الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

يوم قرر صدام التخلص من عبد الناصر‏!‏

عادل حمودة *

كان “فتحي الديب” في بنغازي بأمر من جمال عبدالناصر في مهمة مكونة من ثلاث كلمات‏:‏ حماية الثورة الليبية‏..‏ ولم يكن الأمر شفهياً فقد وضعت وحدات عسكرية مصرية تحت تصرفه بالقرب من السلوم تتزاحم فيها المدرعات والطائرات وتبدو فيها كتائب المشاة والقوات الخاصة على هبة الاستعداد‏..‏ ولم تكن المهمة صعبة على رجل تعوّد على حماية الثورات وحركات التحرر العربية منذ كلفه جمال عبدالناصر بذلك بعد مرور أقل من شهرين على نجاح ثورة تموز/ يوليو‏1952.‏

لقد مد “فتحي الديب” ـ وهو يسعى إلى ربط العالم العربي من الدوحة إلى طنجة في شبكة قومية متماسكة ـ جسوره نحو المستقبل بعمل تنظيم للطلبة العرب كان أفراده بمثابة قوة متشعبة في كل الشرايين العربية‏..‏ وقد تدرب بعضهم سياسياً وعسكرياً في معسكرات خاصة كانت في صحراء مصر الجديدة في المكان الذي يقع فيه نادي الشمس الآن‏..‏ وفيما بعد تولى أفراد هذا التنظيم مسؤوليات سياسية ودبلوماسية ووزارية في بلادهم‏..‏ وعبّروا عن انتعاش المد القومي بصورة تدعو إلى التفاؤل‏..‏

كان “فتحي الديب” في ليبيا يساعد ثورة الفاتح من أيلول/ سبتمبر عام‏1969‏ بكل الإمكانات العسكرية والإعلامية والسياسية عندما اكتشف وهو هناك مؤامرة من صدام حسين للانقلاب على جمال عبدالناصر والإطاحة به والتخلص منه‏..‏ كان صدام حسين قد سبق له الدراسة في القاهرة وعاش في حي العجوزة واشتهر بالعنف والقسوة حتى في علاقاته العابرة‏..‏ وقد كانت هذه العلاقات تنتهي بمشاجرة عنيفة‏..‏ وسُباب ومحضر في الشرطة‏..‏ وفي كل مرة كان صدام حسين يجد في سفارته من يخرجه من المأزق الذي وضع نفسه فيه‏,‏ لأنه بعثي والبعثي من طينة غير طينة باقي العراقيين‏!..‏ لكن عندما زادت متاعبه عن الحد غادر صدام حسين القاهرة دون أن يجد أحداً ممن تعاملوا معه يأسف عليه‏.‏

كشف المؤامرة لـ”فتحي الديب” أحد أعضاء تنظيم الطلبة العرب وكان ذلك في شهر شباط/ فبراير عام‏1970..‏ أما التفاصيل فهي‏:‏ إن صدام حسين كوَّن خلايا في القاهرة يصل عدد أفرادها إلى ‏(700)‏ شاب من البعث العراقي يدرسون في الجامعات والمعاهد المصرية على أن ينضم إليهم‏ (70)‏ قيادة بعثية يأتون من بغداد كانت كل خلية لا تزيد على ‏(10)‏ أفراد‏..‏ وكانت الخطة هي الاستيلاء على المرافق الحيوية وإيجاد نوع من البلبلة على أمل أن تنحاز إليهم الجماهير المصرية الغاضبة من النظام بعد هزيمة حزيران/ يونيو وفي النهاية يمكن التخلص من جمال عبدالناصر ومحاكمته وإعدامه على أن يستولي البعثيون على السلطة في مصر ليحققوا حلماً كان بالنسبة لهم خرافة مستحيلة‏..‏ والمثير للدهشة أن بعض أعضاء التنظيم تدربوا على السلاح في أماكن صحراوية على أطراف العاصمة‏..‏ ولم تشُم أجهزة الأمن رائحة‏.‏

