الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

حقوق سياسية ومدنية!

ميشيل كيلو *

أولًا: هل من المبالغة القول إن السياسة التي نمارسُها “خربت بيتَنا”، جماعات وأفرادًا، لكثرة ما شابها من قصور، واتصفت به من عجز عن تغطية جوانب حياتنا، وعن تعريف حقوقنا، وحكمها من مزاجية غلّبت فيها التجاوزات الفردية هنا، والضوابط الأيديولوجية المغلقة هناك، وغيّبت عن أحزابها وتنظيماتها السياسة كفاعلية مجتمعية، أو ترى نفسها بدلالة المجتمع: حاملها الحقيقي وحاميها، بقدر ما تستحقّ اسمها، وتحترم استقلاليته النسبية عنها، وترتبط به ارتباطَ مصير، فلا عجب أن غُربتها عن منابتها المجتمعية أبقتها “برّانية”، عند عامة الناس، وأفزعتها من إجراء مراجعات نقدية لبرامجها وبناها التي سوغتها، تارة بكونها تمثل مصالح طبقة واحدة من المجتمع، وطورًا بكونها تُقاد من نخبة لم “تتلوث” بـ “عامية” المواطن العادي، الذي تراه جاهلًا وعديم الوعي غالبًا، وترفض انضمامه إليها، كي لا ينحدر مستواها من سماء نخبويتها وطليعيتها، إلى أسفل درك العفوية والشعبوية.

غاب المجتمع عن السياسة لأسباب كثيرة، أهمّها طابع تنظيماتها الفئوي، الذي حال بين الأحزاب الديمقراطية/ العلمانية، وبين أن ترى في الإسلامي مواطنًا من واجبها الدفاع عن حقوقه ومعتقداته، لأنه مواطن قبل أن يكون أي شيء آخر، وجعل الأحزاب والتيارات الإسلامية ترى في من لا ينتسب إليها مارقًا، فإن كان علمانيًا، عدّته أجنحتها المتطرفة كافرًا يجب الجهاد ضده وقتله، تفسد حمايته الإيمان، وتدرج الذود عن خياراته في خانة الضلال، وتتنكر لحقوقه كمادة من غير الجائز أن تكون موضوع حوار أو توافق، أو قواسم مشتركة ملزمة لبني الانسان عامة، ولأبناء المجتمع الواحد خاصة، الذين يتعرضون لتحديات واحدة، ويواجهون أخطارًا موحدة تتخطى السياسة وحقولها وتنظيماتها، لن ينجحوا في صدّها إن خرج تحديدها والتعاون على ردعها، والتغلب عليها عن إرادتهم، أو تم الرد عليها من خلال مواقف سياسية متعارضة، أو تغلب عليها الحزبية وما تتحامى به في بلادنا، من فئوية نحو خارجها وعصبوية نحو داخلها، تحرضها على انتهاج سياسات أحادية الاتجاه، غير تفاعلية، تنطلق منها نحو من هم خارجها، وتستهدف إلزام الهيئة المجتمعية العامة بخياراتها ومواقفها، فالسياسة في نظر قادتها هي فنّ الممكن بالنسبة إليهم، وجعل الممكن مستحيلًا بالنسبة إلى غيرهم، العدو دومًا والخصم أحيانًا، والمنافس الذي لا مفرّ من القضاء عليه، في معركة التنافي المتبادل التي تخاض ضده، وتحتم أن تتحاشى إنزال الهزيمة بنفسك بما تحمله من أوهام عن وطنية تجمعك بعدوك، هي صنيعة سذاجتك!

