الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كتاب الحوار مقدمة العمل، والديمقراطية غاية وطريق … الحلقة السابعة

الحوار

مقدمة العمل والديمقراطية،

غاية وطريق

والثورة العربية

مازالت ثورة وطنية ديمقراطية

 

حزب الاتحاد الاشتراكي العربي                                                         د. جمال الأتاسي

            في سورية                                                                               1979

 

الحلقة السابعة: الثورة العربية كثورة وطنية ديمقراطية

 

وإذا ما انتقلنا الآن من العام إلى الخاص، وبالتحديد إلى الثورة العربية في مقومات ظرفها التاريخي وفي معطياتها العامة ومضامينها،لوجدنا أنها تقع بالضرورة في هذا الإطار، أي إطار الثورة الوطنية الديمقراطية. والمسار الذي مضت فيه وتقدمت به نحو إنجاز عدد من مهماتها، كان مساراً وطنياً ديمقراطياً، ثم إن المهمات نفسها التي حملتها، أو قدمتها كأهداف لها هي مهمات وأهداف ثورة وطنية ديمقراطية. وإذا ما أخذنا بالعناوين التي حملتها حركات التحرر العربي في أكثرها منذ ثلاثين عاماً حتى اليوم، والتي رفعتها حركات وطنية ونظم جديدة قامت، ومنظمات سياسية وأحزاب، كأهداف لها وشعارات وهي عناوين الحرية والاشتراكية والوحدة، على اختلاف الصيغ التي أعطيت في ترتيب تلك العناوين لدى كل حزب، من وحدة وحرية واشتراكية أو من تحرر وديمقراطية واشتراكية ووحدة عربية، وغير ذلك، لوجدنا أن ذلك لا يعطي إلا البعد الاستراتيجي للثورة العربية كثورة وطنية ديمقراطية، تضع بين مهماتها الأساسية إنجاز تحررها الوطني وإرساء دعائم استقلالها السياسي والاقتصادي، وبناء وحدتها القومية أي التقدم على طريق الوحدة العربية، والتقدم على هذا الطريق من مدخل التحرر الوطني ومن مدخل الديمقراطية السياسية والاجتماعية أيضاً. والواقع أن القوى السياسية والأحزاب التي رفعت أو مازالت ترفع تلك الشعارات، قد قالت كلها بتلازمها كمضامين وأهداف، وبتداخلها وتداخل مراحلها ومهماتها بحيث تشكل وحدة جدلية فيما بينها، وإذا كان هناك من وجهات نظر ونظريات أيديولوجية لهذا الطرف أو ذلك، معلنة كانت أم ضمنية، في تحليلها وتعليل مصادرها وأصولها وفي تفسير مراحلها وخطواتها، فالمفروض، ومن حيث طبيعة التلاقي هذا على شعارات المرحلة التاريخية وأهدافها، أن يعطي هذا التلاقي، خطاً استراتيجياً مشتركاً بينها، أي أن يطالب ببرنامج عمل مشترك. والواقع أن هذه الصياغة، أي الصياغة الاستراتيجية، لا الصياغة الأيديولولجية، هي التي كانت طابع برامج العمل التي سارت عليها حركات التحرر الوطني كثورات وطنية ديمقراطية، فبرنامج جبهة التحرير الفييتنامية مثلاً، والذي أقامت على أساسه الثورة الفييتنامية تلاحم قواها الوطنية ومسيرة كفاحها حتى النصر، هو برنامج لثورة تحرير وطني ديمقراطي، ومع أن الحزب الشيوعي الفييتنامي كان المحرك الأساسي لتلك الجبهة، فإن أيديولوجيته الماركسية اللينينية في تلك المرحلة، ولو أنها كانت دليلاً له في الوصول إلى تلك الاستراتيجية وإلى ذلك البرنامج، فإنها لم تفرض طابعها الخاص وحده عليه، بل تركت للتيارات الوطنية الأخرى، غير الشيوعية، وغير الماركسية، أن تصب فيه من خلال ذلك التلاقي الاستراتيجي، وبذلك قدمت تجربة ناجحة للثورة الوطنية الديمقراطية، كانت قبلة أنظار أمام الكثير من حركات