لم يتردد “فتحي الديب” في أن يوسع اختراقه للتنظيم مستخدماً بعض أعضائه وطلب أسماء كل المشتركين في المؤامرة وأماكنهم وتحركاتهم ونجح في أن يضم إليه خمسة من الطلاب العراقيين كانوا يؤمنون بالناصرية ويقول “فتحي الديب‏”:‏ إنه على الفور نزل إلى القاهرة واتصل بـ جمال عبدالناصر وذهب إليه في بيته قبل أن يتناول طعام الإفطار‏..‏ وحكى له وهما يتناولان الشاي كل ما لديه من معلومات‏..‏ ولم يصدق جمال عبدالناصر ما سمع بل وتشكك فيه‏..‏ فآخر ما كان يتصوره هو أن يلعب البعث في عقر دار الناصرية وضد زعيمها شخصياً‏ًًً..‏ لكن ثقته القوية في “فتحي الديب” جعلته يستسلم لما سمع‏..‏ إن “فتحي الديب” هو المسؤول عن شبكة المخابرات العربية‏..‏ وهو الذي كان وراء ثورة الجزائر وهو الذي أوصل رجال الخوميني إلى مصر وهو الذي أسس شبكة صوت العرب لتكون منبراً سياسياً قومياً‏..‏ فلماذا لا يصدقه جمال عبدالناصر هذه المرة أيضاً وكما تعود دائماً؟

نجح “فتحي الديب” في اختراق التنظيم البعثي وترك عيونه ترصد وتراقب، على أن يصل إليه، حتى وهو في ليبيا، تقرير دوري بكل ما يجري‏..‏ وكان التقرير يصل إليه في بنغازي على متن الطائرة اليومية التي تأتي من القاهرة وبعد أربعة أشهر تلقى مكالمة تليفونية بالشفرة من ’محمود‘ وهو المسؤول في مكتبه عن متابعة العملية تقول‏:‏ الأخ ’ممدوح‘ منتشِ ويظهر أنه سيتعشى بعد يومين أو ثلاثة وقفز “فتحي الديب” من مكانه وهو يصرخ‏:‏ يا خبر أسود؛ وقرر العودة إلى القاهرة بعد ساعات قليلة‏..‏ فكلمة ’العشاء‘ هي الكلمة المفتاح التي تعني ساعة الصفر‏..‏ وكان ذلك في شهر تموز/ يوليو عام‏1970.‏

في القاهرة سأل “فتحي الديب” عن جمال عبدالناصر فعرف أنه في الإسكندرية وعبر الهاتف قال “فتحي الديب” للرئيس‏:‏ ميعاد العشاء بعد بكرة لكن العشاء سيكون على ما يبدو ثقيلاً جداً .‏ وطلب منه الرئيس أن يحضر إليه فوراً‏..‏ واستقل “فتحي الديب” سيارته‏..‏ ولاحظ أن هناك سيارة تتبعه‏..‏ وبمجرد أن دخل شقته في شاطئ بئر مسعود حتى وجد التليفون يرن‏..‏ فعرف أنه كان مراقبا ليعرفوا متى سيصل‏..‏ كان المتحدث سكرتير الرئيس “محمد أحمد” الذي طلب منه ألا يأتي بملابس رسمية وإنما يأتي بقميص وبنطلون سبور وشبشب‏..‏ أي ثياب لا تصلح إلا للشاطئ‏..‏ فقد كان الرئيس في المعمورة‏.‏

قبل أن يستمع جمال عبدالناصر إلى تفاصيل المؤامرة طلب من السيدة قرينته تحضير طعام الغداء الذي اعتاد أن يأكله دون إضافة‏,‏ خاصة وأن “فتحي الديب” يعاني هو الآخر مرض السكر ويتبع نظاماً غذائياً صارماً..‏ وعرف “فتحي الديب” من الرئيس أيضاً:‏ ان زوجته الآن في القطار القادم من القاهرة وأن هناك سيارة تنتظرها على محطة القطار لتأخذه إلى بيتها حتى يبقى معها في الإسكندرية عدة أيام سيحتاجه فيها الرئيس‏.‏

قضى “فتحي الديب” أكثر من ساعتين ونصف الساعة وهو يشرح للرئيس أبعاد المؤامرة منذ اكتشاف أول خيوطها حتى اكتمال حصر الشبكة‏..‏ وكيف أمكن إدخال بعض العناصر الموالية إليها لمتابعة ما يجري في الخفاء لمدة تقترب من ‏6 شهور أمكن خلالها الإلمام بكل أسرار الشبكة والتعرف على قادتها حتى مستوي الخلية وتمويلها وأنواع تسليحها‏.‏

