الحوار
مقدمة العمل والديمقراطية،
غاية وطريق
والثورة العربية
مازالت ثورة وطنية ديمقراطية
حزب الاتحاد الاشتراكي العربي د. جمال الأتاسي
في سورية 1979
الحلقة التاسعة: وتطالب باستراتيجية لبناء قوى الثورة
فإذا وقفنا وبقينا نؤكد على قضية الثورة الوطنية الديمقراطية، فلننتقل من ذلك إلى التأكيد على ما تطالب به وتتطلبه من استراتيجية عامة لبناء قوى هذه الثورة، ولمسار نضالها وعملها في إنجاز مهماتها، ولطريق أو طرق وصولها إلى أهدافها، ولمنهج عملها الوطني والقومي الذي تشق به طريقها إلى قلب الجماهير وتبني على أساسه قاعدة تحالفها ال طني العريض، كتحالف بين القوى السياسية والفئات والطبقات الاجتماعية التي تمثل هذه الثورة مصالحها وأهدافها، المرحلية منها أو البعيدة المدى.
وإذا وقفنا وبقينا نؤكد أن مسار العمل العربي في الأقطار العربية، قد أعطى مؤشرات إيجابية في هذا الاتجاه، لا نلمس ثمراته فيما أصبحت تجمع عليه قوى النضال والتقدم في الوطن العربي من أهداف وشعارات فحسب، بل وفيما بلورته أيضاً على أرض الواقع الشعبي وفي حركات الجماهير من توجهات وقناعات، لم تقو ولن تقوى حركات الارتداد والرجعة والاستبداد على اقتلاعها، فليس ذلك من قبيل الوفاء لتاريخ نضال شعبنا فحسب، بل ولأن تلك المؤشرات، تبقى الرصيد الأساسي الذي يمكن الارتكاز عليه للدفع بحركة التقدم من جديد. إنها ليست دعوة إلى الرجعة للوراء، فما مضى لا يعود، كما وأن التعثر الراهن ما جاء إلا محصلة للثغرات والنقائص التي كانت في التجربة والتجارب التي جاءت على ذلك الطريق في الماضي، ولكنها الدعوة إلى التمسك بخط استراتيجي عام ناظم لتحركنا الوطني الديمقراطي في اتجاه أهداف جماهير أمتنا، ونحن نتحرى طريقنا للخروج من التعثر الذي تتخبط به حركة التقدم العربي وللخروج من تشتت قوانا الوطنية وعزوف جماهيرنا أو رجوع الكثير منها إلى مواقعها التقليدية. وهذا الخط الناظم كانت له مقدمات وركائز، لا استغناء عنها، للاندفاع على طريق التقدم وعلى طريق التغيير الثوري من جديد. فالثورة الوطنية الديمقراطية ليست مرحلة بدأنا السير عليها وفشلت، بل هي ثورة أعطت مقدمات لها ولم تستكمل، وهي لم تستنفذ أهدافها، بل مازلنا دونها، والارتداد هو اليوم ضدها قبل كل شيء آخر وضد التوجهات الديمقراطية لجماهيرها.
