الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كتاب الحوار مقدمة العمل، والديمقراطية غاية وطريق … الحلقة الخامسة

الحوار

مقدمة العمل والديمقراطية،

غاية وطريق

والثورة العربية

مازالت ثورة وطنية ديمقراطية

 

حزب الاتحاد الاشتراكي العربي                               د. جمال الأتاسي

             في سورية                                                   1979  

 الحلقة الخامسة: من العام إلى الخاص – ثورات التحرر الوطني          

وكما أكدنا على ما هو عام وإنساني مشترك، فلقد أكدنا بالمقابل أن الثورة تقوم بالضرورة في إطار مجتمع وشعب. لتأخذ من ذلك خصوصيتها ومسارها الخاص، ولتتعدد تبعاً لذلك التجارب ونماذج التطبيق، وفقاً لما تفرضه طبائع الحياة والعلاقات الواقعية لذلك الشعب والمجتمع وطبيعة الصراعات والتناقضات التي تحرك مسيرته، ومستوى تقدمها ونضجها. ولقد أشرنا أيضاً إلى مسألة الوعي الثوري وإلى التمهيدات التي سبقت التغيير الثوري وبشرت به، وإذا ما انتقلنا الآن حسب السياق التاريخي الذي أخذنا به، إلى ثورات التحرر الوطني لشعوب العالم الثالث، والمسائل التي تطرحها، نجد أن تلك الثورات إذا ما أعوزها ذلك التمهيد الفكري والفلسفي (أي النظري) الذي سبق الثورتين الكبيرتين، بحكم تخلفها التاريخي والحضاري، فإنها بالمقابل لم تأت معزولة عن تيارات الفكر الثوري العالمي ومعطياته بل وكان لبعض تلك التيارات امتدادات فيها أحياناً وتجمعات أو أحزاب تنتمي إليها. ثم إن ميراث الفكر والفلسفة في عصرنا ليس حكراً لأحد ولا ملكاً لطبقة أو دولة أو أمة، وكان أمام القيادات المثقفة لتلك الثورات أن تغتني من ذلك الميراث وأن تتمثله كدليل وخبرات لفهم واقعها نفسه والتحرك به ولاستكشاف طريقها إلى التحرر والتغيير. فالتمثل كان هو المطلوب لا النقل، أي تحويله إلى دليل لإنضاج وعي عام مطابق لحاجات الواقع، لا الأخذ به كما جرى في كثير من الحالات، كأيديولوجيات وتصورات جاهزة مسبقاً، وكأنها خاتمة المعرفة، وليس لنا إلا أن نمدّ يدنا إلى جعبتها لنستخرج منها لوائح للتطبيق، وقواعد قطعية للحكم على مسار الأمور حاضراً ومستقبلاً. ولقد ساعد على مثل هذا النقل الفجّ والمستعجل، لا قصور التمهيد النظري والمستوى الفكري الذي كانت عليه القيادات التي وضعتها ظروف النضال على رأس حركات الجماهير فحسب، بل وساعد عليه بشكل خاص تلك العفوية التي اندفعت بها أكثر حركات التغيير الثوري في أقطار العالم الثالث ووطننا العربي من بينها، فحركة النضال وفرص التغيير المتاحة كانت تسبق التخطيط الفكري والتنظير، مما يغري باختيار الطريق الممكن والأخذ بما هو جاهز ومستمد من التجارب الثورية للشعوب الأخرى. تلك مسألة تفرض نفسها في البداية، ولكن العملية الثورية ما أن تأخذ طريقها وتواجه مسائلها الخاصة، ويصبح مشروعها التغيير الشامل وبناء نظامها الثوري، إلا وتكون مطالبة بأن تقدم فكرها ومنظورها أو نظريتها. فما كان جاهزاً لا يطابق دائماً حاجات واقعها ومتغيراته. إنها مسألة الأيديولوجية ودورها والصراعات التي تدور من حولها، وسيكون لنا وقفة عندها. ونعود إلى الوقائع التي نحن بصددها، وإلى معطيات ثورات العالم الثالث. والواقع أن تلك الثورات إذا ما تعثرت في أكثرها وبخاصة عندما انتقلت إلى طور بناء نظامها الوطني ودولتها القومية، فإن بعضها قد تقدم وأعطى. لقد أعطى نماذج رائعة في حركة نضاله وصلابة ذلك النضال، وفي شقّ طريقه إلى التحرر، وفي طريقة تمثل قياداته للتجارب الثورية الإنسانية. وفي صياغة برنامج استراتيجي لثورته الوطنية وفي بناء الوحدة النضالية لجماهير شعبه، وصولاً في النهاية إلى بناء وحدته القومية وإلى تحقيق الكثير من أهداف نضاله في صيغ متقدمة، والمثال الذي يتقدم شاهداً أمامنا دائماً ما جاءت عليه الثورة الفييتنامية في مراحلها المختلفة، هذا من غير أن نعطي لأنفسنا بعد حق الحكم على التطورات التي تمر بها في مرحلتها الراهنة.

