بالذكرى الثلاثين لوفاة المفكر المرحوم «الياس مرقص» موقع « الحرية أولاً » ينشر كتاب “ حـوار العمـر.. أحاديث مع الياس مرقص “
أجراها وحررها: جاد الكريم الجباعي *
الحلقة السابعة: الفصل الخامس” إعادة إنتاج مقولات عصر النهضة وتعميقها”
ـ أستاذ الياس لك جزيل الشكر. وإذا أردت أن تستدرك شيئاً لم تقله أمس أو شيئاً حول ما قلته أمس حول نقد عبد الناصر وحول الناصرية فتفضل.
# أريد أن أقول أولاً: إن علينا أن نستأنف المقولات التي طواها زمن عبد الناصر والقومية العربية والماركسية اللينينية وأن نعمقها. أقصد المقولات التي ظهرت في عصر النهضة أو في العصر الليبرالي: مقولة الحرية ومقولة الاستبداد. مقولة الشعب ومقولة الأمة ومقولة الوطن ومقولة المجتمع ومقولة الثقافة ومقولة الفكر (ومقولة الحقوق المدنية، والحريات السياسية والحياة الدستورية ومقولة العلمانية ومقولة الديمقراطية..إلخ) فإذا أخذنا مثلاً مقولة الاستبداد، وطبائع الاستبداد نرى أن العصر التالي تجاوزها عبثاً، فبدلاً من أن نعمق الكواكبي ونثبته وأن ننقده ونوسعه ونعرف ما لم يكن يعرفه وأكثر مما كان يعرفه الكواكبي، قلنا لأنفسنا: تلك مرحلة انتهت منذ ثلاثين أو أربعين سنة، ودخلنا في وهم مفاده أن الوحدة العربية قاب قوسين أو أدنى وأن انتصار الاشتراكية قاب قوسين أو أدنى وأن مسألتنا هي الرأسمالية أم الاشتراكية، الطريق الرأسمالي أم الطريق الاشتراكي أم الطريق اللارأسمالي أم طريق الديمقراطية الوطنية أم طريق أقصى اليسار… كل الإشكالية المحددة على هذا النحو باطلة ووهمية. اليوم يجب أن ندرك بطلان موقفنا ذاك. وإنه من غير الصحيح أن البشرية قاب قوسين أو أدنى من الاشتراكية. فالبشرية انقسمت إلى حد كبير بين رأسمالية تتهذب وتتمدن وتتثقف وتتأنسن وإشتراكية بربرية همجية وسفاحة وسفاكة ومخربة للاقتصاد وللضمائر والنفوس ولكل شيء. هنا أذكر برواية المرحوم ياسين الحافظ عن المدة التي قضاها في السجن، ياسين أمضى سنة في السجن، وأنا لم أسجن ولا دقيقة. تلك السنة التي قضاها ياسين في السجن مهمة جداً، فقد كان يقول لي ولكم ماذا فكر في السجن، وقص علينا قصة الشرطي الذي سرح من عمله وسجن. ذلك الشرطي كان يقف أمام باب دار المحافظة في دمشق حارساً. ولديه تعليمات بأن الدخول ممنوع، وجاءه محافظ حلب يريد الدخول، وهو لا يعرفه، فمنعه الشرطي من الدخول لكن المحافظ أصر على الدخول وأغلظ في القول للشرطي فما كان من هذا إلا أن ضربه، فرد لـه المحافظ الضربة وكشف لـه عن هويته، وكانت النتيجة تسريح هذا الشرطي الذي التزم الأوامر والتعليمات وزجه في السجن. وكان تعليق ياسين هل نحن مع الاشتراكية ضد خالد العظم، في عهد خالد العظم لم يكن يحدث مثل هذا. هناك يا أخي مسألة مدنية وبربرية، مسألة مدنية وهمجية. كان ياسين يقول هذا الكلام في أوائل السبعينات مراراً وروى لي هذه الحادثة.
1 ـ الحرية هي وعي الضرورة… والاختيار:
إذن عصر عبد الناصر كان عصر القومية العربية الثورية الجامحة الآتية من انتصار الاستقلال الوطني وزوال الاستعمار في المغرب والمشرق والعالم، والآتية من الاعتقاد بأن الاشتراكية قد عمت ثلث الكرة الأرضية: الاتحاد السوفييتي والصين وفييتنام الشمالية وأوروبا الشرقية.. وأن المعركة هي بين الرأسمالية والاشتراكية وبين التقدمية والرجعية في العالم وعندنا، وكأنه لم يبق علينا إلا أن نختار إما الاشتراكية وإما الرأسمالية، وأن القضايا التي كانت مطروحة قبل عهد عبد الناصر قد طويت في عهده، فالحرية أصبحت للطبقات الكادحة وللتحرر القومي من الاستعمار وهذا ليس إلا جانباً من الحرية، أعني التحرر السياسي، وتحرر الجماهير الكادحة وتحرر الشعوب وتحرر الأمة من الاستعمار. هذا، في تاريخ أوروبا الغربية ملحق بمسألة الحرية وليس أصل مسألة الحرية. وهنا إذا سمحت لي يا أخ أبو حيان أريد أن أعرج على مسألة الانتلجنسيا الروسية، لأنني أرى الكثير من القواسم المشتركة بيننا وبين الروس.
ذكرت لك بالأمس أن الروس أخذوا هيغل وفويرباخ من دون كانط. الآن أريد أن أذكر شيئاً آخر: الروس أخذوا مقولة الإرادة والعزم والتصميم واستوعبوا مقولة الحرية في مقولة الإرادة. فهم يفهمون موقفنا إذا قلنا لهم إننا في أيام شبابنا تربينا على مثل قول الشاعر:
لا تلــم كفي إذا السـيف نبا صح مني العزم والدهر أبى
هكـذا الميـكاد قـد علمـنا نـرى الأوطان أمـاً وأبا
هذا شيء جميل جداً. واليوم لا يجوز أن تكون لدينا تربية غير وطنية وغير اجتماعية وغير إنسانية ونحن نتعلم ونعلم هذا الشعر الجميل (إرادة القيامة) وإنني أؤيده اليوم كما أيدته بالأمس ولكن ذلك يحتاج إلى حذر. اليوم نحتاج إلى الحذر. الولد يكبر ومن الممكن أن نعلمه في طفولته هذا الشيء، ولكن يجب أن نعلمه شيئاً آخر. أجل،
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يسـتجيب القدر
ولا بـد للـيل أن ينجـلي ولا بد للقيد أن ينكســر
أجل، إذا الشعب أراد الحياة، وكسر القيد: أي الحرية. أحب الناس شعر أبي القاسم الشابي وغناء سعاد محمد وكانوا في مقاصف دمشق أو اللاذقية يطيرون من النشوة عندما يسمعون غناء سعاد محمد وهم يشربون العرق، كنا كلنا وجوهرنا مع السياسة ومع حرية الأمة، ومع الشعب ومع كاس العرق ومع الأريحية والشهامة. إن فهم هذا شيء مهم. مؤخراً سمعت قصيدة لأبي القاسم الشابي لم أكن أعرفها من قبل، قصيدة بروموثيئية سمعتها من شابة تونسية جاءت إلى جامعة تشرين في اللاذقية لحضور ندوة. قصيدة فيها أنفة ضد الشعب، فالشاعر الفرد، الشاعر البطل الفرد مثل طائر يحلق غير آبه بالشعب وهنا أيضاً سأمتدح الشابي لأنه، ربما، شعر أن الحركة الوطنية القومية الشعبية الضخمة لا تكفي، يريد أن يضيف ويعوض حرية الفرد الشاعر البطل الذي يحلق غير آبه بأحد.. ونستطيع أن نعرج على أدونيس الذي يرى أن هذه العقيدة الشعبية الثورية الحرة، هذه الجماهيرية لا بد من إكمالها بأن تضع شيئاً فردياً ترى الموقف السديمي الجمهوري والشعبي منه. والموقف الفردي والفرداني فيه الفرد بطل. هذان ليسا متضادين بل هما متكاملان. فكرة الاجتماعية وفكرة الشخصية معاً وإلا فإنهما تشحبان ولا تعودان موجودتين ولا يعود هناك ديالكتيك فرد/ مجتمع. يعني من دون أن أتفلسف إذا كانت الحرية هي كسر القيود وجميع القيود فيجب من باب العتب أن أقول للفرنسيين أو لبلدية ماسيه قرب باريس: لماذا تمنعون الناس وكيف تمنعونهم من نشر غسيلهم على شرفات منازلهم، فهم أحرار والبيوت بيوتهم وملكهم، ولكن هناك شعب وبلدية، هناك شعب هو الذي يقرر.. الحرية السياسية والاجتماعية ليست كسر القيود بالمطلق. هذا تعريف سلبي للحرية. أعود لروسيا وتغليب فكرة الإرادة على مقولة الحرية واستيعاب الحرية في الإرادة خُدم من طرفين اثنين أولهما الفلسفة الألمانية: شيلنغ وهيغل وإنجلز ولينين يقولون: الحرية هي الضرورة المفهومة جيداً. الحرية هي وعي الضرورة. في مقالة لينين العظيمة عن كارل ماركس التي كتبها في الموسوعة الروسية سنة 1914وصدرت في العهد القيصري لم يذكر لينين الحرية إلا مرة واحدة وفي سطر واحد يقول إن إنجلز قال ضد دوهرنغ إن الحرية هي الضرورة المفهومة جيداً أو وعي الضرورة. وهذا موقف ألماني يمكن أن أقول عنه هيغلي، شيلنغي، فيختي، أي ألماني ليس كانطياً، ليس من أمانويل كانط، بل من خلفائه. الموقف الفرنسي مختلف، يقول التعريف الألماني صحيح لكن هناك جانباً آخر للمسألة فهل أستطيع الحديث عن الحرية من دون الاختيار وفكرة الاختيار، ومن دون فكرة الاحتمال والاحتمالات. وعندما ألغي فكرة الاختيار وفكرة الاحتمال من واقع الكون وواقع المجتمع ومن السلوك الإنساني ومن التطور السياسي والإنساني للبلد أكون قد ألغيت الأساس الفلسفي للحرية وأكون قد ألغيت المسؤولية الإنسانية وأكون قد ألغيت الذاتية وأكون قد ألغيت الوعي والوجدان والضمير. هذا مهم جداً. ففي دائرة الموضوعية الحرية هي وعي الضرورة حقاً. أي الواقع مع الوعي. وفي دائرة الذاتية، الحرية هي الاختيار والمسؤولية، أي الذات مع الإرادة الواعية الحرة. الأولى من دون الثانية تؤول إلى ضرب من جبرية تلغي دور الإنسان وفاعليته. والثانية من دون الأولى تؤول إلى ذاتوية لا تعترف بالواقع والذاتوية أسوأ أشكال المثالية. الأولى من دون الثانية موضوعية خالصة، الثانية من دون الأولى مثالية خالصة أو ذاتية خالصة، هذا الفصل يبطل الديالكتيك ويزيف الوعي ويضل الممارسة. الديالكتيك هو وحدة الذات والموضوع وتعارضهما مع عدم إمكانية حذف أحد الحدين الجدليين.
