الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

حوار العمر .. أحاديث مع الياس مرقص… الحلقة الرابعة

بالذكرى الثلاثين لوفاة المفكر المرحوم «الياس مرقص» موقع « الحرية أولاً » ينشر كتاب “ حـوار العمـر.. أحاديث مع الياس مرقص “
أجراها وحررها: جاد الكريم الجباعي *

الحلقة الرابعة: الفصل الثاني ” المادية والمثالية

إذا عدنا إلى سؤال المادية والمثالية، نلاحظ أن في تاريخ الفلسفة سلسلة من الفلاسفة اصطلح على تسميتهم بالفلاسفة الماديين، أو يسلكون في سلك المادية، في خط المادية، أو الماديانية أبرزهم ديمقريط الذري وأبيقور وإسمانيو العصر الوسيط أو أرسطوطيليو العصر الوسيط خصوم الواقعية الأفلاطونية في العصر الوسيط أيضاً، ثم جون لوك والتجريبيون الماديون، غاسندي الذري خصم ديكارت ثم الماديون الفرنسيون والإنكليز في القرن الثامن عشر وأخيراً لودفيغ فيورباخ، هؤلاء أئمة الماديانية ورموزها الكبيرة بوصفها فلسفة حقيقية وجبارة، وهي بحق الفلسفة الماديانية كما اصطلح عليها. المادية الجدلية الستالينية شيء رخيص وتافه مقارنة بهذه الفلسفة.

لدينا في القرن الثامن عشر ما يمكن أن نسميه الماديانية الاجتماعية، عنيت بدراسة الواقع الاجتماعي كما هو، ضد المثالية الواعظة وضد المثالية الرخيصة. بينت مثلاً أن الأنانية تفيد، كأن يقول أحدهم لولا الأنانية لم تتقدم البشرية، أو كأن يؤلف أحدهم كتاباً عنوانه “دفاع عن الرذيلة” أو يصف ثالث المجتمع بعجره وبجره، بحسناته وسيئاته وصفاً تفصيلياً غنياً، في حين اختزلت الستالينية المجتمع بالطبقة “والواقع” بالمادة والحركة وبهذا المعنى إذا أردنا أن نعطي كلمة مثالية وصفاً سلبياً وتحقيرياً نستطيع القول: إن أكبر مثالية في التاريخ هي مثالية ستالين، إذ تختزل الواقع وتبدده وتبخره، تختزل الدنيا إلى مادة وحركة. ما هذا؟ مادة وحركة؟! من قال إن مقولة: لا حركة بلا مادة ولا مادة بلا حركة هي مقولة ضد هيغل؟ بالعكس هذه أطروحة هيغلية ومعظم الماركسيين لم يفهموها. الأطروحة تقول لا حركة بلا مادة، وتقول: لا مادة بلا حركة، أي أنها ربطت بالتلازم مقولة المادة ومقولة الحركة، مقولة المادة التي هي، كما بينا، غير مقولة الوجود وغير مقولة الكائن وغير الطبيعة. ربطت المادة بمقولة الحركة، المقولة البسيطة التي هي غير مقولة التغير وغير مقولة التحول وغير مقولة الصيرورة. مقولة الحركة تعني أن هناك مادة، وهناك مادة تعني هناك حركة. الحركة مفهوم بسيط جداً وكبير جداً. ليس غنياً، ولكنه ليس ملتبساً أو متداخلاً وهي المقولة المحسوسة مباشرة المرئية، أي إنني إذا فتحت عيني لا أرى التغير، أرى الحركة. عندما نقول حركة حسب أرسطو وهيغل وماركس فيجب أن نقول مادة. وعندما نقول مادة نقول مباشرة صفتها الحركة، أي أنها تتحرك. ستالين تحدث عن الحركة من دون المادة. لم تظهر المادة إلا في الفصل الثاني من كتابه (يقصد كتاب “المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية”.ج). وعندما تحدث عن المادية قال: المادة، هذا غير معقول وغير ممكن عند أي واحد لديه تربية فلسفية هيغلية أرسطوطيلية. علمنا ستالين أن مقولة الحركة مستوعبة في مقولة التغير والصيرورة، في حين أن العلم الحديث كله قائم على أنه لا بد من فرز الحركة لأن الحركة شيء بسيط، شيء مرئي. الحركة لا تعرف.

جميع الفلاسفة متفقون على أن هذا محرز فلسفي، كل عصر ينحت مقولات أكثر فأكثر ويستحدث مقولات جديدة يبني مقولات ومفاهيم جديدة. في القرن السابع عشر والثامن عشر برزت مقولة الحركة ومقولة المادة مرتبطتين بعلم الميكانيك وبالصناعة والعمل الإنساني.

1 ـ مآثر المثالية أو دفاعاً عن العقل :

ثمة مسألة لا بد من إثارتها وهي أن الفلسفة المثالية الكبرى هي أكبر شقيقة للعقل، شقيقة فكرة العقل Reson فمن غير الممكن أن أتكلم عن العقلانية من دون أفلاطون. إذا سألت من أكبر رموز العقلانية ومؤسسيها فإن الجواب هو أفلاطون. وفي التراث الماركسي الجيد نجد هذا الموقف. تعرفون جورج بوليتزر بوصفه شارحاً فرنسياً متعصباً للماركسية الفرنسية وتعرفون كتابه “أصول الفلسفة الماركسية” الذي ترجم إلى العربية عدة مرات آخرها ترجمة الدكتورة فهمية شرف الدين حسب الأصل.. ونعرف أن كتاب بوليتزر هذا كان كتاباً رئيساً في جامعة الرفاق في عدن هو وكتاب غارودي “النظرية المادية في المعرفة”. كتاب بوليتزر جعله معروفاً عندنا وفي العالم على أنه ستاليني متعصب. اليوم هناك بوليتزر آخر، هو نفسه، لكن غيره، عندي مقال لجورج بوليتزر نشر في مجلة الفكر الفلسفية الشيوعية الماركسية سنة 1939، أي سنة صدور تلك المجلة، ثم أعيد نشره في المجلة نفسها عام 1955 في عدد خاص شمل عدداً من المقالات المنشورة في السنة الأولى. عنوان مقال بوليتزر “الفلسفة والأساطير أو الفلسفة ضد الأساطير”. يبدأ مقاله برفع لواء أفلاطون الذي طرد الشعراء من المدينة (الجمهورية.ج) مكللين بالزهور، ومعنى ذلك أن المفهوم، الفكرة المفهومية تطرد الأساطير والرموز وصور العصور البربرية البدائية العجمية تمهيداً للانتقال إلى شيء جديد. بوليتزر يرفع لواء أفلاطون وليس غيره. أفلاطون = العقل ضد الشعراء الذين “يتبعهم الغاوون” ضد الخطاب الملحمي الهوميري. اللوغوس الفلسفي يحل محل اللوغوس الشعري. وجورج بوليتزر كان يخوض المعركة، في هذا المقال، ضد الفاشية والنازية وضد الحرب وضد الوجودية التي كان يرى فيها مساعدة للفاشية، وضد الاتجاه المناهض للعقل، كان يخوض المعركة باسم العقل ويرفع لواء أفلاطون من البداية. طبعاً هناك مبالغات في المقال، لكنني أذكر أنني وجدت بوليتزر آخر.

