الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

«آذار» جديد وهوية هائمة.. ومازال الطغاة يحكمون !

مضى شهر شباط ليدخل شهرُ اللوز.. آذار، شهر ثورة الحرية والكرامة في سورية معلناً دخولنا العام العاشر لها مع عدد من بلدان الربيع الديمقراطي العربي بموجتيه: الأولى والثانية، ولازالت ثوراتنا تحبو- رغم كل المصاعب والعقبات- لتحقيق أهدافهــا.

شباط كان مقدمة الثورة السورية من الحريقة بدمشق في 2011، وقبلها- بعقود- كان شهراً للمجازر الأسدية في حماه 1982 كما في حلب وجسر الشغور وتدمر، لينتقم نظام القتل والإجرام من الشعب السوري بعد حراكه السلمي للتغيير الوطني الديمقراطي بمنتصف آذار 1980 لاستعادة مكانة سورية الوطن والإرادة المستلبة منذ آذار 1963 بأيدي البعث الانفصالي وشركائه العمــلاء.

من الطبيعي أن يتّضحَ الجحيم بعدما صار المحظور مباحاً بإشرافٍ أمريكي لا يخفى على كل فطين، إذ كان الطابع المُسالم الذي عاشته سورية، خلال عقودٍ طويلة، يشي بنوعٍ من الخضوع الضمني وهيمنة لنظامٍ أخفى حقيقة المجتمع السوري، تعايش معه أبناؤه بقدرةٍ إلهية، لينفجر لاحقاً بوجه الجميع في آذار 2011؛ ومنذ سنين طويلة، اعتاد السوريون أن يدفعوا رسومَ كلِ شيء، حتّى الأحلام التي تقبع تحتَ سقف المستحيل، وكان فنّ الجوع لا يقتصر على تأمين قوت يومهم، إنما كانت لعنةُ الجوع تشمل كلّ شيء، الجوع إلى الحرية والكرامة والجمال والقانون والسلام والعدالة والديمقراطية.. إلخ، وعلى الرغم من استحالة هذا في «دولة» الجحيم الأسدية، بدا السوريون مسكونين بلعنة حبّهم لبلادٍ بائسةٍ وظالمةٍ بآنٍ واحد، وحتى في أوج استقرارها، المزعوم، الذي كان يرقد على بركان الطائفية والاستحقاقات السياسية المستحيلة، لم تستطع أن تقدّم الحدّ الأدنى من الحقوق لأبنائها، ومع دخول الثورة السورية عامها العاشر تبين أنّ الطبقة المسحوقة وحدها من دفعت فواتير المصالح العالمية، حتى وصل القهر لدرجةِ امتهان شتّى فنون اللامبالاة، وكأنّ البلاد ما عادت تعنيها لفرط ما توجّعت، دولةٌ واحدةٌ بعشرات الجيوش والأعلام، وما زال ألمُ الشعب واحداً والجوع والذلّ واليأس والموت واحـداً أيضـاً.

فالسوريون في الداخل لا يعيشون فقط أزمةَ وقود وكهرباء وأغذيةِ وأدوية ولعنة العطش بعد الحرائق، مع الغلاء الفاحش الذي باتَ يطال كل شيء، كمعالم لتدهور اقتصادي لم يعد في وسع نظام القتل والجريمة تجميله أو إخفاؤه، خصوصاً بعد تبعات قانون «قيصر»، إنهم يعيشون أسوأ من ذلك، يعيشون أزمة فقدان الأمل ويتعاملون بمنطق «أنا ومن بعدي الطوفان»، فكلّ سوريّ يقاتل لأجل أن يعيش يوماً آخر ولو على حساب أخيه السوري، وتنذر هذه الأخلاق بانفجارٍ قريب، ولا يعرفُ أحدٌ أين ومتى وكيف سيحدث، ولن يكون الانفجارُ هادئاً ورومانسياً بالطبع؛ سيكون عنيفاً بمقدار القهر والذلّ والفقر الذي اختزنه الناس في دواخلهم على مدى السنوات الماضية، ولن يكون هناك ما يخسرونه، لذا سيكون الخوف الأكبر من عدم القدرة على استيعابه، ليتحوّلَ إلى كرةَ نارٍ تأكل كلّ ما حولها، وتستمر بالتدحرج لتحرق أكبر قدرٍ ممكــن.

