الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

حـوار العمـر.. أحاديث مع الياس مرقص .. الحلقة الخامسة

بالذكرى الثلاثين لوفاة المفكر المرحوم «الياس مرقص» موقع « الحرية أولاً » ينشر كتاب “ حـوار العمـر.. أحاديث مع الياس مرقص

أجراها وحررها: جاد الكريم الجباعي *

الحلقة الخامسة: الفصل الثالث “بذرة الديالكتيك”

الاستلاب أو الاغتراب:

ـ شكراً أستاذ الياس لهذه المداخلات الرائعة، وشكراً أيضاً للمدخل الذي أفضى بنا إلى الموضوع الآخر، إلى موضوع الاستلاب أو مقولة الاستلاب التي صاغها هيغل ثم فيورباخ ثم ماركس في مخطوطات 1844، وأدعي أنها نواة عمل ماركس في الأيديولوجية الألمانية ومؤلفات الشباب. ويبدو أن هذه المقولة قد حذفت من الماركسية بعد ماركس أو ماركسية ما بعد ماركس، مع أنها من المفاتيح الضرورية، إن لم أقل المفتاح الضروري لنقد الأيديولوجية العربية لا سيما أن مجتمعنا المتأخر، أو مجتمعاتنا المتأخرة تعيش ضرباً من استلاب مضاعف، تعيش استلاباً أو اغتراباً عن عالمها، واغتراباً عن ذاتها، فضلاً عن استلابها السياسي، أي ضياع فاعليتها السياسية، الذي يتجلى في الهيمنة الخارجية، وفي نقص الاندماج القومي والتجزئة القومية، وفي الاستبداد السياسي وانفصال الحكم عن الشعب، وفي هيمنة الأيديولوجية التقليدية الامتثالية التسويغية.. فما هو رأيكم في هذه المسالة أو في هذه المسائل؟ شكراً.

# طرحت يا أخ أبو حيان الآن أموراً كثيرة، وأعتقد أن أطروحاتك صحيحة كلها، وأنا أوافق عليها واحدة واحدة، وأريد منك أن تذكرني بأي بند من البنود قد أنساه، لأنني الآن في واقع وفي عمر وفي وضع مرضي قد أنسى أحياناً. وبما أنك طرحت أموراً كثيرة فسأتناول أولاً الكلمة، المصطلح.

عندنا أولاً المصطلح الفرنسي، سأبدأ به لسبب بسيط هو أن تسعة أعشار الترجمات العربية هي ترجمات عن الفرنسية، وأنا شخصياً عندما أقوم بترجمة فيورباخ أو هيغل فإنني أترجم عن الفرنسية، وهناك من لا يعجبهم ذلك طبعاً، لكني أقول لهم حسناً، تفضلوا ترجموا عن الألمانية، من الذي يمنعكم، لكنكم لا تترجمون. أما إذا أردتم أن تترجموا عن الألمانية وتضعوا كلمة “عقل” مقابلاً عربياً لكلمة Giese وتسموا كتاب هيغل علم ظواهر العقل بدلاً من علم ظاهريات الروح، فهذا غلط وغير مقبول يا فلان يا مصري. نعود إلى موضوعنا وأبدأ بالفرنسية: الكلمة هي (Alienation) بالمعنى الشائع، وأول معنى لكلمة إليناسيون Alienee يعني المخلوع بمعنى المجنون وبيت المجانين كمستشفى ابن سينا أو “العصفورية” أو العباسية (هناك أغنية لصباح تقول خذني عالعباسية) بيت المجانين أو مأوى العجزة، هذا المعنى الذي هو في علم النفس أو في علم طب الأمراض النفسية، حتى في القاموس الفلسفي الفرنسي لاروس، الذي كان الوحيد المعترف به منذ خمسين سنة أو سبعين سنة، هذا المعنى صار عندنا العصفورية. ولا بد من ملاحظة أن فرنسا بوجه عام تطورت وحصل فيها تغير في الأربعين سنة الأخيرة، وباتت أكثر أوروبية وأكثر أممية وأقل قومية وشوفينية، وأقل رفعاً للعلم المثلث الألوان، وتراها كذلك حتى في الموسيقا الكلاسيكية وغيرها. هيغل ترجم أكثر وأكثر وعندهم انكباب على باخ، برونوباور ترجم وكذلك فيورباخ. صار عندهم القاموس الفلسفي والتقني والنقدي للمصطلحات الفلسفية لأندريه لالاند وزملائه وتلاميذه. دخلت مقولة (Alienation) مقولةً فلسفية وحقوقية. وعندهم معنى آخر إذ يقولون: إياك أن تخلع فلاناً ضدك، أي إياك (أحذرك) أن تجعله عدواً لك. أنا أحب كلمة انخلاع لارتباطها بخلعاء العرب في الجاهلية. والخليع هو المطرود من عشيرته، من قومه، ربما لجرم ارتكبه، والمتحول عدواً لها.

