الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كتاب «من الأمة إلى الطائفة، سورية في حكم البعث والعسكر» للكاتب: ’’ميشيل كيلو‘‘.. الحلقة الثانية

( الحرية أولاً ) ينشر حصرياً كتاب «من الأمة إلى الطائفة، سورية في حكم البعث والعسكر» بأجزائه الثلاثة كاملاً للكاتب الأستاذ: ’’ميشيل كيلو‘‘.. الحلقة الثانية: البعث الأول

من الأمة إلى الطائفة 

 سورية في حكم البعث

  قراءة نقدية

ميشيل كيلو

باريس ٢٠١٧/٢٠١٩

البعث الأول:

   عبر مؤسسا “البعث” عن أهدافه السياسية من خلال ثلاثة شعارات هي “الوحدة والحرية والاشتراكية”. وقد رفض أولها تجزئة الأمة وإخضاعها لدول يجافي قيامها واستمرارها طبيعتها وهويتها، وتعهد بالنضال من أجل وحدة تقضي على دول سايكس/بيكو المشرقية، وخاصة منها الدولة التي اقيمت في سورية بعيد الحرب العالمية الأولى، ورأى في تجاوزها شرط قيام دولة أمة كانت على مر التاريخ، وستبقى إلى الأبد، واحدة، وتنفرد بخصائص لا تتوفر لغيرها، أهمها أنها “ذات رسالة خالدة”، يرى “البعث” أن مهمته تكمن في تحريرها من احتجاز فرضه عليها تناقض جوهرها الحقيقي، غير القابل للتجزئة، مع تمثيلها السياسي المصطنع والمجزأ، الذي تجسده دول قطرية تسوسها طبقات انفصالية/رجعية، تتعارض وظائفها بنيويا مع “حقيقة” الأمة، بالنظر إلى أنها تنتسب، دولا وفئات حاكمة، إلى أعدائها، وتمثل عائقا يحول بينها وبين استئناف رسالتها، كما عبرت عن نفسها أول مرة أحسن تعبير في المحمدية: “الثورة الأعظم في حياة العرب، التي حققت انقلابا جذريا شاملا وإيجابيا فيها، نقلهم من حال إلى نقيضه، حدد عفلق صلة الاسلام والعرب به بقوله: العروبة جسد روحه الاسلام”(7).

   ـ هذه الرسالة، التي يحملها العرب إلى العالم، تحول الدول القطرية دون نشرها بين أممه وشعوبه، فلا مناص من ازالة هذه الدولة من أجل إعادة الأمة إلى ذاتها ورسالتها، بالانقلاب كوسيلة تلبي هذا الغرض، بما أنه “تغيير حاسم في مجرى حياة الأمة، وتحول حاسم يختلف عن التطور، ويستهدف مطابقة واقع الشعب مع حقيقته، التي طمست لان واقعه القائم مفروض عليه من قبل الفئات المستثمرة والقوى الاجنبية”(8). أما الجهة التي ستنجز المطابقة، فهي جيل جديد تتوفر فيه شروط ثلاثة، ستعيد الأمة إلى وضعها الحقيقي أو الطبيعي، هي: “وعي الشروط التاريخية والاجتماعية، والاخلاق، والايمان بالأولوية النضالية، الثورية بامتياز، التي تتمثل في اسقاط الفئات المستثمرة، والتحرر من القوى الاجنبية”(9)، وكيانات التجزئة القطرية، التي اصطنعتها الدولتان الاستعماريتان بريطانيا وفرنسا في اتفاق سايكس/بيكو، واقامتا بواسطتها حدودا تقسيمية ونظما عميلة تحرس كيانات انفصالية/رجعية، تستخدم شتى الوسائل للحؤول دون ممارسة العرب حقهم، العابر للسياسة، في اقامة وبناء دولتهم الموحدة، أسوة بالأمم التي سبقتهم إلى وحدتها. لذلك، يجب على العرب ان يحذوا حذو الأمم الأخرى، وأن يبادروا إلى الانخراط في ثورة تحطم القطرية ونظمها المحكومة بالتخلف والتأخر في الداخل، وبالتبعية والارتباط بالدول الاستعمارية في الخارج، وتلزمها التجزئة بسياسات ومصالح تعزز انفصالية دولها ورجعية فئاتها الحاكمة، وبتبني خيارات تقوض نزوع الأمة الطبيعي إلى دولتها الموحدة.

