الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

في ذكرى استشهاد الصحافي «سليم اللوزي»… هذه محطات من حياته

القتلة اعتقدوا أن اغتيال «سليم اللوزي» سيسكت الأقلام والأصوات الحرة في لبنان

إنه من وحل الأرض، من عائلة لم يمارس فيها الأدب غيره.. أبصر النور في طرابلس عام 1922، تلقى دراسته في مدرسة الصنائع حيث شكلت الكتب حيزاً كبيراً من حياته، سافر إلى يافا في فلسطين باحثاً عن آفاق جديدة لنفسه، التحق عام 1944 بإذاعة الشرق الأدنى ككاتب للتمثيليات الإذاعية.. ثم استقال ليعمل في مجلة “روز اليوسف” في مصر، عاد إلى بيروت عام 1950 ليتابع الصحافة المكتوبة في جريدة “الصياد” بعد أن وجه انتقادا إلى رئيس وزراء مصر؛ مع وقوع “ثورة 23 تموز/ يوليو” برز قلم «سليم اللوزي» ولمع، انتقل بعدها لجريدة “الجمهور الجديد” وأخذ من “دار الهلال” مقراً له مراسلاً مجلتي “المصور” و ”الكواكب”.

انتشر اسمه في كافة الدول العربية، في 19 تشرين الأول/أكتوبر أصدر العدد الأول من مجلة “الحوادث” بعد أن حصل على امتيازها.. عام 1957 انتقلت “الحوادث” إلى خط المعارضة، وفي 30 أيار 1957 صدرت مذكرة بتوقيفه رداً على مقال لاذع، وصودرت الأعداد وردّ وقتها بشعار “لن أركع”.. وفي عام 1973 كان ’اللوزي‘ من المدافعين عن حرية وسيادة لبنان، مع دخول الجيش السوري إلى لبنان اشتدت معارضته متخذاً منحى قاسٍ معارض للنظام السوري واضطر إلى السفر واصدار المجلة من لندن هرباً من التهديديات والمضايقات.

لأنه قال لأ… كان لا بد أن يختفي «سليم اللوزي» ويخرس قلمه! ولأنه رفع صوته في وجه المخابرات السورية التي كانت تسيطر على بيروت يومها، كان لا بد أن يدفع الصحفي اللبناني المعروف صديق الرؤساء حياته ثمناً لمقالاته الملتهبة في مجلة “الحوادث” التي تجرأ فيها على الحكم في دمشق… وبعد تعذيبه أياماً في منطقة مهجورة أطلقوا الرصاص عليه وأذابوا يده اليمنى- التي يكتب بها- بالأسيد، وكان اغتيال ’اللوزي‘ رسالة تحذير إلى اللبنانيين الذين يعارضون التدخل السوري! وسُجلت جريمة القتل ضد مجهول!

كان «سليم اللوزي» من ألمع الصحفيين اللبنانيين وأكثرهم جرأة في فتح ملفات القضايا الساخنة، وكان محباً لمصر وتربطه صداقة مع الرئيس جمال عبد الناصر ومع الرئيس انور السادات، وأجرى معهما أحاديث صريحة عن الهموم العربية، وعندما نشبت الحرب الأهلية في لبنان وتعرض مبني “الحوادث” للحريق، اضطر ’اللوزي‘ إلى الخروج والإقامة في لندن بسبب التهديدات بقتله، ولكنه لم يتخل عن قلمه الجريء في مواجهة الفتنة الطائفية، وكانت القوات السورية قد دخلت لبنان تحت غطاء “قوات الردع” لوضع حد للاقتتال الذي استمر سنوات وراح ضحيته الآلاف، وتم بعد ذلك الانتشار العسكري والمخابراتي السوري في بيروت، وكان ’اللوزي‘ يشعر بالألم النفسي لما آل إليه حال لبنان، وكان يعبر عن ذلك خلال المقابلات في القاهرة ويقول: “إنهم يريدون تخويفنا لنكون موالين لهم”!

وانفجرت الأزمة عندما اتهم «سليم اللوزي» عملاء المخابرات السورية بقتل شقيقه “مصطفى” بالرصاص في طرابلس “على شاطئ البحر” بسبب تقرير نشر في مجلة “الحوادث” التي كانت تصدر وقتها من لندن عن فساد زعيم حركة الشباب العلوي الموالية لسوريا.. وكان ’سليم‘ يشعر بعقدة الذنب لمصرع شقيقه، فأخذ يكشف في مقالاته أوضاع الحكم في سوريا على صفحات مجلته، وكان يستمد معلوماته من أحد أعوان رفعت أسد وآخرين من السوريين الهاربين في جلسات طويلة في بيته في لندن، وقد حدث ذلك في أواخر 79.. كتب ’اللوزي‘ المقال الأول تحت عنوان: “.. وغداً إذا ما اغتالتني المخابرات العسكرية (السورية) أكون قد استحققت هذا المصير لأنني أحب بلدي وأخلص لمهنتي”.