وهذا ما نقف لنؤكده بإصرار في وجه أولئك الذين ينظرون نظرة تبسيطية للتاريخ، ويعيدون ويستعرضون المراحل الخمس التي تمر بها تشكلاته الطبقية وصراعاته وثوراته، ويحفظون عن ظهر قلب المبادئ الخمس والثلاث للمادية الجدلية والمادية التاريخية، ويحسبون أنهم بذلك أصبحوا ثوريين ومنظرين ” للحركات ” الثورية، ويصدرون أحكامهم القطعية والجازمة على ما جرى ويجري، وتصنيفاتهم الجاهزة للقوى ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، ولا يقبلون لأنفسهم أن يكونوا ” ديمقراطيين ” أو ” ديمقراطيين ثوريين ” فتلك أوصاف يستصغرونها ” ثورياً ” ولا يطلقونها إلا على الآخرين للتميز عنهم، أولئك الذين لا يجدون في الثورة الوطنية الديمقراطية إلا مرحلة فات أوانها ولا يجدون في المهمات والمطالب الديمقراطية إلا مهمات ومطالب تحملها عناصر أو فئات برجوازية، بين صغيرة وكبيرة، فيتجاوزونها أو يتجاوزون عنها، أو يقولون بحرق المراحل وبقيادة ثورة بروليتارية والتقدم مباشرة إلى الثورة الاشتراكية وإلى حكم البروليتاريا أو حكم طليعتها الثورية التي تحمل أيديولوجيتها أي حكم ” حزبها الثوري القائد “، فهم بهذا كله لا يقدمون أي رصيد لتقدم نضال شعبهم ولا لتقدم تلاحمه الوطني في وجه الامبريالية وفي وجه قوى الاستغلال والاستبداد، إنهم يتطلعون من خلال تصوراتهم الأيديولوجية الجامدة التي لا تمسك بيدها نبض الواقع وحركته، وهو يحلمون بالعبور ” بعنف الصراع الطبقي ” وزخمه وبقوة البروليتاريا ودفعها الثوري، ويجعلون أنفسهم قادة ومنظمين لتلك البروليتاريا الخيالية، حيث لا بروليتاريا وراءهم أو في صفوفهم ولا أية طبقة أو فئة اجتماعية مغروسة على أرض الواقع، ولكنهم في النهاية، لا يضيفون إلا ضياعاً إلى الضياع، ولا يسهمون بمواقفهم المتجاوزة للديمقراطية إلا في إعطاء رصيد لقوى الارتداد الفاشستي ولنظم الاستبداد. إنها ضروب التجريد المثالي ليس إلا، فضلاً عما يتحرك وراءها من نزوات أو من مصالح ومطامح فردية وفئوية. ولكن مثل هذا التجريد قد سبقتهم إليه قوى التسلط الفاشستي ونظم الاستبداد والهيمنة الجماعية، فتلك أيضاً تزعم أنها تجاوزت ” الديمقراطية البورجوازية ” وأقامت ” ديمقراطيتها ” الشعبية الخاصة، بمؤسساتها وتنظيماتها ومجالسها الرأسمالية الجديدة وفرض الخضوع المطلق على الجماهير، وهي أيضاً لها ” حزبها القائد ” وليس للبروليتاريا وحدها بل ولكل المجتمع ولكل الشعب.
وما كان لنا أن نقف عند تلك التجريدات الأيديولوجية والمزاودات الثورية، لولا أنها أخذت تلك الأنماط التي أشرنا إليها، من التشكلات السياسية الشاذة، والمنتشرة بشكل متبعثر في ساحات العمل الوطني العربي، والتي تشرذم هذا العمل وتعوق وحدته وتوقعه في المنافسات الأيدولوجية اللفظية، ولو أن رواد تلك التشكلات، وبتلك ” الجمل ” والعناوين الثورية الكبرى التي يحملونها وبما يعلنونه من مواقف ” قاطعة وجذرية ” يشدون إليهم من هنا ومن هناك، عدداً من الشباب المتحمس والمؤمن بقضية الثورة، ومن الذين يستعجلون التغيير الثوري ولو يعودوا يطيقون اصطباراً. إن أولئك المناضلين والشباب قد يجدون عذراً لهم، فقد أعياهم أن يروا الأحزاب والقوى اليسارية، أي المعارضة لنظم الاستغلال والاستبداد والفساد القائمة، وهي تراوح في أرضها أو تتحرك على الهامش دون جدوى. إن إرادة الخروج من هذه الهامشية في العمل والنضال، تطرح ولا شك ضرورة شق طريق في العمل الوطني من جديد وإيجاد مخرج من هذا التعثر الذي تمادى، لكن الطريق الذي يضعونهم عليه أصحاب ” الجمل الثورية ” ليس طريقاً. إنها قفزات تمرد في الفراغ وتعزز هذا الفرغ السياسي، إن لم نقل ضرب من نطح الرأس بالحائط تحدياً للتعثر والعجز.
