الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

حكاية صحافي كبير أخطأ قراءة التحولات: «سليم اللوزي» بين يافا والقاهرة وبيروت ولندن

طلال سلمان *

عملت في مجلة “الحوادث” مرتين وفي موقعين يختلف ثانيهما عن الأول اختلافاً عظيماً:

في المرة الأولى ربيع العام 1958 عملت محرراً تحت التمرين، أنزل مرات عدة في الأسبوع من مكاتب المجلة خلف قصر هنري فرعون، وعلى مبعدة مئات الأمتار من القصر الجمهوري لشاغله آنذاك الرئيس الراحل كميل شمعون، إلى مطبعة “دار الغد” في الخندق الغميق.

أما في المرة الثانية فقد عدت بعد عشر سنوات إليها مديراً للتحرير مطلق الصلاحية، وكان الزميل الراحل “شفيق الحوت” قد ترك هذا الموقع منصرفاً لمهامه الجديدة في منظمة التحرير الوطني الفلسطينية..

ولقد عرفت الراحل «سليم اللوزي»، عن قرب، وأعجبت بالمهني فيه، المليء خبرة والناضج تجربة، وقد جاء من القاهرة بعد سنوات طويلة عمل خلالهما في مجلتين متباينتين مادةً وإخراجاً وأسلوباً هما: “روز اليوسف” التي تعتمد الكاريكاتور وسيلة مميزة في التعبير والمقالة التحليلية التي يغلب عليها طابع الفكر السياسي، و”المصور” التي تعتمد “الريبورتاج” والتحقيق المصور وتهرب من التنظير والتحليل.

كان «سليم اللوزي»، ابن طرابلس، الذي هاجر مشياً على الاقدام، قبل أن يُكمل تعليمه، إلى يافا، حيث كانت محطة “الشرق الادنى” البريطانية، أواخر الاربعينات، فوجد من يرعاه ويدربه فيها لفترة معينة، ثم تركها قاصداً القاهرة التي لا يعرف فيها أحداً.. لكنه تذكر أن السيدة “فاطمة اليوسف” التي تصدر مجلة “روز اليوسف” هي من أصول طرابلسية… وهكذا قصد إليها فاستقبلته ورعت تجربته في المجلة التي لعبت، بداية الخمسينات، دوراً تاريخياً في التمهيد “لثورة يوليو” بقيادة جمال عبد الناصر في 23 تموز/ يوليو 1952.

اكتسب «سليم اللوزي» خبرة ممتازة في مجلة تعتمد التحليل السياسي والكاريكاتور بديلاً عن الصورة… ونال جائزة استثنائية إذ زوجتّه “فاطمة اليوسف” من ابنتها من زكي طليمات، وهو زواج سيليهِ ثانٍ فثالث في بيروت، كما أن “المصور” ستحتل محل “روز اليوسف” كمقر عمل وكفرصة ممتازة لتجربة جديدة هي التحقيق المصور.

هكذا جاء «سليم اللوزي» إلى بيروت لينشئ مجلة “الحوادث” في العام 1956، مرتبكاً في البداية، بين اعجابه الشديد بجمال عبد الناصر، وبين اكتشافه ما يعجبه في شخصية كميل شمعون..

كان يعرف مصر أكثر مما يعرف لبنان، وإن كان ظل يتذكر دائماً والده الراحل الحاج “نور اللوزي” وهو يجول بصندوق النمورة فوق رأسه في مختلف أحياء طرابلس… ويحاول أن ينسى بيئته الفقيرة، بمن فيها أشقاؤه وشقيقته ووالدته وكل ما يمت إليهم بصلة.

ولقد تعرفت إلى «سليم اللوزي»، أول مرة، في سجن مستشفى الكرنتينا، بعد حدوث انقلاب في موقفه السياسي من كميل شمعون وعهده في العام 1957 وبعدما قتل رصاص قوى الأمن الذي أطلق على جموع المتظاهرين “ضد العهد” في مهرجان “أرض جلول” في الطريق الجديدة، أشخاصاً عدة، كان من بينهم “خادمة” تعمل في بيت “سليم اللوزي”، وكان آنذاك في شارع حمد.

انفجر «سليم اللوزي» معارضاَ، فحوكم وحُكم بالسجن، واقتيد إلى “حبس الرمل”، ثم روعي وضعه كرئيس لتحرير مجلة ناجحة، فحول إلى سجن مستشفى الكرنتينا.. وبالمصادفة كان والدي الرقيب الأول ابراهيم سلمان رئيساً لمخفر هذا السجن المرفه والمخصص لعلية القوم. وكنت أتردد على السجن-المستشفى لزيارة والدي، رئيس مخفر السجن، الذي استقبل هذا الصحافي المُتمرد والمُعارض لحكم كميل شمعون بما يليق من حفاوة وتكريم.