في الألمانية مصطلحان الأول هو (أنغروندوت) وترجمته الحرفية هي التغرب أو التغريب أي أن أصيّر الأمر غريباً عنك، عند ماركس وهيغل وفيورباخ يمكن أن تصبح: كأن البشر ينتجون شيئاً لأنفسهم وإذا به يتحول إلى سيد عليهم، إلى غريب عنهم يتعالى عليهم ويكون عدواً لهم، يصبح فوقهم. وقيل في الترجمة العربية أيضاً استلاب. والمصطلح الآخر هو (أود أوبسرد) ويعني حرفياً التخرج أو التخورج (التخارج.ج). مثلاً الهدف الذي يحمله الإنسان في داخله، الهدف ذاتي، يخرجه الإنسان إلى خارجه يجعله غرضاً مادياً. طبعاً هذا كله إمامه هيغل، ويمكن انطلاقاً من هيغل وصولاً إلى ماركس أن نقول: إن الإنسان ينشئ، يخرج، يصنع، يحقق هدفاً، يحول الهدف إلى واقع، لكن هذا الغرض المتحقق مغاير وقد يكون مناقضاً للهدف الذي توخاه الإنسان، هنا تصبح مسألة الانخلاع أو التغرب أو الاستلاب مسألة العمل الإنساني وفاعلية الإنسان كلها. أحيلك على الصفحتين الأخيرتين من مقالة إنجلز المهمة “دور الشغل في تحويل القرد إلى إنسان” حين يتكلم عن النتائج الاجتماعية والطبيعية لأفعال البشر، ويمكن أن يقول لك إن سبب خراب الأرض في كوبا هو النهب جراء زراعة قصب السكر التي درت أرباحاً هائلة على مدى سبعين سنة أو خمسين سنة، وبعدها أصبحت الأرض صخرية أو صارت جرداء، وبصدد مثل هذه النتائج على الطبيعة يذكر إنجلز آسيا الصغرى، ولنقل الأناضول وسورية كيف كانت الأرض مشجرة في معظم المناطق ثم تحولت إلى قفر، ويذكر النتائج الاجتماعية كالإفراط في زراعة البطاطا في إيرلندا، وحين أصاب البطاطا مرض مات مليون إنسان من الجوع ومليون هاجروا إلى أمريكا، أو يقول: حين اخترع العرب الكحول لم يكن يخطر في بالهم أو في بال أحد أن الأنكلوساكسون البيض سيستعملون هذا الكحول لإبادة الهنود الحمر في أمريكا. ويقول حين اخترع جيمس واط الآلة البخارية واشترك في إكمال هذا الاختراع عدة أشخاص، لم يكن جيمس واط ولا خلفاؤه يفكرون بالثورة الاجتماعية الضخمة التي ستحدث. خلاصة موقف إنجلز أنه مع ظهور الشغل البشري ظهرت فاعلية أيديولوجية، غائية، أصبح للإنسان هدف يعمل من أجله أو غاية يريد تحقيقها. ولكن لسوء الحظ لو نظرنا اليوم إلى نتائج أفعال البشر في المستوى الاجتماعي والإنساني والتاريخي لوجدناها مغايرة لأهدافهم، وأحياناً عكس أهدافهم، أي أن البشرية لم تتقدم جدياً في السيطرة على النتائج البعيدة والكبيرة لأفعالها، ومن ثم، يبدو أن المشروع الاشتراكي أو الشيوعي أو مشروع الإنسانية الجديدة الذي تتصدى الماركسية لـه هو بالضبط حل هذه المعضلة وتحقيق سيطرة البشرية على النتائج الكبرى لأفعالها. هنا ينتهي مقال إنجلز وكأنه لم يكتمل، وأنا أشعر لعدة أمور كأن إنجلز كان يريد أن يقول: إذا لم تحل البشرية هذه المعضلة فإنها ذاهبة نحو الهلاك. ولو سألتموني ماذا بقي من الماركسية بعد البيروسترويكا وخروج أوروبا الشرقية وضياع الاتحاد السوفييتي، بعد كل هذا الانهيار (وهذه الشرشحة وهي أكبر شرشحة لأكبر حركة في التاريخ) لو سألتموني هذا السؤال قبل 15 سنة أو عشر سنوات كنت سأعطيكم الجواب الذي سأعطيه