   ـ يقول عفلق في مقالة عن “ثورية الوحدة العربية” : “ليست الوحدة العربية محصلة أو نتيجة لنضال الشعب العربي من أجل الحرية والاشتراكية، بل هي فكرة جديدة يجب أن ترافق وتوجه هذا النضال. إن امكانيات الأمة ليست مجموعاً عددياً لإمكانيات أجزائها في حالة الانفصال، بل هي اكثر في الكم ومختلفة في النوع … إن شعار البعث العربي يشير إلى مستوى الوحدة اذ يقرنها بالرسالة، فالتفكير في الرسالة والكلام عنها لا يكونان مشروعين وجديين إلا على نطاق الوحدة … ذلك “أن الانقلاب، الذي يعني خلق الشروط التي تمكن الأمة من التغلب بقواها الذاتية على أسباب تخلفها، لا يكون مشروعا وجديا إلا على نطاق الوحدة أيضا، فانقلابية البعث العربي نابعة مباشرة من فكرة الوحدة، وأداة هذا الانقلاب هي الجيل الذي لديه عقلية الوحدة ونفسيتها… إن هجوم الاستعمار والصهيونية يكاد يتركز على الوحدة العربية، ولا يحتاج الاستعمار إلى تدخل مباشر لتزييف الديمقراطية والتقدمية، فالتجزئة كفيلة بذلك ما دام وضعها ومنطقها يغريان كل جزء بان يستغلها لبلوغ بعض الفوائد الخادعة على حساب الاجزاء الأخرى … ان التجزئة لا تمنع الحركات المتماثلة في البلاد العربية من التوحد والتعاون فحسب، بل تدفعها إلى التعاكس والتناقض ايضا”(10).

   ـ بعد الوحدة، أبرز البعث أهمية الحرية. وقال إن تحرير الاقطار العربية وتوحيدها سيكون ضربا من الاستحالة دون تمتع الشعب العربي بقدر من الحرية، يدفعه إلى الثورة على عدوه الداخلي كما يتمثل في الدول القطرية ضد الأموية من جهة، وطبقاتها الحاكمة والمسيطرة، من جهة أخرى، الرجعية والمعادية للحرية بالضرورة، والتي تتلقى دعم وحماية خارج استعماري ربط سيطرته على الوطن العربي بدوله ككيانات سياسية، وبحكامه كشرائح مسيطرة ومالكة.

   ـ تتجلى حرية العربي في تحرير وطنه الكبير من كيانات التجزئة، ومن الانفصاليين الرجعيين، والسيطرة الاستعمارية، فلا تحرر ولا وحدة دون حرية، ولا حرية دون تحرر من الاستعمار والرجعية وكياناتهما الدولوية، وقيام دولة الأمة العربية الواحدة. بهذه المنطلقات، “يحرص مؤسس البعث على الحرية، ويعتبر معركتها معركة حياة وموت، ويضيف : كانت عقيدتنا دوما أن الحرية ليست شيئا كماليا في حياة الأمة يمكن الاستغناء عنه، بل إنها أساس هذه الحياة وجوهرها ومعناها. والحرية لا تتجزأ فلا يمكن أن نثور على الاستعمار الاجنبي ثم نسكت على الاستبداد الوطني، لان الدافع الذي كان يحركنا ضد الاستعمار هو نفسه الذي يمنعنا من الرضا بالاستبداد … اما الذين لا يستطيعون ان يحكموا الشعب الا اذا استعبدوه، فهذا الشعب الذي غلب الاستعمار سوف يريهم كيف يستطيع التخلص من حكمهم والتحرر من عبوديتهم… تبيح الفئة الحاكمة لنفسها ان تضحي باهم مقومات حياة الأمة واقدس قيمها، وهي الحرية … لذلك فمعركة الحرية ستكون معركة حياة أو موت … وهي لن تدخل حياتنا ما لم يكن ايماننا بها جهادا ودفاعنا عنها استشهادا” (11) .

