القطار كان لافروف (وزير الخارجية الروسي) في محطة له في الخليج العربي أخيراً، محاولاً تعويم نظام الأسد الآيل للسقوط (ربما يتخلى عن الأسد ويبقي على نظامه، حفاظاً على مصالحه) وإعادته إلى حظيرة جامعة الحكومات العربية- عبر بوابة الإمارات- ومحاولاً كذلك الالتفاف على قانون قيصر، الذي يربط إعادة الإعمار، بامتثال نظام أسد إلى القرارات الدولية، والقبول بمجلس حكم انتقالي، وهذا ما يعني حرمان روسيا من مليارات تنتظرها من إعادة الإعمار المزعوم .

     وأخيراً فإن الوضع العربي كارثي بكل ما تحمله الكلمة من معاني، بل ووصل إلى مرحلة التهديد الوجودي؛ تهديد يطال بنيانها الوطني، تجزئةً وتقسيماً وتهجيراً وتغييراً للديمغرافية، ومزيداً من التبعية والاستلاب التاريخي .

     ويبقى الأمل في استنهاض قوى الأمة، لتوحيد الصفوف، ووضع برامج وطنية تلبي الأهداف التي ثارت الشعوب من أجلها، وبذلت في سبيلها دماءً وعذابات، لم يشهد لها التاريخ مثيلاً .

     وكلما تأخرت نخب الأمة وطلائعها السياسية في الوصول إلى ساحة الفعل اليومي، وإنجاز برامج وطنية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه كلمات زادت وارتفعت فواتير التأخر التاريخي .

     ويبقى الأمل قائماً مهما ضاقت به الصدور والسطور وتعرجت به مسارات التاريخ .

التعليقات مغلقة.