استمع الرئيس بكل اهتمام وناقشه في جميع التفاصيل‏..‏ وما كاد “فتحي الديب” يستأذن للانصراف حتى نهره جمال عبد الناصر قائلاً:‏ ألم أقل لك أن تبقى للغداء معي ولم يكن الغداء هو المشكلة‏,‏ وإنما كان هناك ثلاثة ضيوف كبار كان الرئيس قد استدعاهم وطلب “فتحي الديب” أن ينتظر حتى يلقاهم‏..‏ كان هؤلاء الثلاثة هم مدير المخابرات العامة “حافظ إسماعيل” ووزير الداخلية “شعراوي جمعة” ووزير الإرشاد القومي‏ (‏الإعلام فيما بعد‏)‏ “محمد حسنين هيكل” ولم يفت جمال عبدالناصر أن يطلب من “فتحي الديب” أن يضع تقريره عن المؤامرة في داخل قميصه على أن يبرز منه طرفاً منه حتى يثير فضول الثلاثة الكبار الذين استدعاهم على عجل دون أن يعرفوا، علن ما يبدو، سر الاستدعاء‏.‏

وسأل جمال عبدالناصر وزير الداخلية عن معلوماته عن هذا التنظيم فأوضح أنهم على علم به ويتابعونه‏..‏ وسأل الرئيس‏:‏ لكن‏..‏ متى سيتحركون؟‏..‏ ولم يرد “شعراوي جمعة‏”..‏ أما مدير المخابرات العامة “حافظ إسماعيل” فقال‏:‏ إنهم لا يعرفون الكثير عن هذا التنظيم‏.‏

واستطرد‏:‏ إن عراقياً دخل البلاد بطريق الخطأ واتضح أنه طالب جاء للدراسة بدون تأشيرة فسمحنا له بالدخول‏..‏ وسكت الرئيس قليلاً ثم فاجأهما بالمعلومات التي تضمنها تقرير “فتحي الديب” والتي حصل عليها وهو بعيد في ليبيا‏..‏ وأضاف‏:‏ إن العملية يوم الاثنين‏..‏ بعد بكرة‏.‏

ولا بد أن جمال عبدالناصر شعر بصدمة حادة وهو يسمع عن استقرار الأمن من المسؤولين عن الأمن في وقت تجري فيه عملية انقلابية كبري للتخلص منه ومن نظامه‏..‏ ولم يتردد “حافظ إسماعيل” في أن يعلن أنه على استعداد أن يقدم استقالته فوراً‏..‏ وحسبما قاله لي “فتحي الديب” فإنه شعر بالألم مما سمعه من “حافظ إسماعيل” الذي كان معلماً له ويُكن له كل التقدير والاحترام‏..‏ وها هو يؤكد ما عرف عنه ويُعلن بلا تردد أنه يتحمل مسؤوليته كاملة‏..‏ وتبعه “شعراوي جمعة” في الطريق نفسه وقال‏:‏ إنه هو الآخر مستعد للاستقالة‏..‏ لكن جمال عبدالناصر تجاوز ذلك قائلاً:‏ إن أخطر ما في أجهزة الأمن أنها لا تتصرف إلا على طريقة رغاوي المياه الغازية، كان يقصد أن هذه الأجهزة لا تتحرك إلا متأخراً بعد أن تفور المياه الغازية وتخرج من عقالها‏.‏

وأخذ جمال عبدالناصر نسخة التقرير من “فتحي الديب” وطلب من أحد مساعديه طبع ثلاث نسخ منه وزعها عليهم وهو يقول‏:‏ لقد تركنا الحبل على الغارب حتى نجح حزب البعث العراقي في تسريب هذه الأعداد الكبيرة إلى داخل البلاد في غفلة من أجهزة الأمن‏,‏ ثم سكت برهة واستطرد‏:‏ أريد أن أعرف موعد ساعة الصفر بدقة‏..‏ فلست الوحيد الذي سيدفع حياته ثمناً للمؤامرة‏..‏ سيذبحونكم أنتم قبلي‏.‏

وصدرت الأوامر لإلقاء القبض علي قيادات الشبكة البعثية فوراً بعد أن اخذ “شعراوي جمعة” الأسماء والعناوين من “فتحي الديب‏”,‏ لكن قبل أن يحدث ذلك قال جمال عبدالناصر‏:‏ إن “فتحي الديب” من اليوم هو المسؤول الوحيد أمامي عن الأمن العربي الخارجي وعن التصدي لجميع الأنشطة الحزبية العربية المشبوهة بكل صورها‏..‏ وعلى الجميع تقديم كل المساعدات المطلوبة له‏..‏ ولا يُسمح لأي عربي بدخول الأراضي المصرية من غير المعروفين بسلامة خطهم ما لم يوافق “فتحي الديب” عليه‏.‏