التحرر في العالم الثالث. بل وإن تلك الثورة، بعد أن حققت ما حققته في إطار إنجاز تحررها الوطني وبناء وحدتها القومية، إذا كان الآن في تراجع عن ذلك النهج الذي حدده برنامجها الاستراتيجي، فإن تراجعها باسم الانتقال إلى مرحلة أكثر تطابقاً مع ” الأيديولوجية الواحدة ” لا يعطيها رصيداً أفضل لإنجاز مهماتها واستكمال تجربتها، بل تذهب قناعتنا إلى أنه يأخذ من رصيدها، إذ يأخذ من ديمقراطيتها، وما توفره الديمقراطية من ظروف إنسانية لبناء التقدم. وإذا تركنا مثال الثورة الفييتنامية ودروسها، ونحن هنا بصدد خصوصية الثورة العربية، وعدنا لتجارب النضال العربي، لوجدنا أن الجدية منها، ما تقدمت إلا وراء استراتيجية ثورة وطنية ديمقراطية، سواء صاغتها في برنامج مكتوب، أو عبرت عنها في تقدم حركة نضالها وإنجازاتها. إن البرنامج الذي وضعته لنفسها جبهة التحرير الجزائرية قبيل النصر، ومن خلال الاستيعاب لواقعها والمهمات المطروحة أمامها لتغيير هذا الواقع، إنما يحمل بالأساس استراتيجية ثورة وطنية ديمقراطية صبت فيها بحكم الواقع الاجتماعي والسياسي لتلك الثورة، تيارات أيديولوجية متعددة، منها المشبع بالفكر الديمقراطي الماركسي، ومنها المشبع بروح الإسلام وبالتوجه العربي من خلال ذلك. وبهذا المقياس أيضاً يمكن أن ننظر إلى ” ميثاق العمل الوطني ” الذي صاغته التجربة الناصرية عام 1962، وكذلك إلى البرامج التي تقدم أو يفترض أن تقدم كمواثيق عمل لقيام جبهات وطنية وتحالفات قوى وطنية وأحزاب، سواء للتغيير الوطني أو لبناء حكم وطني، أو لمواصلة مسار تحرر وطني، كما هو مطروح على المقاومة الفلسطينية وعلى القوى الوطنية لجماهير شعبنا داخل الأرض المحتلة. وقبل أن نقف عند تحليل تلك التجارب والبحث في عوامل جمودها وتوقفها أو تعثرها وانتكاسها، نستبق فنقول أن القصور الذي وقعت فيه تلك التجارب، أي تجارب ثورتنا، بل ثوراتنا الوطنية والقومية، ليس مصدرها أن قيادتها لم تصدر عن موقف أيديولوجي موحد، أو لم تنطلق في صياغة برنامج عملها من نظرية عامة مسبقة بل في أنها لم تعط للمسألة الديمقراطية وللمسار الديمقراطي وزنهما الفعلي في صياغة علاقات القوى، وفي التقدم بوعي الجماهير ومشاركتها. وذلك قصور تحمل مسؤوليته القوى الأكثر راديكالية في تلك الثورات قبل غيرها. إن الأهداف المشتركة إذن والاستراتيجية المشتركة وما تطرحه من مهمات مرحلية أو بعيدة المدى، لا الأيديولوجية الواحدة، هي التي تحدد طبيعة الثورة الوطنية الديمقراطية، وطريق صياغة العلاقات بين قوى تلك الثورة وصياغة برنامج عملها وطريق تحالفها أو وحدتها، بل وإن ذلك هو الذي يعطي لتسميتها بالديمقراطية ولديمقراطيتها منحاها ومعناها، أي أنها تقبل تعدد القوى والتيارات النظرية التي تحملها تلك القوى وتترك لعملية التحرر ذاتها ولتقدم الوعي الشعبي والمشاركة الشعبية، أن يدفع أكثر بهذه القوة أو تلك وبهذا التيار أو ذاك، أو أن يدفع بهما نحو الاندماج والوحدة. إنه يترك للتقدم بالطريق الديمقراطي، السياسي والاجتماعي معاً، أن يصفي تركة الركود والتخلف واللاعقلانية، وانقطاع التواصل بين ماضي الأمة وحاضرها وركود مبادرتها التاريخية. ويترك لما تبلوره حركة التقدم من صيغ اجتماعية واقتصادية ومن بنى ثقافية وحضارية جديدة، أن تساعد على نشوء فكر عصري جديد يوحد اتجاه الأمة ويعطي لتاريخها منحاه الإنساني ومعناه.