لا أتذكر الآن، في خلاصة لينين لمنطق هيغل ربما ورد هذا الترادف أو التراصف: الوعي، الحرية، الذاتية، وربما المسؤولية أيضاً. وبفقرة بارزة بسطر أو بسطرين بارزين ذكر أيضاً: التطلع، التوجه. أيضاً تطلع، توجه، هل ذكر لينين الاختيار لا أدري. على كل حال سأعود إلى خلاصة لينين لمنطق هيغل. إذن لا يجوز لأطروحة الحرية بوصفها فكرة الضرورة أن تنسينا فكرة الاختيار وكل ما يتشارك معها في المنطق الفلسفي الماركسي الصحيح.
والطرف الثاني لموقف الإنتلجنسيا الروسية، أي لامتصاص الحرية في الإرادة هو اللغة الروسية. ففي الفرنسية والانكليزية والعربية نجد لفظ الحرية ولفظ الإرادة متباعدين وليس لهما جذر مشترك، وليس بينهما علاقة (لغوية) وبعيدين أحدهما عن الآخر لفظاً وكلاماً. بالألمانية (فرايهايت) هذه (الفرر) تذكرنا بأصلها الصوتي. فإذا كان لدينا طفل صغير ونريد تعليمه اسم العصفور نقول له فِرْرْ. ربما هناك جذر قديم ومشترك للمصطلح وقد يكون بدأ من عندنا. وقد قلت أمس إن المقولات الفلسفية الكبرى مثل الهازار (المصادفة) أو آتوم (الذرة) أو العدم والوجود أو الشكل والمادة والمذر، المادة كلها التي قلنا إنها حطب في الفرنسية (ماتيير) وقماش عند الألمان ـ كل المقولات الفلسفية الكبرى أصلها مقولات شعبية، كلمات شعبية كثيرة التواتر، اتخذتها الفلسفات مصطلحات فلسفية صعبة مدروسة، وتدرس جيلاً بعد جيل ويختلف فيها الفلاسفة ويتعارضون وكذلك المذاهب، هكذا تقدّم البشرية، المقولات تفحص، الديالكتيك هو فن فحص المقولات. ولكن في اللغة الروسية، بخلاف اللغة العربية والفرنسية والانكليزية، الأمر مختلف. وقد عرفت هذا الاختلاف أو لمحته من دون أن أعرف الروسية، عندما كنت أقرأ وأدرس منذ أربعين سنة، الكتاب الذي أشرف عليه ستالين “تاريخ الحزب الشيوعي البلشفي في الاتحاد السوفييتي” في الفصل الأول الفقرة الأولى أو الثانية حين يتكلم عن الشعبيين، أو صدقاء الشعب، ويذكر المنظمات الشعبوية الإرهابية ومنها منظمة نارودنايا فوليا (الإرادة الشعبية)، قيل بالفرنسية (فولونتيه دوبييه؟) هكذا الترجمة الموسكوية إرادة الشعب، بعدها يذكر منظمة زيميليا فوليا. وإذا سألت دكتوراً أو مهندساً من خريجي موسكو، وليكن من أبناء السويداء وزوجته روسية مثلاً أو من أبناء دمشق أو اللاذقية درس في موسكو، لكنه لم يدرس في حياته الإنتلجنسيا أو تاريخ روسيا أو تاريخ الحزب البلشفي، إذا سألته ماذا تعني كلمة زيميليا فوليا يقول لك تعني الأرض والإرادة. وإذا ناقشته أكثر سيقول لك أنت لا تعرف الروسية. أنا أقول لـه نعم أنا لا أعرف الروسية ولكنك لا تعرف عن هذا الموضوع شيئاً فأنت لا تعرف الروسية. فإذا فتحت الكتاب الستاليني مترجماً في موسكو وكتاباً بالانكليزية في أمريكا عن تاريخ الحزب الشيوعي السوفييتي أو كتاباً فرنسياً مطبوعاً في باريس تجد هناك إجماعاً، فكلهم يترجمون زيميليا فوليا: الأرض والحرية. هنا كلمة فوليا ترجمت الحرية علناً وعلى المكشوف. وأنا عندي كتاب ليونار شابيرو مترجماً إلى الفرنسية وشابيرو هو أكبر خبير في تاريخ الحزب الشيوعي السوفييتي، وقد صدر الكتاب منذ ثلاثين سنة، ونستطيع القول إن كل ما كتبه ثبتت صحته. في هذا الكتاب بترجمته الفرنسية عندما يصلون إلى ترجمة زيميليا فوليا في بداية الكتاب يقولون: الأرض والحرية ولكن بعد صفحة حين تتكرر الكلمة يكتب المترجم هامشاً تحت الصفحة يقول فيه: كان من الممكن أن نترجم زيميليا فوليا بـ الأرض والإرادة. فما أقوله عن هذا الموضوع صحيح. وقد يقول قائل ممن يعرفون الروسية إن هناك كلمة ثانية للحرية في اللغة الروسية، أقول له هذا صحيح ولكن الكلمة الثانية ليست فوليا، فقد انحصر استخدام هذه الكلمة في التحرر السياسي، في حركة تحرر وطني، في حركة شعب، في حركة تحرر أكثر من الحرية. وطبعاً يا أخ أبو حيان إذا سألت نفسك أي كلمة أصعب، أي كلمة أكثر بساطة، أي كلمة أكثر تجريداً، أي كلمة أقرب إلىالفهم؟ تجد مشكلة كبيرة وترى أن الكلمة الأكثر بساطة والأكثر تجريداً والأصعب على الفهم هي كلمة الحرية. كلمة التحرر أسهل علىالفهم، وتعني أنا مقيد وأريد أن أتحرر، من الذي يقيدني يجب أن أرفع قيده عني، هناك قيد اجتماعي أريد التحرر منه وهناك قيد سياسي وحكم مستبد أو استعمار جاثم على صدري أريد أن أتحرر منه. هذا أسهل على الفهم من مقولة الحرية، وكلمة الحرية أبسط. كلمة تحرر أطول وهي كلمة مركبة عندنا وعند الفرنسيين والألمان. هذه القضية ساعدت الروس على طي الحرية الإنسانية المدنية الاجتماعية لمصلحة تحرر الفلاح وتحرر العمال وتحرر الشعب، الحرية المدنية الاجتماعية، العلاقة بين الإنسان والإنسان، بين المرأة والرجل وكذلك الحرية الدينية، حرية المعتقد لكل فرد على الإطلاق من دون أي إكراه ومن دون أي تمييز، أي التطبيق المطلق لمبدأ: لا إكراه في الدين، الحرية للشيع والهرطقات والمنبوذين والفرق الصغيرة التي يقف الجمهور ضدها وفي أحسن الأحوال لا يبالي بها.. هذا كله يصبح ثانوياً وتافهاً.
من يقرأ كتاباتي منذ عشرين عاماً يجدني متعاطفاً مع لينين. فقد ذكر لينين منذ عام 1898 الهرطقات الدينية أو الشيع الدينية وتحدث عن حرية هؤلاء. كان في روسيا كنيسة أرثوذكسية عريقة، الحكم السوفييتي أبادها وأخطأ في ذلك خطأ شنيعاً. ولكن في الزمن القيصري كان هناك عشرات الشيع المسيحية البروتستانتية وشيع من كل الأنواع تعاني من تمييز واضطهاد وملاحقة بدرجات متفاوتة بحسب الحكومات وحكمة الحكومات. طبعاً العصر الستاليني أبادها كلها. ضرب الكنيسة الأرثوذكسية والهرطقات والإسلام والبوذية واليهودية، وأهان الأديان جميعها. وعندما أعود إلى واقعنا أرى أن هناك شبهاً غريباً بيننا وبين الروس في هذه القضية، بين تفكيرنا وتفكير الإنتلجنسيا الروسية (في قضية الحرية). وأعتقد بأن الناس سيفاجؤون بهذا الشبه بين مصائر تفكير المثقف الروسي ومصائر تفكير المثقف العربي الذي هو أكثر جهلاً وأقل معرفة منه بشؤون الفكر. كذلك ما يمكن أن نسميه اليقينية الدوغمائية هي نوع من الهيغلية الفيورباخية المادية، أي الديالكتيك بلا المادية (هيغل) والمادية بلا الديالكتيك (فيورباخ.ج). عند الإنتلجنسيا الروسية هناك عبادة الطبيعة، والشعب الروسي عاش مئات السنين متديناً يعبد الله والمسيح. وجاء وقت في القرن التاسع عشر انقلب المثقفون الروس على هذا الوضع. وضعوا داروين مكان الله من دون الفلسفة. فإلى أي مدى فهموا داروين؟ هذا سؤال آخر. وأعتقد أن الأمر نفسه جرى عندنا وأستطيع أن أفصل في ذلك. لقد جرى عندنا وفي جيلنا (فرح أنطون) وكثير من شبابنا اليوم يرفعون راية علم الطبيعة والعلوم عموماً ونبراسها علم الطبيعة، وعلم الطبيعة مع نظرية التطور. هذا يحمل يقينية ويحمل مطلقاً، وحامل مطلقات وهذا غلط وشيء مرعب وغير مقبول. اليقين هو اليقين، دينياً كان أم علمياً. فلم نحمل على اليقين الديني باسم اليقين العلمي؟ اليقينية ضد الفكرية ونقيضها، الفكرية مع الإمكان والاحتمال والاختيار ووعي الضرورة في الوقت ذاته. اليقينية مع الدوغما ومع وعي الضرورة، مع الموضوعية العلمية الصائرة فلسفة ومذهباً “العلم” مع الفكرية هو الديالكتيك حيث ثمة ذات وموضوع وعلاقة وتعارض وصيرورة. الديالكتيك وحده ينصف الوضعية الإيجابية ويدمجها في نشاط البشر وفي تاريخ الإنسان.
أريد أن أذكر شيئاً عن السيد رفعت السعيد وكتابه “تاريخ الاشتراكية في مصر”. يصل هذا الكتاب إلى رجل لبناني مصري مهم، وكما تعلم هناك لبنانيون فطاحل ومظلومون في مصر لم نعطهم حقهم بعد. يصل الكتاب إلى أحد هؤلاء. وفي حديثه عن فرح أنطون الذي ترجم بوخنر يقول عنه إنه آمن بالمادة وبالحركة أي بالتطور الدارويني، إذن فهو مادي جدلي. مأخذي على رفعت السعيد أنه ليس فقط خبيراً عظيماً بتاريخ الصحافة اليسارية في مصر وينقل على هواه، بل لأنه تكشف عن فيلسوف كبير. يا أخي رفعت أنت تتكلم عن فرح أنطون، وتمجده وأنت لا تعرف أن فرح أنطون ترجم بوخنر وهذا أي بوخنر رمز المادية المبتذلة في نظر ماركس وإنجلز ولينين، ومن المستحيل أن تجد جملة إيجابية عنه في كتاباتهم، بل لا تجد عندهم إلا السخر به. وأنت يا أخ رفعت السعيد لا تعرف، ربما، أن بوخنر هذا قد ترجم داروين أو عفواً حمل بضاعة داروين على كتفيه مع الإلحاد وبات بائعاً متجولاً للإلحاد كما يقول إنجلز متهكماً في كتابه ضد فويرباخ (دوهرينغ؟).