والآن بعد هذه التحية العالمية لأفلاطون أتساءل: ما ميزة المعسكر الآخر، ما مأثرته؟ أقول مآثره كثيرة. الفلاسفة المثاليون لديهم دائماً جنوح مبالغ فيه نحو العموميات، نحو الرؤيات الكبيرة. إن قيمة الفلسفة الماديانية أنها تعيد، تُرجع إلى الواقع، إلى تفاصيل الواقع المعيش. في العصور الوسطى كان هناك معسكران: معسكر أطلق عليه اسم الواقعيين وهم تلاميذ أفلاطون ومعسكر آخر هو معسكر الاسمانيين وهم خصوم أفلاطون. والمشاجرة بين المعسكرين هي مشاجرة الكليات. كانوا يتساءلون ما هي الكليات؟ ما حقيقتها؟، فحين نقول الحصان أو البيت هل هو موجود أم غير موجود، واقع، غير واقع، ما هو؟ هذه المساجلة الرهيبة العظيمة الابتدائية كانت الإطار النظري والقاعدة لكل الفلسفة الغربية في القرن الثاني عشر والثالث عشر، عصر السكولا ستيك العظيم، الأفلاطونيون أو الملقبون بالواقعيين أعلنوا أن الكليات موجودة وأنها هي الواقع الحقيقي، الحصان العام، الحصان المثالي هو جوهر، موجود حقيقي، وما الأحصنة المختلفة إلا ظلال للحصان مع الـ التعريف. في حين كان جواب الاسمانيين، أي الماديانيين، أن لا، فالموجود الواقعي هو الحصان المفرد والأحصنة المختلفة، وها هي أمامنا، هذا ذيله طويل وذاك ذيله قصير، هذا أحمر وذاك أبيض وأحمر.. بين هذين المعسكرين ظهر معسكر المفهوميين، ولعله أقرب إلى أرسطو، معسكر وسط هو نوعاً ما أقرب إلى تفكيرنا أو إلى العقل السليم. ولكن علينا أن نمجد المعسكرين النقيضين، اللذين دفع كل منهما المسألة نحو الحد الأقصى، نحو المفهومية الكبرى. الواقعيون كانوا مثاليي العصور الوسطى أو أفلاطونيي العصور الوسطى، والاسمانيون هم ماديو العصور الوسطى. امتداد الاسمانيين في العصر الحديث هم التجريبيون خلفاؤهم الطبيعيون هم التجريبيون أو الخبريون الذين واصلوا مسيرتهم من أمثال جون لوك وفرنسيس بيكون وسلسلة من الفلاسفة الماديين الأقل شأناً: هوبز وأخيراً بيركلي المثالي الذاتي وهيوم. هنا ارتكب لينين خطيئة كبيرة بالتنقيص أو بالجهل حين قال في كتابه “المادية والمذهب النقدي التجريبي” إن لوك هو مؤسس التجريبية ومن لوك يمكن الذهاب إلى ديدرو المادي، ويمكن الذهاب من لوك إلى بيركلي، أي إن لينين اكتشف بصواب وأعلن أن ديدرو المادي (حليف لينين) يأتي من جون لوك. ولكن خصم لينين المثالي الذاتي الرجيم يأتي أيضاً من جون لوك. هذا لطيف جداً من لينين. لكن هناك نقطة يجهلها لينين هي أن بيركلي لا ينتسب إلى التجريبية فقط، بل ينتسب مباشرة إلى الاسمانيين، إلى اسمانية العصور الوسطى. أي إن بيركلي يعرف بأنه اسماني، وسبق أن قلنا إن الاسمانيين هم ماديو القرون الوسطى فبيركلي المثالي الذاتي الذي ينكر المادة والأشياء لا ينتسب إلى أفلاطون بل إلى اسمانية العصر الوسيط، إلى مادية العصر الوسيط. واضح أن لينين لم يكن يعرف هذه النقطة حين كتب كتابه المذكور، ولعله ظل يجهلها إلى آخر عمره، لأنه ليس متخصصاً في الفلسفة. وإنك إذا فتحت أي كتاب مدرسي فرنسي أو أي قاموس فلسفي جيد فسوف تجد أن بيركلي ينتسب إلى التجريبية وإلى الاسمانيين مباشرة.

ومن مآثر المادية أو الماديانية أنه في حين كان الأفلاطونيون والعقلانيون يرفعون لواء العام، كان الماديون يرفعون لواء الأفراد، حين كان المثاليون يرفعون الهوية العامة والوحدة كان الماديون يرفعون لواء التعدد والاختلاف، لواء الفرد والأفراد. وحين كان المثاليون يعظمون اللغة والكلام واللوغوس، باعتبار أن اللغة قائمة على الكلي وعلى العام، راح الماديون في القرن السابع عشر والثامن عشر يهاجمون اللغة ويحذرون من خداع اللغة. الماركسية الستالينية شطبت ذلك كله. رفعت لواء المادية من دون أن ترى مآثرها ولا سيما مأثرتها الكبرى الحقيقية، فقد تحدث ستالين في كتابه عن التطور والتغير والصيرورة والكم والكيف والتناقض وصراع الضدين.. لكنه ألغى مقولة الاختلاف وألغى الفردي والأفراد، ومن ثم ألغى الهوية وألغى العام. فإلغاء الخاص هو إلغاء العام، ومن يلغي الأفراد يلغي الهوية العامة، يلغي الهوية الفردية ويلغي، في الوقت ذاته، الهوية بصفتها تماثل المختلفات، أي يلغي الهوية بشكليها، لم نعد نرى الفردي ولم نعد نرى الهوية تماثلاً بين المختلفات. هنا ارتكب ستالين تزويراً مرعباً وصريحاً لعله التزوير الأكبر في كتابه، فضلاً عن التزويرات غير المباشرة كأن ينقل نصاً من إنجلز ويقتطع منه واضعاً ثلاث نقاط مراراً ويشوه الشواهد.. ولكن هنا في هذه المرة ارتكب تزويراً مباشراً إذ اعتمد في عرضه الديالكتيك على شواهد من إنجلز ومن لينين، وحين وجد من الضروري إدخال ماركس نقل شاهداً من سطرين يقول: الفكر يحتاج إلى حامل والحامل هو المادة. المادة حامل الفكر وقوام الفكر. جملة جيدة وصحيحة يمكن أن تأتي بأساقفة يقولون إنه كلام جيد ولسنا مختلفين معه، والجملة قابلة للتأويلات. وعندما وصلت إلى فحص هذا القسم من الكتاب ونقده شعرت بأنني قرأت هذه الجملة مراراً، وتساءلت أين يقول ماركس هذه الجملة؟ قرأت الترجمة الدمشقية لكتاب ستالين فوجدت أن المترجم يحيل على إنجلز، مع أن النص يقول: كارل ماركس يقول… وبعد التدقيق وجدت أن ماركس هو قائلها في إحدى مقدمات الاشتراكية الطوباوية والاشتراكية العلمية، طبعة إنجليزية، وذلك في معرض حديثه عن تاريخ المادية في إنكلترا، ذاكراً ما كتبه ماركس قبل خمسين سنة أي عام 1845 في كتاب العائلة المقدسة، إذ تحدث في فقرة منه عن تاريخ المادية في إنكلترا وأهمية الفلسفة المادية في تاريخ إنكلترا في القرون الوسطى وفي العصر الحديث، حتى وصل ماركس في عرضه إلى ما يلي: ثم جاء هوبز، ومع هوبز أصبحت المادية فقيرة وعابسة وفقدت زهوها ورونقها وحسيتها، صارت عابسة وهندسية وميكانيكية وقاتمة، وقد أعطى هوبز البرهنة التالية: (يلخص ماركس برهنة هوبز بنحو عشرين سطراً ليبين بعد قراءتها أن هوبز ضائع ويشن حملة على ما يسميه الأسماء الجماعية، إذن حملة على اللغة، ومن جملة ما قاله: المادة مفكرة، المادة تتحرك وتفكر، وكل فكر يحتاج إلى قوام وهذا القوام هو المادة). هذا هو السطر ونصف السطر الذي نقله ستالين ونسبه إلى ماركس، في حين كان ماركس يعرض برهنة هوبز ويلخصها. وإذا تابعت قراءة نص ماركس تجد بعد سطر ونصف عبارة على لسان ماركس أو من برهنة هوبز، تقول: إن وجودي وحده هو المؤكد. هذا كلام هوبز وكلام الأسقف بيركلي أيضاً. المهم في نص هوبز أنه يُظهر للإنسان الذي يعرف تاريخ الفلسفة أن هوبز يرفع لواء الفردي والمفرد. وها أنت يا ستالين استشهدت بهوبز وقلت إنك تستشهد بماركس، وشطبت المفرد ونقلت جملة من دون أن تتمها بالتي بعدها وهي: إن وجودي وحده هو المؤكد. إن هذا تزوير وتضليل وغلط. وكنت قد ترجمت هذا النص لكارل ماركس في مؤلفات الشباب سنة 1963 وهو نص شهير. كتاب ستالين كله يقوم على نفي الاختلاف ونفي الأفرادية. ففي الواقع (عنده) لم يبق أفراد مختلفون، كل الأشياء متشابهة، لا سيما عندما يتكلم عن صراع الطبقات، كأن الواقع الاجتماعي ليس فيه سوى الطبقات، حسناً، والأفراد؟ لا يوجد ذكر للأفراد. وحين يتكلم عن الوعي والإرادة الثورية وعن التطور والثورة وكذا وكذا يعطي مثالاً يبين فيه أن ما يحصل في التاريخ ليس ما يريده الناس، ليس إرادة الناس بمعنى أن أهدافنا محدودة ونتائج أفعالنا أكبر.

