الحوار
مقدمة العمل والديمقراطية
غاية وطريق
والثورة العربية
مازالت ثورة وطنية ديمقراطية
حزب الاتحاد الاشتراكي العربي د. جمال الأتاسي
في سورية 1979
الحلقة السادسة: الثورة الوطنية الديمقراطية
إننا لن نقف عند البحث حول مصادر هذه التسمية ” بالثورة الوطنية الديمقراطية ” ولا في المسائل الأيديولوجية التي تطرح من حولها، بل إننا نأخذ بها ونتبناها من حيث أنها تطرح أمام حركة التحرر الوطني مهمات أساسية وأهدافاً، ومنهجاً في التقدم لتحقيقها، أي نطالب بتبني خط استراتيجي عام بعيد المدى تتداخل فيه المهمات وتتعدد المراحل، ونريد الوقوف بخاصة عند تحديد مضامينها الديمقراطية، وما تعنيه، لأنها هي التي تحدد طبيعة مسارها الاستراتيجي لبلوغ أهدافها.
والواقع أنه ما استحق تلك التسمية إلا تلك الجدية والمنتصرة من حركات التحرر الوطني، والتي نهضت بإرادة شعبية جماعية أو بعد حرب تحرير قاسية أو ثورة تحرر وتغيير، وانتقلت إلى طور بناء نظامها الوطني، كنظام سياسي واجتماعي في خط التقدم، وتوجهت نحو بناء دولة عصرية. كما وأن هذه التسمية ما أعطيت، أو ما أعطته لنفسها، إلا تلك التي أخذت طريقاً صريحاً معادياً للامبريالية ولميراث التخلف أيضاً، والتي قامت بالتقدم السياسي والاجتماعي. إنها كانت ثورة من حيث المبدأ بوجه عام، لأنها أحدثت تغييراً أساسياً وجذرياً في حياة شعبها وفي طبيعة نظامه السياسي كان له في واقع الأمر أبعاده الواسعة داخلياً وخارجياً، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. ولكن المعيار الحقيقي لهذه الثورة، كما هو بالنسبة لأي ثورة، إنما هو قدرتها على الاستمرار، وذلك مرهون بالقوى الاجتماعية والشعبية التي تظل تمسك بها، بالبرنامج الفعلي الذي تتبعه لإنجاز مهماتها والصيغة التي تضع نفسها بها على طريق التقدم وطريق المستقبل. فالهوية الوطنية الديمقراطية لثورة التحرير أو التغيير، إنما تتحدد بمقومات ومضامين تعطي مساراً استراتيجياً عاماً. وإذا كانت الهوية الوطنية في هذا المسار مطالبة بأن تتأكد دائماً في صيغ جديدة، حسب تقدم مراحل الثورة، بحيث لا تقف عند حدود إجلاء الاحتلال الأجنبي وإقامة حدود للوطن معترف بها دولياً وإسقاط نظام التابعية والعمالة وإقامة حكم وطني، بل إن مبدأ السيادة الوطنية لا بدّ وأن يتأكد بعد ذلك في طبيعة النظام الوطني ذاته من حيث تكوينه الاجتماعي والطبقي، والقوى الشعبية والمصالح الحقيقية التي يمثلها هذا التكوين. كذلك فإن الهوية الديمقراطية تتقدم بالمقابل كتعبير عن نهج سياسي واجتماعي عام وكتعبير عن مهمات أساسية متلاحقة يتقدم إنجازها على كل ما عداها من المهمات، إذ هي طريق الثورة وضمانتها، فلا يجوز أن تغفل عينها، عين قوى الثورة وجماهيرها لحظة عنها، وألا تضع نفسها على طريق المجازفات. هذا وإن التعثرات والانتكاسات التي مرت وتمر بها الكثير من تلك الثورات تقدم لنا الدليل بعد الدليل، على أن المسار الديمقراطي، وما يعنيه ذلك المسار من مناخ للحرية وللنهوض بوعي حركة الجماهير ومشاركتها، وإبقاءها دائماً في حالة التعبئة والتنبه، وبناء قدرتها على تكوين إدارة جماعية مراقبة وضاغطة تفرض استمرارية مسار تلك الدورة في خط التقدم، قد أصبح وهو الدعامة التي لا بديل عنها لضمان وطنية الثورة ذاتها وعدم انتكاسها ووقوعها من جديد في أطر الهيمنة الامبريالية، أو وقوعها تحت قبضة أنظمة استبدادية جديدة تمارس حكمها بتسلط الأقلية على الأكثرية أو بدكتاتورية الطبقة البيروقراطيو والاستغلالية الجديدة. إن الغفلة عن الديمقراطية أو إغفال تأكيد مسارها في كل خطوة، أياً كانت الخدعة أو التبريرات التي تقدم للتغطية باسم حرق المراحل وإعطاء منجزات أكبر أو بدعوى عدم نضج حركة الجماهير لممارسة ديمقراطية عامة، يفتح الباب للردة وللنظم الدكتاتورية وتحكم الأقلية، وإن هذه النظم وبالوسائل التي تستخدمها لتوسيع مصالح طبقتها ولبسط هيمنتها ونفوذها، وبالقوى التي تسخرها لخدمة مصالحها، تعود لتمارس أنماطاً من التحكم والتسلط على الشعب ما أشبهها بأساليب التحكم الأجنبي، بل ويمكن لها أن تنتهي إلى الاحتماء بالأجنبي أو تستعديه على شعبها إذا ما تحرك الشعب الوطني ضدها وضد حكمها. والشواهد أمامنا عديدة في أقطار من آسيا وأفريقيا.