الآن: الذي بقي من الماركسية هو هذه النقطة وكل ما يرافقها من نقاط. وكل من يقول لي إن الماركسية هي مذهب القرن التاسع عشر ومن الخطأ القول إنها تنطبق على القرن العشرين أقول له أنت مخطئ. هناك أشياء قالها ماركس منذ مئة وأربعين سنة لا تنطبق اليوم ولا تتفق مع اليوم بتاتاً، ولكن هناك أشياء قالها منذ ذلك التاريخ تتفق مع اليوم أكثر مما كانت تتفق مع زمانه. مقالة إنجلز التي ذكرتها ومخطوطات 1844 الاقتصادية والفلسفية.. هذا في أهم بنوده راهن اليوم. فما كان صحيحاً حين كتبه ماركس (حيث القضية ليست قائمة على خطية تاريخية) في القرن التاسع عشر يجب أن نرى إلى أي مدى كان صحيحاً وإلى أي مدى لم يكن كذلك، بعد مضي هذا الزمن على ماركس يجب أن نعرف نحن عصر ماركس أكثر مما عرفه هو. سألت أحد أصدقائي من الأذكياء مرة: من يعرف السوريين أكثر نحن أم السوريون؟ فأجابني: نحن. سألته لماذا؟ قال لأن عندنا اليوم علم السوريات، أما السوريون فلم يكن لديهم علم السوريات. لماذا نتصور أن الغزالي يعرف عصره أكثر منا. إذا كان الغزالي يعرف عصره أكثر مما نعرفه فنحن حمقى وتافهون، نحن مسلحون بالعصور اللاحقة وبالعلوم التالية للغزالي وبمعرفة مصائر الإنسان ومصائر الشعوب، يجب أن نعرف عن عصر الغزالي وابن سينا وابن رشد أكثر مما عرفوا، وإلا فنحن تعساء جداً. نحن متواضعون حيث يجب أن نكون فخورين ونحن فخورون ومغرورون حيث يجب أن نكون متواضعين، في الحالين نحن على خطأ. يجب أن نعرف اليوم عن عصر ماركس أكثر وأحسن مما عرفه هو، هذه أبسط الأمور البديهية. لماذا نعتقد أن ماركس شمل علوم عصره، هذا غير معقول. ما الذي درسه ماركس مثلاً؟ بدايات قيام الرأسمالية، حسناً، من المفروض اليوم معرفة هذه البدايات على نحو أفضل مما عرفه هو، أما إذا كنا جهلة نحن وغيرنا، فالذنب ذنبنا وليس ذنب ماركس، ثم ليس صحيحاً أن كل ما قاله ماركس عن عصره في عصره كان صحيحاً، وما قاله ماركس في عصره عن عصرنا مغلوط، هذا غير صحيح هناك أشياء قالها وقضايا مهمة هي أصح اليوم مما كانت عليه في زمنه. لنأخذ مقولة الانخلاع أو الاستلاب الذي في اعتقادي فعلاً أن ماركسية لينين وكذلك بليخانوف وغيره والماركسية العالمية قد تخلت عنها، هذا خطؤهم، وهذا الخطأ هو تضييع لجزء من الجذر الروحي للماركسية. ستالين طبعاً شطبها، وهذا الشطب عام عند الماركسيين، ويمكن في هذا الصدد الاعتماد على كثير من نصوص ماركس وإنجلز. وما جاء في البيان الشيوعي من “تهكم” على مقولة الانخلاع إنما كان تهكماً على بعض من استعملها في سياق مختلف. ولحسن الحظ وجد في القرن العشرين من الماركسيين لا سيما المتعاطفين مع الاشتراكية الديمقراطية في زمن كاوتسكي، أو بعد الحرب العالمية الثانية، من أعادوا بعث مقولة الانخلاع واهتموا بماركس الشاب، وخاصة مخطوطات 1844 التي أهم ما فيها مقولة الانخلاع أو العمل المنخلع أو الشغل المنخلع. ستالين ومن بعده ألتوسير شطبا هذه المقولة ويمكن تسمية مذهبهما بالستالينية السوربورنية، وأن نصفه بالعقيدة النظرية الطامحة إلى تسليح البؤر الثورية والمتلاعبة بمقولة التناقض.