ثم إلى أي مدى فهم فرح أنطون داروين؟ عندنا مدرس بيولوجيا فهيم جداً يقول لي إن فرح أنطون لم يفهم شيئاً من داروين، ويبدو أن له نظرية عن المرأة تعدها حيواناً أو في منزلة وسط بين الإنسان والحيوان. فرح أنطون تحدث عن تطور الأنواع، ولكن إذا ألغينا مقولة الأفرادية وفكرة الاختلاف بين الأفراد داخل النوع نفسه أو داخل فصيلة ولو صغيرة منه، نكون قد ألغينا إمكانية التحول والتطور ونشوء أنواع جديدة وعروق جديدة. فكل عملية الاصطفاء الطبيعي وعملية التكيف مع البيئة المتغيرة قائمة على اختلاف الأفراد، من دون الاختلاف ليس هناك تغير. وهذا واضح في بداية كتاب داروين. وإذا اطلعت على ماندل أو على وايزمن أو على أي دراسة مقتضبة أو شاملة لتاريخ البيولوجيا وعلم الوراثة تجد هذه النقطة علناً. أي إن العلم لا يبدأ مع لامارك. لامارك قال بالتطور وكثيرون غيره قالوا بالتطور وبتحول الأنواع، والمهم هو من الذي يقوم بفك السر ويفسر هذه الإمكانية ويكشف الآلية، آلية التحول؟ هذا الموضوع لا يتضح من دون باسكال وليبنتز ومن دون نيوتن وبيرنوويين وكيتوليين وغاوس ولابلاس أي من دون علم الإحصاء، علم الحالة الستاتيك ومن دون حساب الاحتمالات.
وأريد أ أعرج أيضاً على عبد الله العروي. أنا أرى أن عبد الله العروي مفكر كبير جداً جداً وأتمنى أن يستمر في الكتابة والتأليف والنشر وأن يكون عنده تعميق وتجديد على الدوام. وأعتقد أن الساحة العربية في حاجة إلى أمثاله. وأعلن اغتباطي أنه في المرحلة الأخيرة أكد الترابط بين الوضعانية والليبرالية، وبين طريقة تفكير القرن التاسع عشر في فرنسا وبريطانيا وألمانيا، هذه الطريقة الغربية التي صارت فيما بعد طريقة تفكير عالمية في الصين ومصر، عند مصطفى كمال أو في الاتحاد والترقي. وقال العروي أن العرب لم يدركوا ـ لسوء الحظ ـ أن الحرية مفهوم فلسفي، أي إن هنالك قضية فلسفية في مفهوم الحرية، ولم يتناولوا القضية من هذا الجانب. وإني أؤيده بأن العصر التالي لعصر النهضة شطب هذه القضية بدل أن يدخل فيها. وفي الحقيقة لم يكن هناك من يشجع على الدخول وعدم الشطب، فالروس والشيوعية لم يشجعونا إلا على الشطب، والغرب معروف أننا نرفضه بصفته استعماراً ونتعامل معه بحذر وارتياب.
اليوم يجب أن نعود إلى قضية الحرية بصفتها قضية فلسفية وعلى نحو أعم. ولعل من أكبر المهام أمام الفكر العربي اليوم هو إنشاء ما أسميه القاموس الدلالي التاريخي للمفردات العربية الكبرى. قاموس تاريخي دلالي، غير اشتقاقي (أنتي اشتقاقي) ضد الاشتقاق. فللبحث عن كلمة حرية لا يجب أن أفتح على كلمة حر من أجل حرية، بل مباشرة على كلمة حرية. ولا أفتح على جمهور من أجل جمهورية وأقرأ الجمهورية من الجمهور ثم أتكلم عن الجمهورية. وهذا لا يعني أن نرمي الاشتقاق فالدولة من دال يدول ثم أتكلم عن مفهوم الدولة وتطور دلالته تاريخياً. أنا لا أعرف إلى الآن إذا كان العرب المسلمون منذ ألف سنة قد استعملوا كلمة الدولة، لا تؤاخذني، والله إلى الآن لا أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال ولا من هو أول من استعمل كلمة الحرية أقصد الاسم الموصوف، الحرية وليس كلمة حر وأحرار، بل كلمة الحرية ومن أول من استعمل كلمة الثقافة. قال لي أحدهم، لا يهمنا ذلك اليوم فالثقافة موجودة عند العرب منذ ألفي سنة أو خمسة آلاف سنة. والثقافة من ثقف الرمح وكذا وكذا. فقلت له هل تحسبني جاهلاً؟ الثقافة ومن ثم كلمة المثقف بمعنى رجل الفكر ورجل الثقافة بمعنى (الأنتلكتويل..) والثقافة بمعنى (كليتر بالفرنسية وكالتشر بالانكليزية..) لم تظهر عندنا إلا في القرن التاسع عشر. وكان ظهورها يعني أن أشخاصاً عندنا أدركوا أن هناك شيئاً جديداً في الدنيا وهناك مقولة جديدة في الوجود. وهناك ظاهرات جديدة يجب أن تجمع تحت اسم أو مصطلح جديد وغير متداول. ويبدو أن العرب والأتراك اصطلحوا في استنبول على كلمة مركبة هي رووش نصفها فارسي ونصفها عربي بمعنى الثقافة (كلتير). وبعد ذلك بقليل نحت العرب من كلمة ثقف كلمة الثقافة بمعنى التهذيب والتربية والفكر والأدب والفن..إلخ. فنحن نحتاج إلى قاموس تاريخي دلالي. إن رفضنا كأمة وإلى اليوم كأكاديميين، كنخبة، إن رفضنا إنشاء هذا القاموس معناه أننا نرفض التطور والنمو ونرفض مقولة الجديد، أو كأننا نؤمن بأنه لا يوجد شيء جديد وأن الثقافة موجودة منذ خمسة آلاف سنة لأن كلمة ثقف الرمح موجودة وأن الدولة موجودة وبديهية وأصلية ما دام فعل دال موجود وكذلك الجمهورية والحرية التي تصبح فررر… الطائر الحر والصافي النقي..إلخ. وليكن معلوماً لنا جميعاً أن اللغة هي تقطيع للواقع. وكل لغة تقطع الواقع بطريقتها، تجمع الظواهر وتضع لها اسماً. واليوم ظهرت عندنا كلمات جديدة كالحرية والجمهورية والشعب والأمة والثقافة والثورة الديمقراطية.. وهكذا يجب أن نعترف بأن هذه الكلمات حديثة وجديدة مئة بالمئة عندنا نحن العرب، بغض النظر عن لفظها وأصلها سواء كانت عربية أصيلة أم مستوردة من اليونان أو أوروبا. الديمقراطية واضح جيداً أنها غير عربية الأصل لفظاً واشتقاقاً إنها يونانية.. فرنسية. ومع ذلك ألف برهان غليون كتابه “بيان من أجل الديمقراطية” من دون أن يتساءل ماذا تعني كلمة ديموس وماذا تعني كلمة شعب، فهو يعتبر أن الشعب موجود كما هي الطاولة موجودة وكما هو الجبل موجود. الشعب موجود. وبعد قليل يتبين أن الشعب هو الأغلبية وأن الأغلبية هي المسلمون السنة وربما الرجال الذكور الفحول من السنة. والسؤال هل كان الرجال من المسلمين السنة هم الحاكمين بوصفهم الأكثرية؟ إذا كان الأمر كذلك فهنيئاً مريئاً. أما أنا فلا أوافقه على ذلك. والشيء الأول الذي لا أوافقه عليه هو تعامله مع كلمة شعب وكلمة جماهير وما شابه كأنها كلمات موجودة في الأصل وبديهية ومشرقة نورانية ولا يوجد حولها التباس. وهنا أدعوه إلى قراءة مذكرات البديري الحلاق، دمشق في القرن الثامن عشر وأن يحاول تطبيق كلمة شعب أو كلمة مجتمع على نص البديري الحلاق، فإذا نجح في ذلك فأنا أصدقه وليسمح لي بالقول إنه لم يكن هناك مجتمع بل مجتمعات هي في الواقع جمعات، هي كتل هامدة ومتقاتلة وافتراسية ومغبونة جميعها وغابنة، وظالمة. ولم يكن هناك جيش بل خمسة جيوش في كل مدينة، ولم يكن هناك دولة بل سبع دول في كل مدينة، وطبعاً لم يكن هناك طبقات، بل سديم بشري، خليط كله سلطات ديزوتورينية وإذا أردتها سَلَطات يا سيدي.