ثانيًا: بلغ تعارض السياسي والمجتمعي ذروته، عبر إلحاق حقوق الإنسان بحقوقه السياسية كمواطن، وتقليص تمثيلات الواقع المجتمعي (الذي وصفته توًّا) إلى واقع سياسي سلطوي وحزبي، لا يغطي بحال من الأحوال جميع تظاهرات المجتمع، ويقوم على انتماءات فئوية لدى الطرفين، يمكن أن تصل إلى درجة نفي وجود المجتمع كهيئة عامة، يفترض أن تكون مرجعيتها، التي تتعالى على صفتها كأدوات تكفل حقوق الإنسان والمواطن ومساواته أمام القانون، الذي يعاقبه إن حاول تخطي مساواته الشكلية إلى مساواة واقعية تزيل الفروق الاجتماعية، وما هو قائم من تمييز بين مواطنين ليست مرجعيتهم السلطة، ولا تكفل حقوقهم السياسية القانونية حقوقهم المجتمعية والمدنية، بينما يعدّ المعدم مساويًا للمنعم الثري، وتعبر العدالة متحققة بمجرد أن تنتفي حاجة أهل السلطة إلى أي حاجة!

ثالثًا: ينطبق هذا على من يبالغون في إبراز حقوق الإنسان السياسية، ليغيبوا حقوقه المدنية والمجتمعية، بالرغم من أنه لا تنهض سياسة ولا تكون حقوق في غيابها. لو أردت تبيان ما أقصد، لتحدثت عن وضع المرأة، وذكّرت بأن حقوقها السياسية لا تضمن حقّها في أن تعدّ ذاتًا حرة تقرر مصيرها بنفسها، من دون الرضوخ لمصفوفات من الأحكام الشائعة، المقيدة لحريتها، وخاصة السياسية منها، التي لن تتمتع بها أو تمارسها، ما دامت محرومة من حقها في إدارة شؤونها الخاصة والشخصية، بذريعة أنها شؤون عامة ستسيء استخدامها، وتضرّ بالمجتمع!

رابعًا: لن تتحقق للإنسان حقوق سياسية، إذا فُصلت عن حقوقه المدنية والمجتمعية. هذا ما نتعلمه من التجربة التاريخية للبلدان التي لم تفصل إحداها عن الأخرى، بل أرستها على تراتب بنيته الفوقية السياسة والتحتية الحقوق المدنية والمجتمعية/ العدالية. وإذا كان ترابط وتكامل الحقوق قد أصبح أمرًا لا تنتهك الدول أيًا من مفرداته؛ فلأنها لن تستقر، وستواجَه بالمقاومة، في حال انتهكت حقوق مواطنيها المدنية، كحقوق لحيزه الشخصي والخاص، الذي يعدّ انتهاكه خرقًا لحقوق عابرة للسياسة، ومحددة لها في آن معًا، ومن غير الجائز السكوت على الاعتداء عليها، لارتباط مجمل أوجه حياة الأفراد بها، في كل لحظة من وجودهم الخاص والعام.

خامسًا: تقتصر معركتنا ضد الاستبداد على المطالبة بحقوقنا السياسية، من دون ربطها بحقوقنا المدنية، حاملها الذي يتجاهله الصراع السياسي، لاعتقاد ساستنا وتنظيماتهم أنها تتحقق بصورة آلية، بمجرد نيلنا حقوقنا السياسية، فإن حدث وذكرت، عُدّت حقوقًا فرعية، وتم تجاهل واقعة أن أغلبية قومنا الساحقة، ونصف مجتمعنا من النساء، قليلًا ما يمارسون السياسة، في حين تلازمهم حقوقهم المدنية لحظيًا ومدى الحياة، وتعدّ معيارًا لحريتهم، ولحريتهم أو عبوديتهم، في المجال السياسي الملحق بها كما في غيره.

ما دام شعبنا قد ثار من أجل حريته، فإن علينا تذكير المنافحين عنها بأهمية حقوق المواطن المدنية والمجتمعية، وبأن حقوقه السياسية لا تضمرها بالضرورة، بل قد تلغيها، فيكون عندئذ مواطنونا، إناثًا وذكورًا، أحرارًا اسميًا على الصعيد السياسي، ودون حرية فعليًا في مجمل مجالات حياتهما العامة والخاصة، وتسقط الحرية في الرهان، ويسقط معها طلبتها، الذين تعاموا عن الصلة بين انعدام الحقوق المدنية والمجتمعية وبين الاستبداد السياسي.

* كاتب وباحث ومحلل سياسي سوري

المصدر: حرمون

التعليقات مغلقة.