إذا أردت أن تفهم هذه القضية، قضية المادية في الصميم، قضية المادية التاريخية، أو قضية التصور المادي للتاريخ فإن أفضل شيء أن تقرأ مقال إنجلز “دور الشغل في تحويل القرد إلى إنسان”. في ضوء ذلك يحق لنا أن نسمي مذهبنا التصور المادياني للتاريخ.

2 ـ الصفة الأفرادية للواقع :

حين يعرض ستالين حقيقة أو فكرة أن الناس يبحثون عن/ ويسعون إلى أهدافهم الفردية المباشرة ولكن النتائج الاجتماعية البعيدة تختلف عن أهدافهم، فإنه يعطي عدة أمثلة، وهي لطيفة، من جملتها أن البورجوازية حين أقامت معامل ومصانع لم تكن تعرف أن هذا سيؤدي إلى نمو الطبقة العاملة التي ستزعزع أركان النظام الرأسمالي، وحين قامت البورجوازية الروسية بالتصنيع في روسيا لم يكن يخطر ببالها أن هذا سيؤدي إلى قيام الطبقة العاملة وحزب العمال الماركسي الثوري الذي سيقضي على النظام البورجوازي. ويعطي هذين المثالين في إطار الحديث عن صراع الطبقات، ولكنه قبل ذلك يأتي بمثال من المشاعية البدائية مفاده أن التحسينات التي أدخلها الناس على وسائل الإنتاج أفضت إلى النظام العبودي، وكل ما كانوا يفكرون فيه هو أن هذه التحسينات والاختراعات ستعطيهم مكاسب آنية ويومية وفردية. هنا أقول من دون الدخول في التفاصيل: إن ستالين يعترف ضمنياً أن هذا المجتمع المشاعي البدائي مؤلف من أفراد مختلفين وأن التحسينات والاختراعات قام بها أفراد، وليس المجتمع كله، ومع ذلك، فإن فلسفة ستالين قائمة في أساسها على حذف مقولة الاختلاف، أي على حذف مقولة الفرد والأفراد، وهنا لا بد أن نوجه التحية للفلسفة الماديانية، فلسفة لوك وهوبز وآخرين، وللاسمانيين في العصر الوسيط ونضيف إليهم فيلسوفاً مادياً هو ليبنتز، الذي هو الذروة في هذه المسألة، فقد أعلن ليبنتز واقعية الفردي ومبدأ الاختلاف حين كتب، ولما يتجاوز السادسة عشرة، مذكرة بعنوان “المبدأ الفردي” وبعد عشرين سنة من ذلك كتب إلى آرنو عالم المنطق واللغة في دير بور ريّال يقول: ما ليس كائناً مفرداً فهو ليس بكائن. وهذا متفق مع فيورباخ الذي يرى أنه في بداية المعرفة، أو بداية علم الظاهرات التي هي البداية يجب أن أعلم أن هناك ظاهرات ويجب أن أكوِّن رؤية عنها ثم يجب أن أنجز عنها علماً، ولكن في بداية علم الظاهرات ليس لديّ سوى التناقض بين الفكر ومعه الهوية، والوجود ومعه الاختلاف. أي إن الذي في فكري هو هوية وكليات، وإزائي، خارج رأسي، يوجد الوجود الذي قوامه الاختلاف، (إذن إزاء الهوية والكليات ثمة الأفرادية والاختلاف.ج).

الستالينية شطبت الصفة الأفرادية للواقع، أسميها الأفرادية والصفة الأفرادية للواقع. واخترعت لنا أفلاطونية بلا أفلاطون وعظمة أفلاطون، بلا عقلانية أفلاطون. اخترعت لنا مثالية من نوع جديد ألويتها وراياتها: المادة والطبيعة والمجتمع والطبقة، وخاصة الطبقة وكل المقولات الستالينية، علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج، هذه الأصناف الرهيبة المرعبة، ومن جملة النتائج أنه بعد أن كنا متصورين أن العلم البورجوازي الغربي اخترع السوسيولوجيا (علم الاجتماع) ليكون بديلاً من علم الاقتصاد (السياسي) لأن علم الاقتصاد (السياسي) ماركسي وطبقي، وجدنا أن علم الاقتصاد (السياسي) في القرن العشرين غير موجود في الاتحاد السوفييتي. إن علم الاقتصاد غربي وبورجوازي إلى اليوم. أما الذي تعلمناه تحت اسم الاقتصاد السوفييتي فليس علماً، علم الاقتصاد الغربي يرتكب ألف خطيئة لكنه معرفة علمية ومعرفة في صلب الاقتصاد ومعرفة ناقصة، ومغلوطة ولكنك تجد فيه شيئاً.

أردت أن أثبت اليوم، أن مأثرة المادية، التي لم تدركها الماركسية الستالينية هي تأكيدها الاختلاف والتنوع وأفرادية الواقع. لذلك فإن لتاريخ الفلسفة وجهان: فلاسفة رفعوا لواء الهوية، وآخرون رفعوا لواء الاختلاف وجميعهم بنوا صرحاً واحداً وعمارة واحدة أسميها علم الفكر. هنا عظمة الفلسفة اليونانية التي هي علم موضوعه الفكر. وليكن معلوماً أن العلوم موجودة قبل اليوم. أما أن تنشئ عن اللغة علماً هو علم نقد الكلام، نقد الكلمات، فإن هذا العلم هو علم الفكر، وموضوعه هو الفكر.

وإذا تساءلنا ما هو أقرب شيء إلى هذه الانطلاقة اليونانية في أيامنا؟ أقول: إن أقرب شيء هو طوكيو وهارفارد وأكسفورد والسوربون، إنهم القريبون من الفلسفة اليونانية: هاينزبرغ هو الأقرب إلى ديمقريط وأفلاطون. في عالم اليوم علوم كثيرة، ولكنها جميعاً وقبل كل شيء علم الفكر. وإذا قلت لي ما نقدك للتعليم في سورية وماذا تقترح شعاراً لهذا التعليم؟ أقول مباشرة: إن كل حديثكم عن الاختصاصات والتخصصات واللحاق بالعالم المتقدم حديث مهزوز وكلام مغلوط، وأنا أقترح ما يلي: لتكن جميع المواد في التعليم من القراءة والإملاء في الابتدائي إلى النقد الأدبي في الجامعة، لتكن جميع هذه المواد مجيرة لشيء واحد هو الفكر. إنه المثل الأعلى، أريد مئتي مليون عربي يفكرون، من النجار والحذاء إلى القائد السياسي ورجل الدين. ومبدأ الفكر هذا هو مبدأ الوجدان والضمير وهو أيضاً مبدأ الفرد والضمير والتفكير والإبداع والخلق. أريد تعليماً يجعلنا نشعر أننا أخوة وشركاء، ونشعر أننا نضرب جميعنا إذا ضرب أحدنا، ويجعلنا لا نقبل احتكار الفكر والإبداع، ونرفض أن يكون العمل البشري تنفيذاً لإرادة غير إرادة الفرد الحر (والحر هو العارف والواعي والمسؤول.ج). أن يتحول البشر إلى منفذين فهذا دون الحيوانية، لا يجوز أن يصبح العمل الفكري تنفيذاً، أي يجب عليك أن تفكر كما نريد وكما نقول لك، أو لتفكر كما تريد ولكن إياك أن تغلط، إياك أن تغلط يعني لا تفكر، ممنوع عليك التفكير (فمن لا يفكر ولا يعمل لا يخطئ.ج). وربما يقولون لك: نحن لا نخطئ، حسناً: والحجر كذلك لا يخطئ، والنحلة لا تخطئ. (علم النحلة تام أما علم الإنسان فهو ناقص دوماً، والخطأ ظل العمل ورديف التفكير.ج).

