الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

إدمان الفشل

ميشيل كيلو *

بعد عشرة أعوام من القتل والتدمير، لم يعد هناك من حُكم يمكن إطلاقه على السياسات الأسدية غير القول: إنها تدمن الفشل. والفشل، بمعايير الأسدية، له معنى واحد: خسارة السلطة. أما النجاح، فهو في المقابل استمرار الأسد الأب في الكرسي منذ عام 1970 إلى وفاته عام ألفين، وابنه بشار منذ موت أبيه إلى اليوم. والسؤال هو: هل البقاء في السلطة هو وحده معيار الفشل والنجاح بالنسبة لجهة حكمت بلادها طيلة قرابة نصف قرن، رفضت خلاله تطبيق معايير لعلاقة الحاكم بالسلطة، والسلطة بالشعب، غير معيار امتلاكها، رغم أنه أكثر المعايير بعدًا عن النجاح والفشل، ما لم نعتبرهما شأنين لا علاقة لهما بما يتعدى شخص الحاكم إلى ما يسمونه الشؤون العامة، المجتمعية والدولوية، المتصلة بحقوق الشعب، ويعتبر الحاكم خارج علاقته بهما مجرد مستبد/ متسلط، ومرشح لأن يصير قاتلًا وسفاحًا.

من غير الممكن أن يكون هناك سلطة حاكمة دون علاقة بالشؤون العامة، شؤون مجتمعها ودولته، وبجوانب مما تقوم به في العادة دولة تمثل مجتمعها، مهما حاولت السلطة إلغاءها والحلول محلها، مثلما حاولت الأسدية في سورية، لأن الدولة تسمو على حاكمها، في حين ترتبط السلطة به، وقد تحمل صفاته الشخصية، في ما يسمونه شخصنتها، التي تدفعه إلى رؤية كل شيء في وطنه وفيها بدلالة شخصه، الذي مهما بلغ من التوازن، سيحكم بلاده بمزاجه وهواه، وهما في نظر جدنا عبد الرحمن الكواكبي: جذر الاستبداد، والفساد.

بمرور الوقت، وفي ظل أي سلطة شخصية تستمر لفترة طويلة، يتفاقم الانزياح السلطوي، ويبتعد عن أسس وأصول السياسة كعمل عام مجتمعي المنابع والمآلات، ويصير الحاكم نفسه مشكلة لوطنه ومجتمعه ودولته، لأنه ما إن يكتشف ذلك من سلوك شعبه تجاهه وموقفه منه، حتى يتحول إلى مستبد لن يحول شيء دون تحوّله إلى قاتل.

يحدث هذا، بمجرد أن يرفض الإقرار بحقوق شعبه، أفرادًا وجماعات، لاعتقاده، أو لتوهمه، أن شخصه الخاص هو منبع الحقوق، وهو الذي يملك أن يفيض عليه بها، وأن لا حاجة لمواطنيه بحقوق ما دام يقدّم لهم كل ما هو ضروري منها، وأن مطالبتهم بما عداها، أو بما يختلف عنها، ترغمه على اعتبارهم متآمرين وأعداء عليه معاقبتهم بأقصى قدر من الصرامة، وإلا أفسد ولاءهم له، وتمردوا على طريقته في حكمهم، ومواقفه منهم.

بمعيار البقاء في السلطة، كانت الأسدية تجربة ناجحة نسبيًا، فإن طبقنا عليها معيار العلاقة مع دولة ومجتمع سورية، يكون من الحتمي القول إنها لم تكن فاشلة وحسب، بل أدمنت الفشل في جميع ما فعلته، لأنها كانت دومًا مقطوعة العلاقة بالدولة والمجتمع السوريين، واتسمت بضمور حكم على ولاء المواطنين لها بالتلاشي، بالنظر إلى أن النمو المفرط لكل ما له علاقة بإدامة السلطة، كجهة نافية لهما، وبشخص من استبدل علاقته بهم بتفرغه لأجهزة سرّية جعل من نفسه منسقها الأعلى، والمشرف عليها والمحتمي بها، وراسم سياساتها وخطط مسؤوليها وعملها، الذي لا يعود له من رهان غير تقييد حريتهم ومراقبتهم، والشك فيهم، الذي يعتقد أن عليه استهدافهم بما لديه من سلطة يتطلب استمرارها تغييبهم عن الشؤون العامة، لكون حضورهم فيها يعني بالضرورة غيابه هو، بحكم علاقة التنافي الجدلية بينه وبينهم، المحكومة بهوسه كممسك بسلطة يرى في مفرزات إرادته ما يسمونه الشأن العام، وفي اتباعه ما يعتبرونه المجتمع، وفي الدولة كيانًا مهمته تغييب من لا ينتمي إليه عن الواقع، وتحويل الحقل السياسي إلى ميدان تسرح إرادته فيه وتمرح على هواه، دون حسيب أو رقيب، فلا عجب أنه لا يبقى من خيار بالنسبة للشعب غير ثورة تُعيد وطنه إليه، بعودته إلى الحقل السياسي يعبّر عنه ويضع حدًا للتنافي بينه وبين سلطة جديدة، من صنعه، تعيد إنتاج كيان مجتمعي حر، وحامل دولة يتساوى جميع مواطنيه أمام قانونها القائم على مساواتهم في المواطنة، أي في حقوقهم وواجباتهم غير القابلة للانتهاك، ويكون معيار فشل ونجاح سلطتهم ملكهم ومرتبطًا بهم، ومصدر شرعيته رضى الشعب عنها، وليس الأجهزة القمعية والعنيفة والفاسدة لحاكم متأله يدير بعنفها شعبًا أسيرًا لا حقوق له غير الحق في أن يكون عبدًا مطيعًا له، وفي ثورته عليه ما يُراد به استعادة حقه في الحرية والعدالة والمساواة الكرامة الإنسانية.

تُمثّل الحرب التي شنها بشار الأسد على الشعب السوري ذروة الفشل، لأنها أوضح تعبير عن استحالة تعايش المجتمع مع السلطوية المشخصنة، النافية لكافة أشكال وجوده كهيئة عامة موازية للدولة، ومصدر ما يكون لسلطتها من شرعية. ومهما كانت نتائج الثورة، فإن المجتمع السوري لن يعود إلى ما قبل الخامس عشر من آذار عام 2011، والسلطة لن تبقى ما كانت عليه، بعد فشلها في إبقائه راضخًا لها، ولأن لكل فشل نهاية، وما من ضمانة للحاكم ودوره غير ما يفتقر بشار الأسد إليه: قبول شعبه به وبنهجه وشخصه.

* كاتب وباحث ومحلل سياسي سوري

المصدر: حرمون

التعليقات مغلقة.