2 ـ قاموس دلالي ـ تاريخي :
من أجل قاموس دلالي ـ تاريخي أريد الاستعانة بأساتذة اللغة العربية والأدب العربي، سأبدأ بثلاثين كلمة هي مفاتيح العقل العربي أو الذهن العربي، بل مفاتيحه لرؤية العالم في الخمسين سنة الأخيرة. وإنني بدأت بكلمة ثورة، جماهير، إمبريالية، استعمار، ديمقراطية، جمهورية، أمة شعب وطن، حزب، طبقة، شكل، صورة، دين، دنيا وهكذا. أقف عند الشكل والصورة. ويبدو لي أن الرائج منذ ألف سنة هو كلمة صورة وتستخدم كلمة شكل كأنها مرادفة لها. وفي الخمسين سنة الأخيرة، قبل مجيء الماركسية وبعد مجيئها استعمل الأدباء والمتفلسفون كلمة صورة، وربما تعلم بعضهم ذلك من السوفييت من استاخوب مثلاً: “الفن يعمل بالصور والعلم يعمل بالمفاهيم”. هنا أصبحت كلمة صورة ترجمة لكلمة إماج (Image) وليس لكلمة فورم Form. ووقع الصديق المرحوم حسين مروة في هذا المطب عندما نقل عن الفلاسفة العرب المسلمين مقولة المادة والصورة عند أرسطو. واضح أنه يقصد (ماتيرافورم) الشكل. أنا لست ضد أي نوع من الترجمة، الإنسان حر ولكن نريد أن نصل إلى اتفاق. ويتحدث حسين مروة في إحدى صفحات كتابه عن “الطابع النوعي الخصوصي للفن” أي أن الفن يتكلم بلغة الصور، في حين يتكلم العلم (Lesince) بلغة المفاهيم (Conseptes). وهنا أتذكر مقالاً قرأته قبل خمسة وثلاثين عاماً ربما لكاتب سوفييتي كان له أثر في ثقافتي وفي تكويني وإني أؤيده إلى اليوم، كتب آستاخروا في مجلة شيوعية فرنسية أعتقد أنها مجلة الطريق، موضوعاً بعنوان الطابع النوعي للفن يقول فيه هذه الفكرة: الفن يتكلم بالصور والعلم يتكلم بالمفاهيم، وربما ظلت هذه الفكرة في ذهن حسين مروة منذ ذلك الحين، لكنه وهو الذي استعمل كلمة صورة في كتابه مرادفة لكلمة شكل كأنه يقول الفن يتكلم بلغة الشكل.. فإذا كان الطابع النوعي للفن هو الصورة والصورة هي الشكل سقط الفرق بين الفن والعلم. لأننا حين نقول عن العلم أنه يتكلم بلغة المفاهيم فيجب أن ندرك الصلة الحميمة والأخوة والشراكة بين الشكل والمفهوم. وحين ترجم لينين كتاب ميتافيزيقيا أرسطو عن الترجمة الألمانية لـ شنيكلر الذي وحد تماماً أو خلط بين الشكل والمفهوم. أرسطو يقول مادة وشكل فجاءت في الألمانية المادة والمفهوم. وعندما قام المترجم الفرنسي بوتيجلي بنقل النص إلى الفرنسية عن اللغة اليونانية أشار في أحد هوامشه أن وضع Mater eue Concepte (المادة والمفهوم) محل Mater eue Form (المادة والشكل) غلط، لكن هذا الغلط ثمين وجيد لأنه يثبت لنا العلاقة الحميمة أو الأخوة والشراكة بين الشكل والمفهوم. وأستطيع أن أقول أرسطياً: الفكر أشكال العالم. كما أستطيع أن أقول مع هيراقليطس الأسماء قوانين الطبيعة، وأستطيع أن ألخص موقف أرسطو بأن الفكر، الفهم، ومن ثم وظيفة الذهن، معرفة العالم ومعرفة الواقع، هو إدراك الأشكال. هذا الخط الأرسطي يوصل إلى كارل ماركس وإلى فرديناند دي سوسور وعلم اللغة. وفي نظرة سليمة إلى تراثنا يجب أن نرى موقع الفراهيدي وسيبويه في هذه القضية العظيمة. لأنني أستطيع القول إن علم النحو هو علم الأشكال قطعاً. ولا بد من كسر صنمية تعليم النحو عندنا ولا سيما في بداية تعليمه. فقبل أن تقول مثلاً يقسم الكلام إلى اسم وفعل وحرف يجب أن يفهم المتعلم أولاً أن الكلمات هي كلمات، كليات ومفاهيم، وأسماء، خارج التصنيف التقليدي على أهميته وعلى أهمية التصنيف. النحو علم الأشكال. نقول مثلاً جاء الرجل ونعرب جاء فعل ماض والرجل فاعل. وإذا أردنا إعراب عبارة “جاء فعل ماض” يجب أن نقول جاء مبتدأ وفعل خبر وماض صفة (لأن جاء هنا هو المسند إليه، لم يعد فعلاً، غدا كلمة خارج التصنيف التقليدي المعروف وهو تصنيف ضروري)، ولكن يجب إقامة الحد على هذا التصنيف وتعليم الناشئة بأن الكلام هو كلمات وتعليم فكرة الكلمة قبل تعليم فكرة الاسم والفعل والحرف. فإذا سألت أحدهم ما الكلمة أجابك اسم وفعل وحرف فتقول له أسألك عن معنى الكلمة وليس عن أقسامها أو أصنافها فلا يحير جواباً. يجب تعليم الناشئة أن الكلمة تعبير عن فكرة، عن مفهوم أولاً، ثانياً أن الكلمة ليست شيئاً، والاسم ليس شيئاً، الاسم في أفضل الحالات اسم لشيء، يسمي شيئاً ويسمي علاقة، ويسمي صيرورة ويسمي عملية، وأن هذا الاسم المفرد (طاولة مثلاً) يحيل على طاولة معينة مفردة ولكن كلمة طاولة تنتمي إلى العام، وهنا أكون قد دخلت الفكر قبل أن أدخل الميدان الخاص الذي هو علم النحو والصرف. وهذا العلم، علم النحو والصرف جزء ، مجرد جزء، من بناء كبير هو العلم، وله أساس وهذا الأساس واحد، وله محور هو الفكر، والواقع قائم إزاء الفكر، موجود خارج الرأس. وحين أنظر إلى اللغة على أنها موضوع أو على أنها الموضوع والواقع فلكي أستقرئها وهنا تكمن عظمة الفراهيدي حتى استخرج من أشعار العرب الأوزان الأساسية التي أسماها بحور الشعر وقام على عمله علم العروض. وإلى يومنا لا يعلمون الطلاب مبدأ الفراهيدي وأن البحر البسيط مثلاً هو (256 حالة) وهذه الحالات متساوية في الحقوق، ولا يعلمونهم رياضيات العروض. فصيغة مستفعلن مثلاً جوازها متفعلن وصيغة فاعلن جوازها فعلن إذن 2×2=4 ولنكمل بقية البحر فإذا نحن إزاء ثماني كلمات كل منها اثنتان، يعني 82 (2 أس 8) =256. هذا ما يجب تعليمه للناس كي نحررهم من فكرة الإيقاع ومن فكرة التصنيم للوزن. فنحن لدينا ستة عشر بحراً هذا صحيح ولكن لكل منها مئات الحالات، إذن هناك حرية ومعقولية من نوع أكبر من المعقولية التي تتصورها. أعتقد أن أحداً لم يتساءل إذا كان هناك كلمات عربية فصيحة ممنوعة من العروض ولا يمكن أن تجد أياً منها في أي قصيدة عربية ولوكان عدد أبيات هذه القصائد عشرين مليون بيت. فقد قمت بهذه التجربة مع كثيرين ففوجئوا بالسؤال، وأنا فوجئت بذلك أيضاً ولتعلم أن جميع الكلمات التي على وزن فارٌ وبارٌ وباشٌ.. أي جميع أسماء الفاعل من الفعل الذي على وزن فعَّ (أي الفعل الذي عينه ولامه حرف واحد مكرر أو مضعّف برَّ = برر وفرَّ= فرر) مفردة ومثناه ومجموعه ممنوعة من العروض وهذه الكلمات عددها بالآلاف. وإن عملية الفراهيدي متسقة مع واقع لغة العرب التي لا تبدأ بساكن ولا يتوالى فيها ساكنان. إذن يمكن الدخول في موضوعات جديدة في علم العروض إذا توافر المنطق والتفكير الرياضي، وليس من المعقول أن نبقى إلى الأبد على سبعة عشر بحراً. وإذا أردنا أن نتقدم ونتحسن يجب أن ننظر إلى الشعر، هذا الميدان الخاص، على أنه جزء من ميدان الفكر العام ليس بأن نكون كلنا شعراء بل بأن نكون كلنا مفكرين، وأن نرفض كل تبعية، وأن يكون أحدنا تابعاً لضميره ولرب فوقه وفوق الجميع.
يجب ألا نقبل التبعية، وأن نعلم كل إنسان أن يقف على رجليه. هناك ضمير وهناك وعي وكل شيء يجب أن يحاكم سواء أخطأ أم أصاب (يجب أن يحاكم كل شيء، وكل شخص في محكمة الوعي والضمير). الوطن وطننا وقضية عبد الناصر أو قضية السوفييت أو قضية الوحدة العربية وكل قضية من القضايا حد وهذا الحد يجب أن يأخذ حقه كاملاً. نحن في عالم حدود، ويجب أن نعطي الحدود حقها بدون زيادة أو نقصان. ويجب أن نعطي المقولات حقها. العدمية القومية مثلاً، في الوقت الذي أرفض فيه العدمية القومية فإنني أحب وحدة البشرية، وأنا أكثر من يحب وحدة البشرية (وأكثر من يرفض العدمية القومية) ولكن هناك مراحل في الدنيا. يجب أن نعلم شبابنا خاصة وشاباتنا بالطبع أن يقول كل واحد لنفسه أنا أريد أن أفكر، أنا أحترم الحقيقة وأنا أسعى إلى الحقيقة والحقيقة فوق كل شيء. وعندما أرى أي شيء مغلوط في تفكيري أزيله وأبحث عن الصواب وأثبته، هذا هو الواجب، هذا واجبنا كلنا. إنها ليست قضية الياس مرقص فقط، بل هي قضية كل إنسان، إنها قضية مئتي مليون عربي يجب أن يفكروا هكذا وإلا فكل تعليمنا غلط.
لماذا نتكلم ضد الرجعية وضد الاستبداد، هذا الكلام ليس له معنى إذا لم يكن جذرنا الروحي هكذا. وهذا الكلام لو قيل لعبد الناصر لقاله عبد الناصر حرفياً. وأعتقد أن الشعب فهم عبد الناصر إلى حد كبير على هذا النحو حين قال عبد الناصر: إرفع رأسك يا أخي فقد ولى عهد الاستبداد (لأن جذر عبد الناصر الروحي كان هكذا.ج).
