الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كتاب الحوار مقدمة العمل، والديمقراطية غاية وطريق … الحلقة الثامنة

الحوار

مقدمة العمل والديمقراطية،

غاية وطريق

والثورة العربية

مازالت ثورة وطنية ديمقراطية

 

حزب الاتحاد الاشتراكي العربي                                                         د. جمال الأتاسي

            في سورية                                                                               1979

 

الحلقة الثامنة: الثورة الوطنية الديمقراطية ليست لمرحلة بل طريق تتعدد مراحله ومهماته

إن الكثيرين من ” الثوريين واليساريين ” العرب لا يقبلون لأنفسهم هذا الانتساب ” للثورة الوطنية الديمقراطية ” بل هم يصفون به حركات وإنجازات يحسبونها مختلفة عن أيديولوجياتهم ومطامحهم الثورية. فمثل هذه الثورة في منظورهم إذا ما تقدمت شيئاً، وإذا ما رضي بعضهم التعامل معها، فما هي إلا مرحلة عارضة، أو تمهيداً لثورتهم ” البروليتارية ” القادمة. ويغذي مثل هذه المقولات والمواقف، أن الثورة الوطنية الديمقراطية، لم تعط أبعادها ومضامينها الكافية، من قبل القوى السائرة فعلاً باتجاهها، عدا أن هذه التسمية إنما أطلقت أكثر ما أطلقت من قبل الذي يتطلعون إلى حركات التحرر الوطني في العالم الثالث وإلى النظم التي تشكلها، من منظرو أيديولوجي لم يحددها بمعطياتها الإيجابية وإنما بمواقفها التقدمية السلبية، أي من حيث أنها ضد الامبريالية وأنها لا تقع في إطار هيمنتها الكاملة، ومن حيث أنها لم تأخذ بالمسار الرأسمالي في التنمية، ومن حيث أنها ليست ” ديمقراطية شعبية ” ولا ” نظاماً اشتراكياً ” وغير ذلك، وإذا أرادوا تحديد طبيعتها اكتفوا بتلك الأحكام العامة في التصنيف من حيث أنها تقوم بقيادة ” البورجوازية الصغيرة ” وهي بذلك لا تملك القدرة على الاستمرار فهي مرحلية وعابرة ومحتم عليها في النهاية إما أن تتحول إلى الطريق الرأسمالي، وإما أن تخلي الساحة لثورة اشتراكية بدءاً من إقامة ” ديمقراطية شعبية ” حسب النماذج الماثلة أمامنا لتلك ” الديمقراطيات “.

 

فمثل هذا الفكر الذي لا يقبل الانتماء للثورة الوطنية الديمقراطية، إنما يتحدد موقفه بالأساس، من ذلك التصور الذي يقسم العالم إلى عالمين سائدين ولكل منهما نظامه الواضح الهوية، عالم الامبريالية ونظمها الرأسمالية، وعالم المنظومة الاشتراكية، أما ما بقي وما يسمى بالعالم الثالث، ولو سار في طريق الثورة الوطنية التقدمية، فيبقى غير محدد الهوية، وكان من المحتم عليه، ليأخذ طابعاً وهوية، أن يأخذ أحد المسارين في النهاية.

 

