الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

لقاء حواري مع الدكتور جمال الأتاسي؛ (۱۹۹۳)

إعداد: هالا محمد

الأسئلة:

۱- الآن في اللحظة الراهنة، ماذا يمكن للدكتور جمال الأتاسي أن يقول حول التواريـخ المجـردة التاليـة؟ و إذا أردتـم انتقـوا منهـا مـا شئتــم .

١٩١٦- ١٩٤٦- ١٩٤٧- ١٩٤٨- ١٩٥٢- ١٩٥٦- ١٩٥٨- ١٩٦١- ١٩٦٣- ١٩٦٧-١٩٧٠- ١٩٧٣-

……. ٢٠٠٠ .

۲ – كأننا مررنا في الخمسينات من هـذا القرن بذروة في الاهتمام السياسي للناس و نمر الآن ببرود يكاد يكون شامـلاً.. إن كان هـذا صحيحاً في رأيـك، فكيف حـدث ذلك؟

٣- بعـد كل محاولـة للنهضة العـربيـة كانت تحدث خطوة إلى الـوراء.. بعض مظـاهر الانكفـاء الـراهـن يوحي بخطوات كبـيرة و جـذريـة، يتجلى شيء منها على شكل تفتت و تفكك و مظـاهـر – قبـل قوميـة – و في الذاكرة مقومـات للقومية العربية، كانت تنسجها الوقائع و الحميّـا، و هي الآن – جميعها – موضوع تساؤل و شـك.. كيف تـرى المسألة؟ إلام صارت تلك المقـومـات؟ و هـل تـرى بين الاحتمالات المريعـة احتمـالاً مریحــاً؟ و مـا هي مقـومـاتـه بـذاتــه؟

٤- ’’المثقف مسكون بعلـة السلطـة، و يهـوي عنـد بادرة وداد منهــا‘‘؛
’’المثقف معارض بطبيعتـه، ينفي الراهنة و يـرفض كل أشكال الكبت و القمـع و السلطـة‘‘؛
رأيان متناقضان يُلخصان ما أسمعـه حـول المسألة.. كيف تـرى حالـة الثقافـة العربيـة؟ كيف تـرى حالـة المثقف مع السلطـة العربيـة؟ هل تـرى مـع البعض أن الـدور الممكن الآن هـو للمثقف قبـل السـياسـي؟

٥- هل تصلـح الديمقراطيـة لنـا نحن العـرب؟ و هـل نصلـح نحن العـرب لحقـوق الانسان المعروفـــة؟

٦- درسـتَ الطب في بـاريـز (٤٧ – ٥٠) و درّسـت مـادة ’’الطب النفسي‘‘ في جامعـة دمشق و تُمـارس مهنـتك كطبيب نفسي في عيـادتـك الخـاصـة منذ ۱۹٥٦.
هل لواقعنا كعالـم ثالث أولاً و عـربي ثانيـاً إشكالاتـه الخـاصة بـه في هـذا المجال؟ و هـل يمكن لفـرد أن يتـرك أثـره في هـذا المجال، إذا لـم تكن هنـالك مؤسسة عملية تتبنى مهنته و مشافٍ اختصاصية تتعـاون معـه و يُعتمـد عليهـــا؟
هـل يمكن أن يصبـح لهـذه المهنـة أسسهـا و تقـاليـدهــا عندنا و كيف و لمـاذا؟

هالا محمد / الحياة / ۱۹۹۳

*           *            *                *

و هكذا جاءت الإجابات:

١- يمكن أن يقال الكثير حوله كل من التواريخ المسجلة، و ليس لي إلا أن أقف عند أول ما يتوارد للذهن من خواطر و ذكريات.

۱۹۱۹
عـام ۱۹١٦ كنتُ في عالـم الغيب فعينـاي لـم تتفتحـا لنور الدنيا إلا في نيسان ۱۹۲۲، على طريق العمل العربي، فهو العام الذي عُقدت فيه اتفاقية سايكس بيكو سراً بين وزيري خارجية بريطانيا و فرنسا، التي تم بموجبها رسم خارطة ’’لنظام شرق أوسطي‘‘ تتقاسم فيه الدولتان الاستعماريتان السيطرة على المنطقة بعـد الانتصار في الحرب العالميـة الأولي.. و هـو العـام الذي أعلن فيـه الشريف حسين من مكة ’’ثورته العربيـة الكبـرى‘‘ ضد الحكم العثمـاني، على اتفاقٍ واعـد مع الحلفـاء الغربيين، بقيام دولة عربية مستقلة موحدة تعـم هـذه المنطقة.. هـذان خطـان متقادمـان ظـلا محورا للصراع منذ ذلك التاريخ حتى اليوم بين مشاريـع غـربيـة تزحف للسيطرة على المنطقـة و تعمل على تقسيمهـا و تكريس التجـزئة و الضعف في وطننا العربي و آمتنـا، و بين مشاريـع للنهوض العـربي، و كفـاح لـم ينقطع على طريق الاستقلال و في سـبيل التحـرر العـربي و الـوحـدة.. و اليـوم، و لـئـن تغيـرت طبيعـة قـوى السيطـرة و الهيمنـة العـالميـة و أساليب الهيمنـة، فـإن ذلك الصراع التـاريخي يعـود و يتجـدد، و مـا مسـار ’’التسـويــة‘‘ الـذي يتحـكـم في المنطقـة الآن إلا شكل من أشكـالـه، و نحن أمـام مشـروع شـرق أوسطي جديـد ينفي وجـودنا القومي و ينفي ’’ثـورتنـا‘‘ العربيـة الوحـدويـة الديمقراطيـة، و هـو مشـروع يـزحـف اتفــاقـاً إثــر اتفـاق لإعـادة تنظيـم المنطقـة في ظـل الهيمنـة الأمريكيـة و امتـداد النفـوذ الصهيـوني، و يبـقى بأن يتحـرك للمـواجهـة مشـروع جـديــد للنهــوض العــربـــــي .

لعلني استرسلت في الربط بين ذلك التاريخ البعيد و أحداث الحاضر، إلا أنني إذ استرجع شريط حياتي السياسية و الفكرية أجد أنها محكومة إلى حدٍ كبير بهذا الصراع و بالتعامل معه .

١٩٤٦
كان عـام الاستقـلال، و في ١۷ نيسان رحـل آخـر جنـدي فـرنسي عن أرض الـوطـن و کان لنـا عيـداً و مهرجاناً كبيـراً، و كنت قد حملت السلاح في العام الذي سبقه و قاتلت جنود الاحتلال في شوارع دمشق، و عند هـذا الاستقلال كانت الآمال كبيرة و حسبنا أن أبواب المستقبل قد انفتحت و أهداف الأمة أصبحت قريبـة المنـال، كان حزبنا (حزب ’’البعث‘‘ ذلك الحين) قد أخذ يصعد، و كنتت في السنة قبل الأخيرة من دراستي الجامعيـة، و لكن الحـزب كان قـد استحـوذ على القسط الأوفى من حيـاتي و نشـاطـي، و أخـذتْ جريـدة البعث تلك السـنة بالصدور.. و بعـد أن كانت كتـابـاتي قبلهـا مقتصرة على البيـانـات و النشـرات الحزبيـة، أخذت أكتب في أبواب من الجريدة، و أحياناً افتتاحيتها إذا غـاب الكبار، كما نشرتُ لأول مـرة كتـابـات أدبيـة و شعـريـة في بعض المجـلات.. و انخـرط الحـزب في نضال وطني متـواصـل لتحصيل مكاسب ديمقراطيـة و شعبيـة ضـد نظـام الحكم الوطني الـذي كنـا نـرى فيـه تحـالفـاً رجعيــاً للإقطــاع و رأس المـال، و كنـا نسـميـه ’’حكـم المـزرعــة‘‘، و لكنـه اليـوم، و بعـد كـل الـذي تقـلب على بـلادنـا من أنظمـة و حكـام، فإن الكثيريـن ممن عـاشـوا تلك الحقبـة يشـعرون أن ’’اقطـاعيتـه‘‘ في الحكـم كانت أقـل عسفـاً بكثيـر من الاقطـاعـات السياسـية التي تـوالت بعـــده .

۱۹٤۷
عام ۱۹٤۷ كان عام حركة و تغيير في حياتي الدراسية و السياسية و كذلك عام مخاض سياسي و تغيير في قطرنا السوري و في المنطقة بل و في العالـم حين أخـذت أحداثه تدفـع على طريق قيـام ’’إسرائيل‘‘، لقـد شـغلتني في الشهور الأولى من ذلك العـام عمليـة تأسيس ’’حزب البعث العربي‘‘ أو بالأحـرى إعـادة تأسـيس و تنظيم و تجميع لأعضائه و شـللـه، فالحزب كان قائماً بالفعل بقيادته التاريخية الأولى (عفلق – بيطار) منـذ عام ٤٣ إلا أنـه لـم يكن قـد تملك بعد صيغة تنظيمية ثابتة و لا برنامجاً أو دستوراً مفصلاً.. و كنت على رأس اللجنـة التحضيريـة التي أوكل إليهـا تنسـيـق و صياغـة الـوثائـق التي قـدمت للمؤتمـر التـأسيسي للحزب الـذي عقـد في السابع من نيسان و بينهـا مشروع دستـور الحـزب أو ميثاقـه، و تـرأس المؤتمـر ’’جـلال السـيد‘‘، العضو الثـالث الذي ضُـم من قِبـل القيـادة التـاريخيـة.. و لقـد كان واضحـاً في مُـداولات ذلك المؤتمـر وجـود توجهـات مختلفـة في المنظـور الاجتمـاعي و الديمقراطي و الدولي و في مفهوم الانقـلابية و الثورة أو العمل الاصلاحي: شيء واحد كان يؤلف و هو تقديم هدف الوحدة العربية، و لقـد استطاع المؤتمر بمجموعه الوصول الى صياغات عامة مشتركة.. لقد شاركت و لكنني كنت على قلق فكري و لم أقطع في موقف نهائي و لم أترشح لانتخابات القيادة و كنتُ قد عزمت أمري على السفر للتخصص في فرنسا، و لكنني بقيت أتابع نشاطي الحزبي بعـد المؤتمر، و جـاء موسم الانتخابات النيابية التي ترشح لها ميشيل عفلق و كانت معركة حامية الوطيس خضناها في مواجهة الحزب الوطني الحاكـم و حكومـة ’’جميل مردم‘‘، و عـدتُ أحـرر جريـدة البعث لانشغـال القيـادة بالحمـلات الانتخـابيـة.. و لكن كتـاباتي المتطـرفـة جعلـت الحكومـة تُصدر أمـراً بإيقـافهـا و بإحـالـة ’’صلاح الدين البيطار‘‘ للمحـاكمـة باعتبـاره المسؤول عن الجـريـدة بسبب مقـال افتتاحي كتبتـه و اعتُبـر تحـريضاً على العنف في مواجهـة السـلطة.. و لقـد تابعت بعـد ذلك الإشـراف على سـير العمليـة الانتخابيـة، و لقـد شـهدت بأم عيني عملية التزويـر التي مارستهـا أجهـزة السلطة على نطـاق واسع لإنجـاح قائمـة أهـل الحكــم.