ولا نريد هنا، كما وأنه ليس بمقدورنا، أن نحيط بثورات التحرر الوطني في تنوعها وتعدد مسالكها ودروبها. ولا أن نستكشف فيها معالم نظرية لهذه الأنماط من الثورة. فما أردنا التأكيد عليه، وما هو واضح أمامنا من تعثر حركة ثورتنا العربية، أن من لم ينهض منها لمستوى العصر ومعطياته، بل لم يستوعب على ضوء ذلك خصوصية ظروفه القومية، وما تتطلبه، ولم يتوصل إلى منهج صحيح في التقدم وفي بناء اندماجه الوطني والقومي، أي من لم يصل منها إلى منهج وطني ديمقراطي متقدم كان مآله الارتداد والنكس، والوقوع تحت قبضة أنماط جديدة من الاستبداد الفاشستي الشرقي، أو السقوط من جديد في مواقع السيطرة الامبريالية أو التابعية لها أو في مواقع الهيمنات الأخرى والتابعية الأيديولوجية التي توقف مشروعه الثوري، أو تخرجه عن إطاره الوطني والقومي، ذلك الإطار الذي لا بدّ منه لبناء وجوده ومقومات وجوده المستقل.

إن الكثيرين من المفكرين الثوريين ومن أنصار الحرية والتحرر في العالم، قد توجهوا بأنظارهم وأفكارهم، وبخاصة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، نحو تحول إمكانات التفجر الثوري من الغرب ومن الدول المتقدمة صناعياً، نحو أقطار العالم الثالث، وراهنوا على عدد من ثورات التحرر الوطني من خلال نضالها الصلب والرائع ضد الاستعمار القديم فالجديد، أو ضد الامبريالية وضد نظم الاستبداد والتابعية والرجعية، وعلى أنها من خلال نضالها العنيف والطويل، ومن خلال ما عانته وتعانيه شعوبها وطبقاتها المحرومة من ظلم مزدوج ومن استغلال مضاعف، لا بدّ أن تعطي آفاقاً جديدة وأكثر جذرية لتحررها الإنساني وأن تقوى في النهاية لا على تدمير مواقع الاستعمار والاستغلال والاستبداد على أرضها فحسب، بل وأن تسقط معه مخلفات قرون من التأخر والانسحاق، وأن تقدم صياغة جديدة لقضية الديمقراطية في مقوماتها السياسية والاجتماعية، كقضية حرية وتحرير معاً، على عاتبارها سبيلاً لا استغناء عنه لصياغة اندماجها الوطني والقومي وتصفية تركة الماضي ودخول تاريخ العصر، وأن تعطي من خلال ذلك توجهاً جديداً نحو الاشتراكية وتضيف تجربة إنسانية جديدة بهذا المنحى، وكذلك تفعل في خروجها عن أطر الهيمنات الكبرى الممتدة بشكل أو بآخر في العالم. ويكفي أن نتذكر بهذا الصدد، الصدى العالمي والتفاؤل الكبير الذي أعطاه ” مؤتمر باندونغ ” وما أعقبه في الخمسينات، ولو في المستوى السياسي على الأقل، من تباشير في هذا الاتجاه. وإذا كان هذا الرهان مازال قائماً، وإذا كان مخاض التغيير الثوري مازال يتأجج في أقطار العالم الثالث كأمل كبير من آمال التحرر الإنساني، فإن الوقائع الإيجابية والتجارب الناجحة على هذا الطريق في بعض المناطق، تقابلها ثغرات ووقائع سلبية وارتدادات رهيبة في مناطق كثيرة أخرى. ومنطقتنا العربية مثال كبير. وكما تزدحم فيها كبرى التناقضات التي تطالب بالتغيير الثوري، كذلك تدخلها كبرى الصراعات والمصالح الدولية، وهذه المنطقة بعد أن أعطت قبل غيرها تباشير ثورة قومية تقدمية معادية للامبريالية، تواجه اليوم التعثر الكبير وتجمد مشروعها الثوري، وثمة ارتدادات أخرى كثيرة من حولنا في آسيا وأفريقيا.