إن مثل هذا الموقف السلبي من قضية ” الثورة الوطنية الديمقراطية ” ولو أنه يستعمل كثيراً في تحليلاته وأحكامه، كلمات المحسوس والملموس والعياني والعلمي…، وما تزخر به قواميس الأيديولوجيات الثورية من تعابير، لا يعود في مواجهة الواقع الذي نعيشه إلا ضرباً من التجريد ومن الأحكام المطلقة والتصنيفات الطبقوية، وهو بالنتيجة لا يضيف إلا مزيداً من التعمية والضياع. إن أصحاب هذا الموقف هم أنفسهم المطالبين في النهاية أن يحددوا هويتهم الثورية وموقفهم من قضية أمتهم، فالثورة العربية كما نراها في خصوصياتها وعمومياتها ليست بلا هوية، وليس مكتوباً عليها كثورة وطنية أن تظل بلا هوية إلا أن تأخذ أحد ذنيك المسارين. وإن احتكامنا إلى واقع حياة أمتنا وإلى المسار التاريخي الذي مضت عليه حركة نضالها ونهوضها في الخمسينات والستينات، بل وقبيل ذلك يدل على أن بوادر تلك الثورة التي اندفع معها تيار جماهيري عريض وراء آمال وتطلعات واحدة، قد أعطى ملامح ومؤشرات تدل إلى الطريق الخاص لتقدمها نحو أهدافها. والذي لا اختيار أمامها سواه مهما طال التعثر. ولقد كان تأكيدنا منذ البداية أن الثورة الوطنية الديمقراطية كطريق في التحرر والتقدم، وفي التغيير والبناء، ليست لمرحلة قصيرة وعابرة، بل هي عملية ثورية طويلة تتعدد فيها المراحل والمهمات وكذلك، كما تتعدد بحكم ذلك القوى السياسية والاجتماعية التي تشارك فيها. وإن المدخل الأساسي لها والذي يرسم مسارها كله، لا بدّ أن يكون مدخلاً ديمقراطياً، وإن هذا المسار هو طريقها إلى الوحدة العربية، إننا ومن خلال منظور اشتراكي علمي للتاريخ أو تاريخاني كما يسميه البعض، نقول بحتمية الاشتراكية وحتمية الوحدة العربية. وهي حتمية من حيث أن لا حل للتناقضات الاجتماعية والسياسية والانقسامات التي تمزق وحدة أمتنا، ولا خلاص من التخلف والتبعية، ولا سبيل إلى امتلاك الحرية والقوة والمنعة، إلا الحل الاشتراكي وإلا الوحدة العربية. إنها ليست الحتمية القدرية ولا تلك التي تأتي من ذاتها كمحصلة لا بدّ منها لتراكمات تطورنا الاجتماعي، بل هي التي تأتي عندما نضع أنفسنا في مسار تاريخي يؤدي إليها، وعندما يشد هذا المسار قاعدة جماهيرية عريضة، أي تكتلاً شعبياً تاريخياً، ليمسك بزمام المبادرة التاريخية للأمة وليتقدم بها نحو أهدافها، وهذا ما يطرح علينا بالضرورة مسار الثورة الوطنية الديمقراطية.

 

والثورة الوطنية الديمقراطية، إذا كانت ببرنامجها المتعدد المراحل والمهمات والقوى المشاركة، من متطلبات ظرف أمتنا التاريخي، فإن القوى الاشتراكية، أي القوى الثورية الجذرية، هي الأقدر من غيرها على إعطائها وعيها الشمولي وأبعادها الاستراتيجية، وهي التي يمكن بتصميمها أن تمسك بها وأن تدفع بمسيرتها إلى الأمام، إنها هي التي تجعلها بحضورها فيها اشتراكية، لا من حيث مآلها، بل ومنذ بدايتها وبفعلها فيها. وفي هذا السبيل فهي المطالبة بأن تندفع معها وتندمج بحركتها لتمسك بزمامها وتفعل فيها، لا أن تقف على هامشها تنتظر تعثرها لتنقض عليها، أو لتبدأ هي من جديد مبادرتها. ولقد كان من عثرات تجربة ثورتنا الوطنية الديمقراطية، أنها لم تمسك بها ولم تندمج بحركتها قوى ثورية حقيقية ولم تملأها بحضورها وعياً وتنظيماً، ثم عندما كان التعثر والردة، فإن قوى الثورة المضادة نهضت من قلب ذلك الفراغ، والانقضاض كان لا من القوى الاشتراكية والتقدمية بل عليها.

*          *          *

د. جمال الأتاسي ( 1922- 2000)

دكتوراه في طب النفس والعقل ، أحد مؤسسي حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، وأمينه العام

 

يتبع.. الحلقة التاسعة: وتطالب- كـ ثورة وطنية ديمقراطية- باستراتيجية لبناء قوى الثورة

 

 

التعليقات مغلقة.