هناك قول مأثور لباسكال، المؤمن المتصوف الجبري، رمز الإيمان والتصلب الإيماني، والتعصب الإيماني، الأديب الرائع في الفرنسية وعالم الرياضيات والفيزياء الجبار، الأوغسطيني الجبري، خصم اليسوعية، يقول في كتاب له عن نظرية الفراغ، بصدد الخلاف بين أنصار القديم وأنصار الحديث، إذ يقول أنصار القديم إن اليونان والرومان هم الأئمة ومن غير الممكن أن نجاريهم أو نفوقهم، وهذا موقف معروف عند جميع الشعوب وعندنا نحن العرب أيضاً، فالمتنبي وأبو تمام في القمة، ولا نستطيع أن نبدع أفضل منهم، يقول باسكال: إن هذا افتئات على المعاصرين، كان تفكير القدماء وذهنهم وروحهم متجهاً نحو المستقبل، نَفَسهم مع التقدم، ولذلك كانوا يبدعون ويكتشفون، وفي الوقت الذي نجبر أنفسنا على اتخاذهم مثلاً أعلى، ونكتفي بمحاكاتهم ولا نخالفهم إنما نفتئت عليهم أيضاً، ولا نسير مع روحهم إطلاقاً. هنا يقول باسكال قولاً جميلاً ملخصه أن “علم النحلة كاملٌ وعلم الإنسان ناقصٌ”. هذا هو امتياز الإنسان وتفوقه على النحلة. نحن نتصور العكس كأننا نذم الإنسان لأننا مع الكمال وليس مع المسيرة نحو الكمال، ليس مع مسيرة التحسن والتحسين. نحن نستعمل مقولة الكمال لتشير أن الدنيا ناقصة فقط، لا نضيف لأنها ناقصة يجب أن تتقدم (توظف مقولة الكمال أيديولوجياً لذم الدنيا والانصراف عنها، وفي حقيقة الأمر للانصراف عن العمل الجماعي والاجتماعي.ج). هنا أشير باصبع الاتهام إلى الحلول الكاملة. المنظومة الأيديولوجية الثقافية العربية الإسلامية الشرقية مصابة بالحلولية. فكل منظومة تزيح الإنسان وتزيح فكرة أن هناك عالماً مدنياً هو من اختراع الإنسان وإبداعه وإنتاجه إنما تحل الله في الطبيعة، فيصبح الله والطبيعة شيئاً واحداً. الخروج من الحلولية يبدأ من توكيد الإنسان وتاريخ صعود الإنسان. ما بالنا أمام كل مشهد طبيعي وظاهرة طبيعية نقول سبحان الله، سبحان الخالق، كأننا نقول سبحان الطبيعة وسبحان المخلوق. من الناحية الدينية هناك الله وهناك الطبيعة وهناك الإنسان الذي وصفه القرآن بأنه خليفة الله، (استخلفه الله في الأرض.ج) إذن هناك تاريخ. (وهنا لا بد أن نذكر المرحوم ياسين الحافظ، الرفيق ياسين، في مسألة الله والعقل والتاريخ، ما زلت أتذكرها جيداً، وهي مسجلة).

3 ـ نقد الحلولية :

الحلولية في تاريخنا تتفق مع المانوية، وتتراكب معها. المانوية هي الإيمان بأن جماعتي خير والآخرون شر. لم يعد الخير والشر موجودين في كل إنسان، في الأجناس كلها، وفي البشر جميعاً، في بني آدم جميعهم. يقولون لك، لا، نحن الخير والصواب، من نحن؟ أمة العرب؟! أمة المسلمين؟! أم أمة الماركسية والطبقة البروليتارية؟ نحن الخير، شعب الله المختار. كما قلت في رثاء ياسين، بقية البشر هم الغوييم (الأغيار.ج) الضالون والأمم الضالة، الوثنية..إلخ. يلفت نظري أن الحلولية والمانوية موقفان أصابا المسيحية الروسية منذ البداية، كما يقول كاتب روسي. يذكر هذا الكاتب أنه عندما تنصَّرت روسيا كان قد تنصَّر فيها البلغار في البلقان، الروس نقلوا كتاب “صلوات ودين” عن البلغار. وبلغاريا كانت قبل ذلك بوغومية أي من المانويين، وامتزجت المانوية لديهم بالمسيحية. كأن الكاتب السوفييتي يمتدح الغرب، ونحن نعرف ما جرى في الغرب: في جنوبي فرنسا وقعت جريمة كبرى بين 1210 ـ 1220م إذ كان في جنوبي فرنسا منطقة مزدهرة وأهلها طيبون ومسالمون هم البيجوا والكتار أي الأطهار، أو البوغوميون، نابذو الشر، تحالف يومها هرطقة شمالي فرنسا ورهبنة الدومينيكان وبابا روما وبارونات الشمال لمكافحة هؤلاء الزنادقة الجنوبيين، وزحفوا عليهم وأبادوا منهم الآلاف، جريمة كبرى. وراء هذه الإبادة كان ثمة عوامل كثيرة مختلفة لها علاقة بالمصلحة. بارونات الشمال كانوا برابرة مقارنة بالجنوبيين، وفرنسا وحدت نفسها قومياً ولغة إذ انتصرت لغة الشمال على لغة الجنوب، أي على اللونفيدوك، ما لفت نظري أن ذلك الكاتب السوفييتي يرى وجهاً آخر في الموضوع، رأى أن المانوية والحلولية لم تسيطرا في الغرب. ولكن الواقع غير ذلك، ففي كل إيمان ديني، وفي كل عقيدة دينية، وفي كل كتاب مقدس تستطيع أن تجد ما تريده. النفس الحلولي موجود، ولكن يجب أن تعرف اللون الغالب. في تاريخ المسيحية الغربية لم تكن الحلولية والمانوية اللون الغالب.

ما الحلولية في تاريخ المسيحية الروسية؟ إنها شيء يأتي مباشرة من بيزنطة، من الفن البيزنطي والأيقونة البيزنطية. النظرة البيزنطية هي نظرة تمجيد الخالق في المخلوقات، ورؤية الحكمة الإلهية في كل مكان وفي كل شيء، كأن المخلوق هو تجل لله وليس مخلوقاً منخفضاً، طبعاً سترى مثل ذلك في الصوفية، وفي مواقف مختلف الشعوب ومختلف الناس. في بيزنطة مثلاً هناك “الحكمة الإلهية”. أهم كنيسة في بيزنطة (هي جامع اليوم) ومتحف في اسطنبول اسمها أياصوفيا أي الحكمة المقدسة، حكمة الله ـ صوفيا. (أذكر عندما كنت مدرساً في الحسكة سألتني طالبة هناك وأنا أشرح لهم كلمة فلسفة فيلوسوفيا أي محبة الحكمة، سألتني عن صوفيا لورين). سوفيا، الحكمة، والحكمة الإلهية تعود لبيزنطة. هذا الموقف ضروري في الدين ولا بد منه، ولكن في الوقت الذي نتركه يغلب ويسلطن ينتهي كل شيء، ينتهي الديالكتيك، العلاقة بين الله والعالم. ربما، تسعة أعشار الثقافة العربية الإسلامية انشطرت بين موقفين: الحلولية والحكمة الإلهية في كل شيء، في جانب، وفصل الله نهائياً عن الدنيا في جانب آخر، وانتهينا. قد تقول لي كيف سارت الأمور في الغرب؟ في الغرب ليس عندهم كلمة الدنيا، إنهم يقولون العالم، والزمن والزمنية. وكلمة عالم أرقى من كلمة دنيا، إلا إذا أعطينا كلمة الدنيا معنى جميلاً وليس تحقيرياً كما في أغنية أم كلثوم: الحب دنيا، أي شيء كبير ومتنوع. ولكن في الأيديولوجية الإسلامية الدنيا دنيئة، ولدى بعض الشيعة المعتدلين قبول بالدنيا، هذا شيء جيد، ولكننا نريد أن تكون الدنيا تاريخاً، أي قابلة للارتقاء، دنيا غير قابلة لأن تكون جنة، ولكنها قابلة للتحسن والتحسين، وواجب الإنسان أن يحسنها ويحسن نفسه.

