الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

حـوار العمـر.. أحاديث مع الياس مرقص … الحلقة الثالثة

بالذكرى الثلاثين لوفاة المفكر المرحوم «الياس مرقص» موقع « الحرية أولاً » ينشر كتاب “ حـوار العمـر.. أحاديث مع الياس مرقص

أجراها وحررها: جاد الكريم الجباعي *

الحلقة الثالثة: الفصل الأول/ثانياً ” نقد الكلمات.. وتحرير المفاهيم والمقولات

3 ـ مفهوم الشكل ومبدأ التشكل :

مطابقة الفكر للواقع مطلب بعيد المدى، مطلب أبدي. نحن مؤمنون بأن الفكر والوعي لا يتطابقان مع الواقع لكننا ننشد التحسن الدائم، نحن في سعي إلى التحسن، هذا شيء مهم، في الفكر، في الوعي عنصر مستقبلي. الوعي فكر مبدع وضمير أخلاقي أيضاً. هذا سينقلنا إلى مقولة الروح. ولكن لنلاحظ قبل ذلك أننا نقول بالعربية فكر وفكرة، بالفرنسية يقولون (La pense’e) ويقولون Ide’e. في العربة اللفظ مشترك تقريباً. أما Idialism  من Idia أي المثالية فتعني مذهب أو عقيدة الفكرة. ياسين الحافظ أمسك بذلك في حديثنا مرة وكان واضحاً جداً. بدلاً من المثالية نستطيع أن نقول الفكرانية ربما تعزيزاً للفكر والفكرة. الكلمة في اليونانية هي الأيدوس Idos وهي الأصل الفلسفي. والأيدوس الأفلاطوني يترجم بالفكرة والشكل Forme. والشكل عند أرسطو ابن أفلاطون. عندما يقول أفلاطون الأشياء مادة وشكل فإنه يعني قابلية المادة لأن تحس (الإحساس) وقابلية الشكل لأن يّذهن لأن يفهم أو يُفكَر. الشكل هو الذي يأتي بفكرة المفهوم. إذن الشكل أخ للفكر والمعرفة. هنا أفتح قوساً لأقول: إن مقولة الشكل Forme هي أضعف مقولة في تعليمنا العربي، وفي ذهننا وتفكيرنا وفي كتاباتنا، في حين هي أقوى مقولة في الفكر الفرنسي وفي الفكر الغربي عامة. من كلمة Frome اشتق الأوروبيون الكلمات التالية Formation  أي تشكيل، بمعنى التكوّن، و Transformation يعني تغير الشكل بمعنى التحول. وInformation بمعنى الإعلاء، الشيء غير المشغول، فهم معجم، عجمة، وInformation بمعنى المعلوماتي، العلم المعاصر. يقول كيدروا: كل العلم في القرن العشرين هو عملية Formalisation متزايدة، عملية شكلنة متزايدة. هذه الكلمة دخلت في تعليمنا الرياضيات من دون دراسة. إذا ذهبت إلى مكتبة تبيع الكتب الفرنسية ستجد فيها سلسلة الليدي بورت للأطفال، هناك كتاب الماء وكتاب سكك الحديد، وكتاب السيارة، وستجد كتاباً عنوانه Les Formes الأشكال للأولاد حتى عمر خمس سنوات. يبدؤون بتكوين هذه المقولة عند الأولاد من عمر خمس سنوات(14)، ولطالما فكرت بضرورة نقل هذا الكتاب إلى العربية، إنه كتاب مصور، ليس فيه جمل كثيرة، في كل صفحة جملة واحدة، الصفحة الأولى تبدأ بجملة: كل شيء لـه شكل (توافورم) في الصفحات 2،3،4،5،6، تجد الدائرة والكرة والبالون، وفي الصفحتان 7و8 تجد المربع والمثلث وبعد ذلك المستطيل، في الصفحة 14 يرسمون دائرة في الوسط ودائرة أخرى ومستطيلين ومثلث ومربع، فيخرجون صورة لطفل يركب دراجة، لم يقولوا للطفل ذلك، بل يجدها أمامه بالأشكال. أرسطو يميز الشكل من الصورة. وعنده كل شيء يتألف من مادة وشكل نحن ترجمناها مادة وصورة، هذا خطأ، الشكل غير الصورة. الشكل شقيق الفلسفة العقلانية المثالية مع أفلاطون وأرسطو وديكارت وماركس. والصورة Emag غنية ومعقدة بنت ديمقريط وأبيقور بنت الفلسفة الماديانية الذرية. أرسطو حل الإشكال بقول قصير جداً: الصورة هي الشكل الأخير. بتعبير آخر الشكل هو صورة فارغة، صورة بسيطة مجردة، أما الصورة فهي شكل غني ومليء. إنك حين تشكل شيئاً من الأشياء تكمل شكله، تبرز صورته. الصورة هي الشكل الأخير أو الشكل الأعلى، هكذا تاريخ الوجود وهكذا المعايير، نبدأ بالبسيط لنصل إلى المركب وإلى العياني المكتمل، هذا هو خط الديالكتيك في المعايير. عند ماركس الأمر واضح تماماً(15).

كثيراً ما يقال عندنا المعرفة تبدأ من الواقع، نحلل الواقع أولاً. ما شاء الله!! هل يمكن البدء من الواقع من دون مفاهيمه وكلماته ومفرداته؟. نبدأ من الواقع، ها نحن استعملنا كلمة واقع، مفهوم الواقع هذا أولاً. ثانياً إذا كنت تعرف الواقع سلفاً، فلماذا تقوم بعمل سبيرة؟ ثالثاً زعمك البدء من الواقع سيقودك في نهاية التحليل إلى مجردات أثيرية محببة تسميها القانون وتسميها المفاهيم، تحلل الواقع في سورية أو في إنكلترا مثلاً وتنتهي إلى قانون عظيم هو صراع الطبقات. الواقع تبدد، طار، لم يعد هناك شيء. أو تحلل حالتنا ونضالنا على أنه نضال ضد الإمبريالية.. هذا كلام، مجرد كلام. الطريق الديالكتيكي عكس الطريق الشامل. أو لنقل الطريق الشامل صحيح ولكن بشرط أن تكون مسلحاً بالمجردات البسيطة، مسلحاً بالمفاهيم وبالقوانين وشيئاً فشيئاً تنتهي إلى إعطاء لوحة الواقع. صورة العالم، أو صورة البلد، صورته وليس شكله، جميع المفاهيم أدوات من أجل هذه الصورة. ستالين لم يفهم ذلك إطلاقاً. إذا قارنت بين ما يقوله ستالين في “المبدأ السابع” وما يقوله إنجلز تجد الفرق، فستالين يقول: من الممكن أن تعرف قوانين الطبيعة. إنجلز يقول: هل يستطيع الفكر أن ينشئ صورة الواقع؟. ستالين تكلم عن المعرفة وعن القوانين، إنجلز طرح السؤال بلغة الفكر وإنشاء صورة الواقع، الهدف الأعلى هو إنشاء هذه الصورة، الصورة المليئة المترابطة الحية التفصيلية. في الماضي كما نعتقد غير ذلك، سأقول لك لماذا: التعليم العلمي (تعليم العلوم) في الابتدائي والثانوي يبدأ بالملاحظة ثم التجربة وينتهي إلى استخلاص القانون. قانون تمدد المعادن في الفيزياء مثلاً هو خلاصة هذه العملية: الملاحظة والتجريب، وصوغ القانون أو وضع القانون وصولاً إلى تطبيقاته في الصناعة أو في بناء سكك الحديد أو الاتصالات.. فالمسلسل يكون كذلك ملاحظة واقع وتجربة فقانون وتطبيق للقانون. الرفيق ستالين قال لنا: هذه هي القوانين خذوها وطبقوها. وهنا أريد أن أحذر من كلمة تطبيق البشعة، التي حلت محل كلمة براكسيس ترجمة سيئة لها، البراكسيس تعني النشاط العملي، أو فاعلية الإنسان، عمل البشر. إن كلمة تطبيق تخربنا، تعليمنا يقوم على فكرة التطبيق، نقول للطالب: هذه هي القاعدة، طبق هذه القاعدة وهذا القانون وبعد أشهر نمتحنه في تطبيق القوانين أو القواعد الكثيرة التي تعلمها أو حفظها وما أكثر ما يضيع فيها وبينها، ذلك بدل أن نعلمه كيف يفكر، بدل أن نعلمه الفكر والعقل.