وبعدها التقى «سليم اللوزي» في باريس مع “صلاح البيطار” القيادي البعثي السوري المنفي الذي تم اغتياله فيما بعد، وحذره من الخوض في الممنوعات السورية وطلب منه أن يبعد عن الشر… ولكنه لم يتراجع وكتب مقالاً ثانياً عنوانه: “قال لي صديقي الدمشقي: كنت خائفا عليك من التصفية، فأصبحت خائفا عليك مما هو أشد وأقسى!” ونشر الحوار الذي دار بينه وبين ’البيطار‘ وقال فيه: “هل يمكن تجاهل القمع الدموي؟ هل يمكن المرور بالمجزرة التي وقعت في مدرسة المدفعية في حلب؟ لست وراء إسقاط النظام وأعرف الثمن الذي ستدفعه سوريا إذا استمر الصراع الدموي الدائر!”.

وكان هجوم ’اللوزي‘ علي المخابرات السورية مفاجئاً، وهو ما جعلها ترسل إليه رسالة إنذار “عن طريق مدير مكتب الحوادث في بيروت” قالوا فيها: “قف مكانك… إننا لم نقتل أخاك فلا تفقد عقلك؟!” ولكنه لم يصدق رسالتهم واستمر في حملته وكان متأكداً أنهم قرروا تصفيته.. وفي ذلك الوقت كان غازي كنعان رئيس جهاز المخابرات السورية في لبنان هو الحاكم بأمره، ويفرض هيمنته.. على الأوضاع السياسية والداخلية اللبنانية بكل الوسائل، وكان اسمه يثير الرعب والفزع!

 “””””””””””””””””””””“

مضت شهور وتلقى ’اللوزي‘ خبر وفاة أمه وقرر أن يعود إلي بيروت لتلقي العزاء بنفسه، وحاول الأصدقاء منعه من السفر وقالوا له: رأسك مطلوب.. الموت في انتظارك!

قرّر العودة إلى لبنان ليحضر مأتم والدته، غير عابئ بالتهديد والوعيد.. وعندما نصحه أحد أصدقائه بالعدول عن قراره لأن أيدي الشر تتربص به، أجابه: “ولو… ألا يحترمون حرمة الموت؟ إنني ذاهب لأدفن والدتي”.. وتوسلت إليه زوجته من أجل بناته الصغيرات، وأصر بعناده على الذهاب إلى بيروت.. واقترحوا عليه التوجه إلي لبنان عن طريق الشام، ولكنه أصر على الدخول من مطار بيروت… وعندما وصل صباح 21 شباط/ فبراير 1980 طلبه ياسر عرفات وكان وقتها يتواجد في لبنان مع الفصائل الفلسطينية وأبلغه بأنه سيخصص له حراسة فلسطينية، ولكنه اعتذر وبقي بلا حراسة، واستمر العزاء ثلاثة أيام من جميع الطوائف اللبنانية!

كان المفروض أن يغادر «سليم اللوزي» مع زوجته أمية صباح السبت بطائرة الخطوط اللبنانية إلى لندن، ولكنه تلقى رسالة عبر النائب رينيه معوض بأن الرئيس اللبناني الياس سركيس سيقابله السبت، لذلك أجل السفر إلى يوم الأحد. وبكت ’أمية‘ (زوجته) عندما عرفت بالتأجيل لان قلبها كان يستشعر الخطر على زوجها خصوصا بعدما وضعوا حاجزا عسكريا أمام البيت، ويبدو أن ذلك كان جزءا من خطة الاغتيال المدبرة وبقائه يوما آخر لترتيب العملية! وانتظر ’سليم‘ في البيت تحديد موعد مقابلة الرئيس صباح السبت ولكنه لم يتلق أية مكاملة هاتفية، فلم يطق الانتظار وخرج وحده “وبدون علم زوجته” وتجول في بيروت وكأنما يودعها ويلقي النظرة الأخيرة عليها. ثم ذهب إلى جريدة “النهار” والتقى مع المحررين هناك، وعاد متأخراً ورأى حاجزين للجيش (السوري) في الشارع..!