إن موقف الإنسان من العالم، الموقف الروحي الصميم والحميمي أختصره في ثلاث نقاط: أولاً: موقف رفض الدنيا وأعني العالم، موقف لا يرى في الدنيا سوى الأنانية على عكس السماء والجنة. قسم من هذا الموقف جيد (بما هو رفض للأنانية ولدناءات الدنيا) ولكن إزالة الدنيا وتطبيق السماء على الأرض باسم الدين أو باسم الإلحاد والشيوعية، بحجة أننا يمكن أن نقيم الفردوس على الأرض، أمر مستحيل وحماقة، باسم ذلك الفردوس أقاموا جهنم. هذا الموقف يمكن أن نصفه بالبوذي، مع أنني أظلم البوذية هنا فأنا شخصياً أحترم البوذية، وآسف لأن الناس في بلادنا لا يعرفون شيئاً أو شيئاً كافياً عنها، ولاعن البراهمانية، ويجهلون كل ذلك “الشرق الأقصى” وحضارته، نحن تعرفنا على ماوتسي تونغ من دون بوذا وكونفوشيوس. هذا غير معقول. الموقف البوذي يرى أن الشر موجود في الكون وليس فقط في الإنسان فالذئب يفترس الغزال، الشر في الكون المادي كله. وهذا لا يمكن إصلاحه، ولذلك فإن على الإنسان أن يكون خيراً وطيباً ورحيماً. إنهم يتحدثون عن الرحمة والتراحم على نحو أشد من المسلمين أو المسيحيين والبوذية تطبع الإنسان بطابع التهذيب والحلم وهذا موقف هائل.

الموقف الثاني هو قبول العالم، ولكن على أمل أن يأخذنا الله، بعد الموت، إلى الجنة. نحن الآن في العالم نقبله ونعيش فيه، نعمل ونجمع المال وننفذ فرائض الدين ونقوم بأعمال الخير على الصعيد الفردي أو في إطار جمعيات البر والإحسان، قبلنا العالم. هذا الموقف يصادم الموقف الأول، وهذا الموقف هو موقف القسم الراجح من السنة، في حين تجد شيعة ثورية ترفض العالم، علي شريعتي مثلاً. نقبل العالم باسم الواقعية الإيجابية.

الموقف الثالث، هو موقف النفي الإيجابي كما يسميه ألبرت شفايتزر، أي أقول للعالم لا وأقول له نعم، أي إنني أقبل العالم من أجل تغييره. وهذا يعني أن العالم قابل لأن يتغير، إن له تاريخاً هو تاريخ صعود وارتقاء وجهاد الإنسان فردياً كان أم جماعياً واجتماعياً هو عمل ارتقائي. أعتقد أن هذا الخيار الثالث هو الذي كان، في النتيجة خيار العقل الأوروبي، خيار النخبة التي قادت أوروبا عبر صراعات طويلة ومريرة منذ مئات السنين. هذا الخيار هو الأكثر اتفاقاً مع روح وفكرة الله الواحد الذي يبعث أنبياء.

4 ـ دفاعاً عن الشر، دفاعاً عن الحد والمعقولية :

لهذه القضية وجه آخر، أسميه الموقف من الشر. قضية الشر في صلب القضية الدينية المسيحية أو الإسلامية، في صلب تناقض هذه العقيدة. وحين أقول تناقض العقيدة فإنني أحييها لا رافضاً لها ولا شاتماً إياها، لأنني رجل مع الديالكتيك، وأعتقد أن لب الدنيا هو التناقض، والتناقض في لب الموضوع، هذا التناقض نعرفه منذ كنا مراهقين، فالله عادل وكلي القدرة ورحيم فلماذا يأذن بالشر ويتركني أرتكب الخطيئة ثم يعاقبني عقاباً أبدياً، ألا يقدر أن يمنع الشر والجريمة..؟ هذه القضية لوعت الفلسفة الأوروبية والأدب الأوروبي، وهنا نذكر من بين أمثلة كثيرة ليبنتز وتهكم فولتير على ليبنتز وأدب دوستويفسكي. لليبنتز أطروحة شهيرة هي: “أحسن العوالم الممكنة”، نحن في أحسن العوالم الممكنة. عندما حدث زلزال لشبونة وأودى بحياة عشرات الآلاف تحول الزلزال إلى مشكلة كبيرة في تاريخ الفلسفة والفلسفة الأخلاقية عامة. ثمة من قال: إن الله عاقب أهل لشبونة لأنهم أغنياء متهتكون يرتكبون الموبقات، ورد عليهم آخرون: ولكن ما ذنب الأطفال. تهكم فولتير على ليبنتز وسخر منه، وفولتير كان معروفاً بروح الدعابة وخفة الظل، مع أنه مناضل أيديولوجي وسياسي. واليوم تؤكد كثير من الدراسات أن فولتير لم يقرأ كتاب ليبنتز “غايات الله في خلقه”. ما هي غاية الله؟ لماذا يوجد الشر؟ من الواضح أن فولتير بدا متشائماً إزاء ليبنتز المتفائل الساذج. والحقيقة أن ليبنتز لم يكن متفائلاً ولا ساذجاً، لأن محصلة النقاش كانت تفضي إلى الاتفاق على أن الله خلق عالماً، لم يخلق جنة وملائكة، خلق عالماً دنيوياً وتاريخياً. قد تضحكنا اليوم حذلقات ليبنتز من نوع: لو أن يوليوس قيصر مثلاً لم يقتل هذا العدد من خصومه لجاء حاكم آخر وقتل أكثر، أي لو لم يحصل هذا الذي حصل فلربما كان سيحصل ما هو أسوأ. العالم عالم وليس جنة. هذه حصيلة الجدالات الفلسفية والأدبية فولتير وليبنتز ودوستويفسكي..إلخ. والإنسان ليس إلهاً ولا ملاكاً، البشر بشر والعالم فيه الخير والشر.

اليوم في القرن العشرين ثمة موقفان من الشر: الموقف الغربي وموقف آخر سوفييتي وعربي وشرقي. الموقف الشرقي بخلاف الغربي يقول: يجب أن نستأصل الشر. كيف يمكن استئصال الشر، هل بطريقة استئصال المرض الخبيث ذاتها؟ بالسكين؟! الموقف الغربي يعترف بأن الشر جزء من العالم لا يستأصل، بل يمكن تقليصه جيلاً بعد جيل. يمكن تهذيب الأنانية، وإقامة نظام يجعل جميع الأنانيات وجميع ملاحقاتنا لمصالحنا الأنانية تصب في خدمة المجتمع، في خدمة الجميع وتحسِّن الجميع. ليس من الممكن استئصال الأنانية، هل تريدون مني أن أحب أولاد الجيران أكثر من أولادي؟ هذا طلب المستحيل؟ تريدون أن تضربوا بيد من حديد؟ فلتضربوا، ولكن، لن تستطيعوا أن تسيطروا على قلبي وضميري. فإن استئصال الشر سوف يرجعنا إلى المانوية، إلى وهم أن الشر متجسد في قسم من العالم وفي فريق من الناس هم أمة كفار أو مجموعة المستغلين أو  سلاطين وفقهاء أو زنادقة في السياسة أو معارضة سياسية. كل هذا في الجو نفسه، ولا أستطيع أن أسمي هذا الجو بأنه جو ديني، أو جو ديني يلبس لبوس العلم، لا، أريد أن أسميه تسمية تشمل الجميع، فليس من الإنصاف أن ننسب كل شيء في هذا الجو إلى الدين فالشيوعية قامت على الإلحاد، الرفيق أنور خوجة أغلق المساجد وألغى الأسماء الإسلامية (محمد وأحمد..).

هنا يحضرني مقطع جميل من كتاب جان جاك شوفالييه “المؤلفات السياسية الكبرى من مكيافيللي إلى عصرنا” يقول فيه بصيغة الشرط الفرنسية المهذبة، صيغة الشك والاحتمال، يقول: قد تكون هناك أمة من الأمم لها مزايا جبارة وعظيمة وحسنات (إنه يقصد فرنسا من دون أن يسميها) وقد يكون لها بعض الموبقات والعيوب والفلتنات، وقد يغرينا القول: أليس من الأفضل أن نزيل هذه العيوب كي تصبح الصورة أفضل وأجمل؟ يقول مونتسكيو، لكن حذار حذار ربما إذا أزحنا هذه العيوب تنهار الصورة الأساسية. أحب أن أذكر هذا القول لمونتسكيو دوماً، لا سيما حين يذكر لي بعض الأشخاص حوادث قبيحة تكررت في باريس مثلاً كعلاقة رجل بابنته، وأضحك حين يتساءل:ـ لم لا يجري مثل ذلك في مجتمعات أخرى؟ أقول له الفرق أن المجتمعات التي تعني تتستر على كل شيء وهنا لا يتسترون على شيء. وأذكر له قول مونتسكيو: انتبهوا هذه القضايا القبيحة المتنوعة لا تستأصل بالسكين، ولا ينبغي أن تكون هذه الطريق طريق فرنسا.