و كـاد ’’ميشيل عفلق‘‘ ينجح نائباً لولا ذلك التزوير الكبير، و الحق أن عملية التزوير لم تكن موجهة ضد التقدميين بمقـدار مـا كانت ضد الجمـاعـات الإسلاميـة التي بـرزت بقـوة، و لكن عملية التزوير تلك كان لها أثـرهـا في التدليل على فساد نظام الحكم، و لعبتّْ دوراً في تبرير عمليـات الانقـلابات العسكرية التي تـلت… و بانتهـاء الانتخـابـات توقفتُ عن نشـاطي الحـزبي و الكتـابي، و بدأت أعـدُ نفسي لعمـلي الطبي و للسفر للتخصص بعـد أن تمت دراستي الطبيـة في جامعـة دمشق.
تلك، ذكـريات و انطباعـاتٌ كانت، و لكن أول خاطرة جاءت لذهني و أنا أستعيد ذلك العام ٤۷ و السفر، و قفـة على ظهـر الباخـرة اليونانيـة التي كانت تُقلنـا بعد أن ألقت مـرسـاتهـا في عـرض البحر بعيداً عن الشاطئ مقـابل ’’حيفا‘‘ و كانت ’’حيفا‘‘ مـا زالت فلسطينية و عربية، و لكن الصراعات الدامية كانت قـد بدأت تتفجر و الهجـرة اليهوديـة إليها تتكثف، و الباخـرة آثـرت البعد و السلامة أو هكذا فرض.. و مثلما وجدتني في ترحال أمـام مفترق طـرق كذلك نظرت إلى المنطقة كلهـا، و جـاء زورق يحمل من الشاطئ إلى الباخـرة مجموعـة من الشـابات و الشبان، و أبحرنا و أبحرت عنا ’’حيفا‘‘ (و لكننا أنا و رفاق السفر السوريين) بقينا طـوال الـرحلة على ضيق شديـد و نفـور، و كأنه نفـور عضوي أيضاً من سـماع أحداث تلك المجموعـة و ضحكـات الفتيـات و لهـوهـن مع البحــارة .
و الأسوأ كان متوقعاـً و لكن ليس بالقـدر الذي وصلنـا إليـه أبـداً، و وصلتُ ’’باريز‘‘ أي مدينة النور كما يقـولـون و كانت جدرانهـا مُسودة قبـل أن يبيضهـا عهـد ’’ديغـول‘‘، و واجهت صدمـة الغـرب و الثقـافـة الغربيـة في باريز فمـا انكفأت بل انفتحت لها بكل عقلي بل و بقلبي أيضاً و أردت أن أعرف و أردت أن أتعلـم.. و لكن المعـاناة كانت في تكييف طبـاعي و انفعـالاتي و هي العـلاقـات الخـاصة، و تعـذبت بهــا، و لكن خيـاراتي الدراسـيـة و الثقـافيـة أسـعفتني و أكمـلت طـريقــي .

۱۹٤٨
عـام ٤٨ كان عـام ’’النكبة‘‘ و تقسيم فلسطين و انكسار العـرب و قيام إسرائيل، و هي نكبة ما تفتأ تتجدد و تتمادى، و هي مـا زالت تحكم حياتنا العربية و فكرنا و تاريخنا و علاقاتنـا بالعالـم.. أيُ ظـلـمٍ تاريخي لحق بأمتنـا و أي تـواطؤ عالمي كان، ومـا زال، من عالـم الغـرب أو الشمال اليـوم ضـد أمتنــا.
و في ديار الغربة، و إن كانت باريز، عشت النكبة ضعفين، بين عالـم غربي لا يفهمنا و لا يفهم قضيتنا، موجّـه بالدعاية الصهيونية من كل صوب و معادٍ لنا، و يقابله تلقفي لأخبار الرفاق و الأهل و ما يجري، جيش الانقاذ بقيادة ’’القاوقجي‘‘، من المتطوعين العرب، دخل مقاتلاً إلى فلسطين، كان ذلك قبل أن تدخل الجيوش و تُهزم.. و جاءتني الرسائل، ابن عمي القـريب قُتـل في ’’سمخ‘‘ أخي الذي يصغرني كـاد يُقـتل في معركة مع الصهاينة في عكا، الأطباء الجدد من كانوا رفاقي في الدراسة و رفاقي في الحزب التحقوا بجيش الإنقـاذ، أستـاذنا ’’صلاح الدين البيطار‘‘ لحق بجيش الإنقـاذ مع مجموعـة من الحـزبين و وصلني عـدد من جريدة البعث نشرت رسالة منـه وقـف فيهـا على مشارف مستعمرة ’’نجمة الصبح‘‘ الإسرائيلية ليقـول: ’’نجمة الصبح قـد دنا مساؤك‘‘، و كنت أتعذب، فما اعتدت يومـاً أن لا أنخرط في أية معركة من معاركنـا الوطنية، و مـا طِقت اصطباراً، أردت العودة و كتبت لأهلي أطلب مالاً لدفع ثمن بطاقة العودة، و تلقیتُ، رسالة من الأستـاذ ’’ميشيل عفلق‘‘ يثنيني فيها و بإصرار عن العـودة، عرضَت رسالته صورة واقعيـة لمـا يجري، و طـالبني و هـو الأمين العـام بأن استكـمل دراسـتي و مـا ذهبت من أجـلـه، لأتـزود بإمكانيـات أفضل للقيـام بواجب العمل القـومي.. تـوالت الأحداث و بقيتُ هنالك بعيداً، و عـاد المناضلون إلى بيوتهم و كانت الخيبة كبيرة، و إلى جانب هـذا كله كانت لي مشاكل أخرى.. فبعد تنويع في متابعاتي للدراسـة و التدريب بين الأمراض العصبيـة و الطب النفسي و الجـراحـة العصبية، انصرفت بكليتي إلى الدراسـات النفسيـة و الأمراض النفسيـة، و كانت ’’الفـرويـديـة‘‘ و مذاهب التحليل النفسي في تلك الحقبة منتشرة و سـائـدة في كل مناحي المعـارف الإنسانية بل و دخلت عالـم الفكر السياسي و الأدبي و الفني.. و إذا شغل هذا الجانب اهتمامي لمساسه المباشر بدارستي المهنية التي اخترتها، فإن كل المذاهب الفكرية و الإيديولوجيـات كانت مـزدهـرة بعـد ركـودهـا فتـرة الحـرب و كانت في صـراع و كلمة الثـورة تسـود المقـولات، المـاركسيـة الأرثـوذكسـيـة أو الرسـميـة كانت متحفـزة تلّفـظ بنيهـا و ’’المنحـرفين عنهـا‘‘، و الوجوديـة كانت الناقدة و المشتدة علي اختـلاف مذاهبهـا، و جیل مـا بعد الحرب أخـذ بها و أخذ يترجمها إلى أنمـاط غريبـة في السلوك.. و لقـد انشـد اهتمـامي منـذ ذلك الحين إلى كتـابات ’’جان بول سارتر‘‘ و مواقفـه، حتى السـياسية منهـا، و تتبعت باهتمـام محاولتـه ذلك العام مع عدد من المثقفين ’’الثوريين‘ غير الشيوعيين، إقـامـة حـركة سياسية جديـدة باسم ’’التجمع الديمقراطي الثوري‘‘، و الذي تطلع إلى أن يعبر عمـا سـمي وقتهـا بالطريـق الثـالث، أي غيـر الطريـق الـرأسـمالي الليبرالي و غيـر الطريـق الاشتراكي الشيـوعي، و لكنـه مـا لبث أن انفـرط عقــده .