مثل ألتوسير اتجاهاً علموياً في الماركسية، ومهما تكن أخطاء خصومه من أمثال غارودي أو من الماركسيين الهجوميين، فهم في نظري ألصق منه (من ألتوسير) بالماركسية. والخيار ليس بين هذا وهؤلاء، ولا توضع المسألة في صيغة إما ألتوسير على حق أو خصومه. ألتوسير حذف مقولة الاستلاب أو الانخلاع وأعلن مبدأ سماه “مناهضة النزعة الإنسانية في النظرية”، كل الإنسانية، النزعة الإنسانية عنده موضوع الأخلاق أو السياسة أو الدعاية، ولكنها ليست موضوع النظرية، وكذلك قال بالمناهضة للنزعة التاريخية. ويجب أن نلاحظ أن هناك جانباً مهماً وصائباً في موقف ألتوسير هو اعتراضه على مبالغات تاريخانية في صف الماركسية. ولا شك أن الماركسية شطحت على يد ستالين وغيره وعلى يد خصومه أيضاً. غير أنني أرى أنه لا يحق لألتوسير أن يرد على تلك النزعة التاريخية الخطية أو على ذلك الجموح التاريخاني، أليس هو الذي يمد يده للبؤر الثورية ولمقولة التناقض الماوية (نسبة إلى ماوتسي تونغ). إنه يعيش في جو باريس 1964 ـ 65 ـ 69، زمن ذروة اليسار والحركة الطلابية والثقافية والشعبية، بعد ذلك تغير الجو كله كأن باريس عام 1984 تراجعت عشرين سنة بل مئة سنة. يمكن أن تمر أمام مكتبة فتجد عدة كتب مهمة ضد الاتحاد السوفييتي وفضح لعصر ستالين المخابراتي والإرهابي، كتب مهمة منها كتاب لرجل مخابرات سوفييتي هرب إلى كندا وقتل بعد نشر كتابه، هجمة يمينية أو يمكن أن تخدم اليمين، صحفيون فرنسيون كانوا مع ماوتسي تونغ انقلبوا إلى أقصى اليمين، بهرجة العالم الثالث في السبعينات وأوائل الثمانينات سقطت، أي إن المثقف الباريسي الساخط على النظام البورجوازي والحضارة الغربية، والذي كان قد وضع أمله في كوبا وفي البؤر الثورية وفي الثورة الفلسطينية وفي فيتنام.. جاء وقت شعر فيه بخيبة الأمل، فانقلب إلى النقيض. وهناك نقطة حول ألتوسير أعتقد أن الترجمة العربية لكتابه “قراءة رأس المال” هي ترجمة للطبعة الأولى التي عمل فيها كل من ألتوسير وباليبار وباشوريه واستابلين.. خمسة أشخاص، ترجمة تيسير شيخ الأرض، وزارة الثقافة. أنا لم أقرأ هذه الترجمة. ولكن لم تمض سنوات قليلة على هذه الترجمة حتى ظهرت طبعة جديدة في باريس عن ماسبيرو بجزأين صغيرين، مع تحذير وتنبيه في الصفحة الأولى والثانية بتوقيع ألتوسير نفسه يشير فيها إلى أن معظم مقولات الطبعة الأولى قد تم الاستغناء عنها، وأن الطبعة الجديدة اقتصرت على مقالين لألتوسير ومقال لباليبار من دون أي تعديل. هذا التحذير أظن أن تيسير شيخ الأرض وأنطون مقدسي وغيرهم ممن رفعوا راية ألتوسير لم يقرؤوه. ماذا يقول ألتوسير في هذا التحذير في الصفحة الثانية؟ يقول: كتابي فيه سقطات وضعانية ونظروية وأيديولوجية، ويستطيع القارئ أن يجد هذه السقطات. طبعاً، أنا أعترض مباشرة، القارئ لا يستطيع أن يجد، فيا ألتوسير كن صريحاً أكثر من ذلك، ولا تكتف بصفحتين أو بنصف صفحة. ويتابع ألتوسير: أريد أن أذكر بوجه خاص أن تعريفي للفلسفة بأنها نظرية الممارسات النظرية هو تعريف مغلوط ووضعاني. أريد أن أقف عند هذه النقطة وأقول: إذا كان ألتوسير قد عرّف الفلسفة بأنها نظرية الممارسات النظرية، وإذا أردنا أن نبتعد عن مفرداته العجيبة أحياناً ونستعمل عبارات لينينية أو ماوتستونغية معقولة، نقول: إنه قد عرف الفلسفة بأنها نظرية الفاعليات العلمية، نظرية النشاطات العلمية، نظرية العلوم. ولا نحتاج بعد ذلك إلى لف ودوران. وأنا بهذا لا أخون ألتوسير قيد شعرة، هو هكذا، الممارسة النظرية عنده تعني العلوم، فاعليات العلوم، فهي غلطته إذن. وإذا كان لاعترافه أو لتراجعه من معنى فهذا المعنى هو أنه جعل الفلسفة نظرية العلوم والفاعليات العلمية والفكر العلمي. ما معنى كلامه؟ معناه أن الفيلسوف يتعامل مع أينشتاين أو مع فردناند دو سوسور ومع كلود ليفي شتراوس، مع العلماء، علماء العلوم، في حين تتعامل الفلسفة مع عمل النجار وعمل المزراع ومع المعارف السياسية وعمل الشعوب مع مجموع العمل الإنساني ومع اللاهوت، مع كل هذه الأمور وتتعامل كذلك مع الفن، تتعامل مع عمل البشر من دون أن تجبرنا على المرور بأينشتاين أو ماكس بلانك أو بعلم التحليل النفسي لفرويد، وإلا فإن الفلسفة تكف عن كونها فلسفة. الألتوسيرية هي إلغاء الفلسفة. وحين يتهم ألتوسير فرنسا في كتابه “من أجل ماركس” بأنها أهملت أوغست كونت الذي هو رأس الوضعانية فهو مخطئ، لدي كتاب آرما تفيلييه “الفلسفة” إذا فتحناه وعددنا كم مرة ورد فيه ذكر أوغست كونت نجدها أكثر من المرات التي ذكر فيها هيغل. وإذا أخذت فهرس الأسماء في نهاية الكتاب تجد أوغست كونت واحداً من الخمسة الأوائل في تواتر ذكرهم، وكذلك في كتاب البكالوريا في فرنسا. أوغست كونت لم يهمل في فرنسا، العكس هو الصحيح، ولكن هناك كتباً مدرسية تنقد أوغست كونت وتعدد أخطاءه أو بعض أخطائه، وهذا شيء عظيم.