لأنتقل إلى قضية أخرى، عند التقدميين وأنصار المعرفة العلمية والتقدم الاجتماعي، وأنصار العلمانية كذلك، تأكيد مبالغ فيه على المعرفة العلمية. وهذا أمر مفهوم، ولكن لماذا نهرب ونتهرب من مقولة التطور ونظرية التطور والارتقاء. المعرفة العلمية هذه المهمة والضرورية نتاج عمل البشر وتعاملهم مع الطبيعة وفيما بينهم، إن اختراع الزراعة وتدجين القمح والحيوان وإقامة أول بيت وأول قرية قبل عشرة آلاف سنة في بلاد الشام أو حولها أو في وديان المكسيك أو في جزء من ليبيا ثم بعد ذلك في أوروبا، هذا التاريخ وما قبله، هذا الاختراع المتنوع أقام الأسس النهائية لحضارة الإنسان، وذلك لم يحصل في أحضان العلم والوعي العلمي والمعرفة العلمية لا من قريب ولا من بعيد ولا في أحضان الفلسفة النظرية اليونانية، إن من فعل ذلك، هم الناس، حتى قبل أن يعرفوا الكتابة، ولا ندري ما كانت لغتهم آنذاك، هذا الاختراع تحقق في أحضان الوعي الديني والفني (من الفن) الأسطوري الأخلاقي المعنوي، هذا ما يجب أن ندركه أولاً، وأن نؤكده ثانياً. كان لدى أولئك الناس الأوائل والأقدمين أساسيات روحية، ابتدائيات أعتقد أن هذا شيء مهم نضيفه إلى ما قلناه حول الدين، وهذا ما يجب أن نكون منفتحين إزاءه.

وسأختم كلامي في هذه المسائل بالملاحظة الآتية: قرأت مؤخراً تقريراً صادراً عن وزارة الخارجية السوفييتية، يتحدث عن العلاقات الخارجية ونشاطات وزير الخارجية شيفاردنادزه وعن موضوع السلام..إلخ، ولكن ما لفت نظري المقدمة القصيرة التي تتحدث عن الاتحاد السوفييتي إذ تقول: لقد أنتجنا كثيراً من المواد الأولية والنفط والغاز وأنتجنا كثيراً من الآلات والأدوات والتقنيات… ولكننا أهملنا إنتاج الذكاء البشري. إذن الذكاء البشري ينتج ولعله أهم ما يجب أن ينتج. واليوم إذا أردنا نحن، إطعام شعبنا كيلا يتشرد في أصقاع المعمورة، أو إذا أردنا خلاص البشرية فإن أهم شيء نفعله هو إنتاج الذكاء البشري. وإن مقولات الذكاء والفكر والتفكير والذهن والفهم أخوات. وإنني لأتحفظ على/ وأستنكر تضخم وتواتر وتكاثر استعمال كلمة العقل عند العرب على الطالع والنازل. نقول العقل ولا نقول الوعي والروح ولا نقول الذكاء والذهن والفهم ولا نقول الفكر هذه مصيبة. إذا أجرينا مقارنة بين قاموسنا (أي كلامنا) وقاموس الفرنسيين أو الألمان أو الإنكليز تجد الأمر على غير ما هو عندنا. نحن نحب كلمة العقل، وإن لم نكن أكثر عقلانية من غيرنا. ويبدو أن المترجمين غالباً ما يضعون كلمة العقل محل كلمة الروح. في اللغة الفرنسية عندهم La Resone (العقل) لا يأتي في سلسلة المقولات المادية ولا في سلسلة المقولات الروحية، ربما لأنهم يعتقدون أن العقل موجود هنا أولاً في المسلسل الواقعي، وهنا الفكر، يجب أن يكتشفوه، والفكر هنا والوعي كذلك سيجهد ويتعب حتى يصبح عقلاً، والفكر هنا له صفة إبداع الواقع. هذه قضايا يجب أن نشير إليها.

وهناك نقطة أخرى أريد قولها: أتمنى عليكم أن تقرؤوا جيداً كتاب “أصول الفكر اليوناني” لا يحضرني الآن اسم مؤلفه. أي كتاب عن اليونان في القرن السابع والسادس والخامس (ق.م). والمقصود بأصول الفكر اليوناني الفكر الفلسفي العملي / النظري المفروز عن عموم الثقافة. الثقافة ميدان الروح وهو ميدان واسع جداً. اليونان، فرزوا الفكر النظري، تقرأ في هذا الكتاب من جملة أمور، أن ما حصل في اليونان آنذاك هو تحول التربة كلها عندئذ بزغت الشجرة التي اسمها الفكر العملي/ النظري. الثقافة كلها تغيرت، الأخويات الدينية، الباطنيات، الفيثارغورثيات تغيرت، لم تلغَ، بل تغيرت، كما لو تصورنا أن المولوية أو القادرية أو النقشبندية عندنا، تغيرت، مع بقاء أسمائها، ودخلت في عمل إنساني نهضوي في الوطن، العادات تغيرت وكذلك الأخلاق، برزت فكرة الحقوق السياسية، وفكرة السياسة، انتقلنا من مجتمع القصر إلى مجتمع الساحة، إلى مجتمع المدينة، اللوغوس تغير، كان اللوغوس هو الصوت، صوت الملك، وصوت الكاهن، عندما ينطق أحدهما فقد نطق الحق، الحق يتكلم والشعب ينفذ. المرحلة الثانية مجتمع الساحة مع المدينة، الساحة الفارغة وليس القصر المادي الشاهق وسط المدينة. هذان إثنان مختلفان يتساجلان والشعب يسمع لكي يحكم ولكي يختار. السياسة والفلسفة أختان شقيقتان، المدينة والمنطق، السياسة والمنطق، ينموان معاً وينحدران معاً. نحن في انحدار الفلسفة وانحدار السياسة. ما الذي ينمو حين تنحدر السياسة؟ الذي ينمو هو الحرب.

في التطور اليوناني عند بزوغ اليونان الكلاسيكية نفيت الحرب إلى خارج أسوار المدينة، أثينا تحارب إسبارطة، تحارب الفرس، تحارب البرابرة، داخل أسوار المدينة لا توجد حرب، بل توجد سياسة. لا تريد سياسة إذن لا تريد أن تعترف بالاختلاف، إذن تريد الحرب.

الحرب يمكن أن تكون بين طرفين، حرباً أهلية فتاكة، وبين عشرين طرف كما في لبنان، ويمكن أن تكون من طرف واحد من طرف السلطان الذي يبطش بالناس، وبعد ذلك يختار الناس ما هو “الأحسن”. نحن نريد أن ننتهي من الاثنتين (أي من الحرب التي بين طرفين وعدة أطراف والحرب التي من طرف واحد)، نريد أحزاباً تتصارع ولكن من دون سكاكين، ليختلفوا ويسووا خلافاتهم، القانون هو تسوية الخلافات.