3 ـ المرحلة ومفاعيل الزمن :
وأريد أن أعود إلى الديمقراطية مرة أخرى وإلىمفهوم الدولة. لقد كنا محقين تماماً حين أردنا منذ ثلاثين سنة طريقاً عربياً. كنا مؤمنين بمرحلية، أردناها مرحلية عربية لا تكون نسخة من المرحلية السوفييتية اللينينية الستالينية، ولا نسخة من المرحلية الماوتسي تونغية السوفييتية ولا المرحلية الستالينية المادية البكداشية. وبدأنا نتخلص منذ 1958 من قصة الثورة الديمقراطية البورجوازية أولاً ثم الثورة البروليتارية الاشتراكية، أو الثورة الوطنية الديمقراطية ثم الثورة البروليتارية الاشتراكية، لا، لا. منذ 1958 قمت بنقض هذا الرأي الشائع وبعد ذلك تخبطت، أي قلت كلاماً صحيحاً وكلاماً غير صحيح، وهذا شيء طبيعي ولا أخجل منه ولا أخاف منه. ولو كانت النصوص أمامي الآن لعدت إليها وقلت عن الخطأ مباشرة. صحيح إنني ملت إلىمقولة الثورة الدائمة لتروتسكي جزئياً ثم رددت على هذا الاتجاه وعلى الفوضوية أيضاً. فالمرحلية التي أردناها في عام 1958 و1960 ـ 1962 هي مرحلية عربية وليست تكراراً لغيرها. وهذا حقنا وواجبنا، وهذا احتمال صحيح وسيناريو صحيح. فالثورة الوطنية الديمقراطية التي طرحناها والثورة الديمقراطية البورجوازية كما طرحها المرحوم ياسين الحافظ وإن ليس حرفياً والثورة القومية الديمقراطية التي طرحها ياسين في السبعينات هي طرح متقدم. ومع ذلك فكل هذه الطروحات ناقصة إلى هذا الحد أو ذاك واليوم يجب أن نعيد النظر ونعمق. هذه الطروحات ناقصة لأنه يجب أن نأخذ بمقولة التأخر على نحو أغنى مما طرحه ياسين، نريد أن نعطي فكرنا النظري كل ماتستحقه الجذور الروحية، الجذور الثقافية العامة، التربية التي تكلمت عنها أمس والتي تحيط بشجرة الفكر العلمي، وبالأشجار الأخرى إلى جانب شجرة الفكر العلمي. على سبيل المثال يجب أن نستوعب علم الأخلاق (الأتيقا) وعلم الجمال (الأستطيقا) وندخلهما في ثقافتنا وتربيتنا وتعليمنا ويجب أن نعقد علاقات حميمة مع عدد من الفنانين والأدباء ونسلح أنفسنا معهم فكرياً ونظرياً وثقافياً. وما أكثر ما أشعر بالأسى عندما أرى موهوبين مشهورين جداً ومشهورين بما فيه الكفاية ولكن تنقصهم الثقافة وتنقصهم الفلسفة وتنقصهم المعرفة لتاريخ البشر. يجب أن نتشارك مع الفنانين والأدباء لنؤكد علم الأخلاق وعلم الجمال والمنطق والتاريخ وسائر العلوم القيمية المعيارية ضد الوضعانية العربية الدارجة. ربما كان ثالوث الأخلاق والجمال والمنطق ضعيفاً في حضارتنا. نريد الجمال وليس الزخرفة والتسلية. الجمال في البساطة وليس في الزخرفة. ويجب ربط الجمال والجمالية بالأخلاق، يجب أن نصر على الأخلاق. الجمال والأخلاق مقولتان ومثلان أعليان يجب أن يجتمعا معاً. وكذلك المنطق، وقد تكلمنا عنه. لكنني أضيف أن كل علم هو منطق تطبيقي كما يقول هيغل ولينين هذا جميل جداً. وقد صغت هذه المقولة بالعربية كما يلي: العلم هو المنطق والمنطق يقيم مناطق (مناطق هي جمع منطقة وجمع منطق). المنطق يقيم مناطق هي ميادين وانضباطات، علوم واختصاصات، ولكن الأساس هو المنطق، أما عقيدة الاختصاصات الأمريكية العربية هذه فقد أصبحت باطلة، نحن قبضنا على الاختصاصات من ذيلها وليس من أساسها، كما نفعل عادة بكل ما نأخذه من الغرب المتقدم، نقبض على الذنب، على الفرعيات ونتصور أن خلاصنا في هذه الفرعيات وأن تقدمنا مرهون بها. يمكن أن يواجهك شخص يقول الأمة العربية متأخرة ولكنها تستطيع استيعاب الكمبيوتر. لكن القائل لا يعرف ماذا سبق الكمبيوتر من فكر ومنطق ورياضيات. يمكن أن ينتشر الكمبيوتر غداً ويصبح البشر أدوات للكمبيوتر ومخترعين للكمبيوتر أيضاً ولكن هذا لا يحل المشكلة. يجب أن نبطل الاستهلاكية وليس الاستهلاك، نريد أن نسمو بها ونطورها ونجعلها صعبة. نريد أن نخترع ونصنع لا أن نستهلك فحسب. الكمبيوتر يمكن أن يساعدنا ويمكن أن يضرنا إذا جعلنا منه إلهاً جديداً ووثناً جديداً أو اعتقدنا أنه هو الذي سينقذنا، نكون قد رجعنا من جديد إلى الوثنية. الوثنية هي أن نتصور أن الذهب أو الماس هو الذي سيطعمنا خبزاً أو المدفع والجرار والكمبيوتر.. كل ذلك أسميه الوثنية، أي عبادة المادة.
هناك شيء جميل وحميم عند الأسقف بيركلي، ومؤخراً قرأت مقالاً يصفه بأنه من كبار حملة المثل الأعلى، ولم يعد الأسقف الرجيم الذي كان يضطهد الشعب الايرلندي، المعروف أن بيركلي كان من رواد دحض المذهب الميركنتلي أو المذهب التجاري: عبادة المعدن الثمين، كان من رواد هذا الاتجاه قبل آدم سميث وقبل الفيزيوقراطية الفرنسية.
رجوعاً إلى مرحلتنا 1960 ـ 1965 كيف فكرت يومها وكيف أفكر اليوم؟ القضية لا تحل بمقولات العمال والفلاحين والطبقات الأربع التي قال بها عبد الناصر: العمال والفلاحون والمثقفون والبورجوازية الوطنية أو البورجوازية الصغيرة. ونقاشات نايف حواتمة ولطفي الخولي حول هذه المسائل كانت في سياق الغلط. اليوم، يجب أن نطرح الأمور في المستوى السياسي، في مستوى الدولة وفي مستوى الحكم، انطلاقاً من تاريخنا الطويل، ومن تجربة الاتحاد السوفييتي من غلط الماركسية والنظرية الماركسية. ما كان مطلوباً في زمن عبد الناصر هو تثبيت دولة الحق والقانون وتنميتها وتطويرها، دولة الحق والقانون ومن ثم المؤسسات مع استقلال القضاء وفكرة سمو القانون وليس الديمقراطية السياسية الانتخابية والاقتراعية العامة، هذه ليست المرحلة الأولى. لنعد إلى زمن الوحدة والاعتقالات التعسفية. كان أحد أصدقائي يقول لي يومها: ليعتقلنا عبد الناصر ولكن بموجب قانون وبموجب محاكمات علنية في محكمة دستورية مع حق المعتقل في الدفاع عن نفسه. لو كان هناك قانون يقضي بسجن من يشتم رئيس الجمهورية عشر سنوات لقلنا لابأس ولكن هناك قانون ومحكمة ومحاكمة ودفاع. في بلد متخلف من المفهوم أن يسجن من يشتم رئيس الجمهورية عشر سنوات مثلاً أما في بلد كفرنسا فلا يسجن ولا يحاكم. لابأس أن يسجن من يشتم رئيس الجمهورية ولكن بموجب قانون ومحاكمة وبدون تعذيب وعلى أن تكون له جميع حقوق الإنسان في السجن.
مسألة حقوق الإنسان بناء متدرج وعمل طويل ولكن الأساس هو المجتمع المدني ودولة القانون. نحن باسم الثورية نميل إلى الحديث عن الواجبات عندما تطرح قضية الحقوق. وثيقة القذافي عن حقوق الإنسان مثلاً تقول: العمل حق وواجب على كل إنسان. هذا غلط. الحق والحقوق أولاً، أعطونا الحقوق أولاً. نحن هنا في ميدان الحقوق والحقوقية وليس في ميدان الأخلاق. الدستور والقانون يعطيان الإنسان الحق أن يعمل أو لا يعمل. حق الإنسان أن يعمل ولكن من لا يريد العمل ويريد أن يعيش عالة على أخيه أو ابن عمه لا يخالف القانون. هذا هو ميدان الحقوق الحصري. يقول بعضهم: كل حق يلازمه واجب، أجل ولكن ليس كما يتصور هذا البعض. كل حق يلازمه واجب يعني أن حقي في كذا هو واجبك، واجب الآخر، في احترام حقي، مثلما واجبي أن أحترم حقك. (هكذا يتلازم الحق والواجب في دائرة الحقوق الصرفة، وليس في دائرة الأخلاق، واجبك أن تحترم القانون الذي أعطاني هذا الحق وواجبي أن أحترم القانون الذي أعطاك حقك) إذن حق الإنسان هو واجب الدولة والمجتمع حقي في العمل يعني واجب الدولة وواجب المجتمع وواجب البلدية أن يساعدوني في إيجاد العمل. التلازم بين الحق والواجب هو خلاف الشائع عندنا.
الإنسان يحتاج إلى حماية، أولاً من الدولة ذاتها، أي يحتاج إلى من يحميه من الدولة. لأن الدولة ضرورة مطلقة. وأنا لا أقبل مقولة اضمحلال وتلاشي الدولة، وأعدها جزءاً من غلط الماركسية في مسألة الدولة. وديكتاتورية البروليتاريا هي الجزء الآخر. المصيبة عندنا أن نظرية ماركس فيها صواب ولكنها حلت عندنا محل التراث الإنساني كله، كأنها بديل من أفلاطون وأرسطو ومن الفكر البورجوازي ومن المجتمع والدولة. ففي الوقت الذي قلنا فيه إن الدولة هي حكم طبقة على طبقة وحكم أقلية على أكثرية، وأن الدكتاتورية هي حكم الأكثرية على الأقلية كما قال لينين، في الوقت الذي قبلنا فيه بهذا الكلام نسينا أن الدولة هي فكرة الكلي وليست فكرة الجزئي. الدولة البورجوازية التي هي حكم البورجوازية، هي أيضاً دولة المجتمع. ولولا الخلاف ولولا مراعاة مصالح مختلفة، ليس فقط داخل البورجوازية نفسها، بل داخل مجموع الأمة، لما كان هناك دولة، ولما كانت الدولة دولة. الدولة هي ميدان الكلي، ميدان العام، مثلما المفهوم وفكرة المفهوم ميدان العام. والعام غير العامة. أخشى أن شخصاً مثل برهان غليون عنده العامة وليس العام. أولاً فكرة العام ليست فكرة الجمهور والكتلة الكبيرة عددياً. فكرة العام هي فكرة علاقة بين أشخاص مختلفين، لكل منهم خصوصيته، هذه العلاقة هي المشترك بينهم جميعاً. هذا المشترك بين الجميع هو العام. إذا لم نمسك بهذه المسألة لا يمكن أن نقيم دولة، بل سنبقى في مجال “الدولة” من دال يدول دولة، أي سنبقى في الزوال والعبور ونبقى عند فكرة السلطة والتسلط والاستبداد.
4 ـ سمو الدولة :
في العصر اليساري، في عصر عبد الناصر وبعد عبد الناصر، في الستينات والسبعينات انتشر في صفوف اليسار موقف معاد للدولة ولفكرة الدولة ولمفهوم الدولة. هذا الموقف كان سيئاً وخطيراً. وإذا لم نفند هذا الموقف وندحضه ونحذفه فهو خطير وخطير. هناك أناس يقولون إن الدولة أكلت المجتمع عندنا، وفي رأيي أن السلطة والتسلط والاستبداد هي التي أكلت المجتمع. ويجب أن نميز الدولة من المجتمع بفكرة أخرى مفادها أن الدولة الحقة والحقيقية والحقوقية هي التي لديها الاستعداد، بموجب كيانها كله، أن تدافع عن مواطن، عن فرد إزاء الجماعة، وإزاء المجتمع، وإلا فإن المجتمع ينحط إلى جمهور والشعب ينحط إلى جمهور، ومن هنا يجب أن نؤيد فكرة سمو الدولة.