۱۹٥٢
أول ما يتوارد للذهن أنه عـام ثورة عبد الناصر و أحداث ليلة الثالث و العشرين من تموز/يوليو، و لكنها أحـداث توالت و كأنهـا بعيدة عنـا و لـم تشغلني في حينهـا، و مـرت سـنوات قبل أن يصبح ذلك التـاريـخ و تلك الثـورة مرجعيـة في التـزامي السـياسي و منهـج تفكيـري و عملي، و الحـق أن التغيير الـذي وقـع في مصر ذلك اليـوم كان المدخـل إلى تغيير بعيـد الأثـر في حياتنا اليومية، و لكنه حين وقـع، لـم أتفـاعل معه في البداية إلا على أنه انقلاب عسكري على شاكلة الانقلابات العسكرية التي توالت على السلطة في سورية، و سورية عـام ٥٢ كانت مسرحـاً لصعود ديكتاتورية ’’أديب الشيشكلي‘‘ و سيطرة العسكريتارية و اللامعقول على الحكم.. و كنت قـد اخترت الإقامـة و بدأت أمارس مهنة الطب في مدينة ’’حماة‘‘ حيث أنشأت مع زميلين لي مشفى خـاصة بعد أن استعصى علي إيجـاد مجال لممارسـة اختصاصي في دمشق ذلك الحين.. و بقيت مـوزعـاً بعـد هـذا و طيلة حيـاتي بين مهنتي و اختصاصي و بين مـا تفـرضـه علي التـزامـاتي السـياسـية و كان دأبي على عمـلي المهنـي الحـر سـنداً لـي في ممـارسـة حـريتي على صعيد الالتــزام السـياسي .
وفي ذلك العـام دعيتُ للخدمة العسكرية الإلزامية و كانت تجربة لا بـد منها في حياتنا، و تشاء الظروف أو شـاءت السلطة العسكرية وقتهـا، أن أقضي جـل هـذه الخدمـة التي دامت سـنة في هضبة الجولان عند خطـوط الهـدنة لحـرب ٤٨مـع القـوات الإسـرائيليـة، و جـاء نقـلي إلى ’’الجبهـة‘‘ كما كانـوا يسـمون تلك المنطقة في حينها بأمـر من ’’أديب الشيشكلي‘‘ لقطـع أنشـطتي السـياسية في حمـاة.. و تبـرز الآن للذهـن ثـلاث صور من ذكـريـات تلك الأيـــام:
الصورة الأولى: منظـر المستعمرات الإسرائيلية المتلألئة الأنـوار في الليل و المتناثرة أمامي و أنا أهبـط الهضبة من القنيطرة باتجـاه مقـر إقـامتي في بنـايـة الجمـرك عنـد ’’جسر بنات يعقوب‘‘، و بقيت أتساءل كيف أمكن أن نتخلى عن تلك المواقـع و تلك الأرض؟ .
و الصورة الثانية: كانت لذلك الفلسطيني اللاجئ و المسمى بابن الخـوري، و الـذي كثيـراً ما لقيته جالساً على تلك التـلـة مقـابل مزرعـة كانت لـه – ـزرعة الخوري – على الشاطئ الآخر من ’’نهر الشريعة‘‘ و على ضفة بحيـرة الحـولة التي كانت عمليـة تجفيفها و تحـويل مياههـا جارية من قبل الإسرائيليين و كان يتطلع بحسرة و عينـه دامعـة إلى مشهد الإسرائيليين و هـم يعملـون فيهـا و يجنـون ثمـارهـا .
أما الصورة الثالثة: فكانت وقفـات وقفتهـا قرب الجسر أتطلـع إلى تلك المستعمرة القريبة جداً في الجانب الآخـر، و التي كانت قـريـة ’’كعوش‘‘ العربيـة و احتلتهـا الصهاينة، و أنا أستعيد في الخيال قصة ملحمة من مـلاحـم الجيش السوري الذي كان قليل العـدة و العـدد ذلك الحين، في حرب ٤٨، حين كُلف الضابط ’’فتحي الأتاسي‘‘ بمهمـة انتحـارية على رأس فصيل عسكري لاقتحـام تلك المستعمرة ليـلاً و استعـادتهــا عـربيـة، و كان أن استعـادهـا و لكنـه جُـرح في تلك المعـركـة و قضـى .

۱۹٥٦
تاريخ حافل كان ذلك التاريخ و عام ۱۹٥٦كان عاماً بالأحداث و المتغيرات، إيديولوجياً و سياسياً، محلياً و عربيـاً و في العالـم، بل و بالثـورات و الحـروب.. فعلى صعيد مصر و الـوطن العـربي و امتـداداً إلى أفريقيا و العالـم الثالث كله كان عـام النهوض و التحدي، اللذان كانت رافعتهما الأولى تأميم قناة السويس ثم صمود مصر في مواجهـة العـدوان الثـلاثي.. فحـرب السويس كـانت بـدايـة النهـايـة للاستعمـار القديم في العـالـم، كمـا كـان الصعود في مواجهـة الإمبرياليـة و الاستعمـار الجديـد و رفض سـياسـة الأحـلاف و المعسكرات، و رفض مبدأ إيزنهـاور لإمـلاء الفـراغ في الشرق الأوسط و تقدم سياسة الحياد الإيجابي و كتـلـة عـدم الانحيـاز، و كان النهوض الكبيـر للقوميـة العـربيـة، و صيحـة عبد الناصر في بـور سعيـد المحـررة: ’’الـوحـدة العـربيـة هي استراتيجيتنـا في التصدي للتحـديـات‘‘ و كان صعـوداً أيضاً في ثــورة الجـزائـر، و تحـرك وطني و وحدوي كبير في سورية و توجه كبير من حزب البعث باتجاه عبد الناصر و دعـوة ملحــة للـوحــدة .
وعلى الصعيد العالمي، قامت نشاطات و نزاعات إيديولوجية كبيرة، و قد شهد هذا العام منذ أوائله و في شهر شباط انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي و تقرير ’’خروتشوف‘‘ الفاضح للمرحلة الستالينية، و المراجعة الكبرى و انعكاسات ذلك على الحركة الشيوعية العالمية و كل الأحزاب الشيوعية و الاشتـراكيـة في العـالـم و الـدعـوة للتعـايـش السـلمي بين المعسكـريـن و لتـعـدد الطـرق للـوصول إلى الاشتراكيـة، و إبان أزمـة السـويـس و قبـل انتهاء العـام كانت ثـورة المجـر الديمقراطية و دخول الجيش الأحمـر و سحقـه للانتفـاضـة و تـوتـر العـلاقـات بین الشرق و الغـرب و تأجـج الحـرب البــا ردة …
و لقـد عشت هـذه الأحـداث كلهـا و تعـاملت معهـا فكريـاً و إيديولوجيـاً، فقـد كان عـام ٥٦ عامَ تغييرٍ في حيـاتي أيضاً، إذ انتقلت إلى دمشق في عملي الـوظيفي و المهنـي و كـذلك من حيث مشـاركتي في العمل السياسي و الحزبي، و أسهمت منذ مطلع العام في لإعادة صدور جريدة البعث بشكل اسبوعي، و تعهدت جانب التوجيـه الفكري و الإيديـولوجي، و صدر العدد الأول للجريدة في النصف الثاني من شهر نيسان، بعد أن أعددت للجريدة عدداً من الدراسات النظريـة و الترجمات، و كانت نقلـة في تفكيري الاشتراكي و محاولة للتأثير في الحـزب بهـذا الاتجـاه.. و لقـد ركزت اهتمامي على ثلاثة تيـارات فكرية و إيديولوجية تقول بالتقدم و التغيير و الثورة، و كان لمدرسة مجلة “ايسبري” الفرنسية التي تعبـر عن منهج ’’مونييه‘‘ الإنسـاني أو مـا يسمى بالشخصانيـة خطـوة أولى، و كذلك لاتجـاه ’’سـارتر‘‘ الـوجـودي و كُـتـاب مجـلـة  ’’الأزمنـة الحديثـة‘‘، و بعدهما للتيـارات الماركسية المستقلـة عـن المـذهب الـرسـمي السوفيتي، و أردت لفكرنا القـومي أن ينفتـح للتفـاعل مـع روح العصر و التيـارات الحـديثـة.. و لقـد كتبت الكثير في الأعداد الأولى لجريدة البعث عن نتائج المؤتمر العشرين تحت عنوان كبير ’’المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي السـوفيـاتي يحـدد وجهـة نظـر الشيوعيـة و مصيرهـا في العـالـم‘‘.. و لقـد ختمتُ المقـال الأول بالجمـلـة المستخلصة : «و الذي نريد أن نقولـه بعد هـذا البحث أنه لـم يعد هناك من مبرر لقيام حزب على الفكرة الشيوعية في بلـدٍ لـم يخطُ بعد نحو استكمال وجوده القومي و نحو الاشتراكية، و إن العقائد التي تنشأ من حـاجـات الشعب و من خصائص الأمـة لتُحرك نضال الشعب و نهضته لا يمكن أن تُبنى على التبريرات المذهبيـة و التقديـرات التي ثبت بُطلانهـا، و إذا كانت الشيوعية السوفياتية تُراجع نفسها اليوم لتنسجم مع حـاجـات شعوبهـا و مع ظروفهـا التاريخيـة و ضرورات تقدمهـا، فالسؤال اليـوم مطروح على الأحـزاب الشيوعيـة في البـلاد العـربيـة: أين سـتضع مصـيرهـــا؟» .
و لقد دعوتُ في كتاباتي كما طالبَ رفيقي و مُتقدمي على هذا الطريق المرحوم ’’عبد الكريم زهور‘‘ إلى قيـام تحالف بين القوى التقدميـة العربيـة على نهج اشتراكي ديمقراطي عربي موحـد.. و كان هذا التوجه مدخـلاً لتلاقينـا منذ ذلك العام مع المفكر الماركسي العربي الكبير ’’الياس مرقص‘‘ و رفيق دربه الأستاذ ’’ياسين الحافظ‘‘، و قضية وحـدة الأمة صارت قضيتنا المشتركة.. و على طريقنا الناصري إلى الوحدة، أعطــانا ’’الياس مرقص‘‘ الكثـير، و هــو سـيظل يُعطـي حتى بعـد وفـاتـه في مـؤلفـاتــه التي تركهــا لنـا و فـي تلك التي لـم تُنــشر بعــــد .

