حمادة إمام *
فوجئ الرئيس جمال عبد الناصر مساء يوم 4 آذار/ مارس 1958 برجل يدخل إلى الغرفة، التي أُعدت له في قصر الضيافة بسوريا، ويقف وراءه وعيونه قلقة بينما الرئيس عبد الناصر منهمك في استبدال ملابسه، وأراد أن ينام قليلاً ليستريح من تعبه، بعد جولاته بالمدن السورية التي وصلها صباح 24 شباط / فبراير 1958. واستقبله السوريون استقبالاً خرافياً بعد أن أصبح رسمياً رئيس الجمهورية العربية المتحدة، وأخذ، يطوف في المدن السورية، ويخطب في الجماهير المحتشدة لسماع كلماته. وبلغ الإنهاك من ناصر مبلغه، بسبب سفراته المتواصلة إلى كل أرجاء البلاد، وبدأ يخلع ثيابه ليلبس “البيجامة” كان الرجل هو المقدم عبد الحميد السرّاج، رئيس المخابرات العسكرية السورية، المعروفة بـ«الشعبة الثانية». وبدت على وجه عبد الناصر دهشة من هذا المتطفل، ممزوجة ببعض الانزعاج. وبادر السرّاج إلى الاعتذار عمّا يفعله، قائلاً: «أنا آسف لأني عم ازعجك. بس في موضوع مهم لازم خبرك فيه». وردّ ناصر: «يعني الموضوع ده، مش ممكن يستنّى لبكرا مثلاً؟!». قال السرّاج بإصرار: «لا.. هي مسألة ما بقدر أجّلها». ظهر الفضول على وجه الرئيس، فقال: «طيب.. قول يا سيدي.. أديني سامعك». ظلّ السرّاج منتصباً، وأخذ يتكلم بجدية بالغة، قائلاً: «سيدي.. الموضوع طويل، ويتعلق بالملك السعودي». أشار الرئيس إلى مخاطبه لكي يقعد، فجذب السراج كرسياً، وجلس عليه. قال عبد الناصر، وهو يبتسم ليجعل السرّاج أكثر تبسّطاً في حديثه: «طيب، ممكن أتمدد ع السرير شوية.. أصلي هلكان من التعب». ابتسم السرّاج باستحياء، وقال: «سيدي خذ راحتك.. أنا ما كان بدي أشغلك بالشي اللي بدي قلك اياه، لولا خطورته!!
»الملك سعود متزوج بسيدة سورية كُنيتها “أم خالد”. وأبوها اسمه أسعد إبراهيم. اتصل فيني الزلمة، قبل كم يوم، عن طريق وسيط. الوسيط هو النائب عزيز عياد. قابلت هادا أسعد إبراهيم، فبخبّرني إنو ملك السعودية عم يعرض عليّ ملايين الجنيهات الإسترلينية، إذا بقبل قوم بانقلاب ضد الوحدة بين سوريا ومصر. أنا سايرتو، لأعرف شو في براس أسيادو. وفعلاً، بيبعتلي سعود دفعة قيمتها اتنين مليون جنيه استرليني، مشان يرشيني».
سكت السرّاج قليلاً، ومدّ يده إلى جيب سترته الداخلي، وأخرج منه مجموعة من الأوراق، قدّمها لعبد الناصر الذي قام من فراشه متحفزاً، وقد ظهرت عليه الدهشة والاستغراب. قال السرّاج مشيراً إلى الوثائق التي أعطاها لعبد الناصر: «وهي صور تلات شيكات من الملك سعود بعتلي ياهون، بيوم ست وعشرين شباط: الشيك الأول بمبلغ مليون جنيه استرليني. والتاني بمبلغ 700 ألف. والتالت بمبلغ 200 ألف. وهي الشيكات مسحوبة من البنك العربي المحدود بالرياض، على بنك ميدلاند، بلندن. وتُدفع لحاملها. وفي كمان تسجيل لكلام أسعد إبراهيم معي». صمت السرّاج قليلاً، وترك عبد الناصر يتفحص الشيكات، ويتثبت منها. ثم أضاف السرّاج موضحاً سرّ المئة ألف الناقصة: «أسعد ابراهيم مبعوث سعود خصم لإلو من أصل المليونين جنيه اللي بعتلي اياها الملك، مبلغ مية ألف، قال على اعتبارها عمولتو». لم ينطق عبد الناصر بكلمة، بل ظل شاخصاً ينظر إلى السرّاج، وينصت لكلامه بانتباه، فاستكمل الأخير روايته قائلاً: «ومشان أسعد يشجعني أكتر، أعطاني رسالة شخصية من الملك كاتب فيها إنو أنا مثل ابنو، وهو مش رح يتخلى عنّي ورح يساندني، متل ما كان أبوه عبد العزيز يعمل مع شكري القوتلي. وقال لي إنو السفير الأمريكي بالشام مستعد يعلن اعتراف بلادو بالنظام الجديد