4 ـ الروح من المفهوم الشعبي إلى المفهوم الفلسفي :

أنتقل الآن من مقولة الشكل إلى مقولة الروح. أريد أن نتفق على المقولات أي المقولات الكبرى التي ذكرتها. المقولات أصناف. أخذنا سلسلة، مجموعات ومجموعات من الظواهر أو الظاهرات صنفناها في المقولة المادية وسلسلة أخرى صنفناها في المقولة الفكرية، الروحية. هنا أتساءل: هل أئمة الماركسية استعملوا كلمة الروح ترجمة لكلمة Sperit الفرنسية أو كلمة Geist الألمانية. الجواب فوراً: نعم. من يقرأ هيغل، أو من يقرأ ماركس وإنجلز ولينين سيجد هذه المقولة مكررة عشرات المرات بل مئات المرات. سؤال آخر: هل استعمل ستالين مقولة الروح؟ الجواب إن ستالين حين نقل نصوص إنجلز ولينين نقل كلمة الروح حيثما وردت، أما في كتابه وبلسانه الخاص استغنى عن مقولة الروح واستعمل محلها مقولة الفكر والوعي والنفس، ولكن بلا روح. أما المترجمون العرب فألغوا كلمة روح من شواهد لينين وإنجلز عند ستالين، ووضعوا العقل محل الروح. هذا غير مقبول، وضار، هذا تزييف. الترجمة العربية لكتاب ستالين استعملت كلمة عقل ترجمة لثلاثة أو أربعة مصطلحات مختلفة: Montage ترجموها عقلي و L’esprit ترجموها عقل وReasom عقل. نعود إلى ستالين بعد أن ألغى في كلامه الشخصي مقولة الروح نجده يستخدم عبارة (حياة المجتمع الروحية) بدلاً من (الحياة الروحية للمجتمع) ويكررها مراراً، وكذلك غدانوف و”عصر غدانوف” العصر السوفييتي الستاليني كرر عبارة “حياة المجتمع الروحية” مراراً مع التصفيق. والروحية (Sperit – Sperital). ألتوسير الذي جاء بعد ستالين ألغى كذلك مقولة الروح، وكثيرون من التقدميين العرب يقولون: يا الياس دعك من كلمة الروح هذه لأن الروح عندنا، نحن الشرقيين، لا تعني ما تعنيه عند هيغل وماركس. طبعاً هذا كلام غير مقبول، إذا كانت لا تعني عندنا ما تعنيه عند هيغل وماركس فهذا ليس سبباً للاستغناء عنها ولأن نقول: العقل بدلاً منها. ثم إذا كانت اليوم لا تعني فإنها غداً سوف تعني، ستصبح ذات معنى إذا أحسنا استعمالها، أي إن مضامين الكلمة وإيحاءاتها تتغير إلى هذا الحد أو ذاك، وتتغير كما نريد وكما نعمل.

هناك عندنا من يقول الروح كالهواء، وفلان (طلعت روحه) يعني أنه مات، فهل تعتقد أنها تعني عند الأوروبيين غير ذلك؟ كلمة روح في العربية من راح*** ، وهناك أغنية لفيروز تقول: «إن راحت روحك يا روحي روحي بتروح». والنفس من النفس (التنفس)، فهل تعتقد أو تتصور أن اليونانية والفرنسية والإنكليزية ليست كذلك؟ المشروبات الكحولية هي المشروبات الروحية عندهم Speriter، وطبيعي أن يستعملها البشر هكذا. عند أرسطو (بنرما) تعني النفس من النَفَس والتنفس فأصل الكلمة هكذا. جميع الكلمات الفلسفية ذات أصل شعبي، جميع المقولات الفلسفية ذات أصل شعبي وعامي وهي مقولات كبرى وشعبية جداً ويكررها الناس يومياً، لكن الفلاسفة حولوها**** . المادة بالفرنسية القديمة كانت تعني الحطب وعند الألمان المادة (شتوف Staff) تعني القماش، لكنها لم تعد تعني ذلك مع أن كلمة شتوف (Stoff) بقيت تعني القماش. وعلى الأرجح كلمة Matere التي تعني مادة أصلها من جذر قديم قد يكون هو المَذَر. المذر عند العرب يعني الطيب وإنه لشيء جميل أن تكون قد أعطت عند اللاتين والانجليز الـ Mater. خذ مثلاً كلمة (هازار) التي هي أكبر مقولة علمية فلسفية بمعنى المصادفة والاحتمال وحساب الاحتمالات التي تقوم عليها التقنية اليابانية والهندسة الوراثية أصلها من الزهر، النرد في لعبة الطاولة. العرب لا يزالون يلعبون بطاولة الزهر في نهاية القرن العشرين في حين كان الغربيون قد اخترعوا علم الزهر، علم الاحتمالات وقوننته المصادفة… إن كل فيزياء هايزنبورغ تقوم على أن عشوائية الصغائر هي أساس قانونية الكبائر، فذرات هذه الطاولة تتحرك عشوائياً لذلك هي ثابتة في مكانها، ولولا ذلك لتحركت في أي اتجاه، يمكن أن تصعد إلى السقف. إن ذهننا حتى اليوم ضد هذه المقولة، عندما تذكر المصادفة أو القانون نقول سبحان الله، إن أهم شيء هو قانونية المصادفة، كل ما حولنا وكل ما يقع من الحوادث والأحداث هو من باب العرضي. دائماً هناك ما هو عرضي وطارئ ومصادفة. إذا لم يكن في ذهننا سوى الحتمية من جهة، والمصادفة من جهة أخرى، فإننا نعود إلى مستوى هيرقليط. عند هيرقليط فكرة الإيمارميني تعني الضرورة الحتمية وتعني الحظ في الوقت ذاته. البشرية بدأت هكذا لا تفرق بين الضرورة والحظ والقدرة الإلهية مع رفض التفسير. البشرية تقدمت وأخذت تفرز، جاء وقت في القرن الثامن عشر قال فيه بعضهم بعدم وجود المصادفة، ورد عليهم فريق آخر بأن هناك ضرورة ومصادفة، هذه المقولة تفرض تلك المقولة، تطور الأنواع ضروري وحتمي، ولكن لماذا هذا الفرد أطول من ذاك هذا عرضي. الأفراد مختلفون ضمن الفصيلة الواحدة والعرق الواحد وسيختلفون دوماً. هذه مقولة مفتاحية وقد باتت موضوعاً لعلم عمره في أوروبا 350 سنة أو 400 سنة، منذ عصر باسكال بل قبل غاليليه وباسكال، وبرز في نهاية القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وبرز أكثر فأكثر في القرن العشرين مروراً بداروين ودورفيز. ما أريد قوله أن التراث الماركسي لم يهتم بحساب الاحتمالات بل اهتم بتحليل اللامتناهيات أي حساب التفاضل والتكامل. لقد كتبت قبل عشرين عاماً موجهاً كلامي إلى العرب، وقلت: العقل عقلاني كما ترون، هناك عقل بدون حساب الاحتمالات وبدون تحليل اللامتناهيات، العقل الذي نريده في صلبه علم الاحتمالات وعلم تحليل اللامتناهيات.

أعود فأقول: إن كل ما يخطر في بالك من مقولات فلسفية لها أصل شعبي ثم أصبحت فلسفية، من ذلك الحرية والمصادفة والمادة والروح والذرة. الذرة مقولة شعبية ومقولة دينية “وردت في القرآن”: {من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}، وفي التوراة والإنجيل. الخطاب الإلهي أو الوحي خطاب شعبي، خطاب لجميع الناس، للبشر العاديين، وليس خطاباً فلسفياً أو علمياً، فكرة الذرة قديمة ويقصد بها شعبياً حبة صغيرة جداً جداً، في هذا الإحساس إرهاص قديم بالوعي البشري إلى أن أتى أحدهم من صور الفينيقية (أصحاب سعيد عقل) قام بعمل شيء مهم وسعيد عقل يعطي جائزة لمن يكتب عن هذا الرجل الصوري (لا أذكر اسمه) أعلن هذا الرجل خلافاً لليونان أن الذرة تتجزأ إلى ما لا نهاية. طبعاً سعيد عقل لم يدرك أن هؤلاء اللصوص اليونان سرقوا الفكرة من فينيقيا عندما أعلنوا الحل، أسسوا بالذرة لعلم الفيزياء. الذرة الفينيقية قبل اليونان بقليل، الذرة تتجزأ إلى ما لا نهاية. ثم جاء لوسيبو ديمقريط من تلاميذ هيرقليط وأعلن أن الذرة تتجزأ ثم لا تتجزأ، فظهرت فكرة العنصر، غير العناصر الأربعة أو الجواهر الأربعة النار والماء والتراب والهواء، عنصر من نوع آخر. هذه الفكرة الجديدة انتصرت أخيراً مع لافوازييه، لم يعد هناك نار بل ظاهرة احتراق، وصار الماء الذي نشربه مؤلفاً من جسمين عنصرين، الأوكسجين والهيدروجين H2O. هذا انقلاب في العلم، إذا بالذرة قد أصبحت عند ديمقريط Atom أي جزء لا يتجزأ. قال سعيد عقل في التلفزيون Atom لا يتجزأ، إنه يصفق للفينيقي، لكنه أيضاً يصفق لليوناني الذي أخذ الفكرة الفينيقية البابلية الهندية الشرقية وأضاف إليها فكرة هيرقليطية غربية: هناك وجود وهناك عدم، هناك ذرة وفراغ. منطلق ديمقريط وأفلاطون وجميع الفلاسفة هو تجاوز الرأي العام (تجاوز التقليد السائد والمعرفة السائدة أو”العقل السليم”ج).

أعود إلى القول إن جميع المقولات الفلسفية ذات أصل شعبي فلِمَ نستغني عن مقولة الروح، هل بسبب إيحاءاتها العربية؟ معروف أن إيحاءات هذه الكلمة في اليونانية واللاتينية والفرنسية والإنكليزية.. مثل إيحاءاتها العربية مع اختلاف في التعبير بين شعب وآخر، لكن هذا الاختلاف لا ينفي وجود جوهر مشترك أو قاسم مشترك بين الشعوب، نحن لا نراه، بل نتجاهله ونسقط في مذهب خصوصية مبالغ فيها، للأسف ستصبح خصوصيتنا أن الأمم تتقدم ونحن نتراجع.

