ماجد كيالي *
الأحزاب العربية لم تنجح لا في إحداث الثورة ولا في الحفاظ على الأولويات التي طرحها الفكر النهضوي العربي بل شهدنا انتكاسة للقضايا والشعارات الكبرى مثل الوحدة والحرية والاشتراكية.
منذ زمن بعيد لم يعد للأحزاب في البلدان العربية أي صوت، ولم تعد ذات فاعلية، بل إنها باتت تفتقد لأي حامل اجتماعي، أو جماهيري، لها، بعد أن أضحت مجرد ديكور في الحياة السياسية العربية؛ بالرغم من التحديات التي تواجهها المنطقة في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وبرغم أن هذه الأحزاب لم تحقق أيا من الأهداف أو الطموحات التي تأسست من أجلها. فأين ذهبت هذه الأحزاب (اليسارية والقومية والإسلامية) يا ترى؟ ولماذا اختفت؟ هل أفل دورها؟ أم فات الزمان عليها؟
في الواقع فإن هذه التساؤلات تستمد مشروعيتها، وإلحاحيتها، من غياب السياسة على صعيدي السلطات والمجتمعات، في آن معا، بما هي فعل تواصل وتفاعل وتداول وتوليد، وباعتبارها ظاهرة تعبر عن العمران البشري، وتدل عليه.
معلوم أن غالبية الأحزاب والتيارات السياسية والفكرية، في البلدان العربية، كانت قد برزت في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، وهي فترة انتقالية، عرفت نوعا من الفراغ السياسي، بحكم الانتقال من حقبة الاستعمار إلى حقبة تأسيس الدولة الوطنية.
وقد ازدهرت هذه الأحزاب في الستينات والسبعينات، بفضل حاملها الاجتماعي المتمثل بنخب الفئات الوسطى، التي كانت تتمتع بقسط وافر من التعليم والثقافة والمستوى المادي، إلى جانب الطموح في الارتقاء على المستويين السياسي والاجتماعي.
وكانت هذه الفئات انتعشت بفضل مشاريع التنمية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، وبفضل ازدهار النشاط الثقافي والفني، في تلك العقود؛ التي أعقبت حقبة الاستقلال.
أيضا، فقد قامت التجربة الحزبية العربية أساسا في المدن، أي بين النخب المدينية، بحيث أنها حكمت منذ البداية بتغرّبها عن المجتمعات التي تعمل بين ظهرانيها، وهي مجتمعات ريفية، وأمية، على الأغلب، لاسيما مع تريّف المدينة العربية (بدل تمدين الريف) في واقع فيه نمو من دون تنمية، وتحديث من دون حداثة.
لكن التحولات الحاصلة في معظم البلدان العربية منذ ثمانينات القرن الماضي، أدت إلى انحسار دور الفئات الوسطى، وبالتالي أفول دور الأحزاب التي كانت تعبر عنها، أولا، بسبب التحولات الداخلية والتحديات الخارجية، التي أجهضت عمليتي التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتي عززت من الاستقطاب الطبقي، من دون تبلور طبقي حقيقي أو ناضج في المجتمعات العربية، على حساب الفئات الوسطي في البلدان التي انتهجت الليبرالية الاقتصادية، أو البلدان التي أمسكت فيها السلطة بتلابيب الأنشطة الاقتصادية.
وثانيا، بسبب هشاشة بنى الدولة الوطنية، التي لم تبن كدولة مواطنين، أي على أساس الشرعية التمثيلية، والقواعد القانونية والمؤسسية، ما أدى إلى تغوّل مظاهر السلطة على سلطة الدولة.
وثالثا، فقد نتج عن العاملين الأول والثاني ضعف نمو المجال العام، وتعثر عمليات الاندماج الاجتماعي (التي هي مقدمة ضرورية لظهور المجتمع المدني)، وبالتالي ترسخ العصبيات والانتماءات القبلية والإثنية والطائفية والمذهبية.
رابعا، بديهي أن تعثر مسار الحداثة والمواطنة والدولة في البلدان العربية، والقيود على الحريات والحياة الديمقراطية والمشاركة السياسية، والتوتر في المجال الهوياتي (بين الانتماءات القديمة والحديثة) كما بين الهوية الوطنية والقومية، أسهمت كلها بتأخر، بل وبتشوّه، الحياة الحزبية في البلدان العربية.
من جهة أخرى، فإن المشروع السياسي التاريخي، الذي حملته تلك الأحزاب والتيارات (القومية واليسارية والوطنية)، كان ينتمي إلى المشروعات الثورية والأيديولوجيات المطلقة والشاملة، والقضايا الكبرى، أي قضايا الوحدة وتحرير فلسطين وبناء الاشتراكية.
وفي ذلك، فإن أطروحات أو ادعاءات هذه الأحزاب كانت قطعت مع مشاريع عصر النهضة (في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين)، وكانت تتوخى حرق المراحل، بنقل النخب العربية من الاشتغال بقضايا النهضة والحداثة، والمتمثلة في النهوض بالتعليم والاقتصاد وعمران البلاد، وإشاعة التنوير وتحرير المرأة ورفع مستوى المعيشة والصحة، وبناء دولة المؤسسات والقانون، والتحرر من الاستعمار (وهي قضايا النصف الأول من القرن العشرين)، إلى الانشغال بالقضايا الكبرى مباشرة، وعن طريق الثورة.
بالنتيجة فإن تلك الأحزاب، كما هو معروف، لم تنجح لا في إحداث الثورة (بمعنى الكلمة)، ولا في الحفاظ على الأولويات التي طرحها الفكر النهضوي العربي، بل إننا في ظل كل ذلك شهدنا انتكاسة للقضايا والشعارات الكبرى مثل الوحدة والحرية والاشتراكية وتحرير فلسطين.. الخ.
فالوحدة العربية، مثلا، باتت أبعد منالا بعد أن تحولت اتفاقيات “سايكس – بيكو” من مجرد تجزئة على الورق، إلى حدود وحواجز ومتاريس على الأرض، تفصل بين مواطني البلدان العربية من النواحي السياسية، وأيضا من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفي مجالات الهوية، وحتى أن الحلم بمجرد إيجاد نظام تعليم مشترك أو قيام سوق عربية مشتركة بات ترفا يفوق الاحتمال.
أما الاشتراكية فتحولت إلى وصفة للجمود والركود الاقتصادي، وإلى مجرد شعارات خالية من المضمون، كما تحول القطاع العام إلى مصدر من مصادر الإثراء غير المشروع والفساد وأداة للسيطرة. وبدوره فإن شعار التحرير والصراع العربي – الإسرائيلي غدا مصدرا للخلافات العربية، ولتعميق الهيمنة على المجتمع، كما لحجب واقع التدهور الاقتصادي، وتغييب الديمقراطية.
فوق كل ما تقدم، فقد بات يمكن القول بأن الأحداث بينت إخفاق مقولة الدور التاريخي (الثوري أو الانقلابي) للحزب، وتآكل مفهوم الحزب/ الطليعة الذي يفترض نفسه وكيلا عن الشعب ووصيا عليه، ونهاية العقلية الثوروية التي تحرق المراحل.
* كاتب سياسي فلسطيني
المصدر: العرب
التعليقات مغلقة.