هكذا تعرفت إلى «سليم اللوزي»، وكنت آنذاك، محرراً تحت التمرين، في جريدة “الشرق” التي كانت تصدر ظهراً.

عند إطلاق سراحه، طلب إليّ «سليم اللوزي» أن أتصل به، في اليوم التالي: “أنت محلك في “الحوادث” لا حيث أنت”..

وأبت علّيَّ كرامتي أن أتصل به، مفترضاً أن الاتصال يعني محاولة استيفاء ترحيب والدي به في معتقله، فاذا به يتصل بي ويطلب إليّ أن أوافيه إلى مكاتب مجلة “الحوادث” وهكذا كان.

سألني مباشرة: كم تتقاضى كراتب الآن؟!

قلت: ثلاثون ليرة في الأسبوع، أي مائة وعشرون ليرة في الشهر.

قال «سليم اللوزي»: ستبدأ معي في “الحوادث” بمائة وخمس وعشرين ليرة.. فاذا نجحت زدنا مرتبك.. ستعمل في قسم التحقيقات، ولكنني أعرف أن لغتك جيدة، لذا ستتولى تصحيح مادة “الحوادث” في مطبعة دار الغد الواقعة في الخندق الغميق..

وهكذا بدأت الرحلة الممتعة مع “الحوادث” و «سليم اللوزي» و”شفيق الحوت” و “البيك” “منح الصلح”، والزائر مولد الضحك “نبيل خوري”، والمحرر الذي ينضح فناً “وجيه رضوان” وأطرف رسام كاريكاتور هو الذي تظن أنه رسم نفسه قبل أن يحترف الرسم “نيازي جلول”…

كانت “الحوادث” قد استقرت في مبناها الحديث المميز على كورنيش المزرعة، عند بوابة “أبي شاكر”، وكانت أسرة التحرير قد كسبت الروائية المميزة “غادة السمان”.. وجاء معن بشور الذي كان ينهي دراسته الجامعية ليتدرب برعاية منح الصلح معنا، مبشراً بكاتب-محلل جيد، قبل أن يشده العمل القومي إلى رحابه.

ذات يوم من نيسان 1968، لا يمكن أن ننساه في بيروت، سرى في المدينة خبر عن استشهاد “خليل الجمل”، الذي كان يخضع لدورة تدريبية مع مقاتلي حركة فتح في الاردن. وتوالت الوقائع، في الأيام التالية، وفي انتظار وصول الجثمان الطاهر إلى مسقط رأسه في بيروت: فمن الحدود اللبنانية إلى العاصمة، كانت الجماهير تنتظر أمام قراها وبلداتها، فيتناوب أهل كل بلدة حمل الجثمان إلى البلدة التالية، تستوي في ذلك مجدل عنجر وقب الياس التي خرج أبناؤها إلى الطريق الدولي ليشاركوا، إلى عاليه، فالكحالة التي حمل أهلها النعش حتى عاريّا، وصولاً إلى الحازمية وفرن الشباك حتى بيروت التي خرجت عن بكرة ابيها لاستقبال جثمان ابنها المقاتل الشهيد.

ولقد زرنا بيت الشهيد، وخرجت “الحوادث” بغلاف مميز: صورة “خليل الجمل” ورواية اهله وبعض رفاقه، ثم حكاية موكب التشييع، والصلاة عليه في مسجد الامين، قرب مجلس النواب، وسط حشد لا سابق له من المشيعين.. وقد ازدحم المسجد بالمصلين، وكان بينهم جمع من المسيحيين يتقدمهم الشيخ “بيار الجميل” والعديد من الوزراء والنواب ووجوه المدينة والبلاد.

*********************

في اوائل حزيران 1968، قررت أن ازور القاهرة لأمضي أياماً في ظلال الذكرى الأولى لهزيمة الخامس من حزيران..

كانت أياماً حزينة تُجللها الاسئلة: لماذا؟ ومن المسؤول عن التقصير؟ وكيف يمكن النهوض مجدداً للرد على الهزيمة.

ولقد عدت بسلسلة تحقيقات ومشاهدات ومقابلات تنضح بالوجع وضرورة المُساءلة، مع تأكيد الثقة بقيادة جمال عبد الناصر وقدرات الجيش في الرد على الهزيمة التي جاءت أفدح من التوقع وأقسى من أن تحتمل، مع ضرورة العودة إلى الميدان لتأكيد الجدارة.