١٩٥٨
كان عـامُ الـوحـدة و قيـام الجمهورية العـربيـة المتحدة، و تلك الـوحـدة كانت في الـواقـع ثـورة و ثـوّرَت شعوب الأمـة، و أياً مـا قيل و كُتب عن الظـروف التي جـرت فيهـا الأحـداث و القـوى التي دفعت إليها، فإنهـا كانت إرادة و تصمـيم شـعب و مدخــلاً لنــهوض الأمــــــة .
و أنا عشتُ تلك التجربـة بكل وجـودي و وجداني و فكري منذ مُقدماتها.. و في حزب البعث بدأنا تحركاً دؤوباً و متسارعاً نحو الوحدة مع عبد الناصر منذ الأيام الأولى لذلك العام.. كنتُ وقتها عضواً في القيادة القطرية و في المكتب السياسي القـومي للحـزب، و كانت اجتمـاعـاتنـا متـواليـة كل يـوم لتقـديـم مشـروع للاتحاد أو الوحـدة و متابعـة حـركـة الأحـداث، و أمسكتُ بالجريـدة و الإعلام الحزبي كما تعودت عندما تتحرك الأحـداث، و في ١٧ يناير/كانون ثاني، و إذ واجهنـا بعض التردد من الجانب المصري، صدرت جريدتنـا وهي تحمل عنوانـاً لمقـال افتتاحي كتبتـه و صدرناه كمانشيت للجريـدة: «لنبـدأ بالاتحـاد أولاً»، إلا أننـا في العـدد التـالي بعـد أسبوع، و إذ تـلاحقت التحركات بسرعـة، جـاءت الجـريـدة لتكون أول من يُعلن و في مقـال افتتـاحي باسـم ’’البعث‘‘، و في مانشـيت الصفحـة الأولى: «مصر و سـورية جمهورية عـربيـة متحـدة»، و عنواناً عـريضاً آخـر: «أمتنا تنهض و تعـود لمسرح التاريخ أمـة واحـدة» و بعدهـا عنـوان أخـذتُــهُ من جـريـدة ’’أوتيتـا‘‘ الإيطـاليـة: «كل الـذين يُـريـدون البقـاء في مسـار التـاريخ يُحـيون الجمهوريـة العـربيـة المتحـــدة»….
جرى الاستفتـاء و قامت الوحـدة، و جـاء عبد الناصر لدمشق و زحفت الدنيا العربية إلى دمشق فوحـدت كلمـة الأمـة، و برغم الفـاصل الجغـرافي بين سورية و مصر، قامت دولة للعرب كبيرة بدورها.. أشّـهرٌ معـدودات و ثارت بغـداد و تحطـم حلف بغـداد و تطلـع شعبُ العـراق للوحـدة و تركيا التي كانت تتوعد سـورية تحجّمت و تـراجعت، وإسـرائيل تحـرشـت على الحـدود فجـاءهـا الـرد قتـالاً وسـكتت، و الثـورة انتعشـت في الجـزائر و تصاعـدت، و كان الأمل أن تمتد الثـورة و تتسـع الوحـدة.. و عـام ٥٨ ظل عـام الأمل الكبـير و المصاعب جـاءت بعـده، و بقـيتُ مـواكبــاً للمســـيرة .
لقـد جـاء قـرار حـل الحـزب منـذ البدايـة مرافقـاً لإعـلان الوحـدة، و كان ذلك تحـدياً للكثـير في مقولاتنـا الثورية و كذلك الديمقراطية، و تقبلناه من حيث أنه تذليل لعقبـة و أن قضية الوحـدة أكير.. و قلنا تبريـراً ما كان الحزب إلا أداة لبلوغ الهدف، و وعد الوحدة أن تنقلنا لصياغة أداة شعبية أقوى و أشمل.. بانتظار مـا سيأتي أجمعت أمري مع شـلة من رفاقي، على رأسهم ’’عبد الكريم الزهور‘‘، أن نحمل فكر البعث و الدعوة كمجموعة ثقافية – سياسية غير حزبية و مستقلة، بعد أن ابتعدنا عن مناصب الحكم – أنزلنا يافطة الحزب و شعاراته عن الجريـدة و احتفظنا بكلمة ’’البعث‘‘، الاسم المرخصة بـه، و جعلنا من مجموعتنـا هيئـة تحريـر و تمـويل و إدارة لهـا و حـاولنــا الاستمـــرار .
كانت فكرتنـا أن ’’الوحـدة‘‘ لا تُمسك فقط بالسُلطات من فوق، بل لا بـد أن يُمسك بها الشعب من القاعدة؛ و أن لا بـد من الحركـة الفكريـة و السياسـية الشعبية التي توحد و تذلل التناقضات و تسهر على الوحدة، و كان إحساسـنا أن القـوى المعـاديـة للوحـدة، من داخليـة و خـارجيـة، و التي فاجـأتهـا الوحـدة بحركتهـا المتسارعـة، لـن تلبث أن تتحـرك، و تـبث تآمـرهـا.. و قـد أخـذت تتحـرك بالفعـل، و حـاولنـا بجريـدتنـا أن نبـثَ و عيـاً مطابقـاً لعملية الوحـدة و التقدم بهـا، و أن نكشف مواطن الضعف، و نفضـح التـآمـر.. و لكن رفاقنا السابقين الذين صعدوا للحكم ضاقوا ذرعاً بنا، و ما استطعنا الاستمرار إلا أشهراً معدودات.

۱۹٦۱
إنه كان عـام الانفصال و اغتيـال وحـدة القطرين، و تلك كانت أول نكسة أصابت حـركة القومية العربية في مسيرة نهوضها النـاصري، و هي التي أوقعت أول جـرحٍ في قلب عبد الناصر و عنفــوانـــه .
أما بالنسبة لي و لنشاطي السياسي فإن عـام ٦۱، و منـذ بداياتـه و مـا قبـلـه، كان عـام انكفـاء و ركــود، إلى أن جـاءت صدمـة الانفصال و الانـزلاق الخطـير لبعض قـوانا الوطنيـة إليـه، لتهـز كياننـا و لتزجنـا من جديـد في صميم الصراع بين قـوى الوحـدة و الانفصال و في النضال في سبيل تجـديــد الـوحــدة .
عنـدمـا وقـع الانفصال كنتُ في فـرنسا أتـابـع دورة للصحة النفسية عنـد الأطفـال و المـراهقين، أقـامتهـا منظمـة الصحـة العالميـة في مدينة ليـون، و تبادلت الرسائل مـع صديقـي ’’عبد الكريم زهور‘‘ حـول مـا جـرى و يجـري، و كان موقفـه قاطعـاً و كتب لي أن نأخـذ عهـداً على أنفسنا ألا نضع يدنا بعد اليوم أبـداً مع أيٍ من أولئك الذين ناصروا الانفصال و خـانـوا قضيـة الـوحـــدة .
كنـا قبل ذلك قـد اتخذنا موقفـاً مشتركاً من نظـام الوحـدة الذي سـاد، بعـد خيبـة أمل أصابتنـا، نحن الذيـن دفعنـا و انـدفعنـا بكل قـوانـا لتـلك الـوحــدة، و ذلك الموقـف أعلنتـهُ في مقــالٍ أخيـــر كتبتــهُ في جـريـدة «الجمـاهير» تحت عنـوان «الصمت موقف»، فقــد كان حـرصنـا كبـير على الـوحــدة، و لا نقبــل بأي تفـريط بهـا، و لا نقبل لأنفسنا أي نشاط معارض يمكن أن يوهـن منهـا، فلـم نجـد إلا الاعتصام بالصمت احتجاجـاً على ممارسـة سـلطـة بيروقـراطيـة لا تحمل بالأصل وعيـاً قـوميـاً مطـابقــاً لضرورة الـوحــدة و متفتحـة على الانتهـازيـة، أو ممارسـة أدواتهـا من الأجهـزة.. كنـا نـرى الـوحــدة تُفَـرغ من داخـلهـا و من شعبيتها، و لقـد حـركتنـا نـوعـاً مـا قـرارات تمـوز الاشتراكيـة التي أصـدرهـا عبد الناصر و لمسـنـا طبيعـة التوجـه الاجتمـاعي و الـوطني التقـدمي لعبد الناصر فضـلاً عن الالتـزام القومي، و لكنها حركت مخـاوفنـا أكـثر على الـوحـدة، إذ كنـا نلمس أن نظـام الـوحـدة في سـورية غـير مُحصن بمـا فيـه الكفـايـة أمـام مـا يمكن أن تثـيره هـذه الإجـراءات من تـآمـر و ردة .
و لكن المؤامرة حيكت و أخـذت الوحـدة غيـلة، و لقـد أحدث ذلك الانفصال و ما أعقبه، شرخاً في حركة القومية العربية، فلسـفــهُ البعض تحت شـعـار قعـود البـؤر الثـوريـة، و الشـرخ وقـع أول مـا وقـع داخـل حـزب البعث، و كذلك كل مـا كان يسمى بالقـوى التقـدميـة العـربيــة .