سيقال لنا أن هذه هي التجريبية بعينها، وأنها الواقعية السياسية ومناهج البورجوازية الصغيرة، ونرد على ذلك فنقول أنها بالفعل واقعية ووقائعية، ولكنها هي الواقعية الثورية، من حيث أنها تستهدف تغيير الواقع، وتقدم مبدأ الفعل في الواقع لتغييره، وتقدم مبدأ الجدوى في العمل السياسي والاندماج بحركة الواقع وهو يتبلور ويتغير، للمساهمة في حركة تبلوره والتحرك به والدفع نحو المستقبل. ونسلم مقابل ذلك، بأن التجريبية المحضة، أي عدم الاسترشاد بنظرية عامة في توجيه العمل، يفتح الباب أمام تذبذب المواقف وتقلبها أمام الانتهازية وقوى الانتهاز. ولكن في واقع الأمر أيضاً، هل هناك من مشروع عمل بعيد المدى، أم هل من برنامج استراتيجي يشق طريقاً ثورية للتغيير ولتحقيق الأهداف، من غير أن تكون وراءه نظرية، أو دليل عمل يسترشد به؟

ولكننا نريد هنا أن نميز بين نظرية العمل التي تقدم نفسها كأيديولوجية جاهزة، أي بصيغة من القناعات والمقولات المسبقة والأحكام القطعية التي تريد أن تفرض نفسها على الواقع، والتي تزور الواقع ومسار الواقع لتحشره في إطار مقولاتها وأحكامها، أي تأخذ منهجاً معتقداتياً ومذهبياً وتحرض في مواجهتها المذاهب والمعتقدات المغايرة وتحول النضال السياسي إلى صراع طوائف، وتقف عند حدود إطلاق أحكامها على الواقع، أي تصبح تجريداً مثالياً، وبين مفهوم آخر لنظرية العمل أو الأيديولوجيا يريد منها أن تكون لا مجرد أحكام ومقولات، بل أن تكون دليلاً يستهدى به لتغيير الواقع، وفي هذا السبيل لا بدّ أن تكون أولاً استيعاباً للواقع الذي تريد تغييره واستيعاباً لحركته وهو يتغير، كما تكون في الوقت ذاته استيعاباً لروح العصر ومعطياته وتمثلاً للتجارب الثورية التي مرت وتمر بها أمم أخرى، كما لا بدّ أن تكون منعتقة من التعصب، قادرة على الانفتاح على الآخرين، قادرة على نقد قصوراتها نفسها ومراجعتها من خلال ما تقدمه معطيات حركة الواقع.

إن الفكر الماركسي سواء كمنهج في التحليل والنقد، أو كنظريات اجتماعية اقتصادية، أو كمنظور ثوري لحركة التاريخ الإنساني وصراع الطبقات، أو كصيغ أيديولوجية أخذ بها مفكرون، وأخذت بها نظم سياسية أو تنظيمات حزبية، كان له أثره الكبير على أكثر الحركات السياسية الصاعدة في الوطن العربي (كما هو الأمر في أكثر أرجاء العالم) بحيث أصبحت مقولاته وتعابيره وأحكامه العامة سائدة في برامجها وأفكارها، حتى بالنسبة للتي لا تعلن انتسابها له في إطلاقه أو التي تقف منه موقف المجادلة والمعارضة. إن التعليلات الطبقية ومقولات الاشتراكية العلمية التي تقول بها أكثر الحركات الوطنية التقدمية أو المسماة كذلك، ليست المثال الوحيد الذي يمكن إيراده بهذا الصدد. إن هذا التراث الفكري الإنساني الخصب، لا يغلق نفسه دونه إلا من يريد أن يبقى خارج العصر وخارج التاريخ. ولكن ذلك الفكر قد توجه أكثر ما توجه إلى المجتمعات الأوروبية في تاريخها وحركة تطورها وتقدمها، وهو لم يتطلع إلى المجتمعات الأخرى، إلا بنظرات هامشية من خلال تصور لحاقها بذلك التطور والتقدم، ثم إنه بالنسبة لتلك المجتمعات نفسها أصبح مقصراً عن استيعاب تطوراتها الراهنة ما لم يتجدد ويخرج عن أطره التقليدية التي حبسته فيها تحولاته إلى أيديولوجيات رسمية أو مذهبية. وإن حصر الفكر السياسي، أي الفكر المجند للتبشير والعمل، في إطاره وحده، وكأنه أحاط بكل شيء أو كأنه النور الوحيد في التاريخ، نوع من التقييد، إن لم نقل نوع من الإرهاب الفكري، الذي يعرقل القدرة على التعامل مع الواقع، الذي هو واقعنا، واستيعابه.