باشرت نيابة أمن الدولة التحقيق مع أعضاء الشبكة بعد إلقاء القبض عليهم وعندما أعلن النبأ شعرت الأمة العربية بجرح غائر سبَبَه “صدام حسين” في صدرها بعد أن فكر وخطط وحاول التخلص من أقوى الرموز القومية‏..‏ على أن أهالي الطلبة العراقيين المقبوض عليهم سارعوا إلى الاتصال بسفيرنا في العراق “لطفي متولي” وهم يستنكرون ما جرى وطلبوا نقل رسالة إلى الرئيس جمال عبد الناصر صاحب القلب الكبير ليعفو عن أبنائهم وكلهم أمل في الاستجابة لمطلبهم وفي يوم‏10‏ أيلول/ سبتمبر من العام نفسه وردت رسالة من السفير المصري في بغداد تتضمن ذلك الرجاء‏..‏ وعندما اطلع الرئيس جمال عبدالناصر عليها أشّر برأيه قائلاً :‏ أرى الإفراج عنهم بكفالة وترحيلهم إلى العراق دون محاكمة مع الإعلان عن ذلك‏.‏

إن هذه القصة التي خصني بتفاصيلها غير المنشورة “فتحي الديب” تؤكد أن سعي أجهزة الدعاية السوداء وإصرارها على ان تعتبر “صدام حسين” هو خليفة جمال عبدالناصر كان منتهى الظلم لرجل ذابت حياته في سبيل أمته هو جمال عبدالناصر‏.‏

ولم ينته ما جرى عند هذا الحد‏..‏ فقد قرر جمال عبدالناصر إعادة النظر في تنظيمات أجهزة الأمن ووضع هذه المهمة على كاهل رجل كان يسميه ’الفايتر‘ أو المقاتل هو “فتحي الديب” ولكن يبدو أن المقاتل كان في حاجة إلي استراحة ولو إجبارية‏..‏ ففي ذلك الوقت سقط “فتحي الديب” في مكتبه بعد أن صرعته أزمة قلبية مباغتة‏..‏ وعندما أفاق من الصدمة وجد أمامه فريق أطباء جمال عبدالناصر وعلى رأسهم إخصائي القلب الدكتور رفاعي كامل وإخصائي الباطنة الدكتور أحمد الصاوي‏.‏

وفي ذلك الوقت كانت أحداث أيلول الأسود في الأردن على أشدها تُهلك الجميع وهو ما دفع جمال عبدالناصر إلى الدعوة إلى قمة عربية طارئة حقنت دماء الفلسطينيين والأردنيين وخنفت الفتنة الملعونة‏..‏ وفي يوم وداع الملوك والرؤساء العرب كانت لحظة رحيل جمال عبدالناصر‏.‏

كان “فتحي الديب” قد تلقى اتصالاً تليفونياً من جمال عبدالناصر أخبره فيه أنه سيمر عليه في بيته للاطمئنان عليه بعد أن يودع آخر الحكام العرب وهو أمير الكويت ولكن الإرهاق استبد بـ جمال عبدالناصر فاعتذر عن زيارة رفيقه في الثورة وتلميذه في مدرسة أركان الحرب وطلب تأجيل الزيارة إلى صباح اليوم التالي‏..‏ وفي الساعة السادسة اتصل “سامي شرف” بـ “فتحي الديب” يخبره بالنبأ الصاعقة‏..‏ رحيل جمال عبدالناصر‏.‏

وقد ظل “فتحي الديب” وفيا لـ جمال عبدالناصر ولفكره‏,‏ فتفرغ منذ رحيله وحتى الآن لتسجيل ما فعله في ثورة الجزائر وثورة ليبيا وثورة اليمن والثورة الإيرانية وحركات التحرر في المشرق العربي‏..‏ وكلها أسماء كتب موثقة‏..‏ سيضاف إليها كتاب جديد هو عبدالناصر وعرب المهجر فقد وصلت القومية إلى آخر الدنيا‏.‏

إن “فتحي الديب” رجل يستحق الاحتفاء به‏..‏ فهو يعرف الكثير‏..‏ ويحترم ما يكتب‏..‏ ويوثقه‏..‏ إنه شاهد عيان زاهد‏,‏ في وقت كسب فيه كل من مر مروراً عابراً على الزعيم الراحل بالملايين‏.‏

* صحفي وكاتب ومؤلف مصري شهير

المصدر: جريدة الأهرام، عدد 30 كانون الثاني/ يناير 2001

التعليقات مغلقة.