 “””””””””””””””””””””“

وجاء يوم الأحد الأسود 25 شباط/ فبراير وتم حزم الحقائب، وخرجت ’أمية‘ في الصباح الباكر لتسدد الحسابات قبل المغادرة، وعند عودتها فوجئت بانقطاع الكهرباء عن المبني وكان المسكن في الطابق العاشر وطلبت من الحارس أن يصعد ليطلب من زوجها النزول.. وتأخر ’سليم‘ لأنه كان في انتظار اثنين من زملائه لمرافقته إلى المطار ولم يحضرا.. وكان الجو يسوده التوتر والريبة من شيء مجهول، وكما روت ’أمية‘ بعد ذلك في لندن مأساتها الحزينة: “اتجهنا إلى المطار في سيارتنا وجلست بجانب ’سليم‘ في المقعد الخلفي، وتصحبنا سيارة مدير الإعلانات في شركة “بيجو”، وعلى جانبيّ الطريق إلى مطار بيروت كانت تنتشر قوات الردع، وعند الحاجز الرئيسي أوقفتنا مجموعة “ضابط وثلاثة جنود” وصوبوا اسلحتهم نحونا وطلب الضابط جوازات السفر وقال ’سليم‘: اعتقد أنني المطلوب!

أمرَنا الضابط (السوري) بالنزول من السيارة، وأمر شقيقتي المرافقة بالعودة في سيارة مدير الإعلانات… وبقيت مع ’سليم‘ في عرض الطريق حتى جاءت سيارة أخرى وداخلها شخصان مسلحان وسائق وأخذوني معهم وأعطاني الضابط جوازات السفر، فيما أخذوا ’سليم‘ في سيارته بمفرده بعدما أنزلوا السائق والحارس الخاص، ولاحظتُ أن السيارة الأخرى مزودة بجهاز لاسلكي “ويبدو انها من سيارات المخابرات” وانطلقتّ السيارة التي تحمل ’سليم‘ وسيارتنا تتبعها وبها المسلحين، واتجهنا إلى طريق خلدة وإلى الدامور ولم تغب عني سيارة ’سليم‘ المرسيدس، وأيقنت أنها عملية اختطاف من جانب المخابرات قبل وصولنا إلى مطار بيروت.

وعندما وصلنا إلى الدامور طلب الحارس إيقاف السيارة لشراء علبة سجائر، ولم أتصور أنها خدعة للتعطيل… وعندما عاد بعد فترة كانت سيارة ’سليم‘ قد اختفت تماماً من أنظارنا ولم أعرف إلى أين؟

واتجهنا إلى طريق عرمون وكانت حقيبة أوراق ’سليم‘ مازالت معي، وتوقفنا عند الوادي وأنزلوني في منطقة منعزلة مليئة بالصخور والبرك الراكدة، وخطفوا الحقيبة وفتشوا أوراقها وسألوني: أين الملف؟ وجردوني من مصوغاتي وحقيبة يدي وكنت أرتدي جاكيت من الفراء ووضعوا رباطاً على عينَي وفي يدي وبقيت هناك ست ساعات حتى المساء، وتخلصت من قيودي ومشيت بلا حذاء وسط الأحراش حتى وصلت طريق عرمون “وكنت أخفيت الملف تحت الجاكيت” وأوقفت سيارة تاكسي متجهة من الجبل إلى بيروت، وجلست بين الركاب وسمعت في الراديو: أن الصحفي «سليم اللوزي» مازال مخطوفاً!’

 “””””””””””””””””””””“

عادت “أمية اللوزي” إلى بيتها في حالة يرثى لها، واتصلت بـ “ياسر عرفات” ولكنها لم تعرف أية أخبار عن زوجها وعن مصيره؟ ووضع ’عرفات‘ حراسة فلسطينية على البيت، وفي الداخل كان هناك عدد كبير من رجال المخابرات والأمن، واقترح ’عرفات‘ الاتصال بالرئيس سركيس للتدخل حتى لا يتعرض ’اللوزي‘ للتصفية… وكان الرئيس “صائب سلام” قد طلب من ’سليم‘ مغادرة بيروت للتمويه قبل سفره بيوم ولا يلغي حجز الأحد بالطائرة ولكنه رفض، وبعد ثلاثة أيام وجدوا سيارته المرسيدس أمام ملهى ليلي يملكه سركيس شلهوب وازداد الحادث غموضاً واتجهت الشبهات إلى أن المختطفين من عملاء المخابرات السورية..!