بعد أيام دعا «سليم اللوزي» أسرة التحرير إلى اجتماع طارئ ليبلغنا أنه تلقى دعوة رسمية لزيارة الولايات لمتحدة، وأنه سيلبيها..

فوجئنا جميعاً بهذا الخبر الذي يعكس تحولاً خطيراً في موقف “الحوادث” التــي كانــــــت -في حدود ما نعرف- في موقع مضاد للسياسة الاميركية..

قال «سليم اللوزي»: أتعرفون كلفة الرحلة؟ إنها تزيد على خمسة عشر ألف دولار..

قلنا: إذا كان الموضوع مادياً فحسب، فنحن في أسرة التحرير، مستعدون لأن نتبرع برواتبنا فتذهب على حسابنا، وتعتذر عن عدم قبول هذه الدعوة التي لا يعني قبولها غير التسليم بالسياسة الاميركية المناصرة للعدو الإسرائيلي إلى أقصى الحدود والمعادية للعرب وحقوقهم في ارضهم.

نبر «سليم اللوزي» بغضب: إنها دعوة رسمية من وزارة الخارجية الاميركية، وهذا امتياز لـ ”الحوادث”، ولسوف أقبلها، ولكلٍ منكم أن يتصرف بحسب قناعاته.

في هذه الأثناء منيت بكارثة شخصية، اذ ذهب شقيقي المرحوم احمد ضحية حادث سير، كان “بطلها” شاحنة عسكرية تابعة للجيش على أوتوستراد خلده… ولقد “منع” «سليم اللوزي» زملائي من الذهاب إلى شمسطار لتعزيتي، بذريعة أنه سيذهب معهم “بعد إقفال العدد”.. وحتى اليوم لم يقفل ذلك العدد.

سأترك مجلة “الحوادث” عائداً إلى مكاني الطبيعي في “الصياد”، وهذه المرة كمراسل متجول في البلاد العربية، وليس كرئيس للتحرير، وكان ذلك اقصى طموحي.. وشكراً للزميل الصديق “جان عبيد” أنه اتاح لي هذه الفرصة.

ولسوف تنتقل مجلة “الحوادث” من مبناها في كورنيش المزرعة إلى مبنى جديد ابتناه «سليم اللوزي» خصيصاً لمكاتبها الجديدة والفخمة في منطقة عين الرمانة.

بعد ذلك سوف تنشب الحرب الاهلية، وانطلاقاً من عين الرمانة تحديداًـ (مجزرة البوسطة والتي تنقل فلسطينيين عائدين من مهرجان في الطريق الجديدة إلى مخيم تل الزعتر..)

ولسوف يختار «سليم اللوزي» أن يذهب إلى لندن ليطلق “الحوادث” من هناك، مضيفاً إليها مجلة باللغة الانكليزية التي لا يتقنها حملت اسم “The Events”

*********************

في أواخر شباط 1980 توفيت والدة «سليم اللوزي» في بيروت.

كان قد شن، على امتداد شهور طويلة، حملة شعواء على النظام السوري، تركزت على شخص حافظ أسد، متجاوزاً توصيفه بالديكتاتور إلى حد التشهير بعلويتــه..

ولقد فوجئ اللبنانيون، المسؤولون قبل الزملاء والمواطنين بقدوم «سليم اللوزي» إلى بيروت، ليتقبل التعازي بوالدته الراحلة..

سادت موجة من الخوف على حياته لمدة أيام التعزية، سرعان ما هدأت عندما قرر العودة إلى مقره في لندن.. لكنه لم يصل إلى المطار، وتبين أنه قد اختطف وهو في الطريق إليه يوم 25 شباط 1980.

ولسوف تمضي الأيام ثقيلة قبل أن تُكتشف جثة «سليم اللوزي» يوم 4 اذار في بعض أحراج عرمون، وقد حُطمت أصابع يُمناه وتعرض لتعذيب فظيع.

رحم الله هذا الصحافي اللامع الذي كان يهوى اللعب بالنار، والذي أمضى حياته متجولاً بين العواصم، والذي كان يبحث عن التميز ويندفع في المغامرة حتى أقصاها متناسياً الظروف الاستثنائية التي نعيش، ومتجاوزاً آداب الصحافة وضرورات حفظ الرأس في زمن الاضطراب. القاتل!

* كاتب صحفي لبناني ورئيس تحرير وصاحب السفير اللبنانية

المصدر: السفير

التعليقات مغلقة.