إن كلمة روح مؤكدة ومستعملة عند ماركس وإنجلز ولينين وهي نفسها الروح. إذا كان ستالين وألتوسير والمنتدون العرب من علمويين وماركسيين من محمد عابد الجابري وسمير أمين إلى حسن حنفي لا يريدونها، هم أحرار، أنا أريدها. كارل ماركس استعمل هذه الكلمة، وأهم نص وردت فيه هو الصفحة الثانية من الفصل الثالث من مخطوط مدخل سنة 1857 الذي ترجمته ونشرته في مجلة الواقع، العدد الرابع، إنه نص كثيف جداً وهائل جداً عن الديالكتيك وطريقة علم الاقتصاد السياسي يصل فيه ماركس إلى أن هذا العلم يعني العلم الفلسفي النظري، الفلسفة والعلم، المعرفة العاملة بالمفاهيم، هي شكل للتملك يختلف عن الأشكال الأخرى، ألا وهي الفن والدين، التملك الروحي العملي (البراكسيس) (Praxis) وقبلها بقليل أو بعدها بقليل استعمل الغايس Gaist (الروح). عند ماركس مقولة التملك التي تعني أن أتملك العالم وأجعله خاصتي، عالمي. الإنسان يتملك العالم، لأن العالم في النهاية هو عالم الإنسان. العالم الآن مستلب من الإنسان، الإنسان ينشئ العالم، وإذا بالعالم يقف ضده. فكرة التملك هذه هي فكرة الاستيلاء، فكرة التغلغل، فهناك مسألة تملك بشتى المعاني. مقولة الغايس، الروح جاءت شقيقة لمقولة التملك. ومقولة التملك هي مقولة المعرفة تحت لواء مقولة العمل. وقد حدد ماركس للتملك أربعة أشكال هي: العلم أي الفلسفة بالمعنى الواسع أو العلم بالمعنى الواسع(16) (العلم النظري، الفكر النظري) والفن والدين والتملك الروحي العملي. هناك من يتساءل ما هو التملك الروحي العملي، أنا أقول إنه شيء أقرب إلى عمل النجار والحذاء والمزارع أيضاً. مثلنا الأعلى هنا شغل الحرفي الذي يملك حانوته وأدواته ويؤدي عمله من كل قلبه، أي إنه يضع كل قلبه وكل نفسه في عمله ويعرف أن عمله لن يخذله أو يخيبه وأنه سوف يربح منه أو سيرى نتيجته. هذا الحرفي يصنع مُنتجاً، لا يصنع ثورة ولا مجتمعاً جديداً، هذه صعبة جداً. مقولة الروح لا يمكن الاستغناء عنها. مقولة العقل أو الفكر النظري مقولة جافة. هنا أعود إلى سؤالك: قطعاً مقولة الروح واسعة جداً، أستطيع أن أشملها جميع النواحي الروحية والنظرية والأخلاقية والفكرية والمعنوية عند الإنسان، وهي مقولة شاملة للدين وللفن على السواء. مقولة الروح إذاً كمقولة الثقافة ومقولة الأخلاق، كل هذا مجتمعاً. ما هي الأخلاق (إن لم تكن ميداناً من ميادين الروح)؟ الأخلاق هي ضمير الإنسان وعمله، هي ميدان العمل والتعامل بين الناس على أساس الضمير. ليس هناك عمل من دون أخلاق. تسمى هذه الناحية المعنوية في الفرنسية Moral التي تعني الأخلاق وتعني المعنوي، معنويات الجيش مثلاً قوة كبيرة، القوة المعنوية.

وإنك إذا فتحت قاموس La Rouse على كلمة Moral في الصفحة الأخيرة من قسم التاريخ فإنك ستجد أنه يذكر جميع معاهد فرنسا، أي جميع الأكاديميات الفرنسية. يضعون أولاً الأكاديمية الفرنسية وبعدها أكاديمية المنقوشات والكتابات والآداب الجميلة، وبعدها أكاديمية العلوم وتشمل الهندسة والميكانيك والفلك والجغرافية والملاحة والكيمياء والفيزياء.. إلخ. وبعدها أكاديمية الفنون الجميلة وتشمل الرسم والنحت والعمارة والحفر والموسيقا وبعدها أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية أو أكاديمية العلوم المعنوية والسياسية أو الأخلاقية المعنوية والسياسية وتضم الفلسفة والأخلاق وعلم الاجتماع (لنلاحظ الأخلاق قبل علم الاجتماع) ثم التشريع والحق العام والقضاء ثم فرع الاقتصاد السياسي والإحصاء والمالية. لاحظ الاقتصاد السياسي من علوم الأخلاق. ثم التاريخ. لو أن السوفييت سمعوا هذا الكلام قبل عشر سنوات لمنعوه أي رفضوه، لكنهم اليوم يقبلونه ويؤيدونه. كانوا يعلموننا أن لا أخلاق من دون اقتصاد، فقد كانت الأخلاق تابعة للاقتصاد. أما اليوم فيقولون علناً لا اقتصاد من دون أخلاق. ولكن يجب أن نتفاهم ما هي الأخلاق؟ الأخلاق هي الضمير، هي العمل والتعامل بين الناس. أما الإيحاء الذي يحصر الأخلاق في الأعضاء التناسلية وفي علاقة الرجل بالمرأة فهو جزء من الموضوع. لم لا؟ فأول تعامل بين الناس هو التعامل بين الرجل والمرأة. يجب أن نرفع لواء الأخلاق بقوة، ما زالت هذه القضية في قلوبنا منذ 25 سنة، قبل أن يدخل ياسين السجن. كنا نرى أن الأخلاق تنهار، يجب أن نثبتها في كتاباتنا وليس فقط في قلوبنا أو أحاديثنا الشخصية، هذه معركة، معركة من أجل الأخلاق. منذ 25ـ 30 سنة ينمو عندنا الكذب والعنف.. ونمو العنف يساوي انحدار الأخلاق، نمو العنف يساوي القتل والسجن والضرب والذبح والاغتيال والمجازر، نمو الكذب ونمو الخطاب المزدوج.. هذا كله يعادل أو يساوي انحدار الأخلاق وتقلصها وتراجعها. الأخلاق تتراجع، يجب أن نرد وندرس الرد ونرد.

هنا نأتي إلى مقولة الروح التي هي الشقيقة لما قلت. أعود إلى مناقشات بعض أصدقائنا قبل وفاة ياسين، حول الدين والموقف من الدين. إنني بعد دراسة طويلة ومنذ عشرين سنة أفكر في هذه المسألة: الإلحاد في رأيي موقف مغلوط نظرياً وعملياً، وفي أحسن الأحوال لا معنى لـه. وفي أسوئها هو موقف عدمي يسوغ العنف. وهذا يشرح الموقف العظيم لدوستويفسكي حين قال: إذا كان الله غير موجود فكل شيء مباح. قال دوستويفسكي ذلك في معرض التحذير من الإرهابيين السود.

5 ـ الإيمان والإيمان الديني أو الإيمان الحسي, والإيمان العقلي:

# سألتني سيدة مسنة مرة، ما رأيك بالإيمان؟ فسألتها هل تقصدين الإيمان الديني؟ سألتها ذلك لأنني أستعمل كلمة الإيمان بمعنى الإيمان الديني وغير الديني. ولا يستطيع أحد أن يمنعني من استعمالها. فكل بني آدم استعملوها وهي كلمة كبيرة، أنا مثلاً أؤمن بمستقبل للبشرية، وبمستقبل لأبنائي، أؤمن بالمستقبل بوجه عام، بشيء غير موجود الآن، لكنني بإيماني هذا أعلن عن وجوده، عن احتمال وجوده في المستقبل.

الإيمان عند جميع الناس نوعان مختلفان، متضادان أو متعاكسان، ويمكن أن يتداخلا، لكنهما مختلفان. هناك الإيمان الديني الذي نموذجه الأصلي والأعلى هو الإيمان بوجود الطاولة والكرسي والجبل والشمس والله. الجبل موجود والشمس موجودة والله موجود، نموذجه الأعلى هو اليقين المادي الحسي (إيمان يقيني) دوغمائية اليقين المادي الحسي. الكرسي موجود ولكنه عرضة للتلف وقد يغدو طعاماً للنار. والجبل موجود لكن قنبلة ذرية قد تزيله، والشمس موجودة لكننا بتنا نعلم، بفضل تقدم العلوم، أنها تحول متبادل ودائم بين الهيدروجين والهيليوم، بين الهيدروجين ونظائر الهيدروجين، إنها قنبلة هيدروجينية ضخمة (انشطار نووي لا يساوي اندماج نووي). الفصل الأخير من ديانة مصر القديمة أو إصلاح أخناتون العظيم قد كتب: من غير الممكن لإنسان عاقل يريد أن يتكلم عن الله أن يربطه بالشمس، ولو رمزياً، يجب أن يعلن أن الله فوق الشمس، وراء الشمس، أعلى من الشمس وأقدم من الشمس. علم الفلك أو الفيزياء الفلكية آستر فيزياء تقول لنا اليوم إن شمسنا هذه لها بداية وسوف يكون لها نهاية(17).

النوع الثاني من الإيمان (وهو أقرب إلى الإيمان الديني الصحيح الذي اضطرت جميع المؤسسات الدينية أن تعترف به) عكس الأول، هو الاعتراض على اليقين الحسي من البداية، خرق لليقين المادي، إعلان وجود شيء آخر غير الوجود المادي (الحسي)(18).

إذا قسمنا الظاهرات إلى مادية وفكرية، إلى مادة وفكر، بعد أن قلنا أن الله ليس جبلاً أو شمساً وبعد أن اخترنا الله مع الضمير.. إذا عدنا إلى مقولة المادة ومقولة الفكر وتساءلنا أين يأتي الله في تاريخ الفكر، في هذا الطرف أم في ذاك؟ جوابي أن الله يأتي في جهة الفكر، فهو ليس شقيق المادة، هذا الله الروح، الذي نقول عنه الروح هو مع الروح ومع الفكر ومع الوجدان ومع الوعي ومع الضمير، وليس مع الجبل والكرسي والطاولة. قد يعترض أزهري أو إسلامي “ثوري” على وضع الله في جهة الفكر وفي تاريخ الفكر وتاريخ الفلسفة والفلاسفة، فأقول إذا كان هذا الأخ المعترض لا يعرف تاريخ الفكر وتاريخ الفلسفة والفلاسفة فهو جاهل، وإذا كان يرفضه فهو أحمق، الذي يرفض شيئاً لا يعرفه هو أحمق.