تسألني عن فكرة المساواة، وهل البشر متساوون؟ أقول لك لا، لأن البشر مختلفون، فكرة المساواة تعويض عن فكرة الاختلاف والتفاوت بين البشر، في الواقع تجد الذكي وغير الذكي، القوي والضعيف..إلخ ولكن هل يجوز انتقاص حق الضعيف وغير الذكي. تمهلوا هناك مساواة إنسانية، مساواة أو تماثل، التماثل هوية، لا يهمنا الآن اختلاف دلالة الكلمتين، ولكن المهم الدنيا غير متساوية لذلك نشأت فكرة المساواة، أهلاً وسهلاً بالمساواة مليون مرة وإلى الأبد، ولكن بشرط ألا ننسى أن المنطلق هو اللامساواة، هو الاختلاف، هو التفاوت والاختلاف بالمعنيين. أولاً أنا مختلف عنك، ثانياً أنا مختلف معك، مختلف معي يعني أننا في تعارض وصراع، ومعنى ذلك أيضاً أننا متشاركان. لا يوجد صراع بيني وبين الحجر، إذا كان لكلمة ديالكتيك من معنى فها هنا معناها (التماثل والاختلاف أو الوحدة والاختلاف والفرق والتعارض، التشارك والصراع.ج). نحن العرب نقول بالتناقض والصراع ونمسك بجانب من أحد الجانبين المتناقضين ونطرد الآخر ونلغيه، لا نعرف أن المتناقضين متشاركان والمختلفين متماثلان (الهوية وحدة الاختلاف والتناقض وإلا كانت عدماً.ج).

إذن، إن بزوغ الفلسفة النظرية اليونانية، بزوغ الفكر العلمي، أي فيثاغورث وطاليس وأفلاطون وديمقريط وأناكسيمين وأرسطو وإقليدس ثم أرخميدس الجبار..، بزوغ هذا الفكر العلمي اقتضى قبل كل شيء تطوراً سياسياً واجتماعياً وأخلاقياً. تطورت وتحولت الثقافة، ميدان الروح اليونانية، من أخويات صوفية وحقوق جزائية وحقوق سياسية وآداب وفنون… تطور هذا كله، لذلك تجد هيرقليط يقول: القانون شيء سماوي، لوغوس، قانون، وتجد بروتاغوراس وسقراط وأفلاطون يمجدون القانون، وكذلك أسخيليوس الذي يقول بطل إحدى مسرحياته: القانون فوق أثينا. ومَنْ أثينا؟ إنها المدينة وربة المدينة والحكمة، من الآلهات ذوات العزم (في الإسلام تعبير جميل: الأنبياء ذوو العزم)، بطل المسرحية هذا قال لهم القانون فوق أثينا، وفق تعليم هيرقليط: إن العالم لم يخلقه أي إله، إن العالم لم يخلقه أيٌّ من الآلهة. ستالين حذف الجملة الثانية وجعلنا نعتقد أن هيرقليط ملحد. هيرقليط ليس ملحداً. اقرأ لينين تجده ينقل بوضوح قول هيرقليط عن لاسال. عند هيرقليط إله بحرف صغير god في جملة العالم لم يخلقه أي من الآلهة، وعنده في الجانب الآخر إله بحرف كبير GOD مع D  كبيرة. GOD هو اللوغوس، وهو سيد الكون وسيد العالم، هو الاسم والكلمة، هو العقل وهو الضرورة. هذا نَفَس توحيدي (من الإله الواحد) عند هيرقليط.

ومن اليونان وانتصار أرخميدس على فيزياء أرسطو، إلى الفكر العلمي الحديث الممثل بالرياضيات والميكانيك أي إلى عصر غاليليه وكبلر ونيوتن وباسكال وحساب الحظ ونظرية الحظوظ وحساب الاحتمالات، ليبنتز وقبله الماهدون في القرن السادس عشر (هؤلاء وغيرهم أسسوا الفكر العلمي الحديث). يتكلم بعضهم عندنا عن الحداثة والعصر الحديث، أنا أطلب منهم ألا يتسرعوا وأن يحاولوا فهم ما سأقوله: إنه لا يمكن فهم الأزمنة الحديثة والفكر العلمي الحديث بمعزل عن هذه التربة المحيطة بهذه الشجرة، وبدون عدد من الأشجار حولها ولا سيما شجرة الرسم، فن الرسم، أو فن التصوير البلجيكي الإيطالي الألماني من القرن الخامس عشر إلى السادس عشر، وإزاحة الأيقونة البيزنطية، أي الانتقال من ترميز الواقع إلى تمثيله وتصويره. الأيقونة شيء جميل ولكنها ليست تصويراً للواقع. عند فلاسفة الأيقونة وأيديولوجيتها، وأشهرهم ربما، يوحنا الدمشقي المدافع عن الأيقونات إزاء أنصار تحطيمها في التاريخ المسيحي الشرقي كله، الأيقونة ليست تصويراً للواقع، بل هي تمجيد للرب، بلغة المسيحيين وإسقاط الحظوة عن الشيطان. في الفكر العربي (الحديث والمعاصر.ج) كأننا نريد أن نبقى عند ترميز الواقع. جميع الأشياء التي لا تعجبنا نضعها تحت مقولة أو رمز الإمبريالية، وتلك التي نحبها وتعجبنا نضعها تحت رمز الوطن والأمة العربية والماركسية الصحيحة وطبقة البروليتاريا والدين القويم.. يجب أن ننتهي من هذا الترميز اللغوي الذي حل محل الأيقونات والصور والرسوم، كأن شغلنا وشغل الكثير من الناس في الترميز هو أن نجمع أجزاء الواقع ونقول أو يقولون للآخرين هذا المجموع هو الاشتراكية أو هو البورجوازية الصغيرة أو هذا المجموع هو الإمبريالية أو الرأسمالية. كل هذا يجب إعادة النظر فيه. ولا بد من هذه الإعادة. قلت إن إحدى شجرات المعرفة العلمية هي الفن الإيطالي، الذي سعى إلى تمثيل الواقع، إلى إحضار الواقع وبناء أو إنشاء لوحة الواقع.

الشجرة الثانية هي الموسيقا الكلاسيكية، بنت ذلك المخاض الكبير في القرن السادس عشر، ثم عام 1600م: بالسترينا وقداس البابا مارسيل وبداية الموسيقا الكلاسيكية، ثم القرنان السابع عشر والثامن عشر ويوهان سيباستيان بعد فصائل من الناس. أنا أستغرب شأن هؤلاء الذين يتحدثون عن الفكر العلمي الحديث والعصر الحديث، وليس لديهم فكرة عن الموسيقا الكلاسيكية، هذا غلط كبير. وربما يسأل الذين يعرفون الموسيقا هل أقصد أن الموسيقا هي جزء من الفكر العلمي، أقول: لا، لم أقصد ذلك ولكنني أتكلم عن شجرة ثانية، هناك علاقة بين الشجرتين طبعاً ولكن هذه شجرة وهذه شجرة. هل يمكن الحديث عن الموسيقا من غير مقولة الروح والوجدان والضمير، أعتقد في هذا المستوى ستتكامل كل الموسيقا الكلاسيكية. وهنا أذكر بأطروحة لنيتشه وكلود ليفي شتراوس، قرأتها في كتاب بكالوريا (أنا كما تعرفون مصادري بسيطة جداً ومتواضعة ليست كمصادر صديقنا بسام الطيبـي) يقول نيتشه: كل موسيقا ما قبل الكلاسيكية هي موسيقا نباتية. يدل ذلك على أن كل الشعوب لديها موسيقا وتحتاج إلى الموسيقا حاجتها إلى الطعام والشراب. كل الشعوب تريد الموسيقا والفرح واللهو والحزن، كل الشعوب تستحق الإعجاب، والله عندما كنت أرى في محطة الميترو في باريس مجموعة شباب من أمريكا اللاتينية يعزفون موسيقاهم ويرقصون أو يغنون كنت أرى ذلك جميلاً جداً. يمكن أن ترى مثل ذلك في باريس ومن بعض العرب أيضاً ولكن نادراً، من المؤسف أن العرب لديهم نقص حياة. إذن نيتشه يقول الموسيقا قبل الكلاسيكية كلها موسيقا نباتية، أما الموسيقا الكلاسيكية فهي شيء جديد، سام وعال ورفيع. والآن هل انتهت الموسيقا الكلاسيكية في القرن العشرين أو في أواخر القرن العشرين؟ سأترك هذا السؤال مفتوحاً. ولكن لنلاحظ أن الموسيقا الكلاسيكية لازمت القرن السابع عشر وبلغت ذروتها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، قبل الثورة الفرنسية وبعدها. إذن هاتان شجرتان على سبيل المثال فكيف سنتكلم عن العصور الحديثة ونحن نجهل أو نتجاهل هاتين الشجرتين وغيرهما؟!.