وفي مساء الثلاثاء 4 آذار/ مارس وجدوا جثة سليم اللوزي في منطقة عرمون واكتشفها (راعي غنم) شاب أبلغ مخفر الأمن، وابلغ وزير الداخلية مدير مكتب “الحوادث” بالعثور عليها.. واذاع التلفزيون اللبناني الخبر وعم الحزن مدينة بيروت، و”قيدت الجريمة ضد مجهول”… ولكن تقرير المدعي العام يشير إلى الفاعل بدون تحديد، وحسب توصيف الحادث: فإن مجهولين أقدموا على خطف الصحفي «سليم اللوزي» صاحب مجلة “الحوادث” بقوة السلاح يوم 24 شباط/ فبراير ومن ثم قتله بإطلاق النار عليه من مسدس حربي غير مرخص وتعذيبه جسديا… وتبين من تقرير الطبيب الشرعي أنه تم إطلاق الرصاص على رأسه من الخلف، ووضعوا يده اليمنى “التي يكتب بها” في حامض فتاك لكي تذوب في السائل الحارق وتتآكل العظام والأربطة حتي أطراف الأصابع، وهناك كسور في الاضلاع الصدرية مما يدل على أنه جرى تعذيبه بوحشية على مدى ثمانية أيام، وفي التقرير إشارة إلى رصاصة غير قاتلة نفذت من الخد الأيمن للتعذيب..!

وكان اغتيال «سليم اللوزي» وتعذيبه بمثابة انذار للصحفيين اللبنانيين بالمصير الذي ينتظر من يقول: لأ.. لسوريا!

وتبقى المفاجأة الأخيرة: أن (راعي الغنم) الذي عثر على الجثة وُجد مقتولاً في أحراش عرمون أيضاً وفي نفس المكان وبعد خمسة أيام فقط… وبقي الفاعل مجهولاً!..

_____________________________________________

أهم مقالاته:

1). قال لي صديقي الدمشقي : كنت أخاف عليك من التصفية فأصبحت أخاف عليك مما هو أشد وأقسى !

قال لي صديقي الدمشقي اللاجئ في جنيف منذ أكثر من عشر سنوات: ماذا دهاك؟ لماذا تخوض في الممنوعات السورية، فتكتب عن الحكم في دمشق اخباراً ومعلومات لا يريدون أن تقال، فتُعرض نفسك وتعرض أهلك للمخاطر؟ هل سوريا هي وحدها التي تعاني مشكلة حساسة متفجرة؟ أليس في العالم العربي مشاكل كثيرة أقل حساسية وأقل تعرضاً للأخطار… فلماذا لا تكتفي بالحديث عنها؟

قلت: مراعاة الحكم السوري والابتعاد عن متفجراته شيء وإهمال الكتابة عن القضايا التي تفرض نفسها على الأحداث شيء آخر… فهل كان يمكن تجاهل زحف الإرهاب الدموي على مدينة في أهمية وغلاوة طرابلس؟ هل كان يمكن المرور بالمجزرة التي وقعت في مدرسة المدفعية في حلب فلا نلقي الأضواء على خلفياتها؟

قال الاعتراض هو على الرهان بأن في الإمكان إسقاط نظام حافظ أسد بسهولة!

قلت: لست وراء اسقاط حكم حافظ أسد فأنا لا أتمنى هذا، وأعرف الثمن الذي ستدفعه سوريا إذا استمر الصراع الدموي المجنون الدائر اليوم… ولكني صحفي، وأحرص على أن لا تصيبني لوثة الخوف فتمنعني عن ممارسة مهنتي.. فالصحافي لا يسأل لماذا ينشر؟ بل يسأل: لماذا لا ينشر!

قال: ولو كان النشر يكلفك الفاتورة الغالية التي دفعتها حتى الآن؟

قلت: هذا قدري، إما أن أبقى صحفياً أمينا لهذه المهنة التي اعطيتها عمري، وإما أن أؤثر السلامة فأعتزل … إلخ

… ووجدت نفسي أدخل مع صديقي الدمشقي في حوار طويل نسينا معه لبنان وسوريا ومصر، بل العراق وليبيا وعدن، فرُحنا نستعرض الأوضاع العربية خلال العشر سنوات التي تلت هزيمة 1967.. فالواقع العربي المؤلم الذي نعيشه هو أن ليس في معظم البلاد العربية التي تحكم عن طريق المخابرات العسكرية قدرة على تغيير الحكم مهما ارتكب هذا الحكم من أخطاء.. فاذا جرت محاولة لتغيير أي نظام من الأنظمة العسكرية القائمة وجدنا أنفسنا أمام مأزق مصيري، هو أن الوطن معرض للانقسام إلى دويلات طائفية وإقليمية قبل أن تستطيع المعارضة (التي تأخذ شكل التشكيلات العسكرية السرية) أن تُسقط الحكم، تماماً كما حصل في لبنان.