إن التفاؤل الكبير الذي وضعه مفضل مناضل كفرانز فانون (وكما سجله في كتابه ” المعذبون في الأرض “) في حركة التحرر الوطني لشعوب أفريقيا لم تأت الوقائع دائماً مطابقة لها. فعملية خلع الاستعمار بالعنف وبالنضال الثوري الشعبي، كما عاشها وفكرها فرانز فانون، إذا ما جاءت وفرضت نفسها كضرورة تاريخية، فإنها لا تصنع عفواً وبالضرورة وبحركتها الذاتية وحدها، نهوض الأمة وبعث ثقافتها وتراثها في صيغ إنسانية جديدة، وبناء شخصيتها ووحدتها القومية، ولا تضعها عفواً بالضرورة على طريق الحرية والتقدم، بل لا بدّ لذلك، وبخاصة بعد خلع الاستعمار القديم، من مقومات أخرى لكي تتقدم نحو أهدافها ولا تنتكس كما انتكسنا. كذلك أيضاً فإن التفاؤل الكبير الذي حمله المقاتل الثوري شي غيفارا في تفجير ألف بؤرة عنف ثوري في أرجاء العالم الثالث في وجه الامبريالية والنظم التابعة، لم يعط ثماره على الطريقة التي بشربها، وانتهى تفاؤله في النهاية إلى يأس كبير، ولقد أخمدت أكثر تلك البؤر وقتل معها. ولكن فرانز فانون قضى وهو يرى ثورة الجزائر التي أسهم بفكره فيها تشق طريقها إلى الانتصار. وغيفارا أسهم في ثورة نجحت وحققت انتصارها وهي ثورة كوبا. هذه وغيرها نماذج أعطت تجربتها من حيث تقدمت ومن حيث توقفت، وهي ثمينة في جوانب عديدة منها، ولكنها لم تعط امتداداً تاريخياً ولم تضع الثورة على طريق المستقبل. والذين حاولوا نقلها والتشبه بها، لم يتمثلوا تلك التجارب في شمولها، فجردوها من مناخها الخاص ومن وعيها المطابق لظرف معين، فراحوا ينقلون بتجويد بعضاً من مقولاتها أو تطبيقاتها، كمقولات ” العنف الثوري ” و ” البؤر الثورية “، بل وراح بعضهم يتجول بتلك ” البؤر ” ومناضليها بين القارات، ولكنهم ما زادوا على أن قدموا نماذج فوضوية لها في العالم، تأخذ من قوى الثورة ولا تعطيها، وتلهب المشاعر سلباً أو إيجاباً تجاهها ولا تتقدم بحركة الوعي والتنظيم ولا تمتد في قلب حركة الجماهير وتتسع، وبالتالي لا تعطي رصيداً جدياً لأية بؤرة للنضال والتغيير تمتد على أرض واقعها ومجتمعها. إن مثل هذه التجمعات أو التفجرات الفوضوية قد عرفتها العديد من المجتمعات، كالمجتمع الفرنسي مثلاً قبل الثورة البورجوازية وكالمجتمع الروسي قبل الثورة البلشفية، أي مجتمعات كانت تعيش مخاضاً ثورياً، ولكن تلك الحركات الفوضوية واللاديمقراطية من حيث المبدأ، كانت تعبيراً عن أزمة العمل الثوري قبل أن يشق طريقه، بل وعندما شق طريقه نحو التغيير الثوري الفعلي كثيراً ما وجدت نفسها متعارضة معه أو ضده. إننا لا نستطيع إلا أن نحمل شعوراً بالتقدير لأي فرد أو مجموعة من الأفراد تتمرد على واقع الظلم والاستغلال تحت أية راية قامت أو عنوان، وبخاصة الذين يقدمون حياتهم ثمناً لذلك، ولكن تلك الصيغ في العمل والتشكلات، كثيراً ما تلتبس معها المعايير والقيم، وتصب فيها عناصر منفلتة ومضادة للمجتمع، لتبقى خارج حركة مجتمعاتها وحركة التاريخ. إن هذه الحركات والتحركات الفوضوية وفي ظروف معينة، وعندما يكون الجو السياسي العام مهيأ بصراع متناقضاته وقواه للتغيير، أي عندما تكون هناك قوى أخرى غيره من عسكرية أو غير عسكرية مهيئة للانقضاض، يمكن لها أن تسهم في تأجيج الجو وتمهيد السبيل، ولكن ما أن يصبح التغيير المطلوب لا مجرد تغيير سلطة بغيرها، بل الدفع إلى تغيير ثوري يتواصل، وإلى تبدلات أساسية في واقع حياة الأمة وفي نظامها السياسي والاجتماعي، إلا ويطالب بمشروع أو برنامج لهذا التغيير وبقوى حقيقية للثورة تمثل مصالح قاعدة جماهيرية عريضة وتجسد إرادة شعبية واسعة وتتقدم أمامها. وهذا ما يعود بنا إلى حيث بدأنا، أي إلى طرح قضية ” الثورة الوطنية الديمقراطية ” وطريقها، وما تطالب به من استراتيجية عامة للوصول بها إلى أهدافها، ومن قاعدة ديمقراطية للعمل والبناء الثوري، وما تطالب به أمام ذلك من أداة وتنظيم ثوري.

*          *          *

د. جمال الأتاسي ( 1922- 2000)

دكتوراه في طب النفس والعقل ، أحد مؤسسي حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، وأمينه العام


يتبع.. الحلقة السادسة: الثورة الوطنية الديمقراطية

التعليقات مغلقة.