6 ـ فكرة الله تؤسس سمو القانون:

# حين نراجع تاريخ الفلسفة والفلاسفة من أفلاطون وأرسطو إلى كانط وهيغل مروراً بالقديس أوغسطين وتوما الإكويني والفلسفة العربية الإسلامية وديكارت وباسكال وسبينوزا.. نجد أن الله هو الموضوع المركزي عند الجميع والنقاش حوله دائم. وعندما أقول إن الله مع الفكر أي إلى جانب الفكر معنى ذلك أن الله عند جميع البشر حافز فكري عظيم. الله مبدأ، وهذا المبدأ محرك للكشف والإبداع عند الإنسان. في الوقت الراهن وفي فكرنا الحالي وأيديولوجيتنا جُعل الله خاتمة لكلِّ شيء وليس مبدءاً وحافزاً ومحركاً. ماذا أعطى ذلك؟ لا شيء. وكما قلت في مقالي: “أطروحات من أجل إصلاح الفلسفة”، إذا كان هناك شعب من الشعوب يقول طوال الوقت الله الله الله من دون أن يكون الله في فكر هذا الشعب مؤسساً لسمو القانون، فإن هذه قضية كبيرة جداً. عند الأوروبي أسس مفهوم الله لسمو القانون، فمن الصعب أن تجد من يخالف أنظمة السير، ومن الأصعب أن يخالف رئيس جمهورية بنداً من الدستور، حتى مجلس النواب لا يستطيع أن يسن قانوناً يتعارض مع إحدى مواد الدستور. فالقانون محترم وله سمو، كل قانون بدءاً من الدستور وانتهاء بقانون السير في الشارع. القانون له حرمته وسموه. الله المتعالي ليس مجرداً ومتعالياً فحسب، بل له دور في تاريخ الإنسان بأن يوجٍد شيئاً فوق الوجود. هذه معركة مهمة جداً (19).

إذا عدنا إلى المنطلق، أذكر بما قرأته ولفت نظري في كتاب كوفيلييه وهو من أشهر كتب الفلسفة في فرنسا، يقول في أحد هوامشه أن الفاتيكان الذي كان يرفض بجدية حرية الضمير ويلعن الملحد ويؤكد عصمة البابا وكان يرى أن الكنيسة مسؤولة عن الحقيقة وعن نجاة النفوس لم يكن يسمح بأن يقتل أحد بسبب معتقداته قبل أن تتاح له فرصة التوبة والتراجع عن “الباطل”. وأن محاكم التفتيش كانت تتيح للإنسان إمكانية التراجع عن رأيه وإمكانية الغفران. عند السوفييت وعند ستالين لا يوجد غفران، لا توجد توبة. الله فتح مجال التوبة وتراجع الإنسان عن الباطل. لا نقول عن الله إنه موجود. إن الله فوق الوجود. إنه مبدأ الوجود، مبدأ كل وجود.

وأتساءل ما السبب الذي جعل التقدميين والعلميين وما شابه، ولنقل ما الذي جعلنا جميعاً نقف منذ عشرين سنة ضد الدين، إن كان في فرنسا أو في إيران أو في سوريا، ما أسباب ذلك الموقف وما دوافعه؟ بالطبع لا أتحدث عن هذه المرحلة التي يسمونها مرحلة صعود المد الإسلامي، مع أنه من الضروري أن يفهم صعود الثورة الإسلامية التي تحمل، في رأيي، فاشية جديدة مرعبة، الثورة الإسلامية شيء غير معقول، ولكن نريد أن نتعامل معها بلا تساهل(20) بشرط أن تكون أسسنا سليمة. نحن، كما قلت في محاضرة أمام الشباب في بيروت لو أن الثورة الإسلامية انحسرت ولو تراجع الإخوان المسلمون ولو أن كل هذا الذي نراه ينحسر وينتهي فجأة بقدرة قادر، فإن ذلك لا يغير من موقفي، لأن مسألتي ليست الرد على هذا المد الديني، بل إيجاد حل، وطريق لحل مشكلات شعبي. ولو أن كل هذا لم يوجد سيبقى واجبي ومسألتي أنني أريد طريقاً لشعبي، إذا أردنا أن نقوم بنهضة كما فعل عبد الناصر، ولكي تنجح هذه المرة وأن نتقدم بصورة حاسمة فهناك مشكلة معقدة ومسألة مهمة عندنا وعند البشرية لا بد من حلها، لا يجوز أن يكون منطلقنا كيف نرد على هؤلاء أو أولئك، هؤلاء وأولئك جزء من الموضوع، منطلقنا يجب أن يكون نحن والحقيقة، أين الحقيقة، ما هو غلطنا، أين أخطأنا نظرياً. هذا كله في نظري جزء من الموضوع. ما سبب عداء الماركسي أو التقدمي أو الليبرالي عندنا أو عند غيرنا للدين؟ لنذكر الأسباب الإيجابية: إن الدين والأديان والكنائس والمؤسسات الدينية ارتكبت الكثير من الجرائم في التاريخ، تحالفت مع القوى الرجعية ضد التقدم وتحالفت مع الملوك ضد الليبرالية ومع البرجوازية ضد العمال ومع اليمين ضد اليسار..إلخ. أريد أن أدقق النظر، وإذا أعطيت مدة شهر سأقوم بعمل لائحة بهذه الجرائم.. الموضوع مفتوح وأستطيع أن أنقل كتاب الأب كونفار “الكنيسة الكاثوليكية وفرنسا المعاصرة” فقد حوى سجلاً بأخطاء الكنيسة الكاثوليكية وعيوبها وجرائمها وهو أب وليس يسارياً أو كذا، ولكنني أقول ليس خطأ الكنيسة الأكبر هو تأييدها للمحافظة، بل هو إنكارها حرية الضمير وحقوق الإنسان. إعلان جهة كهذه أنها مسؤولة عن خلاص النفوس هو من حقها، ولكن ليس بالعصا أو بالسكين أو بالتعذيب، هذا شيء بشع. أما كونها قوة محافظة فهذا أمر بديهي وجار في كل جماعة إنسانية وفي كل مجتمع متمدن، ثمة دائماً جماعة محافظة وأخرى تقدمية. وبديهي أن أي مؤسسة دينية يجب أن تكون محافظة بمعنى ما، لكن السؤال المحافظة على ماذا؟ منذ قليل تحدثنا عن ماريا (بطلة قصة “نقود لماريا” للكاتب السوفييتي راسبوتين) إذا كانت المحافظة على قيم صحيحة وجميلة فهذا ضروري.  لا نريد أن نصور المحافظة على أنها شر وخطأ محض. منذ ثلاث سنوات قرأت موضوعاً لكاتب سوفييتي قال فيه: إن الكنيسة لم تكن مخطئة إزاء غاليليه؟ كانت مخطئة بإهانته وتعذيبه وسجنه فقط. الكنيسة لم تكن حمقاء وجاهلة، كانت تحذر من النهضة ومن الانطلاق الصناعي والعلمي وما سيقود إليه، وها نحن في أواخر القرن العشرين نحصد خراب البيئة. يجب ألا نتصورهم جهلة فهم رأوا أن كوبرنيكوس كان على حق وسكتوا عنه لأنه أهدى كتابه للبابا، وبعد موت كوبرنيكوس بسبعين عاماً جاء غاليليه إلى روما وفتح المعركة مع الكنيسة. نصحه رجال الكنيسة أن يبتعد ولكنه أبى وثبت على موقفه. ونحن اليوم نصفق له فقد أضحى رمزاً لحرية التفكير ودليلاً على حماقة أولئك. في صدد المقال السوفييتي الذي أشرت إليه يجب أن نتساءل رد الاعتبار  لمن؟ ذكرت هذه القصة لأقول إن أموراً كهذه لها دوماً وجهان، نحن نرى خصمنا مخطئاً من دون أن نبحث عما هو صواب في رأيه وموقفه، لعل هناك صواباً فيجب علينا أن نفهمه، وإلا لن تتوافر قاعدة للحوار. يجب أن نتخلى عن عنجهيتنا بأننا قبضنا على ناصية الحقيقة. يا أخي، نحن على حق وليس على حق، نريد أن نتقدم، نريد أن نكسب الحقيقة وهي كما ذكرت هدف نسعى إليه. الحقيقة مبدأ ومسعى وهدف نمضي نحوه، هذا مبدأ مطلق(21).

7 ـ مثلنة الإنسان :

# أعتقد أنه في الوسط التقدمي كله جرى تضخيم لأخطاء المؤسسات الدينية، وهو تضخيم ناجم عن مثلنة الإنسان وتجميله وعن مثلنة الشعب والجماهير. هناك من يعتقد بأن الإنسان كائن عظيم وملاك وجبار وفاتح ليس فيه أي شر. وهناك من يعتقد أن الشعب والجماهير الكادحة والطبقة العاملة كذلك، ولكن الأمر ليس كذلك لسوء الحظ. إن كون الإنسان عاملاً أو فلاحاً أو فقيراً أو مستغلاً لا يعني أبداً أنه خير وطاهر وملاك، لماذا نضخم حسنات الإنسان من دون أن نلتفت إلى ذلك المبدأ الديني القائل: إن النفس أمارة بالسوء؟! في الإسلام ثمة الجهاد الأكبر، جهاد الذات ضد الذات، الجماعة ضد نفسها، الجهاد ضمن الجماعة من دون وصاية فلان على فلان، النقد الذاتي أو نقد الذات، كلنا يجب أن نفعل ذلك. الأمة يجب أن تنقد نفسها، كفانا نقد فرنسا أو إنكلترا أو ألمانيا ونقد الإمبريالية لنلتفت إلى ذاتنا قليلاً، وننقد أنفسنا، لنبدأ بالنقد.