وأنا أعترف هنا أن صديقي كان على حق، ففي سوريا مثلاً لا امكانية لتغيير الحكم القائم.. فبسهولة تنشأ دويلات طائفية.. العلويون يستقلون في منطقتهم، والدروز يستقلون في جبل الدروز… وربما استقل الأكراد كذلك في منطقة معينة في الجزيرة.. بل ربما نشأت عدة دويلات أخرى … إلخ.

… والخوف بعد هو المشكلة.. فالمعارضة تخيف الحاكم، فيزداد حاجة إلى روابطه العشائرية والعائلية والطائفية للحماية والمقاومة.. والحاكم يخيف المعارضة فتزداد بدورها حاجة للتحريض الطائفي والمشاعر الطائفية، ويدفع البلد ككل ثمن التفتت.

وسألني صديقي الدمشقي: والنهاية؟

قلت: هل هناك أسوأ من مثل هذه النهاية؟ هل في العالم العربي حركة سياسية كالحركات التي عرفناها في الخمسينات من حركة القوميين السوريين إلى حركة حزب البعث إلى حركة القوميين العرب؟ هل عندنا تنظيم سياسي أو عقائدي- لا فرق- يطرح أفكاراً جديدة ويقدم للشباب الطالع دليلاً للخروج من هذا المأزق التاريخي الذي نواجهه، من دون أن يجد نفسه في النهاية تابعاً لجهاز من أجهزة المخابرات؟

وودعني صديقي الدمشقي وهو يقول: كنت خائفاً عليك من التصفية فأصبحت خائفاً عليك مما هو اشد وأقسى … من اليأس!

_____________________________________________

2). ظل يضرب بسيف الحرية الى أن قتله سيف… الظلم

… “وغداً، إذا نجحت المخابرات العسكرية في تنفيذ الحكم الذي اصدرته باغتيالي، وهي قادرة على ذلك بوسائلها المختلفة، فإني أكون قد استحققت هذا المصير.. وعزاء زوجتي وبناتي وأولاد أخي ’مصطفى‘ التسعة، أنني أحببت بلدي، وأخلصت لمهنتي، أكثر مما اخافني الإرهاب وردعني حكم المخابرات العسكرية”.

وقل: “لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، هو مولانا، وعلى الله، فليتوكل المؤمنون “صدق الله العظيم” .

_____________________________________________
بهذه الكلمات، أنهى «سليم اللوزي» نعي شقيقه ونعي نفسه! لقد كان يعلم أن قراراً بإعدامه قد صدر عن “اجهزة السفاحين”، الذين احترفوا القتل وسفك الدم، وكلما ارتكبوا جريمة حاولوا تغطيتها بجريمة أسوا منها وأكثر بشاعة وشناعة .

لكن الذين اغتالوا «سليم اللوزي»، لم يدركوا أن قضيته لم تنته باغتياله، ولن تنتهي.. بل هي قد بدأت الآن.. وسليم اللوزي، الذي كان يعرف أنه كان مهدداً بالموت لم يهن ولم يتردد، ولم يشأ أن يضحي بالمبدأ، الذي ظل طوال حياته يناضل من أجله، والذى حدث أن هذا المبدأ ضُرج بدمٍ طاهر يزيد من وهجه ومن حرارته يوماً بعد يوم .

دمروا له مبنى “الحوادث” في بيروت، فلم يضعف.. قتلوا له شقيقه، فتقبل ذلك بصمت، وكأنه كان يعرف أن ثمن الكلمة الصادقة، ثمن الحقيقة، فادح جداً .

وقبل أن يغادر لندن إلى بيروت، لقبول التعازي بأمه، كان كمن يتقبل التعازي بنفسه، لأنه كان يدرك أن الذين احترفوا الإجرام والغدر متربصون به.. ومع ذلك لم يعدل عن السفر على الرغم من تحذير زملائه في غير اجتماع معه واصدقائه .