   ـ بعد مطالبته بتوحيد الأمة، وإقامته تماه وثيق بين حرية الفرد وتحرر امته، يتعهد عفلق بإقامة الاشتراكية بمعناها الشائع في حينه: ك “تأميم للمرافق العامة والصناعات الحيوية الكبرى، وتوزيع عادل للأراضي، واشراف الدولة أو وضع يدها على التجارتين الخارجية والداخلية، ويضيف … ليست الاشتراكية غاية في ذاتها، بل وسيلة ضرورية تضمن للمجتمع أعلى مستوى من الانتاج مع أبعد حد من الانسجام والتضامن بين المواطنين… وتعني الاشتراكية ان يشترك جميع المواطنين في موارد بلادهم بقصد ان يحسنوا حياتهم وبالتالي حياة امتهم”(12) . أما هدفها فهو “تقليص الفوارق بين الطبقات، دون تقويض المبادرة الفردية والغاء الملكية الخاصة، في ظل امتلاك المجتمع لا الدولة لوسائل الانتاج، واعتماد نظام تسيير ذاتي يتولاه المنتجون والعاملون في المؤسسات والمرافق الاقتصادية، بصورة حرة ومباشرة، صناعية كانت او زراعية أو تجارية أو مصرفيه(13).

   ـ قال ميشيل عفلق، الذي لعب الدور الأول في تأسيس البعث : “إن التفكير في البعث العربي يقوم على ثلاث دعائم هي: الحرية والاشتراكية والوحدة العربية، فالإيمان بالاشتراكية يتطلب الانفصال عن الاوضاع الرجعية، فكيف إذا دعمناها بجناحين لا يقلان عنها قيمه هما الحرية والوحدة العربية”(14).

___________

هوامش:

(7). ميشيل عفلق، نقلا عن صلاح المختار: متلازمة امريكا ، هل هو ربيع عربي ام سايكس بيكو الثانية ؟. اصدارات إي-ـ كتب، لندن ٢٠١٦ ، الصفحة ٢١٤.

(8). ميشيل عفلق : حول الانقلاب، في سبيل البعث، الجزء الأول. الصفحة ٩٤ .

(9). المرجع ذاته ، الصفحة  ٩٤.

(10). ميشيل عفلق، ثورية الوحدة العربية ، في سبيل البعث ، الجزء الثاني، الصفحة ١٦٨.

(11). ميشيل عفلق: لماذا نحرص على الحرية ، في سبيل البعث ، الجزء الثاني ، اب ١٩٤٦، الصفحة ٢٩.

(12). ميشيل عفلق: في سبيل البعث، الجزء الرابع ، مقالة “في الاشتراكية بقاء الامة وتقدمها”، الصفحة ١٢ـ ميشيل عفلق،  “الاشتراكية العربية تحدد بالنسبة الى اهداف النهضة العربية” ، في سبيل البعث، الجزء الرابع ، ١٢ اب ١٩٥٠، الصفحة ٤٤.

(13). المرجع ذاته ، الصفحة ٤٥.

(14). ميشيل عفلق، في سبيل البعث، الجزء الأول ،صفحة ٤٣

………………..

يتبع.. الحلقة الثالثة: أقانيم البعث الثلاثة

«ميشيل كيلو»: كاتب وباحث ومحلل سياسي سوري

التعليقات مغلقة.