عند مناقشة التاريخ العربي الإسلامي، في ندوة القومية العربية والإسلام، قال كثير من التقدميين والإسلاميين التقدميين المعتزين بعروبتهم وإسلامهم وعلمانيتهم وتقدميتهم: إن الخلافة بحسب الإسلام منصب دنيوي ويفاخرون بأنه منصب دنيوي وشعبي ليس له الصفة الدينية، وتجد من يقول على العكس: إن مصيبة تاريخنا العربي الإسلامي وما قبل الإسلامي، أن الدولة كانت ذات صفة دينية. كنت أقول: لكي أفهم ماذا تقصدون يجب أن أعرف ما تقصدون بالصفة الدينية، فعندما يقول صادق جلال العظم: “نقد الفكر الديني” فإنني أعترض على المقولة وأريد أن أعرف ماذا يقصد بالديني، وبأن الدولة ذات صفة دينية وأن الخلافة والسلطة ذات صفة دينية. أنا أقول: بمعنى ما توجد صفة دينية في الخلافة. فكل خليفة كان يعلن التزامه الإسلام ويعطي امتيازاً للمسلمين على غير المسلمين، ويلتزم، إذا استطاع، نشر الإسلام في العالم.. ولكن هذه ليست زاويتي، فزاويتي مختلفة ومخالفة. في نظري أن المصيبة الرئيسية في التاريخ العربي الإسلامي، بصدد الخلافة، هي أن الخلافة لم يكن لها عملياً وفعلياً أي نوع من القدسية، بدءاً من عثمان بن عفان ومقتله وصولاً إلى مصطفى كمال أتاتورك. الخليفة، خليفة رسول الله كان يقتل ويستبدل به خليفة آخر، ثم يقتل وربما يمثل به ولا يعدم الفاعلون أو المتآمرون أن يجدوا شيخاً يفتي لهم بجواز قتله. منصب الخليفة لم يكن له عملياً أي نوع من القدسية ولا أي سمو ولا أي حرمة. في تاريخ فرنسا لم يكن الأمر كذلك على الأقل منذ القرن الثاني عشر إلى اليوم. الدولة والرئاسة لها درجة من القدسية والسمو، من المؤكد أن رئيس الدولة فوق المواطنين وفوق المصالح الخاصة، الدولة فوقي وفوق الجميع وكذلك القانون، هناك ارتباط بين القانون والدولة. ميتران فوقي ما دام رئيساً للجمهورية ـ هكذا يقول الفرنسي ـ ولكنه لا يعود كذلك عندما يترك الرئاسة.
هكذا يمكن تمييز المقولات الدينية دنيوياً وتاريخياً، حتى على صعيد العلوم، وقد تحدثنا عن مقولة الكامل ومقولة المتعالي ومقولة المطلق والأزلي التي هي مقولات دينية وصارت مقولات علمية وفلسفية على جسر اللاهوت: الصفر المطلق، العدد المتعالي ب= 22/7.. وهكذا دواليك. ليس صحيحاً أن أوروبا طلقت المطلق لصالح النسبي أو أن أوروبا تركت المطلق لمن يشاء، بالعكس أوروبا استطاعت أن تثمر المطلق، أن توظفه في الدنيا، في العالم، ومن أجل ارتقائية العالم والوجود الإنساني. هناك نوع من سير أبدي متابع ومساند سير صعودي وارتقائي. سمو الله والكائن الأعلى صار سمو القانون، القدسية الدينية انتقلت إلى الدولة. الملوك كانوا ينالون تقديساً من الأسقف أو البابا أو من كاهن صغير يمسحهم بالماء المقدس أو بالزيت ويصلي فوق رؤوسهم.
سألني الأخ عمر الحامدي مرة رأيي في الأستاذ حافظ الجمالي، ما هو رأيي في أفكاره، فقلت له: حافظ الجمالي صديقي، وقد كان دائماً يؤمن بأن الجوهر العربي عظيم، ولكن الواقع العربي فاسد، ويبدو أنه اكتشف أخيراً أن الجوهر فاسد والواقع فاسد. فسألني عمر الحامدي، وأنت ما رأيك؟ فقلت لـه: في رأيي الإشكالية كلها مغلوطة، لا يوجد جوهر عربي عظيم ولا جوهر عربي فاسد. إذا أردت أن أتكلم عن معدن أو عن الطينة أقول: إن جميع شعوب الأرض وجميع بني آدم من معدن واحد ومن طينة واحدة. وإن الفرق في اختلاف الحالات هو الفرق في التركيبات. لا جوهرنا عظيم ولا واقعنا فاسد. لنأخذ الأمور بهدوء. فعندما تؤمن بأن الجوهر عظيم والواقع فاسد سيصبح عملك كله ونَفَسك وسيكولوجيتك وروحيتك مقاتلة ومتشنجة لكي تجعل الواقع مطابقاً للجوهر، وهذه مشكلة لأنك تريد أن تجوهر الواقع. وهذا شكل خاص من مسألة الوحدة والانفصال. الأمة العربية هي الجوهر، الأمة العربية الواحدة هي الجوهر ومعركتنا الوحدوية، وليس عملنا الوحدوي، هي تحويل واقع الانفصال الفاسد إلى جوهر، أي تحويل الانفصال إلى وحدة. لقد مال تفكيرنا إلى عسكرة السياسة وعسكرة الحياة السياسية. هذا الميل موجود، سواء أكان مصدره تاريخنا السياسي والحضاري، أو الماركسية الستالينية والحركة الشيوعية العالمية، التي هي أكبر حركة في تاريخ البشرية وأعظم حركة وفيها أعظم الدروس والعبر والأخطاء. فليس عندنا اليوم سياسة بقدر ما عندنا من المصطلحات العسكرية. حتى كلمة صراع حولناها إلى نضال إذ فيها بداية عسكرية.
كثيرون لا يعترفون مثلاً أن الانتفاضة الفلسطينية، انتفاضة الحجارة برهنت على خطأ الأيديولوجية (الفداوية) الفدائية الحربية العسكرية. هذا الشكل من النضال أقرب إلى النضال التقليدي لشعوب أوروبا. الناس يتظاهرون ويقاومون السلطة بالمظاهرات والإضرابات. لقد نسينا المظاهرات والإضرابات وبتنا لا نعرف إلا الرصاص حتى عندما يصفون الانتفاضة يقولون سلاحها الحجارة، كأنها شكل من أشكال الكفاح المسلح، فأقنوم الكفاح المسلح ما زال ثاوياً في الوعي، وبات النضال مرتبطاً بالعنف، هذا من نتائج عسكرة السياسة التي جاءتنا من الستالينية ومن تاريخنا السياسي القديم أيضاً. السياسة تظهر كأنها حرب داخلية، وحرب في القصر، انقلاب، انقلاب في القصر وحرب في المدينة.. هذا كله يجعلنا دون مستوى السياسة. هناك دوماً مرحلة حرب ومرحلة سياسية نحن ما زلنا في مرحلة الحرب لم نفتح الباب إلى عالم السياسة وقفنا على عتبة السياسة مدة طويلة نحو ألف سنة وربما لا نريد أن ندخل إلى السياسة ونردد عبارة كلاوزفينس “الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى”، من دون وعي أن الحرب جزء من السياسة، في هذه الحال وليس الكل، الحرب فرع السياسة، السياسة أساس، الحرب محدودة، السياسة دائمة. بهذا الوعي كأننا لا نزال في ما قبل الحضارة. آن الأوان لنغير، ففي الوقت الذي نطالب فيه بدولة الحق والقانون فإننا نطالب قبل كل شيء بأن نرد الاعتبار لمفهوم الدولة، وأن ننشئ هذا المفهوم ونقيمه لأول مرة في تاريخنا ربما. وربما عصر النهضة عندنا قصّر في هذا الموضوع. أما اليوم فيجب أن نعمق هذا الموضوع. يجب أن نكون مع الدولة أولاً ومع مفهوم الدولة ثانياً ومع دولة الحق والقانون ثالثاً. هناك دولة يعني هناك قانون ومؤسسات وحقوق.
القانون يوضع بلغة النواهي وليس بلغة الأوامر الإيجابية: القانون يقول لك: لا تقتل لا تزن ولا تشهد زوراً. أو يقول: ممنوع أن تفعل كذا وكذا وما ليس ممنوعاً فهو مباح. كل ما لا يمنعه القانون مباح. إنه يضع الحدود بلغة النهي ويحدد الممنوعات والمحرمات والمخالفات. وبالمقابل يحدد القانون واجبات الدولة بلغة الأمر الإيجابي، بلغة الإيجاب وليس بلغة السلب والممنوع. إنه يحدد مهمات الدولة بكذا وكذا وما ليس محدداً فليس للدولة شأن فيه وليس لها الحق أن تتدخل فيه. القانون يحدد للدولة عامة وللسلطة التنفيذية خاصة ما يحق لها أن تفعله، وكل ما لم يحدد لها لا يحق لها أن تفعله وهو ممنوع عليها. ولذلك يقال: القانون الإنساني والديمقراطي والحضاري والمدني يحمي المواطن من الدولة بصفتها سلطة، وإذا لم تكن للدولة سلطة فليست دولة. ليس كل سلطة دولة ولكن الدولة سلطة حتماً، أنا لي سلطة على أولادي ولكني لست دولة أما الدولة فهي سلطة. أهم ما في منطق البشر ربما الجملة الإسمية، كيان جملة المبتدأ والخبر في جميع اللغات (في الفرنسية والانكليزية والألمانية.. يضعون فعل الكينونة أو فعل الكون، نحن في لغتنا لا نحتاج إلى ذلك) فلنتكلم بلغتنا ومفرداتنا. قلت: لعل أهم قضية في المنطق هي فلسفة المنطق مع الإنسان والعمل الإنساني والتفكير الإنساني هي مسألة كيان الجملة الإسمية: الوردة حمراء، الطقس بارد، فيثاغورث فيلسوف، أنا عربي. يجب أن نلاحظ مباشرة أن الخبر ليس مستنفذاً في المبتدأ. المبتدأ والخبر لا يستنفذ أي منهما الآخر الذي هو آخره، ومن ثم، في علم المحاكمة الشكلية الحدية القطعية في علم الثلاثية الأرسطوطيلية: إذا قلت: الإنسان فان سقراط إنسان إذن سقراط فان، فإن الأطروحة الأولى استغرقت المبتدأ في الخبر، وكذلك الأطروحة الثانية، لكي أصل إلى هدفي وإلى النتيجة والخاتمة مع الإغلاق. هذه المحاكمة موجهة وهادفة وتوصلني إلى النتيجة. وهذا العلم يسمى علم المحاكمة الشكلية. ولكن للحقيقة وجهاً آخر أيضاً عندما نعود إلى مسألة الفكر مع الواقع والمضامين. فعندما أقول سقراط إنسان. (نقطة) أكون قد وضعت نقطة لأستأنف، وضمرت أن الإنسان ليس فانياً فقط ولكنه يترك أثراً خلفه أيضاً. وبحسب الدين فإن النفس غير فانية.. وهكذا دواليك. وهكذا الوردة حمراء، نعم لكن الحمراء لا تستنفذ فكرة الوردة، هذا القميص أحمر وغلاف لاروس أحمر.. المنطق بالمعنى الكبير هو علم علاقات الدنيا المفتوح، علم عقالة الكون، إذن عندما قلت إن الدولة سلطة، فإن السلطة لم تستنفذ الدولة. الدولة ليست سلطة فقط، بل هي قانون وحقوق ومؤسسات. والدولة هي أيضاً المجتمع مع الفرق مثلما نقول آ هي ب مع الفرق بين آ وب. آ هي ب وليست ب. هذا هو المنطق عندما يكون ديالكتيكياً سواء عند هيغل أم عند أرسطو وأفلاطون. إن هذا هو الأساس الميتافيزيقي للمنطق الذي يجب أن نستوعبه. يجب أن نعطي المنطق الشكلي حقه ونعرف أنه المنطق الشكلي.