وإذا كانت الديمقراطية وما تعنيه من تأكيد سيادة الشعب بمجموعه أو بغالبيته الكبرى، فوق كل سيادة، وبالحريات السياسية وحرية الفكر والمعتقد وبعلمنة الدولة والمجتمع وما يعنيه ذلك من مساواة عامة بين المواطنين على اختلاف فئاتهم وطوائفهم ومن مساواة أمام القانون، وغير ذلك من المهمات التي تصبح وهي ضمانة وطنية، فإنها وإذ هي الطريق إلى النهوض بوعي جماهير الشعب، وإخراجها من علاقات التأخر وانقساماتها الطائفية والعشائرية، وبلورة تشكلها الطبقي ووعيها الطبقي والسياسي والتقدم بوسائل وأطر تلاحمها الوطني وتنظيمها السياسي، فإنها تصبح وهي الضمانة الأساسية أيضاً لإنجاز جميع مهمات تلك الثورة، لا في بناء حريتها السياسية فحسب، بل وفي بناء وحدتها القومية وبناء صمودها وقوتها وكذلك في بناء حريتها الاجتماعية والتقدم بها على طريق ديمقراطية نحو الاشتراكية.
وإذا كان من أولى مهمات ” الثورة الوطنية الديمقراطية ” أيضاً بناء دولة حديثة وعصرية، وما يعنيه ذلك من تنهيج عام وتشريع حديث، ومن تنظيم القواعد الأساسية للإنتاج والتصنيع والتنمية وتوظيف طاقات الأمة كلها ومواردها الطبيعية، وتطوير الثقافة العامة والتعليم والإدارة، والإفادة من تجارب العالم المتقدم وخبراته ومن وسائل التكنولوجيا الحديثة، فإن ذلك يجتاج أيضاً لمناخ الديمقراطية وللرقابة الشعبية وللمشاركة الواسعة لقوى الشعب العاملة والتوجه به لمصلحتها وفي سبيل تقدمها، وإلا تحول التقدم وفي ظل دكتاتورية البورجوازيات الجديدة المتشكلة، (وهي بالأساس بورجوازيات طفيلية وغير منتجة أي غير مرتبطة بالقاعدة العامة للإنتاج وبالمصلحة الوطنية العامة) أو في ظل النفوذ الامبريالي المتسرب من جديد عبر تلك البورجوازيات وامتداد مصالحها وعلاقاتها، إلى صيغ زائفة وسطحية وإلى قشرة خارجية ومستعارة تبقي على التخلف والتابعية وتغذي أنماطاً جديدة من التسلط والاستغلال، وتنحط بالعلاقات الاجتماعية والإنتاجية بحيث تفتت كيان المجتمع وتبعثر طاقات الأمة وتقيم سداً بينها وبين التقدم الصحيح.
وإذا كان المسار الديمقراطي هو سبيل هذه الثورة في إنجاز مهماتها، فهو أيضاً السبيل للوقاية من تلك النكسات وللرد عليها واقتلاعها والتصدي للتغيير من جديد، وهذا يفترض بالضرورة أن تكون القوى السياسية والقيادات الثقافية (بمعناها العام كانتلجنتسيا) المتصدية لقيادة النضال في سبيل إنجاز مهمات تلك الثورة، مشبعة بتلك الروح الديمقراطية، فكراً وعملاً، وسائل وأهدافاً. وفي هذا الإطار يأتي دور الأحزاب الوطنية الديمقراطية ويأتي الدور السياسي أيضاً للقوى الطبقية والاجتماعية الصاعدة بتجمعاتها العمالية والفلاحية والطلابية والنسائية والمهنية، بل والعسكرية أيضاً.
* * *
يتبع.. الحلقة السابعة: الثورة العربية كثورة وطنية ديمقراطية
التعليقات مغلقة.