هل يصبح الخير ممثلاً في الكادحين والشر في غيرهم، هذا ليس صحيحاً، وأعداء الكادحين وأعداء الديمقراطية ليسوا البورجوازيين والرأسماليين والإمبرياليين فقط بل الأنانية ومحاولة الركب على ظهور الآخرين. يجب أن نعترف أن الجميع هم أبناء آدم فيهم الخير وفيهم الشر، لا يجوز تعظيم أحد فرداً كان أم حزباً أم طبقة أم شعباً فوق الحقيقة. ففي الوقت الذي نعظم فيه الإنسان فوق الحد لا نرى في الدين والأديان إلا الجانب السلبي، في حين إذا نظرنا إلى الإنسان نظرة متأنية وتاريخية سنجد أنه كان مفترساً، يقول باتاي: هناك شيئان رفعا الإنسان وانتشلاه من الحيوانية الدين مع المحرمات الدينية والشغل والكدح، هذان هما اللذان جعلا الإنسان إنساناً، جعلاه إنساناً للإنسان، ابن آدم، وهذه العملية لم تنته، صحيح إن الأوروبيين المتمدنين لا يأكلون لحوم البشر، لكن حربين عالميتين قتلتا عشرات الملايين من البشر، وفي الصعيد أو عندنا يقتلون المرأة إذا زنت، هم لا يأكلون لحمها، ولكنهم يقتلونها غسلاً للعار بحسب اعتقادهم.

نريد يا أخي أن ننظر إلى الأمور من عدة زوايا. إنني أعتقد أن الأديان يجب أن تقوم بدورها في الانتشال والسمو والارتفاع، دورها لم ينته قط ولن ينتهي.

8 ـ التكفير يهدم التفكير :

ـ ما قولك إذن في موضوع سلمان رشدي وكتابه وموقف المؤسسة الدينية والمتدينين منه؟.

# أولاً لو أعطيتني كتاب سلمان رشدي مجاناً فليس عندي استعداد لقراءته، بعدما سمعت وقرأت عنه، لأن موضوعه زوجات الرسول والآيات الشيطانية. مسألة الآيات الشيطانية لطيفة، يمكن استثمارها جيداً في مصلحة الدين وليس ضد الدين، بعكس موضوع النساء. لكن الذي لفت نظري أن الذهن العربي العام والمؤسسات الدينية وكذلك الشعب العربي لم يميز، لم يفصل بين موضوع الكتاب وقضية القتل (الفتوى التي أصدرها الخميني بهدر دم سلمان رشدي والجائزة التي رصدت لقتله.ج) لم يميز الصواب من الخطأ في مضمون الكتاب وكذلك في موضوع الأمر بالقتل. هذان موضوعان: الكتاب ومضمونه والأمر بالقتل. لم ينتبهوا إلى أن ديناً ومؤسسة دينية طويلة عريضة تأمر بالقتل. أنا أفهم الأمور على خلاف هذا: لو أن كل البشرية وكل الدول والأحزاب تسوغ القتل وتؤيد مبدأ القتل، فإن مؤسسة واحدة يجب أن تكون ضد القتل هي المؤسسة الدينية. إذا لم يكن في الدنيا سوى مؤسسة واحدة ضد القتل فمن المفروض أن تكون هذه الؤسسة هي المؤسسة الدينية، وإلا فأين الوعي العربي والوعي الإسلامي؟ مزايدات من السعودية إلى إيران إلى بروكسل إلى لندن، ما هذا؟! افصلوا وميزوا وفرقوا بين الأمرين. من يريد أن يقرأ سلمان رشدي فليقرأه، ولن يكون كتاب سلمان رشدي آخر كتاب يظهر ضد الإسلام أو ضد محمد، ظهرت كتب كثيرة، مئات الكتب ضد المسيحية، منذ 500 سنة إلى اليوم تظهر كتب ضد المسيحية. لا يجوز أن يسوغ الدين القتل، وإلا فما هي وظيفة الدين؟ أليس الدين هو الذي انتشل الإنسان منذ عشرة آلاف سنة قبل اليهودية والمسيحية والإسلام عن طريق المحرمات؟ ممنوع أن تأتي زوجتك كيفما كان، ممنوع أن تنقاد لغريزتك، ممنوع أن تقتل..إلخ. هذا هو الدور التهذيبي للدين، أما أن نرجع الإنسان إلى الحيوانية (إلى شريعة القتل.ج) فهذا ما أسميه جريمة هؤلاء، وجريمة كل من يتساهل مع هذا الاتجاه. الله لا يحتاج إلى كل هذه الأديان فهي لا تزيده شيئاً ولا تنقصه شيئاً (الإنسان هو المحتاج إلى الدين.ج). يتصور بعضهم أن الإسلام سينهار بسبب سلمان رشدي. الإسلام لا يهزه سلمان رشدي ولا 500 سلمان رشدي. المسألة باعتقادي مسألة من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. لا يستطيع أحد أن يفرض على الناس شيئاً من قبيل الإيمان. لا إيمان بالإكراه و”لا إكراه في الدين”. إذا كان الإيمان واجباً فإنه بالإكراه يكف عن كونه واجباً. لنعمم مقولة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الواجب فكرة أخلاقية ومعنوية، وأنا أقوم بواجبي عندما أفعل ما أعتقده صحيحاً وليس عندما أفعل ما تفرضه أنت أو غيرك علي مما تفترضونه صحيحاً.

إن كان هناك مستقبل لنا وللبشرية فلسوف ينشأ عندنا فكر إسلامي. الآن لا يوجد فكر إسلامي، هناك بذور متفرقة، يوجد أو موجود يعني، بلغة علماء الرياضيات، قابل للبناء عليه. الوجود هو قابلية البناء، الذي لا يبنى عليه شيء فإنه لا شيء. يجب أن يكون لدينا فكر إسلامي. إذا عدت إلى الماضي، وأريد أن أكون صريحاً، وأتساءل هل المسيحية كانت أكثر فاعلية في أوروبا أم الإسلام عند العرب؟ فإنني أجيب إن المسيحية كانت أكثر فاعلية. هذا موضوع طويل ولكني أختصره بعدة نقاط: أولاً الشروط التاريخية والجغرافية في أوروبا مختلفة عنها في العراق ومصر سوريا والسودان.. ثانياً الكنيسة والرهبنات والخوارنة كانوا طليعة بناء الأمم الأوروبية، أعتقد أن الرهبنات، في القرون الوسطى بنت 20% من القرى في فرنسا، وفي ألمانيا أكثر من ذلك. في حين دخل الإسلام إلى العراق وسوريا ومصر وكانت موجودة (معمورة وآهلة ومتحضرة.ج) وقديمة جداً وفيها حضارة وزراعة ومدن، أوروبا ليست كذلك، فألمانيا والسويد وبولونيا وهولندا وسكوتلندا تستطيع أن تقول إنها لم تكن موجودة قبل 1200 سنة، ثالثاً لننظر إلى تاريخ الفلسفة، نستطيع أن نستعرض، بنداً بنداً، أوغسطين قديس ولاهوتي وفيلسوف، وكثير من الناس منهم ماركسيون يقولون إن أوغسطين هو بداية الفلسفة الغربية. صحيح كان هناك قبله أفلاطون وهيرقليط وأرسطو.. لكن بعد ذلك لا شيء. ثم أتى أوغسطين وكان مبدؤه: إذا كنت خاطئاً فأنا موجود.. (هذا أصل مبدأ ديكارت. وكما يقولون إن أوغسطين أعطاه صيغة روحية أوسع: لئن كنت مخطئاً (أو خاطئاً.ج) فأنا موجود. وقوله: أؤمن لكي أفهم، الإيمان مبدأ يوجب علي أن أحاول أن أفهم، أن أسعى إلى الفهم. الإيمان ليس خاتمة، إنه مبدأ و(بداية) من أجل المتابعة(22). أنتقل من أوغسطين إلى توما الإكويني وخصومه من هنا وهناك من فلاسفة ومسيحيين غربيين، ثم إلى ديكارت والمقولتين: المادة والروح، وفكرة النفس الفانية، الله والنفس الخالدة أنا أفكر إذاً أنا موجود: أنا موجود بصفتي نفساً مفكرة، كائناً مفكراً، كائناً صفته التفكير. من الدين خرج الفكر. تفكير سبينوزا مثلاً، ما أثر الله واليهودية والمسيحية والإسلام في تفكير سبينوزا؟ إنه كبير. الرجل (سبينوزا) يقول لك: النفي (كل تعيين هو نفي.ج) ويحترم اليهودي والمسيحي والمسلم. ثم يأتي هيغل فيقول إن سبينوزا أنقص شيئاً، عنده التوكيد والنفي، نريد نفي النفي، نريد الروح القدس، انتهت المسيحية. كانط، هيغل، بيركلي.. ألوان مختلفة واتجاهات متضاربة كلها تستطيع أن تسميها ضمن الفلسفة المسيحية. هنا قد تقول لي: والفلسفة العربية الإسلامية. أقول لك: والله لا أراها إسلامية. ليس لها ارتباط حميم بالمسائل العقيدية والدينية الإسلامية. وأقول كان هناك بداية كيلا نظلم الفلسفة العربية الإسلامية لكن تاريخها ينتهي في القرن الثالث عشر، كلها صبت في أوروبا، ابن رشد وابن سينا وغيرهما ولو أن ابن رشد هو الذي أمسك بالفكر أكثر من سواه. وإذا نظرنا إلى الأدب فيمكنك أن تقرأ أدباً مسيحياً مسيحياً في القرن العشرين في فرنسا وفي روسيا وفي إنكلترا تقرأ مثلاً غراهام غرين. وكذلك الفن، الرسم ليس فقط الرسم البلجيكي والألماني والإيطالي في عصر النهضة نصف موضوعاته مسيحية، بل الرسم الروسي، ريبين وخلفاؤه الذين كان الروس يحدثوننا عنهم وينسون صفتهم المسيحية، أولئك الروس الواقعيون المناضلون أو الواقعيون الاجتماعيون منذ 1860 حتى 1910، ناضلوا ضد الاستبداد وضد المشيخة والخوارنة وضد كل العفن في روسيا. لم يقل لنا الرفاق السوفييت أن هؤلاء مسيحيون رسموا الموضوعات المسيحية، الصلب والعذاب والعذراء. أول مرة عرفت هذا الموضوع في صيف عام 1984 في باريس في معرض للفنون التشكيلية السوفييتية، إذ اشتريت ألبوم صور فيه مقالات لسوفييت رسميين وكذلك لفرنسيين. وقرأت هذه المعلومة في مقال فرنسي أن ريبين وخلفاءه تناولوا موضوعات مسيحية كالإيطاليين قبلهم بثلاثمئة سنة. لكن الروس بالطبع أعطوا هذه الموضوعات نفساً جديداً فالمنفيون إلى سيبيريا في عهد القيصر باتوا كالمسيح المصلوب. وإذا انتقلنا إلى الموسيقى، فمن لا يعرف أن كل هذه الموسيقى الكلاسيكية لها أصول في الغناء الكاثوليكي الغربي؟ لكن عندنا أين الإسلام ما علاقة ما كتب في الخمريات بالإسلام وبآلاف القصائد التي كتبت من الأندلس إلى إيران، مروراً بمصر وسوريا والعراق. إن أحسن شيء عندنا، في هذا الميدان، هو التصوف. ويتساءل المرء لماذا نال التصوف هذه الحظوة في الأزهر. هذه هي المصيبة. في تاريخ الغرب إثنان من أكبر المتصوفة الغربيين هما: ساجو ديلاكروا، يوحنا الصليبـي الإسباني مصلح رهبنة الكرمل، وتيريز دي فيلال الكبرى، وهما ممن أصلحوا اللغة الإسبانية ورهبنة الكرمل. وهما قديسان في الكنيسة ومتصوفان. الراهبة التي تتحدث عن الله والمسيح بلغة العشق والوجد، بلغة حسية جداً، بلا حرج منحتها الكنيسة لقب قديسة. هذا غير قليل.