ثم أوليس من المفارقات العجيبة، أن نجد مقابل ما يطرح في الجو السياسي العام من نداءات بالحاجة للوحدة الوطنية وللتلاقي الجبهوي للقوى التقدمية والديمقراطية ولتوحيد قوى الثورة، أن نجد في مقابل ذلك، هذا التعدد والتشرذم الذي لا نهاية له في المجموعات التي تحمل شعارات الثورة والتقدم، أوليس هذا وحده دليل على إعتام النظرة الأيديولوجية لتلك التشكلات وعدم مطابقتها للواقع وعلى فقدان البصيرة السياسية، وبالتالي على الضياع. إنهم يظلمون كثيراً لينين واللينينية، عندما يحسب أصحاب هذه التشكلات، أنهم ينقلون نظريته في دور الحزب الثوري، وأنهم يقيمون هذا الحزب أو يضعون أنفسهم على طريق الثورة، فالذي ينطبق عليهم لا أفكار لينين عن العملية الثورية ودور الحزب فيها، بل كل مقولاته النقدية عن اليسراوية والأدوات الطفولية للثورة. فلا حزب الأقلية، أياً كانت صلابة تنظيمه وأياً كانت أيديولوجيته، قادر على التقدم على طريق الثورة، ولا حكم الأقلية أياً كانت وصافها الطبقية تصنع الثورة. إن الحزب او تجمع الأحزاب لا يصنع الثورة ولا يقوى على الاستمرار بها ما لم يكن تجسيدأ لإرادة ومصالح كتلة شعبية واسعة تنهض للثورة. فالركائز الأولى التي تحتاجها قوى الثورة، لا تستمدها إلا من كسب الجماهير، كسب غالبية الفئات الاجتماعية العاملة، العاملة بجهدها البدني أو بجهدها الذهني، وإخراجها من الواقع الذي ترزح تحت نيره، سواء واقع هيمنة قوى الاستغلال وقوى السلطة، وأجهزتها أو واقع الهيمنة الأيديولوجية للرجعية وقوى الرجعة. وهذا هو التوجه الديمقراطي الأول في حركة الثورة. فما تقدمت حركة النضال العربي خطوة جدية نحو إنجاز أية مهمة من مهماتها، إلا عندما تحركت معها إرادة جماهيرية واسعة. وعندما تقول بالعودة إلى مؤشرات التقدم على طريق النضال الوطني والقومي وإلى الخط الناظم الذي تلاحقت عليه بعض خطواتنا على طريق الثورة الوطنية الديمقراطية، فإنما نعني أيضاً الأخذ بمقومات تدلنا إلى استكشاف الطريق إلى حركة جماهيرنا لتحريضها من جديد، ولبناء تلاحمها الوطني في هذا الاتجاه، ولإنعاش آمالها بحركة التقدم وبأهدافها، وللنهوض بوعيها السياسي والعودة بها، لساحة النضال ككتلة تاريخية فاعلة، … ولكن قوى الديمقراطية والتقدم المنظمة كفئات سياسية وأحزاب، لا يمكنها أن تؤدي دورها هذا الأولي والأساسي ولا يمكن أن تذهب إلى الجماهير ولا أن تشدها إليها وتنظمها وتعبئ طاقاتها النضالية، ولا أن تسحبها من مواقع التخلف أو من أطر الهيمنة السلطوية، لا يمكنها ذلك من مواقع التشرذم التي هي عليه، أياً كانت شعاراتها التحريضية التي تطلقها ومقولاتها الأيديولوجية.
* * *
يتبع.. الحلقة العاشرة: التقدم الديمقراطي ثم الانكفاء في حركة الجماهير
التعليقات مغلقة.