وإذا عدنا إلى موقف ألتوسير من مقولة الانخلاع فإن له، بعد التراجع الذي ذكرته، تراجعات كثيرة، في حين تقرأ في مجلة النهج مثلاً (عدد خاص عن البيروسترويكا 1987) لتجد فيصل دراج يتكلم مثل نصف المتكلمين كأننا ما زلنا في عام 1980 ويذكر ألتوسير كثيراً ويرفع لواءه، ويهاجم مقولة الانخلاع باحتقار علموي. من دون أن يعلم شيئاً عن تراجعات ألتوسير الذي قال إن ماركس استعمل مقولة الانخلاع في رأس المال، وليس فكرة الانخلاع فقط، عشر مرات، فقيل لـه لا استعملها خمس عشرة مرة، ورد آخرون بأنه استعملها اثنتين وعشرين مرة. ولدى مناقشة تحت عنوان “الماركسية والبنيوية” تبين أنه حين يقول ألتوسير أن مقولة الانخلاع ومقولة النفي ونفي النفي كلها مقولات مثالية وميتافيزيقية وأيديولوجية، وهي مقولات ألمانية غامضة ومبهمة تجد أن كثيراً من الفرنسيين يعجبهم ذلك ويسرون بأن هناك تهمة من الفرنسيين للألمان. فالفرنسيون ينظرون إلى أنفسهم على أنهم شعب العقل والوضوح، أما الألمان فشعب الغموض والفلسفة والتناقض والموسيقا الغامضة. نقد ألمانيا يعجب الفرنسيين. قرأت كتاباً لديغول يوم كان شاباً عن حتمية الحرب بين فرنسا وألمانيا، يصف في إحدى صفحاته الأمة الألمانية وصفاً جميلاً إذ يقول: هذه الأمة التي أعطت أعظم فلسفة وأعظم موسيقا والتي فيها الكثير.. فيها شيء ما بربري. فهو يوازن بين إنصاف ألمانيا ونقدها بشدة. وديغول رجل كان يفهم العالم ويفهم التاريخ والأمم ويفهم هيغل، وقد وضع أحد أقوال هيغل عنواناً لفصل من فصول كتابه هو “الأمر هكذا” وبين قوسين هيغل أمام منظر الجبال. وأنا كتبت عن ياسين الحافظ رحمه الله مخطوطة لم تنشر قلت فيها: إنه من أولئك الذين يرون جبال الواقع الاجتماعي ويقولون كما قال هيغل “الأمر هكذا”. هناك جبال الطبيعة، وهناك واقع هو جبال لا ترى بالعين المجردة. مجلة الطليعة المصرية وصفتها بأنها مصراوية حين ينبغي أن تكون عربية وعروبية حين ينبغي أن تكون مصرية وتدافع عن مصر في زمن عبد الناصر، هذا هو ديغول. هنا ألتوسير وخصومه شنوا حملة على الغموض باسم ديكارت. ولذلك كتبت في افتتاحية لم تنشر في مجلة الواقع لأنني تركت العمل في المجلة قبل صدور العدد الخامس، وفيها مقال ترجمته أنا، وهو جميل جداً. في الافتتاحية أقول: أولئك الفرنسيون الذين تصوروا أنفسهم خلفاء ديكارت وخلفاء الوضوح الديكارتي، يمكن أن يقول عنهم ديكارت كما قال ماركس: زرعت تنينات وحصدت براغيث. هؤلاء الفرنسيون ليسوا خلفاء ديكارت بل خلفاء سقراط. العدد الذي ذكرته من مجلة الواقع أهم ما فيه مقال لجاك دونط عن كارل ماركس عنوانه “اختفاء الأشياء في مادية ماركس” اختفاء الأشياء في ماديانية ماركس، أذكره لأنه مرتبط بألتوسير وموضوع هزيمته. هناك تيار في فرنسا ومنه شخص أعلن أن لينين وإنجلز ملوثان باللاهوت،وأن ماركس خال من اللاهوت، فيرد عليه جاك دونط (هيغل الكبير) في مجلة الفكر التي يصدرها الشيوعيون الفرنسيون “المجلة الفلسفية” إنه إذا كان لينين وإنجلز ملوثين باللاهوت، فإن أول الملوثين باللاهوت، والحمد لله، هو كارل ماركس. ويذكر أن ماركس في حديثه عن دورة المال بصفته رأسمالاً: مال ـ سلعة ـ مال، مال ـ سلعة ـ مال + فضل قيمة. يستعمل ماركس عبارة من اللاهوت اللوثري مباشرة هي المحسوس فوق المحسوس، المحسوس الذي فوق المحسوس. وهي واردة في اللاهوت اللوثري بمناسبة الخمر والخبز في العبادة المسيحية، في الطقوس المسيحية أي التحول إلى دم المسيح وجسده، ولوثر رجل كتابي وحرفي لا يقبل أي تفسير رمزي. والعبارة تعني هذا دمي وهذا جسدي. ويبدو أن ماركس كان يسمع عبارة المحسوس فوق المحسوس هذه من أمه وهو فتى، إذ كانت أمه يهودية تقية ثم تحولت إلى المسيحية اللوثرية البروتستنتية وثابرت على التقوى (التشدد الديني) بخلاف أبيه الليبرالي والمستنير المتحرر الذي أراد أن ينسجم مع العصر الحديث فصار مسيحياً بروتستانتياً. وقد اختار البروتستانتية مع أنهم عاشوا في مدينة غالبية سكانها كاثوليك. ويمكن أن نذكر قضايا من هذا القبيل عن لينين وإنجلز، ويمكن أن نذكر العكس أيضاً. وإنك لتشعر وأنت تقرأ كتاب لينين “من هم أصدقاء الشعب”، أنه يتعامل مع تهمة الخصوم بأن الماركسية أخذت النفي ونفي النفي عن هيغل وهيغل أخذها عن اللاهوت المسيحي (الأب والابن والروح القدس) ورد الماركسيين بنفي علاقتهم بهيغل. لينين في مرحلته الأولى سقط في هذا النفي، وأنا كذلك سقطت فيه خلف ستالين. لقد ألغوا مقولة نفي النفي، أما اليوم فأنا لا أقبل إلغاءها إطلاقاً.

