الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

جميعهم يخشون رياح التغيير في الوطن العربي

لطفي العبيدي *

لا يمكن توقع زوال الخلافات بين الأمم، والمهمة هنا هي مجرد ضمان أن لا يجري التعبير عن هذه الصراعات باللجوء إلى الحرب، أو الاستعداد المطرد لها، من خلال سباق التسلح، والتخلي عن اتفاقيات الحد منها. وهذا ما يحدث بين القوى الكبرى التي تتنازع الهيمنة والرغبة في السيطرة على النظام العالمي.

وعلى قادة روسيا والصين وأمريكا تحديدا، أن يفهموا بأنه يجب إعطاء المحافظة على السلام العالمي أولوية أعلى درجة، من تأكيد مواقفهم الأيديولوجية أو السياسية. وأن يضغطوا على حلفائهم ووكلائهم الإقليميين للالتزام بثوابت من هذا القبيل. إذ ليس طبيعيا أن يتواصل الخطاب الاستراتيجي لما بعد الحرب الباردة، والنظر إلى العالم من منطلق الفوضى، وتركيز الانتباه على الشعور المتنامي بانعدام الأمن، وانخراط الدول في الشؤون العسكرية الصناعية والوضع الخطير للاقتصاد العالمي.

وكما هو معهود قديما، الامتيازات والسلطة ليست في متناول الجماهير، وما يحدث هو إعادة تشكيل الماضي والتاريخ المعاصر بما يخدم مصالح الأقوى، الذي لا يتوانى عن تقويض الديمقراطية، وتطويع مبادئ السوق حسب مصالحه. وإن حدثت عولمة الاقتصاد والسياسة، فالقوانين القديمة مازالت تحكم النظام العالمي، الذي يلجأ فيه القوي إلى القوة والغزو والتدخل في شؤون الآخر، بينما يتم تصدير قانون العقلانية الاقتصادية إلى الضعيف. وفي وجود الواجهات العربية الكاذبة، بديلا عن الرابطة القومية الموحدة، يتم منع أي حوار إقليمي بين الدول العربية والإسلامية. وهي واقعية سياسية لا يُنتظر ضمن حيثياتها من حكام ضعاف وقابلين للتشكيل والتكيف أكثر من ذلك. ورضوخهم العلني والمفضوح، سمح على امتداد عقود، بامتصاص المستعمرات تحت أقنعة من الاستقلال الشكلي الذي استبدل مسميات قديمة كالمحميات ومناطق النفوذ الإمبريالي والدول العازلة وغيرها. والأمر أُوكِل لأسر حاكمة ديكتاتورية، وحكومات فاسدة في مجملها، تُنفذ ما يمليه عليها سادتها. وهي لا تلتفت لشعوبها، وهمها الوحيد أن تتحكم بالثروة التي تبددها في منافعها الخاصة، أو في شراء السلاح وتكديسه بلا معنى، وعقْد الصفقات وخدمة الوصفات الغربية، التي تجعل المنطقة مهددة على الدوام بخطر الاضطراب والفوضى، تاركة إياها خارج منطق السلام والأمن والتعايش الحضاري والتطبيع الديمقراطي.

