عبدالله السناوي *
ما هو غامض وملتبس أكثر مما هو صريح وظاهر في صور القمة الخليجية، التي انعقدت في مدينة «العلا» السعودية.
تكاد تلخص صورة واحدة الجو العام، الذى ساد وقائع المؤتمر، من دون أن تعكس تعقيدات وحسابات وظلال ما يجرى في الكواليس.
تجاوزت الحفاوة التي استقبل بها أمير دولة قطر «تميم بن حمد آل ثاني» أية أعراف وتقاليد معتادة، أو غير معتادة، في استقبال رؤساء الدول حين وقف ولي العهد السعودي «محمد بن سلمان» عند سلم الطائرة مرحبا بصوت عال دوى في المكان: «نورت المملكة»، قبل أن يتعانقا كصديقين حميمين باعدت بينهما الأيام.
بدت الصورة بأجوائها ورسائلها أقرب إلى إعلان مبكر عن طي صفحة الخلافات بينهما دون أن يكون مؤكدا أن الأطراف الأخرى في الأزمة تتبنى الموقف نفسه.
باستثناء الترحيب بفكرة المصالحة نفسها تبدت تساؤلات عن حدود الاتفاق والاختلاف بين الدول الأربع: «السعودية» و«الإمارات» و«البحرين» و«مصر»، التي تشاركت في ما كان يطلق عليه «التحالف الرباعي» في الأزمة مع «قطر»، التي امتدت لأكثر من ثلاث سنوات.
كان مستوى تمثيل دول التحالف تعبيرا عن أزمة مكتومة.
شاركت مصر بوزير خارجيتها «سامح شكري»، ذهب إلى «العلا»، وقع بيانها، ثم غادر دون أن يحضر أعمال القمة.
وشاركت الإمارات بنائب رئيس دولتها لا رجلها القوى «محمد بن زايد»، الحليف الرئيسي للسعودية في ملفات إقليمية عديدة، أخطرها الحرب في اليمن.
كان ذلك نوعا من الاعتراض على ما جرى في «العلا»، وانفراد السعودية بالقرار ووضع الحلفاء الآخرين أمام الأمر الواقع.
وشاركت البحرين بولي عهدها وغاب الملك «حمد بن عيسى آل خليفة»، الذى اعتاد احتذاء الموقف السعودي بكل الأزمات والمواقف.
كان ذلك لغزاً مستجداً.
تبدت في تلك الشروخ تساؤلات يصعب تجاهلها بالإنكار حول مستقبل المصالحة بالطريقة التي جرت بها.
برغم الترحيب الشعبي في دول الخليج بالتوجه إلى المصالحة، فإنها لا تقوم على أسس صلبة ومرجعيات موثوقة.
ما حدود المصالحة التي جرت، التزاماتها وآلياتها؟
كان ذلك سؤالا ضاغطا على الأعصاب المشدودة فى الإقليم وحسابات القوى المتنازعة.
وفق ما أعلن رسميا لتفسير غياب المرجعيات والآليات فإن الإرادة السياسية سوف تتكفل بتجاوز الملفات الشائكة.
لم تكن هناك إجابة أخرى، كأن كل شيء معلق على النوايا والعبارات الإنشائية، التي أسرفت في إسباغ أوصاف «التاريخية» على القمة.
قيل إنها «قمة المصارحة والمصالحة»، دون أن تكون هناك مراجعات جرت للأخطاء المتبادلة، أو مصالحات حدثت وفق التزامات محددة.
من حيث المبدأ العام فإن فكرة المصالحة إيجابية ولا يصح لعاقل واحد أن يرفضها شرط أن تقف على أرض صلبة.
أعلن وزير الخارجية السعودي «فيصل بن فرحان» أن الأزمة طويت والعلاقات الكاملة سوف تستأنف.
هكذا دون حيثيات تشرح وتوضح الخطوات التالية، ولا كيف تحفظ المصالحة قدرتها على المضي قدما.
بدا ممكنا للطرفين الرئيسيين فى القمة، «السعودية» و«قطر»، أن يحتفيا بنجاح المصالحة، دون أدنى تطرق إلى قدر وطبيعة التفاهمات، وما إذا كانت قطر قد التزمت بكل أو ببعض الاشتراطات الثلاثة عشر التي أعلنت عند مقاطعتها، أم أنها قد سحبت نهائيا من على طاولات التفاوض.