لو أن بالإمكان أن يقوم عندنا اليوم شيء كالناصرية، ناصرية جديدة، ينبغي أن نؤكد أهمية إعادة الاعتبار للعصر السابق للناصرية لمتابعة مسائل النهضة ومقولاتها، وأن نؤكد مبدأ الحق والقانون والحرية وليس فقط مبدأ التحرر السياسي، وأن نمسك أكثر فأكثر بفكرة الديمقراطية. وأن نهتم بفكرة التربية وأن نهتم بالتعليم وبالجامعات أكثر فأكثر. عبد الناصر طور جامعة الأزهر ـ هذا شيء مهم ـ لم أدرس هذا الملف المهم ولكني أعرف أنهم أنشؤوا كليات جديدة في الهندسة. من المهم والضروري أن يدرس في الأزهر تاريخ الأديان وأنثروبولوجيا الدين الذي يمكن أن نقول عنه إنه علم فويرباخ. الآن علم فويرباخ علم عظيم يمكن أن يقال عن فويرباخ إنه ملحد، ولكني على ثقة أن فويرباخ يدرس في كليات اللاهوت المسيحي. فويرباخ ربما أكبر عَلَم في الأنثروبولوجيا الدينية مثل أول وأكبر عَلَم في السوسيولوجيا الدينية أو علم الاجتماع الديني، أعني ابن خلدون. علم الاجتماع الديني يعني الدين مع المجتمع وفي المجتمع. الدين عند ابن خلدون منزل من الله، على الأقل الإسلام عنده منزل من الله، ولكن في الدنيا، منزل على البشر. والإسلام وغيره يكون دولة ويكون علاقات الناس ويصبح بين أيدي الناس يستفيدون منه وينتفعون به بالطريقة التي يرونها بحسب حاجاتهم، وبحسب الضرورات بخطئهم وصوابهم، بعجزهم وبجرهم. هذه مسألة مهمة في سوسيولوجيا الدين، علم الاجتماع الذي ينظر إلى الدين بصفته عاملاً في الدنيا، وعاملاً في المجتمع، مثل الجغرافيا مثل البيئة الجغرافية مثل المناخ ومثل تحصيل العيش أو النحلة والمعاش، مثل أدوات الإنتاج. في الأنثروبولوجيا الدينية لم يعد الدين مع المجتمع، بل أصبح الدين مع الإنسان. إن الإنسان بحاجاته وبخوفه من الموت واختراع فكرة الإلوهة، ثم فكرة إله واحد بالارتباط مع الإنسان. موقف فويرباخ هذا لا ينحل في الإلحاد أو الإيمان فحين يفسر فويرباخ كيف وصل الإنسان إلى فكرة الإله، فإن هذا لا يحسم مسألة وجود الله أو عدم وجوده، بل إنه يؤكد مركزية الإنسان واتخاذه منطلقاً لفهم النتاجات الإنسانية.
في ضوء ذلك اقترح أن يدخل علم اللاهوت إلى جامعاتنا ولا سيما إلى الأزهر، وكليات الشريعة، يجب إنشاء علم لاهوت إسلامي. فالمسلمون كانوا سباقين إلى إنشاء هذا العلم، ثم اختنق علم الإلهيات الإسلامي ولكنه ازدهر في الغرب. لا بد من علم لاهوت عقلي، تيولوجيا، والمفروض أن تكون هذه الوظيفة من أولى وظائف الأزهر. الفقه غير علم اللاهوت وغير علم الكلام، لعل أقرب شيء إلى علم اللاهوت في التاريخ العربي الإسلامي هو علم الكلام، وخاصة عند المعتزلة. إعادة إنتاج علم الكلام قد تكون بداية موفقة وجيدة لعلم اللاهوت الإسلامي. وهذا يفترض علم كلام بمعنى نقد الكلمات، غير علم النحو والصرف، ويفترض تحصيلاً فلسفياً حقيقياً. إذا قام الأزهر بهذه المهمة في المستقبل يكون قد وضع فعلاً حجر الأساس لبناء مهم جداً، وحاسم في مصير الأمة كلها. فلا يجوز أن يعيش العالم الإسلامي بدون علم لاهوت.
5 ـ الاستلاب الناجز هو نزع ملكية ناجزة:
ـ نقد عبد الناصر والناصرية، هذا النقد الذي وصفته بأنه راهن، وهو كذلك بالفعل، قادنا بالضرورة المنطقية، على ما أرى، إلى مسألة الديمقراطية. وهذه أي الديمقراطية لا تستنفذ في الحريات السياسية وفي كون الدولة معبرة عن الكلية الاجتماعية، فتراتبية المجتمع المدني وتعارضاته الملازمة ترتسم في السلطة التشريعية، مما يعني أن تعارض الدولة والمجتمع لا يزال قائماً، بل تحول إلى تعارض داخل الدولة نفسها، ومن ثم، فإن مشكلة الحرية لا تزال مطروحة ولم تحل. وأعتقد أن مشكلة الحرية تكمن في صلب المسألة الديمقراطية. فإذا كان لكفاح البشرية في تاريخها الطويل من معنى، فإن هذا المعنى هو النزوع إلى الحرية بمفهومها العام، ويمكنني القول إن الديمقراطية هي الصيغة التي تتخذها الحرية وعياً وممارسة في المجتمع والدولة، وأن لهذه الحرية سندين أحدهما أنطولوجي ينطلق من الفرد بصفته الإنسانية أولاً وبصفته الإنسان معيناً ثانياً، ومن ثم بصفاته الاجتماعية والسياسية والثقافية ثالثاً، وذلك تحت مقولة الفرق والاختلاف والمغايرة، وتحت مقولة الهوية في الوقت ذاته. والسند الثاني اجتماعي وأعني بالسند الاجتماعي مسألة الملكية وفكرة التملك، فالحرية في أحد أهم مضامينها ربما هي التملك بالمعنى العام للكلمة وبالمعنى الخاص أيضاً أي بمعنى الملكية، أي تملك العالم وامتلاك الشيء في الوقت ذاته. وقد غطيت في مداخلاتك الجانب الوجودي، ولكن ماذا عن الجانب الآخر، وفي اعتقادي أن الاستبداد في أحد وجوهه هو نزع الملكية والحيلولة دون تملك الإنسان ذاته وعالمه، فمسألة الحرية هي مسألة تاريخية وهي مسألة تاريخ البشر.
# هذا الذي تطرحه مهم جداً ومصيب جداً، وهذا في رأيي فتح، ولو أنه عند هيغل والماركسية غير الذي عند ماركس. أجل الإنسان بلا أي نوع من ملكية هو عبد أو دون العبد، وغير قادر على أي شيء فهو مملوك. الإنسان إما أن يكون مالكاً أو مملوكاً. وهذا الملف الذي تفتحه سيشمل فوراً الاتحاد السوفييتي والعالم الاشتراكي والعرب والعالم.
ـ لذلك أقول إن الحرية مشروع تاريخي ومفهوم تاريخي، وفتح هذا الملف يذهب إلى نفي التصور اليوتوبي أو الطوباوي عن الحرية وإلى عدم اختزالها شعاراً سياسياً.
# لنقل هنا نفي التصور اليوتوبي والفوضوي والفوري وبالتالي الفوراني والثوراني والشعاراتي. وأعتقد أنني في مقالتي عن مفهوم التقدم، المنشور في مجلة الوحدة قبل خمس سنوات تكلمت عن هذا الموضوع، يقول هيغل: التاريخ هو مسيرة نحو الحرية. وأنا أضيف التاريخ إذن هو تاريخ العبودية والشرط العبدي وتقليص العبودية ونمو الحرية، الحرية مآل، وهنا نؤكد التدرج ضد الثورانية. ونقول لا عقل بدون تدرج. نؤكد أن العقل لا يستنفد في مقولة التدرج، ولكنك إذا ألغيت مقولة التدرج وفكرة التدرج تكون قد ألغيت فكرة العقل أو حذفتها. لقد قلت لبعض المنتدين في تونس إن بعض الناس يتصورون الثورة اشتعال عود ثقاب. بحسب العلم، اشتعال عود الثقاب مسار وسيرورة وعملية ومنطق طويل. يمكن أن تشعل عود الثقاب وتؤخذ بالنار والنور، أما فهم هذه الظاهرة وتفسيرها ومعرفة آلية حدوثها فيحيل على فكرة المنطق فكرة العملي/ السيروري.
إن مسألة العبودية والحرية، مسألة المملوكية والحرية قائمة على إحداثيتين: هناك علاقة الإنسان بالإنسان بما فيها الطبقات واستغلال الإنسان للإنسان وحكم سلطة وسلطان وفقيه..إلخ. وهناك علاقة الإنسان بالطبيعة، إذا صح التعبير، ومسألة الإنتاج. إذا كنتم تظنون أن الإنسان الأول البدائي، المشاعي، كان حراً فاسمحوا لي أن أقول: الإنسان الأول كان دون العبد، أي أنه لم يكن ملكاً، بل مملوكاً، كان مملوكاً للفقر وموضوعاً للافتراس وتابعاً تبعية مطلقة لشروط البيئة الطبيعية المباشرة. كان يجني ثمار الطبيعة وعندما تنفد هذه الثمار يترك منطقته وينتقل إلى غيرها. الرفيق ستالين علمنا أن المشاعية البدائية انقرضت منذ خمسة آلاف سنة، هذا غير صحيح لأنك تجد المشاعية في ألمانيا في أوائل القرن التاسع عشر. ودراسة كارل ماركس الشاب عن سرقة الحطب تتكلم عن البقية المشاعية، إذ يحق لأي شخص أن يأخذ من أخشاب الغابة وأن يجني العسل منها. وإن التطور الرأسمالي ونمو الملكية الخاصة الحارمة منع الإنسان من ذلك، أصبحت الغابة مملوكة. بل إن بقايا ما من المشاعية موجودة في بلادنا وليس من الضروري أن نزيل هذه البقايا. كما علمنا ستالين أن المشاعية نظام ملكية جماعية. الصحيح إنه نظام لا ملكية، الفرد غير مالك والجماعة أيضاً غير مالكة. الفرد والجماعة مملوكين للطبيعة والطبيعة معادية لم تتأنسن بعد رمزها النمر والقط البري والإنسان الآخر عدو والجماعة الأخرى عدوة. ستالين اعترف بأنه كان على القبيلة أن تقاتل جيرانها بصفتهم أعداءها.