إن ما نريد قوله هنا، إن ذلك التأثر العام بالفكر الماركسي، يساعد على إيجاد أرض مشتركة للحوار، في سبيل الوصول إلى مقدمات مشتركة لصياغة الاستراتيجية الواحدة لثورتنا العربية كثورة وطنية ديمقراطية، هذا مع التوجه إلى أن هناك تأثيرات أخرى تفرض نفسها في واقع مجتمعاتنا وحياة جماهير شعبنا، من تراثنا وتاريخنا، ولربما كانت هي الأقوى، ولا بدّ من التعامل معها والانفتاح لها واستيعابها في ذلك الإطار الديمقراطي العام للعمل والنضال. إن فسح المجال أمام التيارات التي تنطلق من أيديولوجيات مغايرة، ولها رصيدها لدى قطاعات واسعة من جماهير شعبنا المتدنية والمؤمنة، لتجد طريقها إلى التفاعل مع الآخرين، وعلى مواجهة الواقع، وإلى القبول بصيغ التعامل الديمقراطي، هو الذي يخرجها من الاتباعية والسلفية، ومن صيغ الصراع الطائفي والانقسام الطائفي والمعتقداتي للمجتمع، إلى صيغ الصراع السياسي – الاجتماعي، ولتتحدث وتعرف أن العلمنة كمبدأ ديمقراطي، هي تأكيد حرية المعتقد لا إنكار المعتقد، وليست التنكر للقيم الروحية والأخلاقية التي صنعت في الماضي وجهاً حضارياً لأمتنا، وأعطت معان إنسانية لتاريخها، بل فسح المجال الرحب أمامها لتتفتح بحرية على روح العصر، وتقدم معان جديدة لحركة التجديد والتقدم في تاريخنا.

لقد أردنا التأكيد على أن الثورة العربية، بشعاراتها ومضامين هذه الشعارات، وبما أعطته لها حركة الواقع وهو يمضي على طريق التغيير، إنما تعطي أبعاد ثورية وطنية ديمقراطية، وإن الطابع الديمقراطي، وما يعنيه بداية من التوجه الأساسي نحو تقدم المشاركة العامة للجماهير وتقدم وعيها السياسي، وما يعنيه في مسار النضال من إنجاز مهمات ديمقراطية وحريات سياسية عامة معززة بمنجزات ديمقراطية اجتماعية، وصولاً لإقامة نظام ديمقراطي فعلي، هو المنحى العام لهذه الثورة، وإن عدم التمسك به كمعيار حقيقي للتقدم وكضمانة فعلية للتوجه نحو الأهداف، هو الذي أوقع الثورة العربية، حتى في المراحل التي برزت فيها وكأنها حققت انتصارات رائعة، في مزالق الانتكاس أو الجمود أو الردة، بل وأردنا التأكيد، أن الأزمة الراهنة التي تتعثر بها قضية التحرير والتقدم العربي، حتى فيما يتعلق منها بقضية فلسطين، والسقوط على طريق التسوية الأميركية، هي في جانب كبير منها أزمة ديمقراطية. وإن النهوض في مواجهة ذلك كله، يطرح أمامنا من جديد، مهمات ثورة وطنية ديمقراطية، بل ويطرح التأكيد على أولوياتها، ولا يدفع لتجاوزها أو التجاوز عنها.

*          *           *

د. جمال الأتاسي ( 1922- 2000)

دكتوراه في طب النفس والعقل ، أحد مؤسسي حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، وأمينه العام

 

 يتبع.. الحلقة الثامنة: الثورة الوطنية الديمقراطية ليست لمرحلة بل طريق تتعدد مراحله ومهماته

 

التعليقات مغلقة.