ما الذى حدث بالضبط؟ وكيف تمت المصالحة؟
باليقين بذلت الكويت جهدا دبلوماسيا مضنيا في محاولة تطويق الأزمة الخليجية، لكنها لم تكن الطرف الذى قرر التوقيت وحدد المخرجات.
كان حضور «جاريد كوشنير» صهر الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته «دونالد ترامب» أعمال القمة، كراعٍ للمصالحة مثيراً للتساؤلات، فـ«ترامب» نفسه سوف يخرج من البيت الأبيض بعد أقل من أسبوعين، مهما اشتط في التشكيك بنتائج الانتخابات الأمريكية.
لماذا الآن؟
إحدى الإجابات شبه المتماسكة: إحكام الحصار على إيران بتخفيض العلاقات القطرية معها إلى أدنى درجة ممكنة قبل دخول الرئيس المنتخب «جو بايدن» البيت الأبيض يوم (20) يناير/كانون الثاني المقبل.
بالتكوين الفكري والأيديولوجي، فإن «كوشنير» صهيوني متعصب لعب دورا كبيرا بجوار «ترامب» في صياغة استراتيجيته لإنهاء القضية الفلسطينية بالتوسع الاستيطاني في ما يعرف بـ«صفقة القرن»، أو «سلام القوة».
هناك خشية إسرائيلية من أن يعيد «بايدن» إحياء الاتفاق النووي، الذى انسحبت منه الولايات المتحدة كمدخل لترميم علاقاته مع الحلفاء الأوروبيين، التي تضررت بقسوة فى ولاية «ترامب».
باعتقاد «بايدن» فإن الاتفاق النووي «يفرمل» أي مشروع نووي إيراني مفترض تخشاه إسرائيل وتحرض ضده.
بقوة الحقائق الماثلة فإن إسرائيل تفضل العمل العسكري، لكنها غير مستعدة أن تتحمل وحدها أكلاف المواجهة مع إيران، والولايات المتحدة غير مستعدة للدخول فى أية مغامرات عسكرية فى لحظة تسليم سلطة.
هكذا تتداخل فى الحسابات الإسرائيلية قضيتان على درجة عالية من الخطورة.
أولاهما ــ حصار إيران بالخنق إلى أقصى درجة يمكن الوصول إليها حتى تنهار من الداخل وفق السيناريو الذى اتبعه «ترامب».
وثانيهما ــ إقناع مزيد من الدول العربية بالمضي قدما في التطبيع، أو الانتقال بالعلاقات من السر إلى العلن، لمواجهة «العدو الإيراني» المشترك.
بالحسابات القطرية فإنها حازت اختراقا يعتد به في علاقاتها بمحيطها الخليجي، رفع الحصار عنها مقابل التنازل عن قضايا رفعتها على دول التحالف الرباعي، التي دأبت على وصفها بـ«دول الحصار والمقاطعة».
وبالحسابات السعودية فإنها اكتسبت نقاطا جديدة في تطلعها للعب أدوار أكبر في الإقليم، قد تساعدها في تخفيض أية ضغوط محتملة من إدارة «بايدن».
سيناريوهات ما قد يحدث في اليوم التالي أكثر تعقيدا مما هو ظاهر على السطح.
إيران حاضرة بقوة وتركيا تترقب النتائج لعلها تحصد انفراجا في علاقاتها بالخليج.
هناك الآن اختباران عاجلان لـ«إعلان العلا».
الأول، قدر الالتزام بالروح العامة التي انطوى عليها دون أن تكون هناك مرجعيات وآليات تلزم على الطريقة العربية المعتادة بـ«تبويس اللحى».
الثاني، الاختبار الإعلامي وسؤاله: إلى أي حد يمكن أن تؤسس المصالحة بالطريقة التي جرت بها، والحسابات التي حكمتها، لهدنة طويلة المدى، تستبعد التحرشات السياسية ولغة التحريض والتفلت اللفظي.
هذه مسألة تحوطها صدامات قوى ومصالح واستراتيجيات تجعل فكرة المصالحة في أفضل الأحوال أقرب إلى الهدنات الهشة.
* كاتب عربي من مصر
المصدر: الشروق
التعليقات مغلقة.