ولا بد أن نضيف إلى هذا الملف أن من العيوب الكبيرة لنظرية ستالين وللشيوعية العالمية الستالينية أنها ارتكزت على شيء قديم قد زُيِّف، على أرسطو مزيف. معروف قول أرسطو أن الإنسان كائن اجتماعي. بعض الناس يتصورون أن الاجتماعية أصل عند الإنسان. أنا أقول: لا، الافتراسية هي الأصل والاجتماعية اكتساب. وقد كتبت في مقدمة كتاب “العبودية” لموريس لانجليه، وهي مقدمة طويلة، أن هناك فرقاً بين مجتمع الإنسان ومجتمع الحيوان. يمكن أن نقول إن بعض الحيوانات اجتماعية أو تعيش جماعات. الفرق بين مجتمع الإنسان ومجتمع الحيوان أن مجتمع الإنسان ابن التاريخ بخلاف مجتمع الحيوان الذي هو ابن الطبيعة. مجتمع الإنسان ابن التاريخ وليس ابن الطبيعة وينبغي ألا نتصور أن الاجتماعية أصلية وبديهية عند الإنسان. وينبغي ألا نحل هذا الموضوع لفظياً بالتمييز اللفظي بين مجتمع وجماعة.
في حديث مع ياسين الحافظ، قال ياسين لقد أعدت الاعتبار في وعيي للرأسمالية. فقلت لـه أنت متأخر في هذا الموضوع. أنا أعدت الاعتبار للإقطاعية، وظهر موقفي هذا في ندوة القومية والإسلام، فقد رأيت في الاقطاع الأوروبي ثورة صعدت بها أوروبا من البربرية إلى الاقطاعية، ومن العجمة والخواء إلى شكل وإعراب من أرض وضباب ومستنقعات وبرد وغابات وحيوانات مفترسة وقبائل سائبة ومتشاحنة إلى بلاد رعي وزرع وقرى ومدن، إن هذه أكبر ثورة، ثورة عالم، ثورة نشوء عالم متأخر أي جاء إلى الحضارة متأخراً وهذه ميزته، في حين نتباهى بالقدم والعراقة والأصل (لا تقل أصلي وفصلي أبداً..) هذا الأقدم جعلنا الأكثر تأخراً وخراباً. نعم نحن أقدم، نحن المتقدمون، لسوء الحظ، وهؤلاء هم المتأخرون، وهؤلاء هم أوروبا آخر قارة جاءت إلى الوجود قارةً بشرية اجتماعية، ولعل الوجود الأوروبي، في نظر الأوروبي، ليس بديهياً كما هو وجودنا في نظرنا: سوريا موجودة منذ ستة آلاف سنة ومصر كذلك، نحن نتصور أن الوجود والعيش والاقتصاد والحضارة هذا كله محرز تحت اسم العراقة. الفرنسي أو الألماني أو السويدي كان يمكن أن يقول لك في القرن الثاني عشر أو في القرن العاشر: أنظر هذه القرية لم تكن موجودة منذ مئة سنة أو هذه المدينة كانت أرضها مستنقعاً.
من الضروري أن نربط ما تهتم به وما تقوله عن الحرية بفكرة الإرادة ونرد لها الاعتبار. ونرجع إلى مقولة الخلق. التاريخ هو تاريخ الأنوجاد، أي مجيء الأشياء إلى الوجود، تاريخ النتوج: نتوج فرنسا، نتوج ألمانيا نتوج الدنمرك والسويد.. كل هذه وغيرها نتجت وهي نتاج لعمل سابق طويل وطويل ولعمل في الحاضر لذلك هم أحياء. أنا موجود يعني أنني جئت إلى الوجود، وأجيء إلى الوجود كل يوم لأنني أستهلك الخبز واللحم وأتلقى أنواعاً من العناية وأستهلك منتوجات متنوعة. وهنا نقطة ضعف نظرية سمير أمين عن الرأسمالية الطرفية ونمط الإنتاج الخراجي. أي إن أوروبا هي في موقع الطرف أو الهامش في نمط الإنتاج الخراجي والاقتصاد الخراجي، فقد نسي مقولة النتوج ومسألة الإنتاج. الأوروبي منذ ألف سنة ينتج عيشه ككل إنسان على الكرة الأرضية ولكنه بإنتاجه عيشه قد أنتج من دون إرادته عالماً ووطناً وأمة ومدناً وقرى. أجدادنا أنتجوا ذلك منذ ستة آلاف سنة، ولهذا ربما نميل إلى عدم فهم فكرة الخلق المستمر. النتوج عملية مستمرة. والإنتاج لا يعني فقط أن المجتمع ينتج سلعاً، ولكنه أيضاً ينتج نفسه. من دون الاقتصاد لا يوجد مجتمع.
تحدثت عن إحداثيتين للحرية، لذلك لا يجب أن نكتفي بإحداثية الحرية والعدالة ونربطهما معاً أو ندمجهما معاً. ونقول إن التاريخ كله صراع بين الإنسان والإنسان أو كما يقول ستالين: علاقات الإنتاج وصراع الطبقات، فهذا غلط، وبهذا نقيم الثوروية والكدحانية والجماهيرية. في تاريخ الإنتاج هناك علاقة الإنسان بالإنسان وعلاقة الإنسان بالطبيعة والبيئة، والحرية واقفة على العلاقتين. ولعلي هنا أثمن أطروحة عبد الناصر بأن الاشتراكية هي مجتمع الكفاية والعدل وفي ضوئها يمكن الحكم على التجربة السوفييتية التي لم تحقق شعار لكل إنسان بحسب طاقاته. طاقات كل إنسان، طاقات الأفراد وملايين الأفراد ثلاثة أرباعها معطلة، وإلا فليس هناك ما يمنعهم من بلوغ مستوى بلجيكا أو الولايات المتحدة، لم يحققوا شعار لكل بحسب عمله، فهناك مقابل كل عشرة عمال منتجين، أو يعملون بنشاط في عمل منتج عشرة آخرون لا يعملون أو لا يعملون في عمل منتج هؤلاء وهؤلاء يتقاضون الأجر نفسه. وعندما يتساوى الكسول والنشيط فلا بد أن تخسر الشركة أو المؤسسة. أما عندما تعطى الحوافز والمكافآت التشجيعية للنشطاء والمنتجين ويحاسب الكسالى والمهملون والمقصرون فإن الشركة تكسب والفقراء يكسبون والمجتمع كله يكسب. إن إلغاء التفاوت على هذا النحو حماقة وحماقة مطلقة. يمكن في مستقبل بعيد إلغاء التفاوت الاجتماعي ولكن لهذا الإلغاء شروطه وحدوده. لم أكن رافضاً من العتبة قول عبد الناصر عن إزالة الفوارق الطبقية أو تذويبها فإذا كان المقصود تخفيف هذه الفوارق وتقليصها فهذه فكرة صحيحة وهي جزء من المرحلية. المجتمع البشري سيكون فيه مساواة ويكون فيه تفاوت. أما اشتراكية الدولة أو شيوعية الدولة فهي كما وصفها ماركس مساواة الناس في العبودية. المساواة السوادية هي الاستبداد وأساس العاهل المستبد وأساس الاستبداد الشرقي.
هناك عبارتان لأكسي دي توكفيل وهو أعظم من تحدث عن مسألة الحرية في عصر الديمقراطية وعصر الجماهير. العصر الليبرالي يعقبه العصر الديمقراطي ثم العصر الجماهيري عصر العوام والعمال والفلاحين. دي توكفيل الذي عاش قبل ماركس وعاصره جزئياً هو ليبرالي وسليل نبلاء تحول إلى ديمقراطي وأعلن أن الديمقراطية قادمة لا محالة، وقال أيضاً: الديمقراطية ستحمل معها سلبيات، أي إن الجمهور والجماهير تحمل سوادية واستبدادية. العصر الجديد ليس بالضرورة العصر الأرقى. دي توكفيل درس الحالة الأمريكية “الديمقراطية في أمريكا” ولاحظ أهمية دور الجمعيات والبلديات وتعدد الأديان والجماعات ورأى فيها جميعاً حواجز ضد السوادية والاستبداد والجماهيرية. وهناك جملة جميلة لدي توكفيل جعلها ليوناردو شابيرو مدخلاً لكتابه تاريخ الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي من لينين إلى ستالين، يقول دي توكفيل: من يبحث في الحرية عن شيء آخر غير الحرية ذاتها فمصيره إلى العبودية، وكأن الله كتب عليه العبودية. فإذا قلت نريد الحرية من أجل خبز الفقير ومن أجل العدالة أقول لك: أنت تريد خبز الفقير وربما العدالة ولكنك لا تريد الحرية ومصيرك محتوم إلى العبودية. ويقول دي توكفيل أيضاً ما معناه: من يريد الحرية فوراً إنما يبني العبودية. من يريد الحرية فوراً فإنه سيقتل الجميع في سبيل الحرية التي يريد. من يريد الحرية فوراً إنما يبني الاستبداد.
ربما كانت فكرة العدالة أقرب إلى أذهاننا من فكرة الحرية، هذا في تاريخنا وفي حاضرنا. والفكرة يمكن أن تصبح مثلاً أعلى وهمياً بدل أن تكون هدفاً فعلياً. يجب أن ندرك أن العدالة هي تركيب الحرية والمساواة. وضمانتها الديمقراطية، وأعتقد أننا بدأنا ندرك أهمية الديمقراطية، هذا الإدراك ضروري ومهم بشرط ألا نحذف الليبرالية، فإذا حذفنا الليبرالية فإننا سنعيد إنتاج الاستبداد ونحن ننادي بالديمقراطية. والليبرالية لا تستنفد في النظام الرأسمالي الذي يجب أن نصر على نقده ونحافظ على نَفَسنا الاشتراكي مع نقد وعينا ونقد نَفَسنا ذاته، بل إن الليبرالية هي التي بنت وتبني حقوق الإنسان.
جاد الكريم الجباعي
مفكر سوري، مجاز في علوم اللغة العربية وآدابها من جامعة دمشق، مهتم بالفلسفة المدنية وقضايا الديمقراطية والمجتمع المدني والدولة الوطنية وحقوق الإنسان والمواطن، له عشرات المقالات والأبحاث والدراسات والكتب.
——————–
يتبع.. الحلقة الثامنة والأخيرة: “ ملحق “ وهو افتتاحيةً العدد /5/ من مجلة الواقع
التعليقات مغلقة.