ـ عندنا شككوا بإيمان المعري وصحة معتقده، رماه بعضهم بالكفر. وكذلك فعلوا بابن رشد ولا يزالون. نحن نكفر كل من لا يوافقنا الرأي ولا يشاطرنا العقيدة. وما أسهل التكفير. متى سنكتب تاريخينا معترفين بأن لنا تاريخاً داخلياً قوامه التعارض والصراع وأن الأمة ستصارع بعضها بعضاً في المستقبل ولكن بغير سكاكين. وأن الأطراف المتصارعة كلها من الأمة؟ لم لا، لم لا نقوم بالتمييز؟ قد أكون أنا ضد جميع مضامين السهروردي القتيل أو الشهيد ولكنني لا أقبل بأن يقتل ولا بأن يحاكم. لذلك لا أقبل من الجابري أو غير الجابري شيئاً عندما يحدثنا عن السهروردي قبل أن يعلن إدانة قتله. بداية ندين قتله، نقول لا يجوز أن يقتل ولا أن يحقق معه، وإذا كان صلاح الدين أو الدولة أو الأزهر يعتبرونه زنديقاً ويقولون إنه زنديق وظيفته كذا، وهذا حقه. إن أصاب أو أخطأ هذا الأزهر فلا نقبل منه القتل. فليرد الاعتبار دينياً ورسمياً للسهروردي وللحلاج وغيرهما فقد آن الأوان لفتح الأضابير كلها، تلك الأضابير التاريخية ويرد الاعتبار للجميع. إلى متى سنبقى نقول هذه الطائفة زنديقة وتلك الطائفة مارقة؟ ماذا سيبقى لنا بعد ذلك؟ لن يبقى شيء، إننا مخطئون، إنهم مخطئون، الأزهريون مخطئون بهذا التكفير. لم تتوافر الشجاعة في تاريخنا كله (للاعتراف بهذا الغلط) ونفتقر لمؤسسة دينية كيانية مستقلة كبيرة وعالية، ولذلك قلَّ أن نجد في تاريخنا فقيهاً يقف في وجه سلطان مستبد. كم واحداً من الخلفاء مات حتف أنفه؟ كثيراً ما أفكر إذا كان لقب خليفة رسول الله ليس له أي حرمة وأي قدسية، وأنه إذا لم يعجب فئة من الفئات أو بضعة أشخاص فيقتلونه ويأتي من يفتي لهم بذلك ويسوغه شرعاً، إذا كان الخلفاء الذين قتلوا ليس لهم مكانة معنوية ودينية ودنيوية فما هي مكانتنا أنا وأنت؟.

# إن فكرة الخلافة كلها ضمن دين الدولة، وتقوم بدور إيحابي في البداية، إنها توحد وتنظم، ثم تنقلب إلى وهم (تنقلب إلى ملك.ج) كم من القرون كانت مليئة بالوهم؟! إذا لم يكن الدين وازعاً روحياً عن القتل فهذا انتكاس إلى ما قبل عهد ابراهيم الخليل وعبادة الإله الواحد.

9 ـ المطلق الأخلاقي أساس كل مطلق :

# سألتني عن الروح والدين، ثمة من يعتقد أن مقولة الروح ملك للدين، وأن الدين ملكه الشخصي. في ندوة تونس (عن العقلانية العربية واقع وآفاق 1987) كان المنتدون، بمن فيهم الإسلاميون يهربون من مقولة المطلق، ولا سيما الجناح العلماني. فمن جملة ما قاله سمير أمين إن الفكر الأوروبي ترك المطلق لمن يشاء، وأمسك بالنسبي. اعترضت على هذا الكلام ورأيت فيه غلطاً. قلت: إن الفكر الأوروبي القيادي من زمن أفلاطون وسقراط إلى اليوم لم يتخل عن فكرة المطلق، لم يترك الأزلي والمتعالي والكامل.. الفكر الأوروبي القيادي وظف المطلق والمتعالي والأزلي، بالمطلق أسس للنسبي وبالأزلي أسس للزمني والتاريخي. أخذ جميع المقولات الدينية هذه، وجعلها، مع كونها دينية، مقولات دنيوية وتاريخية وسياسية وعلمية. كل من يعرف شيئاً في الرياضيات يعرف العدد (p)، ويعرف أنه ناتج قسمة محيط الدائرة على قطرها، هذا العدد اسمه العدد المتعالي. وإذا كنت تعلم ابنك الفيزياء تجد أمامك قوانين تمدد الغازات، فتشرح لابنك أن قوانين تمدد الغازات لا تصح 100% على أي غاز معروف، بل تصح 100% على الغازات الكاملة أو المثالية. الإنكليز يقولون غاز مثالي، والفرنسيون يقولون غاز كامل، بمعنى أنه غاز خال تماماً من أي ذرة بالحالة المائعة أو السائلة. كذلك الصفر المطلق في الفيزياء. في رأيي أن عظمة أوروبا تكمن في كونها لم تتخل عن المطلق وعن المتعالي، بل عظمتها في أنها ثمرت المطلق والمتعالي. أما في منظومتنا الأيديولوجية والثقافية الحضارية التي هي حضارية أكثر منها ثقافية، في منظومتنا هذه لا توجد أية تسمية من هذا القبيل. فالمتعالي متعال وانتهينا. والمطلق مطلق ونضع نقطة. والأزلي أزلي ونضع نقطة. وتجدهم إلى اليوم يقولون: الحادث والقديم يكررون مصطلحات من 1200 سنة. يوم كنا صغاراً كنا نسمع هل العالم حادث أم قديم؟. القديم غير الأزلي. قديم من مليون سنة أو من مئة مليون سنة، ليس لهذا علاقة بالأزلي، الأزلي غير ذلك، يحسب بطريقة غير هذه. الأزلي يؤسس التاريخي والسرمدي يؤسس المتغير.

تحدثنا عن قصة “نقود لماريا”، ثمة كتاب هائل، رواية سوفييتية جميلة، عن معسكرات الاعتقال الرهيبة عام 1937، يصف فيها دوبروفسكي رئاسة المعتقل، خمسة أشخاص بينهم رفيقة واحدة. اسم الكتاب “كلية الأمور التي لا فائدة منها”، يقصد كلية الحقوق (ما معنى كلمة الحقوق وما فائدتها في دولة ليس فيها حقوق، دولة لا يتمتع فيها المواطنون بحقوقهم الطبيعية والمدنية والسياسية، بل ما معنى الدولة من دون فكرة الحق والحقوق؟ج). أحد المعتقلين خريج كلية الحقوق. يصف الكاتب أعضاء قيادة المعتقل بأنهم “أوادم” وناعمون ويلعبون الورق، ويمكن أن يناقشوا في الماركسية، وهم لا يعذبون  بأيديهم، لأنهم قيادة والقيادة لا تعذب بيدها، بعد ذلك يقول عنهم: هؤلاء ليس عندهم المطلق. وأولاً بأول ليس عندهم فكرة المطلق الأخلاقي الذي هو جذر كل مطلق. اسمعوا يا ماركسيون! دوبروفسكي ليس مصراً على المطلق الأخلاقي بل يعده جذر كل مطلق. في الخليج قلت لهم: المطلق والنسبي ليسا شيئين، إنهما مفهومان وحدّان. ليس النسبي شيئاً والمطلق عفريت. المطلق حد يحد النسبي، ومن ليس عنده في فكره وفي روحه المطلق يحوِّل نسبية إلى مطلق وذلكم هو الاستبداد. هذه هي قصة القرن العشرين والتجربة الاشتراكية بوجهها القبيح أكبر من كل تجاربنا. وذات مرة كنت أتحدث مع صديق من القوميين السوريين فقلت له نشكر الله أنكم لم تتسلموا الحكم، لو حصل ذلك كنتم ستقتلون الإخوان المسلمين والكتائب والشيوعيين، عملاء موسكو، والبعثيين العروبيين، وبعد ذلك تقتلون بعضكم بعضاً. وذلك بحكم برنامجكم وأيديولوجيتكم. ثم سألته هل تدافع اليوم عن حقوق الإنسان أم عن جماعتك؟ يجب أن تعرف ذلك. يجب أن تعلم أن كل حزب لا يدافع إلا عن نفسه. كتب أحد الشيوعيين كتاباً طويلاً عريضاً ضد عبد الناصر، خلاصته أن الشيوعيين وطنيون فلماذا يعتقلون ويعذبون؟ من دون أن يتساءل أو يستنكر لماذا يعتقل ويعذب وينفى غير الشيوعيين، والشيوعيون المعارضون في روسيا وفي بلدان كثيرة غير روسيا، حيثما تسلم الشيوعيون الحكم.