۱۹٦۳
كان عـام ثـورات ’’البعث‘‘ في العـراق و سـوريـة، ثـورات قـامـت و هي تعـلن أنهـا الـرد على الإقليمية و الانفصاليـة و أنهـا ’الثـأر‘‘ للوحـدة التي أهـدرها الانفصال.. و قـام أمل كبير بمشروع لوحـدة اتحـادية (أي فدراليـة) ثلاثيـة بين مصر عبد الناصر و العـراق و سـورية، و بأن ما طرحتـه الظروف التاريخيـة و حـركة الأحـداث على قيـادات الأمـة في الأقطـار الثلاثة عـام ٥٨ كفرصة تاريخية بعد وحـدة القطرين و بعـد ثورة ١٤ تموز في العراق و لكنهـا فوتتهـا في حينهـا، فإنهـا لن تفوتها هذه المرة، إلا أنه مشروع أُحبـط و حـلت النزعـات السلطويـة محـل حـافــز الـوحـدة، و قامت أنظمـة حكم كـرست القطـريـة تحـت شعارات وحدويـة، و قـام بعثٌ هنـا و بعثٌ هناك، فالوحدة لم تعد.. و ظل الافتراق بین سورية و العراق و كأن بينهما الشيطان يُبدد و لا يوحـد و يعيق كل تقدم عربي وحـدوي ينهض من مُصالحـة بينهمــا.
و في ٨ آذار حين قـامت حـركـة التغـيير في البـدايـة ثـورة في سبيل الـوحـدة، بعثيـة – نـاصريـة، جـئتُ وزيـراً للإعــلام و كـذلك عضـواً في مجـلـس الثــورة، و كبعثـي جــئتُ و كــنتُ مـا زلت، و لكـننـي في صبيحـة ۱٨ نيسان لـذلك العـام، أي بعــد يــوم واحـد من تـوقيـع ميثــاق ۱۷ نيسان، و مـا أن لمسـت مـا يـدبــر لإحبـاطــه و النكـول عنــه، اسـتـقلتُ من مناصبـي الـرسميـة و الـحـزبيـة و ابتـعدتُ، ثـم أخـــذتُ مواقـفي في المعـارضـة إلى جـانب الحـركـة الشعبيـة التي كانت تطـالـب بالـوحــدة و عبد الناصر .
وعلى الهـامش أذكر حادثـة صحفيـة.. ففي الأيـام الأولي من ثـورة آذار و أنـا في وزارة الإعلام، قدمت لي جريدة ’’الحيـاة‘‘ و قـد نشرت على صفحتين مقـالاً مطـولاً باسمي تحت عنـوان ’’اشتراكية أخلاقية‘‘، و كأنهــا كانت تـريـد أن تقـول هـذا هـو التـوجـه الأيديولوجي للنظام الكـريـم.. و كان مقــالاً لي نشـرتـه جريـدة البعث اليوميـة عـام ۱۹٥۰، و كنت متأثـراً فيـه بكتـابات ’’هنري دومـان‘‘ الماركسي الإصلاحي المُنشق و كنت أحسـب أن أفكاري في الاشـتراكيـة قـد تجـاوزتــه .

۱۹٦۷
عـام الهزيمة، هزيمة حـرب الأيام الستة في حزيران التي مازال الحديث عن آثارها يتردد و يُثقل مسيرة الأمـة، و كان عـام التواطؤ الكبير بين إسرائيل و الولايات المتحدة الأمريكية و من وراتهما قطاعات من الرجعيـة و الانتهازيـة العربيـة، لقطع طريـق النهـوض النـاصري للأمـة بل و لاعتـراض سبيل ثـورات التحـرر الوطني في العـالـم الثـالث عبـر تحطيم نمـوذج جـاء قدوة لهـا.. و كادت المؤامرة الكبرى تحقق أهدافهـا، إلا أننـا في عـام ٦۷ كانت مـا زالت هناك شعوب و حركة شعوب و إرادة لهـا، و نزلت حركة الشعوب بكل ثقلها إلى الشارع ترفض الهزيمة و تُصعد عبد الناصر من جديـد إلى دفـة القيادة، و ما قـاد عبد الناصر الأمـة بمثل ما قادهـا من التصميم و العزيمة و النضج في تلك السنوات الصعبة الثلاث التي اعقبت حرب حزيران و ظل الوعـد ببداية جديدة و نهوض جديد للأمة، إلا أن التواطؤ الكبير ظل هناك، و اسـتطـاع أن يُـحــرك الــردة بعــد ذهــاب عبد الناصر، و ذلك التـواطـؤ نفسـه أفـلا تـرى كـيف يعــود و يتجــدد اليـــــوم؟
لقـد قيل الكثير حول أحـدات ذلك العـام، و ليس لي مـا أقـوله في اللحظة الراهنة إلا مـا قـاله عبد الناصر في برقيـة للملك حسين قبـل يوميـن من وفـاتــه: «و سـتبقى أمتنـا دائمـاً أكبـر من كل شــر و أقــوى من كل تدبيــر… » و لا بـد أن يأتي الـرد من حـركـة جـديـدة لشــعوب الأمــــــة .

۱۹۷٠
أول مـا يمكن أن أقـولـه عنـد ذكـر ذلك العـام، و قفـة عنـد ذلك الفقـدان الكبير الـذي جـاءنا بغتة، و رحل عبد الناصر تاركاً الثـورة العربيـة التي قـادهـا في منتصف الطريـق.. و حين قضى نـادينـا و نـادت معـاً جمـاهير الأمـة التي مشـت لتشييعـه: «سـنكمل المشوار و نتابـع المشوار».. إلا أن المسـيرة مـا لبثت أن انقطعت من بعـده و تشـتـت شملنـا و أخـذت الـردة مواقعهـا المسيطرة في العديـد من أنظمتنـا القطريـة .
و في حزيران لذلك العـام كنتُ قـد ذهبت إلى مصر بمنـاسـبة دورة حـول منـاهـج تـدريس الطب النفسي نظمتهـا الصحة العالميـة في الإسكندريـة، وحسبتهـا فـرصــة أمِلّتُ فيهـا اللقـاء بعبد الناصر.. فقــد كـنتُ أحمـلُ أفكـاراً و تصورات حـول مشـروع للعمل القـومي الموحـد على الصعيد الشـعبي أمِلّتُ أن أحـظـى بدعـمٍ منـه لـه، و تلك مسـألة كان دار الحـديث حـولهـا مع ’’الرئيس‘‘ عنـدما حظيتُ بلقـاءٍ معـه قبـل ذلك في آب ٦٩.. و كان شـاغل عبد الناصر الكبير إدارة حـركـة التحـريـر و إزالـة آثار العـدوان، و قـد قـال لي يومهـا هـذه معركـة لا بـديـل لأمتنـا عن النصر فيهـا، و العمل من أجلهـا، و مسؤوليتي أن أرفـع عن طريـق هـذا الجيل العـثرة الكبـيرة التي وضعتهـا هـزيمـة حزيران لتستمر من جديـد مسيرة الثـورة نحـو أهـداف الأمـة.. و كان آخـر مـا سمعتـه من عبد الناصر قـولـه في ذلك اللقـاء: ’’قبـل أيـام جـاءني ولـدي الأصغر حكـيم منفـعــلاً دامـع العـين ليقـول إن رفـاقي في المدرسة يُلحون علي بالأسئلة، فمتى سنحارب يا أبي، و أجـبت هـون عليك، اذهـب و قـل لـرفـاقـك سـنقـاتل، ذلك فـرضٌ علينـا و بإذن الله سننتصر‘‘.. كان عبد الناصر قــد أطلــق العنـان لحـرب الاستنـزاف، و قـد قـال في تلك اللقــاء إنني مـازالت بحـاجـة لجهـود مكثفـة لسـنة و بضعـة أشـهر لنمتـلك القـدرات الـلازمـة لشن حـرب التحريـر الكاملـة، و أبنـاؤنا و شـعوبنـا لن يطيقــوا الاصطبــار أكثـــر…
مـا كان عبد الناصر في مصر حين جئتهـا هـذه المـرة، بـل كان في آخـر زيـارة عمـل قـام بهــا للاتحـاد السوفياتي ومـددهـا أيـامــاً من أجـل العـلاج.. قيل لي أن أبقى منتظـراً عودتـه، و لكنني فضلت التعجـيل بالعـودة إلى دمشق حـين عـرفـت أن هنـاك مشـروعـاً يستعجل إقـامـة اتحـاد بين مصر و سـورية و ليبيا لمواجهـة ظـروف المعـركـة و لئـلا يفلـت زمام الحكم في ليبيا ’’الثورة‘‘، و أن عبد الناصر كاد يأتي إلى دمشق لإعـلانه قبل سـفره للاتحاد السوفياتي و إعلام السوفييت أيضاً، و أن الرئيس السوري ’’نور الدين الأتاسي‘‘ قـد سُـمي رئيسـاً للجنـة المتـابعـة.. و عرفـت مـا عرفـت عن مرض عبد الناصر، و عدت إلى دمشق أسـتحـث الـدكتـور ’’نور الدين الأتاسي‘‘ على المبـادرة، و لكن النظــام السـوري كـان في جُملتــه مستعصيـاً على الـوحـدة، و لـم تستطـع النـوايا الطيبـة لنور الدين أن تغيّــر المسـار، ثـم جـاءت حـركات الهــروب إلى الأمـام و مظـاهــرات السـفاهــة المشـبوهـة عندمــا أعلـن عبد الناصر في ۲۳ يوليو قبـول مبـادرة ’’روجرز‘‘، ثـم تـواكـبت أحـداث أيلول الأسـود في عمـان، و مضى عبد الناصر، و بعـد غيـابـه أحـس النـاس مـاذا كـان يعنـي حضـــوره .
و بعـد ذلك، و في منتصف تشرين الثـاني التقيت بالفريـق حافظ الأسد حين قـام بحـركتـه التصحيحية، و كانت الوعد بالانفتـاح الديمقراطي و تعـدديـة الأحـزاب و بتعـزيـز أواصـر الـوحـدة و التـلاحـم الكفـاحي بين مصر و سـورية على طريـق معـركـة إزالـة آثـار العـدوان، و تعـاونـتُ مع نظـام ’’البعث‘‘ المُتجـدد تحت شـعـار وضع جميع القـوى على طـريـق معــركـة التحـريــر، و من خــلال جبهـة وطنيـة و بآمـال للتـأسـيس الديمقراطي لدولـة الحـق و القـانـون، إلا أنهــا مشـاركـة تعـثرت و خـرجـتُ من جبهـة النظـام إلى المعـارضـة في عـــام ١٩۷۳.