ألتوسير شطب مقولة نفي النفي من أساسها وأمسك بقضية التناقض. وأنا أنصح الماركسيين اليوم باستعمال كلمة تعارض وتقابل أكثر من كلمة تناقض، وبكلمة نفي وتنافٍ. هناك الكثير مما يؤخذ على مقولة التناقض عند ما وتسي تونغ، أما الألتوسيرية فلم تعد مقبولة. ونحن كيف تصورنا التناقض؟ تصورنا أنه يجب حذف أحد حديه وإلغاؤه. شتت التناقض تحقق التطور. لا، فمن الممكن أن تشتت التناقض فتخرب الدنيا، الأمور ليست كذلك.

إن أمامنا ثلاث خيارات أساسية للموقف من العالم: خيار رفض هذا العالم أولاً. والخيار الثاني قبول العالم، والخيار الثالث النفي الإيجابي للعالم، أي أنا أريد أن أحول العالم وأن أغيره، وقد أعلنت بقوة أن الأرض ليست السماء، والدنيا ليست الجنة، وغير قابلة لأن تحوَّل إلى جنة، ولكن الدنيا قابلة للتحسن وللتحسين، وواجبنا هو تحسينها. الجذر الروحي لمقولة التقدم عند ماركس وإنجلز أو باسكال أو عند روسو وتوماس مور، على اختلافهم وتضاربهم، هو الجذر المشترك، الإنسان يمتاز من الحيوان بأنه قابل للتحسن. وحين يكتب فلان أو فلان عن التاريخية والتاريخانية بدون هذا الجذر أي قابلية الإنسان للتحسن، فإنه يعطينا شيئاً بلا جذر روحي، وهذا ما يجب أن نقاتل ضده. هذا كان شعوري بنقائص عبد الله العروي منذ سبع عشرة سنة أو عشرين سنة، يجب أن نضع الجذر الروحي نصب أعيننا دوماً، وهذا يعني أنه يجب أن نخاطب مشاعر الإنسان، نعم يجب أن نخاطب المشاعر والعواطف، الروح والوجدان. وقد كانت الصفحة الأخيرة من كتابي ضد ساطع الحصري كلها على هذا النحو، نحن ضد الامبريالية، نحن ضد العواطف، لم تعجبني وضعانية الحصري المختصرة.