ولا يخفى على أحد أنّ سورية باتت اليوم البلد الأكثر فقراً وخطورةً في العالم، وكيف لا تكون كذلك؟ والأوطان لا يبنيها الإنسانُ المتعطش لكل شيء والذي لا يملكُ من العزيمةِ أو الإرادةِ أو القوّة شيئاً، بينما سيتساءل دائماً ماذا يبني؟ ولمن يبني ولماذا؟ عندما يكون مسمّى الوطن مزرعةً مملوكةً لمافيا فاشيّة قهريّة، تتحوّل بسببها إلى مملكةٍ للرعبِ والموت والإخضاع..، هل سيبني سجوناً يعيش فيها، أم يبني مؤسساتٍ مجهّزة في الأساس لنهبهِ وتجويعه؟ هل سيبني بيوتاً لله في بلادٍ تفتقر أدنى حقوقِ العدالةِ والكرامة والإنسانية وتكافؤ الفرص؟ وهل يبني جامعاتٍ مصنّفةً في أدنى سُلم التعليم العالمي، تُخرّج أجيالاً سيشعرون بالنقص مدى الحياة؟ وهل .. وهل .. وهل ..؟ من تلكم الاسـتفهامـات.

فمع انهيارِ مشروعِ «الدولة- الوطن» النهضوي الحداثي، وخيانته ممّن ادّعوا حمله، عندما أقاموا ممالكَ الخوفِ، والفسادِ، والفئوية، والسلخ الطائفي، واغتيال حريات المواطن وحقوقه، اختلّ مفهوم الوطن، فهناك واقعٌ مُعاش فرضَ على الناس الخضوعَ، وطأطأة الرأس، والنفاقَ والانتهازية، في وقتٍ تم فيه تعقيم المجتمع كي لا يظهر فيه قادةٌ وطنيون، يساهمون في تعزيزِ الهويّة السورية، بعيداً عن الأوكارِ الطائفية المُعتمة، وفنون النّهب والقتل والذلّ والتجويع؛ في الداخل، على الرغم من أنّ بعضاً لم يغادر، إلا أنه يعيشُ منفاه في الداخل، وبعضٌ آخر غادر ولم يقبل المنفى الذي قبله آخرون ولكنه لم يقبلهم، باتت هذه التركيبة النفسية حبلَ مشنقة يضغط على رقاب السوريين الذين يتخبطون في دوامة القهر والضياع، إذ لم تعدْ توجد بقعةٌ في سورية تصلح لأن تكون وطناً، وربما لم يعد ثمّة وجود لسورية المُشتهاة التي توهّمنا أننا خُلقنا تحت سمائها، وما إنْ رُفع غطاؤها الوهميّ عنّا حتى وجدنا أنفسنا بلا انتماءٍ أو هوية، فمن نحن الآن، وماذا سنكون عليه لاحقاً، ومن كنّا بالأصل؟ هذه ليستْ أسئلة شعرية ينبغي الإجابةُ عليها لأسبابٍ وجدانية، ولا أسئلة فلسفية ينبغي الإجابةُ عليها لأسبابٍ معرفية، بل هي أسئلة حياة أو موت، ومرآةٌ حية لجوهرنا نكون أمامها أو لا نكـــون.

والعاقل من السوريين سيتساءل: ما هذا الوطن الذي تقاتلنا فيه لمجرّد أنّ الآخر خالفنا في الرأي؟ ما هذا الوطن الذي ما إنْ اختلفنا فيه مع الآخر حتى انسحبنا إلى أوكارنا المذهبية والعقائدية، نحن الذين عشنا عقوداً طويلة نتغنّى باللوحة الفسيفسائية السورية؟ ما هذا الوطن الذي يتحوّل فيه الفاسدُ إلى وطنيّ، والوطنيُّ إلى خائن؟ ما هذا الوطن الذي يجعلنا نفرحُ عندما يغتصبه عدوّ واضح، لمجرّد أنه يتطاول على منظومةٍ معينة نكرهها؟ ما هذا الوطن الذي ينهارُ لمجرّد أنّ خلافاً شخصياً نشب بين أكبر عائلتين حاكمتين في البلد اختلفتا على مصالحهما المادية الشخصية، بحجة حماية أموال البــلاد.. إلخ.

مرة أخرى، سيمرّ التاريخ، ولن نكون فيه سوى شهودٍ حياديين على انهيارات البلاد المتكرّرة؛ وهذا طبيعي، بسبب الإدارة السياسية ذات العقلية الخالية من الفهم لواقع ِالتغيير التاريخي، والتي اتجهتْ نحو الكسبِ المادي، ضاربة بعرض الحائط مستقبل الدولة وكرامة المواطن الذي ضرب بدوره عرض الحائط بمبادئه وانتمائه وضميره، كي يضمن لقمة عيشه، وهكذا توقفَ التقدمُ بسبب سوءِ النظام المُفوَّت، وأصبح فساده وإفساده واستبداده عقيدةً لا يُعاب عليها؛ والسؤال الملحّ الذي علينا طرحه وبجدّيّةٍ بالغة: من هم الأصحاب الفعليون لسورية اليوم والتي تبدو أشبه بالمنفى، بعدما تمّ تشكيلها وفق العقلية الديكتاتورية البراغماتية؟ حيث تقسّمتْ البلاد طائفياً بتراكماتٍ تاريخية، فصار مفهوم الوطن مبنيّاً على فكرة اللا انتماء، ليتحوّل إلى منافٍ جماعية، تكشّفَ الغطاءُ عنها فعليّاً بعد عام 2011، فالشتات بدأ منذ عقودٍ طويلة، متمثلاً بانقسام المجتمع السوري، وهذا أسوأ ما قد يمرّ به شعب: ديكتاتورية متجذّرة تليها حربٌ طويلةٌ فشتاتٌ قد لا ينتهي، ولا أحد يعرف ما يمكن أن يكون عليه «سورية- الوطن» لاحقاً، وإلى ماذا ستؤولُ إليه الهويّةُ السوريّة التي لم تجدْ ما يجمعُ بين أبنائهــا.