١٩۷۳
و هـذا أيضاً كان عـام حـرب، و الحروب تُغـير مصائر الأمـم و المناطـق و تُغـير مسارات أنظمة الحكم و مواقـع الحـدود.. و حـرب رمضان تفجـرت رائعــة و عظيمـة عظمـة إرادة الأمـة، و انـدفـعت معهــا الشـعوب بكل اعتـزاز و كل تصمـيم على التضحيـة مهمـا غـلت و توحـدت كلمتهـا عنـد هـدف التحـرير و النصر.. و لكنهـا حـربٌ تحولـت عن هـدفهـا الذي تطلـعت إليـه الشـعوب، فجـاءت في النهـايـة حسبما أرادهـــا السادات حــرب ’’تحـريــك‘‘ لا حــرب تحـريــر.. إنهــا حـربٌ أوّقـفـت على أن لا غـالـب و لا مغلـوب، وهي من حـيث النتيجـة لـم تغــير كثيـراً في المـواقـع على الأرض، و لكـن التـغيـيرات جـاءت بعـدهـا لتُخــل بكل موازيـن الأمــة و حـركــة مجتمعـاتهــا و شـعوبهــــا .
و هـا نحن بعــد عشـرين عـامـاً مضت تـراجعــاً إثــر تـراجـع، مـا زالت الأنظمـة تـرفـع أعـلام النصر، و مـا دمنـا قـد انتصرنا فكـفـانـا، إلا أنـه النصر الـذي حـولتــه الأنظمة إلى انتصار على شـعوبهـــا…
قبل حرب تشرين تلك، كنت قد خرجت من الجبهة المتعاونة مع النظام و عدت إلى المعارضة باسم الديمقراطية و في سبيلها.. و كانت الحرب بالمرصاد و ما كانت توقعاتي على تفاؤل، فقد كنتُ ألحظ إلى أين تدفع أهواء الرئيس السادات و قد حذرتُ من ذلك في حينه و كتبتُ و بينتُ.
بعد أن قامت الحرب و تلاحقت أحداثها و أحداث ما بعد الحرب، أخذتُ أتتبعها بالكتابة و اتخاذ المواقف و كتبتُ نشرات حزبية تسع مقالات متلاحقة تحت عنوان «حرب تشرين و المستقبل العربي»، و لحظت التحولات الخطيرة التي تكاد تقطع طريق المستقبل.. و قلت فيما قلت متسائلاً: ’’هل كانت تلك الاندفاعة الشعبية القومية مع تلك الحرب، آخر طلقة في مدفع حركة الشعوب؟، فالردة كانت قد أخذت طريقها صعوداً، ليعم التراجع و الانكفاء بحركة الشعوب .

من ۱۹۷۳- ۲۰۰۰:
و بينهمـا نقـاط – سأكتفي بكلمـات قليلـة لإمـلاء تلك النقـاط – عشرون سـنة مضت منذ عـام ۱۹۷۳ حتى اليـوم، و هي لـم تكن عجـافـاً بالنسبـة للأنظمـة القطـريـة الحـاكمـة، فقـد طـال عمـرهـا و تطــاول.. و لا كانت عجـافـاً بالنسبـة للطبقـات الجـديـدة التي صعدت إلى السلطـة و المتـرسـملـة من السلطـة و المغتنية بالسلطـة، و لكنها عجـاف بالنسبة للشـعوب و بالنسبة للأمـة و قضية وحـدة الأمـة، فهي من تـراجـع إلى تراجـع، و مـا زالت تتـوالى حـركات السـقوط، و لكنني و أنـا أتلمس بـوادر حـركة وعي يتعمم  للمآلات التـي وصلنــا إليهــا و المخــاطـر المُحـدقــة، لعــل خيــارات الشـعوب تتجـدد حـركـتهــا و هي تطـالــب بمواجهــة التحـديــات وعــدم الاسـتســلام .
وهناك المتغيرات الكبيرة في العالـم، فثمـة انهيارات كبرى وقعت و تجمعات كبرى تقـوم أيضاً.. الجميع مشغـول بهمـوم التنميـة و الاقتصاد، و حـركـة التقـدم التكنولـوجي مذهـلـة و لـم تلحـق بهـا بعـدُ عقولنـا، و الكل يتطلع لعـام ۲۰۰۰ و المـداخـل المتعـددة إليـه و كأنـه الغـايـة، و العـالـم يضيـق و يضيـق و الكل يـراجـع حسـابـاتـه، و تبقي منطقتنـا و أمتنـا مسـتهدفـة، و نبـقى في صراع و محــور صراع.
إن العمر الذي بلغتـه ليعفيني من التطلـع إلى بعيـد، فلقـد قلنـا الكثير في الماضي عن الأهـداف الكبرى و الشاملة و البعيدة، فـأنا اليوم أتطلع للرمي في الأهداف القريبة المنال، و ما نضعه اليوم تلقاه الأمة غداً .

