الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

هل فشل الربيع العربي؟

تقادم الخطيب *

مع مرور عشر سنوات على المظاهرات التي اجتاحت العالم العربي (أطلق عليها الربيع العربي. وشخصيا، ضد هذه التسمية التي استخدمها الصحفيون الغربيون، وتعكس المركزية الأوروبية قياسا على ما حدث في القرن الثامن عشر). انطلق الباحثون والكتاب في العالم لتحليل الواقع العربي بعد مرور عشر سنوات، فمنهم من قال إن الانتفاضات الثورية قد انتهت، وقد انتصرت الثورة المضادّة عليها. ويرى أن التفسخ والتفكك اللذين حدثا في الشرق الأوسط، إلى جانب غياب الحكومات المركزية وصعود الفاعلين غير الحكوميين (“داعش” وغيره) في عدة دول، واحتدام المعارك المذهبية والطائفية ينذر بأن الوضع سيستمر، وهو يشبه الوضع في أوروبا في القرن السابع عشر، حينما احتدمت المعارك بين الكاثوليك والبروتستانت ثلاثين عاما، والمنطقة نتيجة تلك الصراعات المذهبية مرشّحة لأن تستمر في هذا الأمر ثلاثة عقود. يرى الفريق الآخر أن الأمر لم ينته بعد، وأن هناك جولات جديدة ستكون وستندلع مظاهرات جديدة، ستدعو إلى التغيير والانتقال السلمي للسلطة، وتحقيق انتقال ديمقراطي.

أنتمي لأصحاب الرأي الثاني، من حيث إن هناك جولة أو جولات جديدة ستكون للربيع العربي. ولكنني أيضا أعتمد على عدد من الحقائق التي ساقها الفريق الأول، لاستشراف مستقبل المنطقة والحلول التي يمكن العمل عليها. فيما يتعلق بانطلاق موجات جديدة، أرى أن الدافع لذلك أن تلك الثورات كانت من أجل الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، وهي تختلف عن سابقاتها في بدايات القرن العشرين، كثورتي 1919 في مصر و1920 في العراق وغيرهما من بلدان أخرى، فتلك الثورات كلها كانت من أجل الاستقلال عن الاستعمار. وفي الوقت نفسه، تختلف انتفاضات الربيع العربي عن التي كانت في منتصف القرن العشرين بأنها لم تكن مؤدلجة في بدايتها، حتى وإن اتخذت منحى أيديولوجيا فيما بعد، نتيجة عدم وجود مشروع سياسي يشعر الجميع بالمساهمة فيه بأنه قاد إلى أن يكون هناك تمركز حول الأيديولوجيا باعتبارها بديلا للمشروع السياسي، فانصرف الجميع عن القضايا الأساسية، كالديمقراطية والحرية، وأسس رؤيته على أساس الأيديولوجيا، فرأى اليساريون الحل في الأيديولوجيا اليسارية.

ورأى الإسلاميون الحل في الأيديولوجيا الإسلامية. وبين هذا وذاك، توارت الشعارات المطلبية الأساسية (الحرية والديمقراطية) عن الساحة أساسا للخطاب والمشروع السياسي. إلي جانب عدم وجود خطاب سياسي يقوم على إقناع الجماهير، فغياب المشروع أدّى إلى غياب البنية التي يتشكل منها الخطاب، كما أن التحوّل إلى رد الفعل، وليس الفاعل في المشهد، جعل الخطاب، في أساسه، يقوم على اللحظة الآنية التي يظهر فيها الحدث. إذا، القيمة الأساسية لانتفاضات الربيع العربي أنها لم تكن ضد الاحتلال، ولم تكن مؤدلجة، وأيضا لم تكن حركة، فهي فكرة ترجمت نفسها في شعارات العيش والحرية والكرامة الاجتماعية (الشعار الذي رفعته الانتفاضة الثورية في مصر في 2011)، فالفكرة تختلف كليا عن الحركة، فيصعب على الأنظمة محاصرتها أو القضاء عليها، لذلك حاولت الأنظمة القمعية جعل الربيع العربي أو تحويله إلى حركة، ليسهل محاصرته أو القضاء عليه، وهو ما لم يحدث، وإن بدا المشهد الخارجي مغايرا لذلك.