وبعد عشر سنوات على اندلاع الثورة السورية، وتحولها لحرب وكالة إقليمية ودولية، بسبب تمرّس نظام الشبيحة بالعنف والإجرام مضافاً لسوء إدارته، وسوء تقدير المعارضة وأخطائها وقلة خبرتها، وفشل المجتمع الدولي في منع انزلاق السوريين إلى كارثة، واستغلال «الحرب- الأزمة» من دول عربية وإقليمية لتحقيق مكاسب وتصفية حسابات مع خصومها، فلا يبدو في الأفق ما يشير إلى أن «الملحمة- الأزمة» السورية قد اقتربت من نهايتها، بل تذهب كل الدلائل إلى أن الوضع السوري سيستمر في التحلل والتعفن، وصولاً للنقطة التي قد نشهد معها انهيار كامل للدولة، بعد أن تصدّعت كل أركانها بشــدة.

هذا في وقتٍ، يستمرّ العالم مع مشاغله الصحية والاقتصادية، التي فرضها وباء كورونا، بالتظاهر أنه مهتم بحل الأزمة السورية، فيما يصرّ شركاء أستانة على مسرحياتهم، تصرّ واشنطن، وحلفاؤها الأوروبيون، على ترداد مطالبتهم بتنفيذ قرار مجلس الأمن 2254، الذي أصبح يعني للسوريين ما يعنيه القرار 242 للفلسطينيين، ويراهنون على أن العقوبات ستدفع النظام في نهاية المطاف «الذي لا يبدو واضحاً أين ومتى وكيف سينتهي» إلى الرضوخ لشروط الحل السياسي، وفيما يستمر معسكرا النظام والمعارضة في الانتحار والتفسّخ، توضع سورية من جديد على طاولة المفاوضات الأميركية- الإيرانية، ولا يغيب عنها بقية الخمسة الحاضرين بجيوشهم على أرضها «روسيا وتركيا وإسرائيل»، وكل منهم يسعى إلى تأمين حصته فيها، بظلِ مواتٍ عربي لا تخطئه العيــن.

وهكذا بات الأمر يتطلّب من كل السوريين المؤمنين باستعادة وطنهم، على اختلاف مواقفهم السياسية ومذاهبهم الفكرية، الارتقاء إلى مستوى الكارثة التي حلت بوطنهم، والتخلص من الوهم بأن معسكراً منهم قادرٌ على فرض إرادته على المعسكر الآخر، والالتفات، بدلاً من ذلك، إلى تسخير كل الإمكانات للإجابة عن السؤال المصيري الذي يصفع الوجوه في هذه المرحلة: كيف السبيل إلى الخروج من هذه الكارثة، والانعتاق من لعبة الأمم وحرب المحاور الدائرة على أراضينا وبدمائنا؟ وصولاً لتحقيق رغبة نظام الإجرام العميل لترشيح ذيل الكلب لانتخابات مزيفة جديدة لا ينافسه فيها أحد سوى بعض الخراف التي قد يختارهم للعب هذا الدور.. فالحل، بعد عشر سنوات من الكارثة، لن يأتي من موسكو أو من واشنطن، فنحن بالنسبة للأولى ساحة اختبار لسلاحها، وللثانية ورقة تفاوض وساحة لمقارعة التطرّف بعيداً عن أراضيها، فالحل يأتي فقط من رحم المعاناة، وينشده أصحابها، ويصنعه العقلاء بينهم، بشرط أن يكونوا طبعاً سادة قرارهــم.

وما يمكن أن يقال عن سورية، يمكن قوله- وباختلافات بسيطة هنا أو هناك- على جميع بلدان الربيع العربي بل كل البلدان العربية التي سلمت رقابها لأحذية الصهيونية: الإمبريالية الأمريكية والغربية عموماً والإمبريالية الروسية، الفاشيتين معــاً.

التعليقات مغلقة.