٢- ليـس كأننـا مررنا و إنمـا نحن بالفعل عشنـا في الخمسينات ذروة في الاهتمـام السـياسي للنـاس و في المشاركة العامـة للقـوى و المجتمعـات الشعبيـة، و كل مـا أوردتـه من ذكـريات الخمسينـات يحكي قصة هـذا الاهتمـام و دوافعـه، حين كانت السـياسة اهتمـامـات شـعبية عـامـة و مطالب و شـعـارات و أهـداف لقـوى و حركات شعبية و لطلائع ثقافية و سـياسية واجتماعيـة و لأحزاب و نقابـات و أنـديـة و جمعيات مستقلة عن السلطة و أجهـزة السلطة، و قـد أعطت تلك الاهتمامات مـا أعطت من نهـوض عــام .
أمـا هـذا البـرود و العزوف و التحلل الذي يكاد يكون شـاملاً اليوم فليس مصدره الخيبات التي منيت بهـا الشعوب خـلال السنوات الثلاثين الماضية فحسب، بـل كذلك حملة الإحبـاطـات و قسريـة النظم الحـاكمـة و ديماغوجية القيادات السياسية و تفريـغ الشعارات من مضامينهـا، ثـم إن ضبط و تقيـيد الحـريات مديدة و متواصلة و العـوازل الفـاصلة بين مجتمع طبقـة السـياسـة و الحكام و بين المجتمع المدني، فضـلاً عن تفتـيت هـذا المجتمع الشـعبي و تفــريغـه من السـياسـة و من الاهتمـامـات السـياسـية من حيث مطـالب و إرادات تعبـر عن نفسهــا و عن مصالحهــا، و مشـاركـة الـرأي في صياغـة القـرار السـياسي و مـراقبـة واعيـة للحكـم و للمفـاسـد و الأخطـاء التي تســري .
فأنظمتنـا القطريـة حصرت السـياسة فـوق في القمـة و أعفـت الناس من التفكـير السـياسي و المطـالبـة و من التنظيم أو من الاهتمـام بشـؤون السلطـة و تداول السلطـة، فـلا يبقى على النـاس إلا الامتثــال .
و لـذا فإننا عندمـا نطـالب بالديمقراطيـة و التغيير الديمقراطي، فإن اهتمامنا يذهب أول ما يذهب، لا إلى مسائل السلطة و الحكم، بل إلى امتـلاك حريتنـا في إعـادة تأسيس السياسة و الاهتمام السياسي و التنظيـم السـياسي و الثقـافي في المجتمع و تحـريك المطـالب الديمقراطيـة لكل الفئـات الاجتمـاعيـة …
٣- ليست مقومـات القومية العربية و هويـة الأمـة الثقافية و التاريخية و الحضارية التي يمكن أن توضع بالنسبة لنـا موضع التساؤل و الشك، و لا ما نسجته الوقائع و الحميّـا في الماضي و في مراحل النهوض و ترسخ في الذاكرة الجماعية لشعوب الأمة.. فيما توافر لأمتنا من عناصر التكامل و الوحدة و التواصل الجغـرافـي و الثقـافـي لـم يتـوفــر مـا يضاهيهــا لأيـة أمـة صنعت و حـدتهــا القـوميـة و أقـامت دولتهــا الوطنيـة كـدولـة للأمــة.
فقومیتنا العربية ليست عصبية كنـا نتعصب لهـا و لا مذهبـاً إيديولوجياً تجاوزتـه المتغيرات، و إنمـا هـو شـعور بالانتماء لأمـة واحـدة و دعـوة للعمل من أجـل جمع أجـزاء هـذه الأمـة و توحيدهـا و الدفـاع عن وجودها، كما في مشروع نهوض و إطار لبناء تقدم الأمة و منعتها.. و لأننا أمة تاريخية في وسط العالم و يمكن أن يكون لنهوضها دور مؤثر في توازنات العالم، و لهذا فإن أمتنا تبقى مستهدفة و كذلك منطقتنا العربية، من كل القوى الطامعة بالهيمنة و السيطرة في العالـم.. و أمتنا بعد نهوض الخمسينات و تقدمهـا على طريـق القومية العربية و الوحدة، تعيش اليوم حالة تراجع و تفكك وعودة للمظاهر و العصبيات مـا قبل القومية، بعد النكسات التي منيت بهـا حركـة الشعوب في تقدمها نحو أهدافهـا و بعـد تكريس النزعـة القطريـة و من خـلال الأنظمة التي سادت و المصالح القطريـة و الفئويـة التي تمكنت فيهـا، تلك الأنظمة التي برهنت حرب الخليج الثانية كم هي مشدودة بالتابعية للخارج و کم هي أبعـدت عن الالتـزام القـومي بمصلحـة الأمـة الـواحـدة و المصـير الـواحــد، و بعـد هــذا فـإن قوميتنـا العربيـة و قضيـة و جـود أمتنـا و وحدتهـا أصبحت مستهدفـة ضعفين، و مشاريع التجـزئة و التقسيم أكثر و الهيمنة على منطقتنا العربية  و أمتنـا، بحيث لا تنهض، جـاريـة على قـدم و سـاق، و ليست فكرة القومية العربية وحدها التي يشككون بهـا، بل تمسخ الأسمـاء و المسميـات للوطن العـربي و الأوطـان لتصبح منـاطق جغـرافيـة مجـردة يـراد توزيعهـا بين نظـام شـرق أوسطي و آخـر لشـمالي أفـريقيــا، و هكـذا دواليـك، لتُدحض مقـومـات وحــدة الأمـة و تُجـزأ من داخلهـا أكثـر و أكثـر، و لتُصاغ روابطهـا الخارجيـة و الدولية في إطار من العلاقات و التـوازنـات الإقـليميــة الأوسـع…
و المسارات التي تدفـع إليهـا أنظمتنا العربية تضع قضايانا القومية بالفعل أمـام احتمالات مريعـة، إلا أن هــذه الاحتمـالات المـريعـة نفسهــا و الأخطـار التي تـزحـف و إدراكنـا لهـا بعـد أن وصلت السكـين إلى أعنـاق الجميع، شعوباً و حكامـاً، لا بـد لهـا أن تحرض دوافـع الحفـاظ على البقـاء و الـوجود، و الـوجود ليس إلا وجودنـا القـومي کأمـة و التـقـوّي بروابط و وحـدة هـذه الأمـة و تضامنهـا في مواجهـة الشـدائـد من جـديـد، هـذا جانب، أو تلك رافعـة لنهوض قومي جديـد، إلا أنهـا رافعة لن تجد مرتكزاتها الصحيحة بدون وعـي مقـابل لقصوراتنـا الذاتيـة و عّـلل أنظمتنا القطريـة و مـا تراجعت إليه مجتمعاتنا الشعبية من عصبيـات و روابـط قبـل القوميـة و قبـل الوطنيـة، و هنـا أيضاً تجدنا بصدد احتمال مريـح آخـر، و هـو الـوعـي العـام الذي أخـذ يسـود لدى الطـلائـع الثقـافيـة لأمتنـا في كل أقطـارهـا، لضـرورة الديمقـراطيـة و التغيـير الـديمقـراطي و تعميــم قيــم المـواطنيـة و حقــوق الإنسـان، و بالـديمقـراطيــة يمكن أن تنتـقل مجتمعـاتنـا العـربيـة مـن تـلك المــواقــع قبــل القـوميـة أو اللاقـوميـة إلى التمـاسـك الـوطني و التــلاحـم القـومي، و لتنهض بالديمقراطية و الحريـة إرادة الشـعوب و حـركـة الشـعوب، و المطلب المتقـدم اليـوم على غيـره مطلب مُصالحـة الأمـة مـع ذاتهــا و مـع قيمهــا و أخــلاقهـــا .
٤- لا أريـد هنـا الخوض في حديث عن الثقـافـة و أنمـاط المثقفين و المواقع الاجتماعيـة و الوظيفية التي يحتلونهـا أو يعبرون عنهـا، إلا أنني، كجـواب على هـذه الأسـئلـة و التساؤلات، أسـتطيع القـول أن أمتنـا تمـر بأزمـة عـامـة لهـا جانبهـا الثقـافي، و تقـف على مفترق طـرق و أمـام طـلائعهـا و نُخبهــا خيـارات صعبـة.. و في مثل هـذه الظروف تتطلع الأمـة إلى دور، و لعـله دور للمثقف قبل السياسي، أو بالأحرى لـذلك المثـقف المغتني بالمعـرفـة و المتعطش دائمـاً للحـريــة، و الـذي يسـمو بـه حــب المعـرفــة فـــوق شـروطـه الاجتماعيـة الخاصة ليعـانق قضيـة الأمـة و مصلحتهـا في كليتها، و هـو الـذي يواجـه المسائل المطروحــة و يقـدم الحـلول لهـا و يمهـد الطريـق أو هـو الـذي يـدل إلى المخـارج و طريـق الخــلاص، من حيث يضع أمـام السـياسيـة منهج العمل و دليـل التغيـير، أو هـو يأخـذ دوراً سياسياً مباشراً من حيث أن السـياسة في مفهومهـا الأرقــى هي علــمُ الإرادة و فـن التغيـــير .
فعندمـا نقول هنـا بالمثقف الملتـزم و الـذي يـؤدي دوره لا يـذهـب تفكـيـرنا في شـيء، إلى ذلك المسكون بِعلّـة السـلطـة أو تلك التي تسـتهويـه أو تُسخّره و تحتـويـه و يهّـوي، و لا إلى صـفوف من المتعلمـين أو المتخصصين في أبـواب المعرفـة و العـلوم الإنسـانيـة و الـذين يتخـذون مواقعهـم في وظـائف الدولـة أو تدفعهـم احتيـاجـاتهـم المعيشيـة لذلك، أو الـذيـن يضعون أفكـارهـم في خدمـة السلطة و لتبريرها و الدفاع  عنها، أي لا إلى أولئك الذين كان ’’جان بول ساتر‘‘ يسميهم بـ «تكنوقراط المعرفة»، و لا إلى الذين كان يسميهـم صديقـهُ ’’بول نيزان‘‘ بـ «كلاب حراسة السلطة و النظام»، و إنما إلى ذلك النـاقـد و الـذي يقف من غيـر تحـزب في معـارضة واقـع الظلـم و الفسـاد، و إذا عـارض السـلطـة فليس كفـوضـوي يـرفض أي سُـلطـات للدولـة أو النظـام، و إنمـا يـرفض التسـلط و الشـموليــة و الفسـاد .
و إذ أن هـذه الأسئلة تقـودنا إلى طـرح إشكاليـة التعـارض بين المثقف و السـياسي، أو التنـاوب و تـداول الأدوار، فإنني عندما وضعتها أمامي، خطرت لذهني على الفور كلمات ناقدة وجهها لي قبل ثلاثين عاماً الكـاتب الفـرنسي الإنسـاني الـمعـروف ’’جان ماري دوميناك‘‘ كـان ذلك في آذار ۱۹٦۳ و كـنتُ وزيـراً للإعـلام و كنـا نعيـش في سـوريـة جــواً من التـوتــر الشـديـد، و اقتـنصتُ فـرصة من الـوقـت لأجـتمـع بـ ’’دوميناك‘‘ فـي لقــاء رتبــه لنــا الأسـتاذ الفيلسـوف ’’بديع الكسم‘‘ في بيتـه، و كان ’’دوميناك‘‘ وقتهــا رئيساً لتحرير مجـلـة ’’أیسبري‘‘ و قـد جـاء باحثـاً و محـاضراً، بـدعـوة من وزارة الثقـافـة كما أعتقــد.. و دار بيننـا حـديث حـول الثقـافـة و توجهـاتنــا الثقـافيـة و مـا عَمِلّنـا في هـذا المجـال، و قبـل أن نفتــرق قـال لي لائمـاً و إن بشـيء من المــودة: «كيـف تقبـل لنفسك أن تعمل وزيـراً…؟» و لـم أعمـل بعـد ذلك وزيـراً، و لكن ظل الجمـع بين العمل الثقافي و العمل السياسي، و إن في المعارضة دائماً، يضع الإنسان أمـام التـزامـات لا يستطيـع الـوفـاء بهــا حتى النهـايــــة .