نحن نريد الديمقراطية للجميع، نريد حقوق الإنسان، ويجب أن ندين الأيديولوجيات الإنقلابية الهمجية هذه. ومنها الأيديولوجيات الإسلامية، والفكر الإسلامي الفاقد بحكم منطلقاته القدرة على تثمير المبادئ والمنطلقات الدينية الكبرى. المقولات والمنطلقات الدينية يجب أن تثمّر في الحياة البشرية، يجب أن تثمّر في التاريخ وفي التقدم، وقد قلت في تونس: أول المسائل، المسألة الدينية(23). عندنا وجدت المسألة الدينية ثم اختنقت، خنقت ثم تحولنا إلى انحطاط رهيب، إلى كاريكاتور اسمه المسألة المذهبية الطائفية. إذن هناك مسألة دينية أولاً فأنت تؤمن بالله و..و.. ولكن يجب أن تعرف ماذا يطلب منك الله ومن الجماعة. فهل يفرض عليك الله أن تعمل لإعادة إنتاج النموذج الراشدي أم أن الله أباح لك وأتاح لك أن تسعى إلى تقدم وإلى تحسن وإلى تجديد؟ وبعد ذلك هل تريد إعادة إنتاج عصر الراشدين من دون اغتيال ثلاثة خلفاء يا ترى؟ هل بمقدورك أن تضفي القدسية على جميع الصحابة من دون تأليه أي منهم؟ فبعد النبي انتقلت العصمة إلى الخلفاء (والأئمة.ج) وهكذا راح كل واحد ينقل العصمة إلى الحزب الإسلامي الذي يؤيده. لم تتفقوا على من هم القديسون. هذا كله حرام وعيب وغلط، إنكم تحولون الأوائل كعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب أوعمار بن ياسر أو أبو ذر الغفاري وغيرهم إلى طواقم، إلى أحزاب القرن العشرين، إنهم أبرياء منكم. هذا موضوع واسع جداً، ولكن يجب أن نقول: لكي ينتقل الدين إلى سياسة أعلى وأبعد مدى يجب أن يقف على رجليه (لا على رأسه.ج) ويتخلص من صفته المذهبية والطائفية ويكف عن التكفير ويبتعد عن السياسة المباشرة، ويعرف أن دوره الكبير والحقيقي هو في مسيرة تحسين الإنسان، وأن هذه وظيفته الأبدية، وأن لا يكون إزاء السلطة وإزاء الدولة لا في موقف المتآمر ولا في موقف لاحس الجزمة. رجل الدين هو من يستطيع أن يقول رأيه بلا خوف من الموت ومن دون أن يتآمر، وفي كل الظروف هذا هو المثل الأعلى لرجل الدين. رجل الدين هو الذي يستطيع أن يقف في الجامع ويقول، في أي بلد كان، يا سيادة الرئيس يوجد في البلد غلط في كذا وكذا، وهناك حريات تقمع وفقر يزداد.. ويكون مستعداً للاعتقال أو القتل أو أي شيء، من دون أن يتآمر ومن دون أن يكون مفتياً للسلطة المضادة. أي لا مفتي السلطان ولا مفتي السلطة المضادة، هذه هي وظيفة رجل الدين قائداً ورائداً، وللأسف يندر وجود هذا النموذج.

—————————

هوامش الحلقة الثالثة:

(14) في تعليمنا الباكر، أذكر أنه كان عندنا كتاب في الصف الثاني الابتدائي اسمه “الأشياء”. وكنا نلفظ اسمه “الإشيا” جمع شيء، كما يلفظها اللبنانيون اليوم باللهجة الدارجة. وكان يعتمد الوصف ويوحي بأن الأشياء معطيات ناجزة ونهائية.

 (15) هذا الحديث عن الشكل وتمييزه من الصورة له أهمية حاسمة في تحديد مضمون الوعي وفي تحديد مضمون الأخلاق أيضاً، أي له أهمية حاسمة في الوجدان. مفهوم الشكل ملازم لمفهوم المادة. إذ لا مادة بلا شكل في الواقع. والصورة هي الشكل الأخير، الأعلى والأرقى،Ü Ü لا بأس ولكنه ليس الشكل النهائي، الصورة تتغير ومادتها تتشكل من جديد وإلى ما لا نهاية. التاريخ تنويعة على الأشكال. ليس هناك أشكال نهائية من شكل الملكية إلى شكل الحكم أو نظام الحكم، وهكذا جميع التشكيلات الاجتماعية كلها قابلة للتغيير. والبشر لا يستطيعون سوى تغيير الأشكال بدءاً من عناصر الطبيعة. الأخذ بمبدأ الشكل والتشكل يرشد العمل ويفتح إمكانات الإبداع. الفنون التشكيلية مثال مهم. المادة اللونية تتشكل أشكالاً لا حصر لها وكذلك المادة الصوتية في الموسيقى، وكذلك البنى والعلاقات الاجتماعية. مقولة المجموعات الرياضية شاهد مهم جداً أيضاً. الرياضيات تجريد للواقع وللعالم وكشف عن علاقاته الكمية وتناسباته وكشف عن طابعه الاحتمالي المفتوح على اللانهاية.

*** الروح في العربية أصل. والرُّوح (بالضم) ما به حياة الأنفس، ويؤنث. والقرآن والوحي وجبريل وعيسى عليهما السلام والنفخ وأمر النبوة وحكم الله تعالى وأمره ومَلَك وجهه كوجه الإنسان وجسده كالملائكة. (القاموس المحيط) ومن الأصل نفسه بالفتح (الرَّوح) الراحة والرحمة ونسيم الريح.. ومنه الريحان المعروف. والراح (الخمر)، والراحة والارتياح.. ومنه راح يروح رواحاً.. (راجع القاموس المحيط).

**** هذه إشارة مهمة جداً، فمن بين المفكرين العرب، وحده الياس مرقص ربط الفلسفة بالشعب وبالواقع، ربطاً وثيقاً. وفي حين لم يكن مأخوذاً بالشعبوية، فقد كان مؤمناً بأن الفكر هو فكر البشر على اختلاف كفاياتهم وتباينها، وبأن الحقيقة في متناول الجميع وفوقهم وأمامهم والقضية الأساسية عنده كانت قضية الفلسفة وقضية الواقع وقضية الشعب.

الأصل الشعبي لمقولات الفلسفة هو الضمانة الواقعية لمشروع اندراج الفلسفة في حياة الشعب، في الوعي الاجتماعي. الضمانة الموضوعية لتحقيق الفلسفة أو وقعنتها في العالم، أي جعلها واقعاً.

 (16) في زمن ماركس وقبله كانت عبارة العلم تعني الفلسفة والحكمة بصورة أساسية وتشمل العلم الوضعي لا سيما أن الفلسفة كانت تسمى أم العلوم. ثم ارتبطت العلوم الوضعية بالدين أيضاً وكانت “عذراء منذورة للآلهة”. وتحرير العلم من اللاهوت كان أول عملية فرز وخطوة عظيمة في تاريخ تطور العلوم الوضعية، واستقل العلم الوضعي كذلك عن الفلسفة وإن دأبت الفلسفة على إمداده بالمناهج والمقولات والفرضيات. هيغل قبل ماركس وضع العلم والعلوم الوضعية في دائرة الفهم، دائرة القوانين الجزئية ولحظة الفهم لحظة ضرورية للعلم أي للفلسفة ميدان الرؤية الشاملة والمبادئ الكلية. وكذلك الأمر عند ماركس العلم بالمعنى الواسع هو الفلسفة متضمنة العلوم الوضعية ولا سيما في المدخل الذي يشير إليه الياس مرقص. هنا تغدو معرفة القوانين الجزئية مدخلاً ضرورياً للتملك الروحي العملي الذي هو الغاية والهدف المنشود لتصالح الإنسان مع ذاته ومع عالمه، أو لاستعادة ذاته المغتربة عنه.

 (17) أعلن أخناتون في السنة السادسة من حكمه 1374 ق.م مبادئ ديانة جديدة تدعو إلى عبادة إله واحد هو “آمون” (= القوة الخفية) وقد مثله بقرص الشمس المجنح. وهو إله أكثر قرباً من الناس جميعاً. وعالمي في الوقت نفسه وموجود في كل مكان. وأوصى أخناتون أن يضحى بكل شيء من أجل الحقيقة التي هي مصدر التوازن والعدالة والحياة. وهي عناصر صورة القداسة كما تعكسها مرآة الإيمان.