الديمقراطية تعني الإيمان بأن الثقافة الإنسانية هي التي ينبغي أن تسود، وتكون لها الغلبة في النهاية. وبهذا المعنى هي قضية أخلاقية، وهي تشمل جميع أشكال الثقافة المختلفة من التربية والفن والعلم والأخلاق والدين. والطريقة الديمقراطية هي من الوجهة النظرية تِعتبِر المساواة احدى ركائزها. ومعظم الأحداث الكبرى في التاريخ حدثت لصالح المساواة على حساب الامتيازات الفئوية، منذ أن بدأ التقليل من شأن النبلاء والرفع من شأن العامة. والديمقراطية في جوهرها هي طريقة الإقناع بواسطة حلقات المناقشة العامة، ليس في المجالس التشريعية والمنابر النيابية وحدها، بل في المجلات والصحف ووسائط الإعلام المختلفة، وفي الاجتماعات العامة. ويبقى إحلال صناديق الانتخاب، وحق الاقتراع الحر بديلا عن العنف والرصاص، وإحلال حق التصويت محل الضرب بالسياط والقمع وحكم الحديد والنار، تعبيرات حقيقية عن الإرادة الشعبية التي تكفل مشروعية الحكم، وتدفع إلى تقديم الحوار والنقاش محل القسر والإكراه. وعلى الرغم مما في الديمقراطية من عيوب ونقائص وإخلالات، ومن ضروب التحيز والعصبية والتمكين في تحديد القرارات السياسية، فلا شك أنها أدت أفضل من غيرها إلى حصر النزاعات العرقية والطائفية في دائرة محددة، إن لم تبحث عن المفهوم القومي الاندماجي التجانسي. وما لم يُسمح بنجاح الديمقراطية عربيا، فإن الأهداف تبقى مشبوهة. أقلها أن القوى التي تتضارب مصالحها على رقعة هذا الإقليم هي التي تمنع نجاح التجارب الديمقراطية، وتكتم أصوات الملايين بدعم جلاديهم، ومساندتهم في تمتين سلطانهم، وتقوية أنظمتهم الأمنية ضد حرية الشعوب وكرامتها. وما لم يتشكل النسق السياسي المركب، الذي يقنن ذاتيا نفوذ الدولة كي لا تتحول إلى سلطة مستبدة، بضمان الحقوق الفردية والفصل بين السلطات، لا يمكن الحديث عن علاقة طبيعية بين حاكم ومحكوم، وعن شرعية أنظمة تفتقد ثقة مواطنيها، وتُجند إعلاما كرتونيا يزيف الواقع، ويقوم بتلميع صورة النظام الحاكم. فظهور المبدأ الديمقراطي الحديث يتنافى والاستغلال الفردي أو الاجتماعي، وهو يدعو إلى وجوب الاهتمام بالفرد اهتماما شاملا، وإلى ضرورة نشر العدل والحرية والمساواة بين أفراد الشعب جميعا. ومثل هذه الأنظمة الاستبدادية لم تحقق شيئا حتى ضمن معايير الديمقراطية الليبرالية، التي يصدرها الغرب، والتي تطرح دولة العناية ومجتمع التضامن بديلا عن دولة الرفاه ومجتمع الوفرة، في محاولة للجمع بين محاسن الديمقراطية الاجتماعية، ومحاسن الديمقراطية السياسية، على نحو دمج الحقوق الأساسية المتمثلة في التعددية والحريات والملكية والتعليم والصحة والسكن والعدالة والشغل. ومشهدية التسويق وغياب الأثر في الواقع مسار مشترك بين الداخل والخارج. وبما أنهم يخدمون مصالح الغير بإخلاص وتفانٍ، يُسمح لهم بأن يحددوا كما يشاؤون السلطة داخل الدولة، وليس مهما أن يأتي هذا التحديد من استقلالية كل من السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ومن التعددية الحزبية، وتعدد مصادر المعلومات، ومن الإقرار بحقوق الإنسان. وتربية النظام الحليف والخاضع لمصالح الخارج على حساب المصالح الوطنية، أفضل من تربية الجميع على الحرية عن طريق المناقشة وتشريع قواعد تراقب عمل الحكومات، وتحد من عشوائيتها. وليس مهما في نظرهم أن لا تكون الديمقراطية متطابقة مع ممارسة ديكتاتورية الجماعة على الأقليات، أو أن تكون على حساب حق المحتجين في الوجود وفي التعبير، وفي احترام التعددية والاختلاف.

في غياب الإصلاح السياسي المرن، وتطوير النظام من الداخل بما يرتقي بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لمعظم الدول العربية، أصبحت مقاومة الاستبداد والنظم السلطوية الفاسدة مسألة ضرورية. وثمة حاجة إلى التجديد والتطوير السياسي لأنظمة الحكم بعد حالة الانسداد الحاصلة. ومع ما يمكن أن يكون في الطريق من صعوبة، فإن الأمر يبقى بيد الشعوب. وهي الوحيدة القادرة على تحريك السواكن وتغيير واقعها، وطي صفحة الظلم والتخلف باتجاه أفق مغاير عليها أن تحرص بأن يكون أفضل.

* كاتب تونسي

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.