فوراً. كمان، الملك بيضمن لي اعتراف كل الدول الصديقة لأمريكا بالوضع الجديد بسوريا». ابتسم عبد الناصر، وهو يستمع لهذه النقطة في الحديث، واستطرد السراج في حكايته قائلاً: «بصراحة، أنا من لما استلمت الشيكات ما قدرت استنّى ليطلع الضو. تحركت فوراً مع مجموعة من الضباط الموثوقين. واستدعيت “واصف كمال” مدير البنك العربي بدمشق، واللي حوّل السعوديين المبلغ عن طريق فرعهم بالرياض. واستدعيت، كمان، نائب مدير البنك وكم معاون إلو، حتى يشرفوا، من وش الصبح، على عملية سحب المبالغ من بنك ميدلاند وتحويلاً على حساب جديد باسمي، فتحو بسويسرا». ولم يكن ذلك هو كل شيء. أكمل السرّاج قائلاً لعبد الناصر: «الأخطر من كل هاد. هو إنو مبعوث الملك سعود عطاني عبوة ناسفة لأزرعها بطيّارتك اللي بتطلع فيها، فتنفجر بالجو». أطبق الصمت في الحجرة لبرهة من الوقت. ولم يقطعه سوى كلمات السرّاج: «ومشان أقتلك رشاني الملك بمبلغ ميتين وخمسين ألف جنيه استرليني». صمت السرّاج ثوان، ثم أضاف: «أنا رفضت هالمهمة واعتذرت لمندوب سعود عن تنفيذها. بس ضلّيت عم حقّق بتفاصيل المؤامرة، فعرفت إنو الجماعة قدروا يجندوا ضابط طيار ليقصف طيّارتك بالجو، وبعدين يهرب على تركيا ويطلب اللجوء فيها. قبضنا ع الطيّار الخاين. ورجالي عم يحققوا معو هلأ.
أنهى السراج كلامه وغادر غرفة الرئيس عبد الناصر وترك كافة المستندات والاوراق التي حصل عليها بين يد الرئيس عبد الناصر والذي غادر النوم عيناها ودبت في حواسه كل النشاط وبدا يعيد قرأتها مرة أخرى، مرة باعتباره رجل أمن ويعرف مفاهيم التآمر والتحريض فقد كان اول وزير داخلية بعد الثورة، ومرة باعتباره رجل قانون درس قانون بمدرجات كلية الحقوق قبل التحاقه بالحربية ويعرف العلاقة والرابط السببي والفرق بين الفاعل الأصلي والشريك وأن الجريمة الجماعية تبلغ ذروتها بالاتفاق بين الجناة.
وكلما قرأ اسم من الأسماء التي ذُكرت في المستندات وجده يرتبط مع الأسماء الأخرى برباط عضوي لا يقبل الانفصام ليشكلوا في النهاية جريمة جماعية بكافة أركانها، أبطالها ملك وملكة وحما الملك، والثلاثة شكلوا فيما بينهم مثلث متساوي الاضلاع قام كل ضلع فيه بتنفيذ جزء من المخطط.
المتهم الاول: الملك سعود بن عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ملك المملكة العربية السعودية الثاني والحاكم الخامس عشر من أسرة آل سعود. من 9 تشرين الثاني / نوفمبر 1953 إلى 2 تشرين الثاني / نوفمبر 1964.
المتهم الثاني: الملكة “أم خالد”، واسمها جميلة أسعد إبراهيم مرعي. هي الزوجة التاسعة للملك سعود، من بين أربع وأربعين زوجة للرجل. تزوجها سعود، سنة 1926، وكانت ما زالت طفلة لا تتجاوز الثانية عشر من العمر.
وأنجبت جميلة لسعود ثمانية أبناء، أكبرهم ’خالد‘ الذي تولى رئاسة الحرس الوطني السعودي، في عهد أبيه.
المتهم الثالث: حما الملك أسعد إبراهيم مرعي (والد جميلة) رجلاً فقيراً من اللاذقية. وعرفه الناس سارقاً للحمير. وقُبض عليه، ذات مرّة، ودخل السجن بسبب سرقة حمار. لكنّ ’أسعد‘ تبسم له السعد بعدما تزوجت ابنته من الأمير سعود بن عبد العزيز، فصار فجأة من كبار الأثرياء.
لم تكن الأسماء الثلاثة هي سبب صدمة عبد الناصر، فالصدمة تعود في الأصل إلى انطلاق المؤامرة من الأراضي السعودية ومن البيت الحاكم تحديداً الذي ربط بينه وبين ثورة يوليو وقادته علاقة خاصة بلغت أن السعودية كانت أول المؤيدين للثورة؟
* كاتب صحفي مصري. مدير تحرير الشروق
المصدر: العربي اليوم
التعليقات مغلقة.