 (18) بهذا الفهم للإيمان يكشف الياس مرقص عن تجليات أو ظاهرات وثنية في الإيمان الديني ولا سيما في الأيديولوجيات الدينية الحصرية. ويمكن طبعاً الكشف عن مثل هذه التجليات فيÜ Ü الشعائر أو الطقوس الدينية المتوارثة كابراً عن كابر. وهذا يدعونا إلى أن نضع الدين في الدنيا أولاً وفي التاريخ تاريخ البشر ثانياً. الإيمان الديني المرادف لليقين الحسي يسم مراحل التراجع والانحدار في التاريخ في حين يسم الإيمان العقلي مراحل النهوض والتقدم. اليقين الحسي لا يقبل الشك. الإيمان العقلي، الفكري الروحي مشفوع بالشك. والشك هنا غير الكفر والشرك. الشك هو إعمال الفكر وبسط سلطان العقل على جميع ميادين النشاط البشري ونشدان الحقيقة والسعي من أجل الوصول إليها. الإيمان العقلي هو الذي يرد قضية الدين إلى أصلها أو إلى اساسها بصفتها قضية روحية إنسانية متعلقة بضمير الفرد الاجتماعي، ومتعلقة بالضمير الاجتماعي فما الذي يمكن أن يكونه الدين إن لم يكن وازعاً أخلاقياً نابعاً من الوجدان والضمير، تلكم هي دعوة الدين بصفته أحد عوامل تأنسن الكائن البشري. ويمكن القول هنا إن ماديانية الياس مرقص أكثر روحانية من دينية الجماعات الدينية المتطرفة الثورية الارتداديةكما وصفها. والنزعة الحلولية تندرج أيضاً في الإيمان الحسي المادي.

 (19) الله وحده هو المقدس لأنه الكلي، الكامل، المطلق، اللامتناهي، واللامحدود. وكل ما هو جزئي وناقص ونسبي ومتناه ومحدود هو غير مقدس. إن عمومية القانون بصفته المجردة هي مناط سموه. الكلي أو المطلق هو المبدأ المؤسس. القانون مبدأ مؤسس بوصفه تعبيراً عن الكلية الاجتماعية ثم عن الكلية الإنسانية على صعيد مفـهوم القانون الـدولي. المدونة القانـونية في هذه الـدولة أو تلـك هي تعيين للقانون العام، وهو تعيين لا ينجز دفعة واحدة بل ينشأ ويبنى متدرجاً وما ينفع الناس من القوانين الوضعية يمكث في الأرض وتدمجه مختلف الشعوب في مدوناتها القانونية ويأخذ به المجتهدون والقضاة والمحامون أي رجال القانون. يجب تمييز فكرة القانون بصفته العامة المجردة، أي بصفته تعبيراً عما هو مشترك بين الأفراد والجماعات والفئات الاجتماعية والأحزاب السياسية، من المدونة القانونية القابلة للنقض والتعديل والتطوير مثلما الله مبدأ كل وجود كذلك فإن القانون هو مبدأ كل نظام حقوقي وكل مدونة قانونية.

 (20) عدم التساهل هنا، هو عدم تساهل على صعيد الفكر والسياسة والأخلاق فحسب. أي أن يتوفر العلمانيون ولا سيما الماركسيين منهم، على ضـرب من حـزم منــهجي ووضـوح في الرؤيـة. والحزم المنهجي لا ينفي ضرورة المرونة السياسية، انطلاقاً من الحق المتساوي للجميع في التعبير عن وجهات نظرهم. في حين يؤكد كما سبقت الإشارة أن الإيمان المادي ـ الحسي ـ الدوغمائي يولد العنف، وتفنيده لهذا النوع من الإيمان ومعارضته بالإيمان الفكري، الروحي، هو في الوقت ذاته تفنيد للعنف يذهب إلى الكشف عن جذوره في وعي البشر ومعتقداتهم، وفي الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية والسياسية الموسومة بالاستغلال والقهر وعدم المساواة.

 (21) يبدو هنا أن السعي إلى الحقيقة قائم على حيثيتين: أولاهما حرية الفكر، من دون أي قيد. والثانية هي الحوار والتناصت والتثاقف. وكلاهما حرية الفكر والحوار المنفتح والمفتوح وغير المقيد بأي قيد أيديولوجي أو اجتماعي أو سياسي يولدان الفكر النقدي الذي قوامه الاعتراف بما في رأي الآخر من صواب أولاً والاعتراف بإمكانية خطأ الذات ثانياً.

 (22) ليست هذه المسألة أوروبية، بل بالأحرى إنسانية وتاريخية. الإيمان مبدأ وبداية. والله مبدأ وبداية، عندما يكون الإيمان نهاية يعني أنه إغلاق على المعرفة ونفي إمكانية التقدم والتحسن. الله هو مبدأ كل وجود وبداية كل وجود. لأن ثمة في كل حين وجوداً جديداً. ليس الله وجوداً وليس موجوداً، بل مبدأ الوجود، مبدأ كل موجود. هكذا تنفتح إمكانات معرفة مؤسسة على الوجدان، معرفة روحية أو روحانية تنشد الخير والحق والجمال وتدمج الأخلاق في العمل والإنتاج. منذ عرف الإنسان الله صار له تاريخ هو في المحصلة تاريخ تقدمه وتحسنه. الدينÜ Ü انتشل الإنسان من الوحشية والحيوانية، ووضع أسس التعامل في الاجتماع البشري. كان الإيمان وينبغي أن يظل بداية مفتوحة على اللانهاية لأن الأزلي أساس العابر والمتغير والكائن والصائر. الله هو الأزلي المؤسس لكل حادث ولكل عابر. هذا الأساس هو نفسه أساس سمو الحياة وارتقاء الأنواع وسمو الإنسان خاصة.

عند اسبينوزا الله هو الجوهر، وللجوهر بعدان: بعد في الامتداد وبعد في الفكر. والامتداد امتداد في الزمان والمكان معاً، والكلمة العربية هنا في غاية الدقة: المدى هو الزمان والمكان بلا تفرقة وإذا شئت فهو الزمكان. فالله هو مبدأ العالم ومبدأ معرفته. في العالم وفي المعرفة على السواء كل تعيين هو نفي. وإذا كان التعيين غير ممكن إلا في المكان والزمان فإن النفي هو وظيفة الفكر.

عندنا غالباً ما يختم المرء حياته بالإيمان، حتى لو “جاءه” الإيمان في عز الشباب فيختم على عقله وقلبه ويعلن ذلك على الملأ بالحج إذا كان موسراً وبالعزوف عن الدنيا إذا كان معسراً، وتغدو لديه معارف السلف وحدها هي المعارف وعلوم الأولين وحدها هي العلوم. وتراه يختلس متع الحياة اختلاساً مشفوعاً بشعور عميق بالاثم والذنب. هذا النوع من الإيمان الحسي هو بالأحرى تقليص وتخفيض، تقليص لمساحة الحياة وآفاق المعرفة وتخفيض للإنسان. ونقض لمبدأ الاستخلاف، استخلاف الإنسان في الأرض.

أن يكون الله مبدأ وبداية يعني أن يكون الروح والضمير والوجدان مبدأ. هكذا يتأسس العمل ولا سيما في جانبه الاجتماعي السياسي على الأخلاق، وتتأسس الثقافة على استقلال الوجدان وجهاد المعرفة وحرية الضمير.

 (23) أجل كان عندنا ذات يوم المسألة الدينية، ثم خنقت مع سقوط المعتزلة، مع توقف حركة الفكر والحوار. وقد أسهم المعتزلة أنفسهم في ذلك، للأسف حين قبلوا اقتران الرأي والسيف. إذن إن ما خنق المسألة الدينية ومسائل الإيمان العقلي/ الروحي هو أولاً اقتران الرأي والسيف، وثانياً أن كل جماعة من جماعات المسلمين راحت تنظر إلى إسلامها على أنه الإسلام وتكفر الآخرين وتستحل دماءهم وأموالهم، ولأن المسلمين عامة كفوا عن الاعتراف بأن الإسلام ليس الدين، بل أحد الأديان فحسب، وحين ينظر إلى الجزء على أنه الكل تتحول المسألة الدينية إلى مجرد مسألة مذهبية، ويتحول الفكر الديني إلى أيديولوجية مذهبية (بالجمع). فمنذ سقوط المعتزلة حتى عصر النهضة الحديثة لم يعرف المناخ الثقافي العربي سوى أيديولوجيات مذهبية لا ترقى أي منها إلى مستوى الأيديولوجية الدينية. إن تشظي المجال السياسي الإسلامي مهد له وواكبه وخلفه تشظي الحقل الثقافي العربي منذ أكثر من ألف عام حتى يومنا.

لا بد من الاعتراف اليوم أن كل دين هو دين بوجه عام ودين خاص في الوقت ذاته وأن إلغاء العام هو إلغاء الخاص بالضرورة فلا يعود هذا الخاص ديناً، بل مذهباً فحسب. المذهبية عقيدة تكفيرية والكفر والتكفير صنوان. ولا بد من الاعتراف بأن “المذاهب الإسلامية” كلها مذاهب المسلمين، وأن الإسلام ليس مجموع هذه المذاهب بل أكثر من ذلك بكثير، والأمر نفسه في المذاهب المسيحية. الاعتراف المبدئي والنهائي بأن ما يسمى المذاهب الإسلامية هي مذاهب المسلمين وأن الإسلام أكبر منها جميعاً وأن الدين أعم من الإسلام وأشمل، هذا الاعتراف يرسي أسساً جديدة للعلاقات الاجتماعية الإنسانية ويرقى بكل من مجتمعاتنا من حالة الملل والطوائف والجماعات المغلقة وأيديولوجياتها التكفيرية إلى حالة الأمة وحالة المجتمع المندمج قومياً واجتماعياً. {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم} و{لو شاء ربك لجعلكم ملة واحدة}.. ولا إكراه في الدين.

…………………………

جاد الكريم الجباعي

مفكر سوري، مجاز في علوم اللغة العربية وآدابها من جامعة دمشق، مهتم بالفلسفة المدنية وقضايا الديمقراطية والمجتمع المدني والدولة الوطنية وحقوق الإنسان والمواطن، له عشرات المقالات والأبحاث والدراسات والكتب.

 

——————–
يتبع.. الحلقة الرابعة: الفصل الثاني ” المادية والمثالية

التعليقات مغلقة.