الحوار
مقدمة العمل والديمقراطية،
غاية وطريق
والثورة العربية
مازالت ثورة وطنية ديمقراطية
حزب الاتحاد الاشتراكي العربي د.جمال أتاسي في سورية 1979
الحلقة الرابعة: الديمقراطية كمعيار للتقدم
لقد أكدنا فيما تقدم على الطابع العام والشمولي للثورتين الكبيرتين، ثورة الديمقراطية السياسية وثورة الديمقراطية الاجتماعية وعلى استمراريتهما وتداخلهما في حياة البشر كقناعات وقيم. وأياً كان الانتقاص منهما هنا أو هناك أو السلب الذي يأخذ منهما، فإنهما تظلان تشكلان حوافز في حياة البشر وفي تنظيم العلائق الاجتماعية بينهم وفي التشريع وسن القوانين وإقامة النظم، كما كانتا وستظلان حوافز للتغيير، وترسمان مسار التقدم وأهدافه، لتصبح قضية الديمقراطية وهي المعيار الحقيقي للتقدم. إنها قضية الحرية وقد أنزلها نضال البشر ضد الظلم والاستغلال، من أبراج التأمل الفلسفي والمقولات الميتافيزيقية إلى أرض الواقع، لتصبح قضية تحرر وتحرير، ولتوضع في سياقها التاريخي، أي في حياة المجتمعات الإنسانية وصراعاتها، وليصبح التاريخ بها تاريخاً هادفاً، نجد مثلاً أن إعلان حقوق الإنسان الذي جاءت به الثورة الفرنسية الليبرالية بين عام 1789 وعام 1791، ما لبث أن أخذ امتداده وشموله كمبادئ ناظمة، وهو مازال يفرض مقولاته على أكثر نظم العالم لتنصعلى مبادئه دساتير الدول وتشريعاتها، ولو أن الواقع والتطبيق يسلب منها الكثير. كذلك فإن ما جاءت به الثورة الاشتراكية، أو ثورة الديمقراطية الاجتماعية من معطيات ومقولات، في تسييس الاقتصاد وظروف الإنتاج وعلاقاته، وفي ربط ممارسة الإنسان لحقوقه السياسية بخلق ظروف من تكافؤ الفرص وعدالة التوزيع تمكنه من تلك الممارسة، وفي التنهيج الاقتصادي العام للشعب وإرضاء حاجاته، وغير ذلك من الأمور التي تعمقت لتفرض اتجاهاتها العامة على المستوى الإنساني، ولنجدها في بيانات المؤسسات الدولية وفي مقولات النظم ودساتير الدول، ولو أن واقع الاستغلال الطبقي والهيمنات البيروقراطية مازال يحدّ من جدواها أو يبعدها عن أهدافها. وإذا ما أخذنا كمثال أيضاً مسألة الملكية الخاصة، تلك المسألة التي تشكّل نقطة افتراق ومحوراً للصدام بين الليبرالية والاشتراكية، نجد في الواقع، أن الثورة الليبرالية في نزعتها العقلانية وفي دفعها على طريق علمنة الدولة والمجتمع وإقامة العلاقات على أساس المصالح والمنافع، فقد نزعت من الأساس عن الملكية الخاصة صفة القدسية وصفة الحق المطلق الذي كان مرتبطاً بمرحلة الإقطاع ونظم ملوك الإقطاع والطوائف والنظم الكنسية، لتجعل منها وظيفة اجتماعية وعلاقة اجتماعية، وهي لو أنها أعطت نظام الاستغلال الرأسمالي فقد أعطت أيضاً التمهيد للثورة الاجتماعية. وإذا ما جاءت الثورة الاشتراكية بعد ذلك لتربط قضير تحرير الإنسان وإقامة مجتمع الحرية والعدالة بنزع الملكية الخاصة وجعلها ملكية عامة تديرها الدولة أو يديرها العاملون والمنتجون بأنفسهم، فإن ذلك النزع ولو في مجالات أو حدود لم يعد إجراء خاصاً بالاشتراكية والنظم الاشتراكية. فما من دولة اليوم، إلا وأصبحت فيها ملكية عامة وقطاعات عامة في الاقتصاد، ومن هذه الناحية فإن المجتمعات الرأسمالية نفسها قد فقدت صفتها الليبرالية التقليدية في إطلاقها. فإقامة قطاع عام في الإنتاج وفي الاقتصاد الوطني عامة لم يعد شيئاً خاصاً بالنظم التي تأخذ بالمنهج الاشتراكي أو بالطريق اللارأسمالي. وإذا كان وجود القطاع العام بالنسبة لنا ليس بذاته أو لوحده الدليل على الاشتراكية ولو شمل الاقتصاد كله، أي ليس لوحده دليل الوصول إلى تحرر الإنسان، فليس هذا الموضوع بحثنا، وكل مقصدنا من هذه الإشارة التأكيد على ناحيتين : أولاهما ما أصبح قائماً من تداخل بين قضايا الحرية السياسية والحرية الاجتماعية بحيث لا يمكن الفصل بينهما، وثانيهما ذلك المنحى العقلاني الذي أخذت به المجتمعات المتقدمة على غيرها أو التي نسميها بالعصرية والحديثة، في بناء حياتها وعلاقاتها، والذي نعينه دائماً عندما نقول بالتحديث والأخذ بروح العصر كمدخل لبناء تقدمنا وتمثلنا للتجارب الإنسانية. إنه تراث إنساني في تقدم وعي البشر، وإنها خبرات لا بدّ لنا من تمثلها واستيعابها ليكون لها فعلها في تطوير الوعي السياسي والاجتماعي لجماهير شعبنا وهي تتقدم على طريق التحرر فلا يقعدها التخلف ولا يصدها التعصب. وإذا كنا نقول بالتغيير الثوري فما من ثورة تقوم اليوم إلا ومطلوب منها أن تتمثل تجربة ما سبقها من ثورات، هذا إذا أرادت أن تكون تاريخية وبنت عصرها، لا أن تكون تفجرات وانقلابات تمضي عارضة أو ترتد إلى مواقع التأخر والعجز.
* * *
د. جمال الأتاسي ( 1922- 2000)
دكتوراه في طب النفس والعقل ، أحد مؤسسي حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، وأمينه العام
يتبع.. الحلقة الخامسة: من العام إلى الخاص – ثورات التحرر الوطني
التعليقات مغلقة.