يجب أن نقول إن التغرب شرط إنساني، حال بشري، هذا الشعور كله، وكل هذا الواقع يعني أن لدى الإنسان طموحاً، هذه ميزته على الحيوان. لن نتكلم عن التغرب بلغة الاتهام، وبعد ذلك أكيد أننا يجب أن نستوعب اليوم أكثر من أي وقت مضى حديث كارل ماركس عن التغرب، عن الانخلاع في مخطوطات 1844. أذكر بمثال الهنود الحمر في الأمازون، وهذا غير بعيد عن كتاب كارل ماركس.

ولكني أريد أن أقف عند الحاجات المصطنعة والزائفة. يجب تمييز حاجات الإنسان الأساسية، الجذرية من الحاجات الزائفة. عندي براد أريد مجمدة وعندي سيارة أريد اثنتين وغداً ابني يريد ثالثة.. أليس هناك حد لحاجات الإنسان؟ أنا أقول إذا لم يكن هناك حد لحاجات الإنسان فالبشرية ستنتهي إلى الهلاك. يجب أن يكون هناك حد لحاجات الإنسان. الاتحاد السوفييتي اليوم /1990/ ينقصه الرفاه، أما الغرب فهو في وضع آخر وينقصه شيء آخر، أما نحن فالذي ينقصنا هو الحرية والقانون، تنقصنا إذن إمكانية التقدم، وكذلك ينقصنا الخبز، الزراعة، تنقصنا المعيشة، تنقصنا الحياة. إذا كانت حاجات الإنسان برميل بلا قاع فالمستقبل مظلم.

جاد الكريم الجباعي

مفكر سوري، مجاز في علوم اللغة العربية وآدابها من جامعة دمشق، مهتم بالفلسفة المدنية وقضايا الديمقراطية والمجتمع المدني والدولة الوطنية وحقوق الإنسان والمواطن، له عشرات المقالات والأبحاث والدراسات والكتب.

 

——————–
يتبع.. الحلقة السادسة: الفصل الرابع الانحطاط ـ النهضة ـ “

التعليقات مغلقة.