أما التفسّخ والتفكك واشتعال الحروب في المنطقة، فهي نتيجة تفاعل عدة عوامل في الوقت نفسه، وهي عوامل الدين والأيديولوجيا، والثروة، والتدخل الخارجي. ومعروفٌ أن الدين والأيديولوجيا يلعبان دورا مهما في عملية التحوّلات في المجتمعات بصورة عامة. أما عن الثروة فهي مسؤولة عن صعود طبقات للسلطة، وانحسار أخرى، ولعل صعود الضباط الأحرار في مصر دليل على ذلك، بصعود الطبقة المتوسطة إلى السلطة والتحكّم في مقاليد الأمور. أما عن التدخل الخارجي فهو يلعب دورا مهما في عمليات التغيير والتحول في المنطقة منذ قرون. ودولة ما بعد الاستقلال التي نشأت بعد رحيل الاستعمار دليل على بقاء هذا الأثر لذلك العامل الخارجي.

هذه العوامل الثلاثة، المتفاعلة في الوقت ذاته، جعلت المنطقة على ما تبدو عليه الآن. واستمرارها في التفاعل من الممكن أن ينبئنا عن الشكل الذي ستكون عليه المنطقة في العقود المقبلة، فالمنطقة أمام خيارين لا ثالث لهما: أن تكون قادرة على إنتاج نظام سياسي يوقف عمليات التفسخ والتفكك التي تحدث في المنطقة، وبالتالي العمل على تطبيق هذا النظام السياسي، أو أنها ستستمر في عملية التحول والانتقال الديمقراطي عقودا. لكنها في النهاية ستصل إلى صيغة تحول ديمقراطي، مدفوعة بانطلاق احتجاجات تبحث عن الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وتقاسم السلطة والانتقال السلمي لها.

مما سبق، المؤكد أن المنطقة مقبلة على تغيرات، والمؤكد أن المطالب التي رفعها الربيع العربي مستمرة، وأن تلك الأنظمة القمعية عاجزة عن تحقيقها. لذا، الحل الوحيد هو الدفع في اتجاه التغيير والانتقال السلمي للسلطة وتقاسمها، وستكون هذه هي إحدى مهام العامل الخارجي الذي أصبح يدرك، إلى حد بعيد الآن، أن دعم الأنظمة الديكتاتورية مُكلف جدا، وأنه سيدفع بمزيد من موجات الهجرة إلى الدول الغربية، ما يعني ازدياد صعود اليمين المتطرّف الذي يسعى إلى تقويض الديمقراطيات الغربية. في المقابل، هناك مهمة ملقاة على عاتق المعارضة، سواء في داخل تلك الدول، أو في المنافي، فهي مطالبةٌ بإعادة تعريف معانٍ تم تشويهها في العقد الأول للربيع العربي، مثل معنى التضامن السياسي الذي يجب أن يتأسّس على مبدأ المساواة بين الجميع والحرية والعدالة للجميع، وليس على أساس الانتماء الأيديولوجي والسياسي، والعمل على تجاوز الانقسام السياسي بينها وبين مكوناتها المختلفة، والانتقال إلى التمركز حول قضايا أكثر رحابةً واتساعا، تساهم في إيجاد حل للأزمة والموقف الراهنين، وهي أنها لا بد أن يكون لديها أجندة عمل ومشروع وطني يقوم على أسس الديمقراطية والحرية واحترام الكرامة الإنسانية والانتقال السلمي للسلطة وتقاسمها.

* كاتب وباحث أكاديمي مصري

المصدر: العربي الجديد

التعليقات مغلقة.