كان «سليم اللوزي» شجاعاً إلى حد اللامبالاة بجدية جلاديه وسفاحي أمته العربية، ووطنه لبنان.. تحدى قرارهم بإعدامه، ووصل إلى بيروت ثم إلى منزله سالما.. نظر إلى زوجته وقال لها: “لقد وصلت إلى البيت. لم تتحقق مخاوفك” لكن السفاح لم يتركه يكمل المشوار.. اختطفه، ثم قتله في طريق العودة إلى حيث يمارس أشرف مهنة، صناعة كشف الحقيقة .

ما قاله «سليم اللوزي» لزوجته يثبت ما عرفه المقربون إليه.. لقد عاش بعقل نظيف، ومات بوجدان نظيف.. لم يعتقد، ولو للحظة واحدة، أنهم سيخطفونه كان يتمنى أن يقابلوه وجهاً لوجه، يحاوروه، يناقشوه، يقارعونه الحجة بمثلها.. ذلك لم يحدث، قابلوا فكره برصاصتين في دماغه.. لم يطلقوهما على قلبه الكبير، سددوا رصاصتي الغدر إلى دماغه.. فقد عرفوا أن قوة كلمته في رأسه.. فوجهت يد السفاح رصاصتيها إلى مصدر قوة ’سليم‘.. نسيت يد السفاح أن سليم اللوزي فكره مدرسة.. استمرارٌ لا يطاله الرصاص .

لم يستسلم «سليم اللوزي» للتهديد والوعيد، ولم تضعفه الإغراءات.. كان قوياً، عنيفاً، لم يعرف التردد.. ومرة واحدة فقط دمعت عيناه، نعم مرة واحدة رأى زملائه في مجلة “الحوادث” دموع الحب والحنان في عيني ’سليم‘.. عشية سفره إلى بيروت قرأ «سليم اللوزي» التحقيق الذي نشرته “الحوادث” عن الخاشقجي… وكلما قرأ فقرة عن أولاد الخاشقجي بكت عيناه، لقد أحس ’سليم‘ بأنه يودع أولاده إلى الأبد في دموعه على أبناء الآخرين .

كان يقول للعاملين معه: “الحوادث” خط سياسي، هي رسالة، حافظوا عليها من بعدي.. ولم يعلم سفاحوه أنهم لم يغتالوا “الحوادث” ولن يستطيعوا .

«سليم اللوزي» كان أكبر من المجلة التي رأس تحريرها وأشرف على توجيهها.. فحينما كانت أسرة المجلة ترى من الحكمة أن تصمت، ولو مؤقتاً، كان يعارض الصمت، ويصرّ على الكلام… وكان يتكلم وبصوت عالٍ..

لم يكن جباناً.. الذين وجهوا الرصاص إلى رأسه، هم الذين كانوا جبناء.. أما الذين صمتوا يوم اختطف «سليم اللوزي» ، فإنهم كانوا مجرد سياسيين يقفون إلى يمين اليسار، وإلى يسار اليمين، ويستسهلون مواجهة أجهزة التصوير .

لذلك، كان «سليم اللوزي» أكبر من السياسة، وأكبر من المناصب مهما علت.. كان يرفض المُداراة عن الذين لا يستمدون شجاعتهم إلا من السلاح الذي في أيديهم .

كان «سليم اللوزي» يقول: “إذا كانت الغربة قد فرضت على الصحافة الانفصال عن الوطن.. فإنها يجب ألا تفرض عليها الانفصال عن حرية الوطن”.

من هنا سيُقال إن الحرية قد فقدت فدائياً من أشجع فدائييها… وأن الوطن قد خسر قلماً من أكثر الأقلام حباً للحقيقة، وهي الحقيقة التي اكتوى بنارها واستشهد من أجلها .

فـ«سليم اللوزي» هو مرحلة مميزة في تاريخ الصحافة العربية، كان فكراً عالياً وصوتاً مدوياً. لذلك وُجهت الرصاصة إلى عقله النيّر لعله يتوقف عن التفكير.. ذلك أن فكره كان خطراً على الذين يفكرون ببنادقهم فقط، وقلمه كان خطراً على الذين يكتبون بالدماء فقط .

لقد رفض مهادنة الأنظمة التي يعتبرها معادية للحريات، وفي كل مقالاته، ومطارحاته، ومصارحاته، كان يعتبر تكميم الصحافة سبباً رئيسياً في الهزائم العربية، والتخلف العربي والتخاذل العربي… (إلخ)

المصدر: موقع “سكايز” للحريات

التعليقات مغلقة.