مـا هـذا إلا مثـال، و لكل مثقف اشكاليـة.. أمـا عن حـال الثقـافـة العـربيـة و حـال المثقف مـع السلطـة أو السلطات العربيـة، سـواء تلك التي تعمل لاحتوائـه أو تلك التي تُصليـه أو تنفيه لأنه يظل يطالب بالحرية و لا يرتـوي، فأكتفي بالقـول: إن الثقافة العربية و إن تزايـد و اتسـع انتاجهـا و المُنتجين لها، فإنها تعيش أيضاً أزمة مضاعفة، من حيث أنها جزء من أزمة الأمة و المجتمعات، و من حيث قصورها عن التعبير الحـر و الشامل عن طبيعة هـذه الأزمـة و عـواملهـا، و عن أن تقـدم الإجابات على المشاكل المستعصية و أن تـدلهــا إلى طـريـق الخــلاص.. و غيـر كـوابـح و ضـوابـط السـلطـة، تبقـى الكـوابـح و الضـوابـط الداخليـة التي يقيمهـا المثقف على نفسـه و يبقـى الإرهــاب الفكــري في المجتمـع أخطــر إرهــــاب .
إذن المشـاكل تتـراكـم و تتكاثـر التحـديـات، و في هـذه الظـروف الـراهنـة العسيرة التي تمـر بهـا أمتنـا، نكـاد نكـون بحـاجـة لا إلى مثقفـين عاديــين يُعبـدون الطـريـق و إنمــا إلى أنبيــــاء .
٥- ليست الديمقراطية لباسـاً نستعيره أو زينـة نتزين بهـا لنقـول هـل تصلح لنـا أو تليـق، بـل إن السـؤال الذي تطرحه اليوم بإلحاح شعوبنا و طلائعها الثقافية و الوطنية هو هل بقي من سبيل للخروج بمجتمعاتنا من حـالـة التفـتت و التخـلف و الحجـر، و هـل من حيـاة حـرة كـريمـة يمكن أن تعيشهـا شعوبنـا في ظل دولـة للحق و القـانـون تقـوم و تتـأسس على مجتمعـات مدينـة قائمـة بذاتهـا.. و تسوسهـا روح المواطنية و المساواة و قيـم الحـريـة و حقـوق الإنسان، و هـل يمكـن لنــا أن نتقــدم كعــرب و أن نقــوى و ننهض و نتعـامل مع الحـداثـة و روح العصـر، بغـير الديمقـراطيـــة؟
أما مقولـة ’’تصلح لنـا و نصلح لها أو لا تصلح‘‘ و ذلك التشكيك الذي يُطرح بالتوقف عند بعض مظاهر التعصب التي ترتـد إليها قطاعـات من مجتمعاتنـا تحت وطـأة الظلـم الاجتماعي و القهـر، أو ذلك التعـلق بأنماط من النظم الأبوية أو بأنماط للحكم المطلق فـات زمانهـا… فتلك طـروح يتمسك بهـا أعـداء نهوض أمتنا و الذين يريدون لها الانقسام و التخلف المقيم، أو هي تظل ذريعة تتذرع بها نظم التسلط و الاستبداد لتضمن ديمومتها و ديمومة سيطرة مصالحهـا الفئويـة و الخـاصة على حساب حـريـة و وعـي الشعوب، من حيث تقـول: إن شعوبنـا متخـلفـة و ليس لنـا إلا أن نقـودهــا إلى التقــدم مـن فــــوق .
و بعـد كل هـذا الـذي جـرى و يجـري في العالـم من متغيـرات و بخـاصة في السـنوات الأخيـرة، و هـذه الدنيـا التي تضيق و تصغـر على البشريـة و يتـواصل فيهـا التفـاعل و التبـادل بين المجتمعات الإنسانية، هـل يبقى لنـا أن نقـول هـذا شعبٌ تصلـح و هـذا شعبٌ لا تصلـح لـه الديمقراطيـة؟، فليس من مجتمـع أو من شـعب جُــبل بالأصل على الديمقـراطيـة، بـل هـي حـركــة نضـج و تقـدم في الـوعـي البشـري و في تشكل المجتمعــات الإنســانيــــة.
أمـا ’’حقـوق الإنسان‘‘ المعـروفـة و التي تكـاملـت في وعـي الشـعوب و مـا توافقت عليـه الأمـم المتحـدة و مؤسساتها المعنية، و تأصلت كقيم إنسانية مشتركة و حقوق سياسية و مدنية و اجتماعية لبني البشر… هـذه الحقـوق و القيـم إذا وجـدنا أنفسنا بحـاجـة إلى إعادة تأسيسها في حيـاة مجتمعاتنـا و وعي شعـوبنـا، فهي بالتـأكيد ليست دخيلـة عليهـا و لا غـازيـة فأمتنـا العـربيـة عبّـدت الطريق و فتحت المداخل إلى تلك القيـم و الحقـوق منـذ الثــورة الإسـلاميــة المحمديـة الأولى، حـين رفعـت كـرامــة الإنسان، و عممـت قيــم العـدل و المسـاواة المُطلقـة بين بني البشـر كافـة، و هـي التي و ضـعت المُطلـق كـواحــد أحــد فـوق في السـماء و حمّـلت النـاس مسؤوليتهــم عن شـــؤون دنيـاهـــــــم…
٦- لعلني لن أكـون متحيزاً لهـذا الجانب من المعرفـة الإنسانية أو لهذا الفرع من الاختصاص الطبي إذا قلـت أن الاهتمـام بشؤون الصحـة النفسيـة في مجتمـع من المجتمعـات أو في دولـة و نظـام حُـكـم، و أن مسـتوى الرعـايـة التي تُـقـدم لمرضى النفـوس و للمعـوقين نفسيـاً و للشـاذين أو الـذين يجـدون صعوبات في التكـيف و للمعوقـين نفسيـاً و لصعوبـات الطفـولة أو الشيخوخـة، همـا معيـار لا يُخطئ لمقدار التقـدم و الحـداثـة في هـذا المجتمع أو نظـام الحكـم، و كذلك لمقـدار ديمقـراطيتـه و احترامـه للحـريـة الإنسانية و كـرامـة الإنسان.. و في إطـار التـأخر الاجتمـاعـي كمـا تحت وطـأة نظـم الاستبـداد أو الشموليـة تختل أيضاً معـايـير السـلامـة العقليـة و مقـاييس الصحـة و المــــرض .
و بهـذا العرض يحضر للذهن مثـالان: أولهما مثال الثورة الفرنسية.. فهي عندما اقتحمت سجن الباستيل، حـررت، إلى جـانـب من حـررت من المجــرمـين و معتقلي الــرأي و السـياسـة، المرضـى النفسـانـيـين و الهستريائيين الـذين كانوا يُحشرون معاً و يُعذبون على حد سواء.. و بعد ذلك تطورت المفاهيم بالنسبة لهؤلاء المرضى و تقدمت وسائل الرعـايـة و العـلاج و قوانينهـا و المـآوي و المصحات و المستشفيات، و مـا زالت تتقدم.. و المثال الثاني هـو تلك الفضيحة العلمية و الأخلاقية و الإنسانية، التي مازالت تتردد أصداؤها من قبل انهيـار الاتحاد السوفياتي و بعـده، عندمـا كان النظـام الشمولي السائـد في روسيا يضع في المصحات العقليـة كمرضى، الكثـيرين من الخـارجـين على إيديـولوجيـة النظـام و المعـارضين له أو المتمردين على شموليتـه و قهـره للحريات، و كأن في ذلك خروجـاً على العقـل و المجتمع و المعقـول.
و أنا مـا ضربتُ هـذه الأمثلة إلا انطباعـاً أولياً عن جـانب من المشاكل و المعـوقـات التي تعترض سبيل التقـدم بوسائل رعـايـة الصحـة النفسيـة و ممـارسـة الطب النفسي، في البـلدان المتخلفة و الفقيرة، أو في بـلادنـا العـربيـة و قطـرنا السوري.. فهنـاك تقصـير متعـدد الجـوانـب سـواء من حيث اهتمــام الأنـظمـة و الحكومـات، أو من حيث احتياجات المجتمع و وعـي النـاس لهــذه الاحتياجات أو من حـيث تفهـم هـذه الاحتياجات و طـرق التعامل معهـا من قِـبل المـؤسسات الدوليـة و منظمات الصحة العالمية.. كما تجـدر الإشـارة هنـا إلى مـا تؤديه ظروف التأخـر و الفقر في أقطار العالم الثالث من دور ممرض نفسياً أو لمـا تعطيـه من مضامـين معينة للأمـراض النفسـيـة و من مسـارات معقـدة و أغـراض تنعكـس على الأسـرة و المجتمـع، و كـذلك تفعــل أيضاً ظــروف الظلـم الاجتمـاعـي والقسـر، و يجــدر الـوقــوف أيضاً أمــام غيــاب المؤسسات الـلازمـة للـرعـايــة النفسيــة أو قصورهــا و غيــاب التقـاليــد العـلميــة و التعـليميــة المتــوارثــة أو انقطــاعهــــــا .
و إذا كان لي أن أعتمـد على تجـربتي الخـاصة في هـذا المجـال، فـأنا أمـارس مهنتي هـذه و اختصاصي منـذ أكثـر من أربعين عـامـاً، و قـد قمت بتدريس مـادة الطب النفسي، نظـرياً و سريـرياً، في كلية الطب بجامعة دمشق لأكثر من عشرين عـامـاً، و عملت في هذا المجال منفـرداً، كما عملت قـرابة خمسة عشر عـامـاً رئيس قسم في مستشفى ابن سينـا للأمـراض النفسية، و حـاولتُ تحـديثـهُ و تحـويلـه لوسط تعليمي دون أن أفلـح.. لـربمـا أنني أعطيت أكثـر مما أعطى أي واحـد من أقـراني هنا في هـذا المجال، و لكنني أعترف بأنني لـم أستطع أن أفعل شيئا كثيراً، و سورية مازالت متخلفة كثيراً في هذا المجال، و ليس فقط باعتبارهـا من عـالـم ثالث، بل و متخلفـة عن العديـد من مثيلاتها بين الدول العربية.. و أنا اليوم إذ أنظر لحركة التطور في هـذا الفـرع، فإنني لا أرى تقـدماً من حيث ممارسة الطب النفسي هنا بل تراجعـاً عمـا کان.. و إذا كان عـدد المختصين قـد تزايـد فإن المستوى العـام قـد تـراجع لعوامل عديـدة، و منهـا غياب المؤسسات و التقصير في الوسائل العـلاجيـة و الدواء و منها سـويـة بعض الممارسين العلمية و الخلقية، عـدا عن هجـرة كثيـر من الكفـاءات و العقــول .
فثمـة معـاندات في واقعنـا الاجتماعي من جهة الأولويات التي تعطيها الدولة في اصلاحـاتهـا و برامجهـا الصحية، فالنـاس لا يطالبـون كثـيراً بالإصلاح و بالـوفـاء بحاجـاتهـم من هـذه الناحية و الصحة النفسية، و الـوسـط الجامعي نفسه، و مـا يسمى بأوسـاط البحث العلمي، و الـذي من المفـروض أن يكون مُنطـلـق التعديل و التأسيس و التطوير في هـذا المجال، لا يدرك مقـدار الحاجات و لا يخطط او يعمل لتداركهـا .
إن الطب النفسي هـو الطب الكـلـي و هـو يتدخل في كل فـرع من فـروع الطب و الصحة، النفسيـة منهـا و البدنيـة، و حيث أنه ينظر للإنسان في كليته و شخصيته التي لا تتجزأ في بناهـا العضوية و النفسية… و لكن مثل هـذا التوجه لا يُراعى مطلقاً في تنهيجنا التعليمي أو في تدارك الحاجات و إقامة المؤسسات . أكتفي بهـذا القـدر؛ فنحن في حديثنـا هــذا نتنـاول القضـايـا والمعـوقـات بـوجـه عــام، ليس تخصيصاً في قطـرنا السوري، و تجـربتـي في الطب النفسـي محصورة بهـذا القطــر، و همـومنـا هنـا كثـيرة، و لعـلـه تتـــاح فـرصـة أخــرى لأطـــرح هــذه الهمــوم و مُسائـلاتهــا و لأجيــب عليهـــــــــــــا .

المصدر جريدة الحياة

التعليقات مغلقة.