بيد أنه لا بد من الإشارة إلى مسألة التغرب، لقد سار عدد كبير من المثقفين العرب السوربونيين والمسربنين (هناك مذهب اسميه السربنة العربية لـه أئمة وله توافه) خلف ألتوسير وميشيل فوكو وغيرهما، وهم يقولون لك طوال الوقت إن الفكر العلمي هو قطيعة مع الفكر ما قبل العلمي. دعونا نتفق، هناك قطيعة إذن هناك تواصل. الكيمياء العلمية نقيض السيمياء أو الخيمياء كما يقول اللبنانيون، ولكنها مواصلة على نحو جديد. ثم قبل أفلاطون كانت مقولة الشكل أو الآيدوس الأفلاطونية، في الثورة النيولينية، نشوء القرى في سورية، هناك معاودات ومستويات جديدة لشيء واحد، هنا الروح الإنسانية التي يجب أن نعرف كيف نثمنها. أما من يريد أن يشرح لنا أن هناك قطيعة بين الفكر العلمي وما قبله، أقول له: لا تشرح لنا هذا الشرح، ليتك تعرف ما هي القطيعة، أنت تتحدث بلسان ليفي شتراوس، هل قرأت ما قاله ليفي شتراوس عن لافوازييه مثلاً وما هي عملية لافوازييه؟ أم هل قرأت ما قاله إنجلز عن لافوازييه؟ لافوازييه ألغى المادة، الجوهر، الجوهر الاشتعالي أو الجوهر الناري. أعلن أن الماء سائل مؤلف من عنصرين، جسمين غازيين، هنا أهمية فتح لافوازييه. كثيرون يتكلمون عن القطيعة بدون فهم ما هي القطيعة، ويتكلمون عن الفكر العلمي الحديث بدون دراسة فكرة المفهوم. فأنت تعرف أنه بدون أفلاطون وفيثاغورث وديمقريط.. لا يوجد فكر علمي حديث. ربما تحدثني عن هايزنبرغ. هايزنبرغ نسب نفسه إلى ديمقريط وإلى أبيقور. وربما تسألني إذاً هل أنت مع الحاثة أم ضدها؟ أقول لك إنني مع الحداثة ضد مذهب الحداثة أو عقيدة الحداثة ضد الدين الذي اسمه الحداثة. لا حداثة من غير مقولة الروح، ومقولة الوجدان والوعي. أنا ضد عبادة العلم وعبادة العلمية. الناس العاديون عندما يستمعون إلى الإذاعة أو يشاهدون التلفزيون، الشعب العادي، على حق في اعتراضه على علميتهم وحداثتهم، لو تستمع إلى موسكو أو تقرأ نيويورك تايمز، العالم كله يدعو الله أن ينقذ البشرية ويحفظها. الإنسان هو الكائن الوحيد القادر بمعرفته على أن يدمر نفسه. لدي كتاب فرنسي قديم، من عشرين سنة، اسمه La Reson (العقل) يتكلم عن العقل ومذاهبه ويقدم عرضاً تاريخياً، وفي الصفحة الأخيرة منه، إن لم تخني الذاكرة، يروي الكتاب ما يلي: إنه في منطقة من حوض الأمازون في إحدى الغابات، يرى فريق من الهنود، رجالاً بيضاً قادمين نحوهم ومعهم آلات ضخمة، فيقول الهنود: انظروا الرجل الأبيض عبدٌ لإلهه.

إنني أتصور أن العالم في السنوات القادمة، أقصد النخبة العالمية، قيادة الجامعات والحكومات والدول وقيادة الثقافة والسياسة والكنائس، وموسكو ونيويورك وطوكيو وبكين وبون.. سيتفقون على سؤال: ما هو الفكر. وبعد الانقلاب السوفييتي الحاصل والذي له بذور قليلة وبدايات منذ عشرين سنة أو أكثر، والذي حصل منذ أربع سنوات وسيستمر، وجدنا أن موسكو انضمت إلى العواصم العالمية في سؤال ما هو الفكر. جوابي عن هذا السؤال جواب أولي فإذا أردنا أن نعرف الفكر، ونعرف العقل، فعلينا بمقولة الشكل عند أفلاطون وأرسطو، وبما قلته قبلاً، وعلينا بمقولة الذرة الديمقريطية (نسبة إلى ديمقريط) وبمقولة العدد الفيثاغورية وبمعرفة عظمة معارضة فيزياء أرخميدس الميكانيكية المادية الرياضية العقلية لفيزياء أرسطو الغائية والكيفية، وعلينا أن نعرف ما هو حساب الاحتمالات أو نظرية الحظوظ وقانونية المصادفات والمصادفة، وعلينا أن نعرف وأن نعلم تحليل اللامتناهيات (حساب التفاضل والتكامل) وعلينا أن نعرف، لا أقول اكتشاف داروين، بل فلسفة اكتشاف داروين، علينا أن نعرف فلسفة التكنولوجية اليابانية ما دام الكثيرون يعبدونها اليوم. أعتقد أن ثمة اتفاقاً اليوم على سؤال ما الفكر في العالم ولكننا نحن العرب خارج السؤال للأسف، ما زلنا إلى اليوم خارج السؤال. وإلى جانب سؤال الفكر إذا أردت هناك سؤال ما هو الوعي؟ ومن الواجب أن يكون السؤال الآن محور جميع ندوات العرب وسلاح كل معلم مدرسة.

5 ـ العلم والأخلاق :

قد يكون الخلاف الأكبر، الخلاف الفلسفي والأيديولوجي الأكبر في العالم اليوم وغداً، هو حول العلاقة بين العلم والأخلاق. فثمة فريق من الناس كبير جداً وقيادات كبيرة جداً تؤمن، صراحة أو ضمناً أن العلم قيمة تكفي ذاتها بذاتها، ولا يوجد شيء فوق المعرفة العلمية وفوق البحث العلمي، وثمة فريق آخر يعارض بالطبع من البداية. إيفان فرولوف مثلاً (ولعله ما زال سكرتيراً فلسفياً عند غورباتشوف)، عند فرولوف مقال، استشهدت به في مجلة الوحدة، قبل البيروسترويكا يقول فيه: كلا وألف كلا، لم تقل الاشتراكية في حياتها، أن البحث العلمي فوق الأخلاق، أو أنه مستقل عنها. الأخلاق فوق العلم والمعرفة وإلا فإن البشرية تقود نفسها إلى التهلكة. هذا خلاف كبير بين الفريقين. وأنا أتصور أن هذا الموقف سيكون الموقف الجوهري الذي يلتقي عليه الأوروبيون والشيوعيون والاشتراكيون والديمقراطيون الاشتراكيون والكنائس والنقابات وجماعات الخضر المدافعون عن البيئة. أما الموقف الآخر (موقف الفريق الأول) ربما يتمثل في مارغريت تاتشر ورونالد ريغان. هناك أناس يعتقدون أن الأمرين سيان: إنتاج إنتاج، علم علم، علم وإنتاج، تقنية، علم وتقنية. ميتران مثلاُ بعكس هؤلاء، في رأي جماعته أنه توجد مسائل اجتماعية وثقافية، فلو استطعنا أن ننمي الإنتاج مئة مرة، فإن لهذه المسائل استقلالها عن المسائل التقنية. وثمة أخطار في المستقبل أيضاً، نحن العرب خارج هذه القضايا. ولو أمكننا طرح هذه المسائل على نحو صحيح ربما ستكون أساس لقاء مفروض بيننا وبين تيار ديني، قد يكون لنا نحن فضل كبير في إنشائه، أو في المساعدة على نشوئه وتكوينه. في ندوة “العقلانية العربية واقع وآفاق” خطر لي أن أقول لزملائي المنتدين إن كتاب “العقل” La Reson الفرنسي ينتهي بقصة الهنود الحمر، وهم بعيدون عنا تماماً، لكن قصتهم هذه هي مدخل لموضوعكم الذي تريدونه.

……………..

جاد الكريم الجباعي

مفكر سوري، مجاز في علوم اللغة العربية وآدابها من جامعة دمشق، مهتم بالفلسفة المدنية وقضايا الديمقراطية والمجتمع المدني والدولة الوطنية وحقوق الإنسان والمواطن، له عشرات المقالات والأبحاث والدراسات والكتب.

 

——————–
يتبع.. الحلقة الخامسة: الفصل الثالث “بذرة الديالكتيك”

التعليقات مغلقة.