أرض الرواية
الرواية حكايتنا جميعاً. قصتنا التي وددنا أن تكون، أحداثها الأسطورية، خطاياها البسيطة وتفاصيلها الصغيرة والعنفوان، إنها الطرف الآخر من النهر حيث يكمن الحبّ في أجماتها ويختبئ الحظّ وتنهد الشجاعة، وهي الحياة التي لم نعش في غمرة انشغالنا بما يشبه الحياة.
الرواية سرديّة الراوي عن زمان ومكان سرمدييّن، وأبطال لا يملّون من البطولة ولا يشبعون من الحبّ، لا يشبعون من حياة يترقرق في شعابها المخضرّة كلّ ما هو متحرّك حيّ، ويتعملق في أرجائها المحاربون والعشاق وباعة المناديل الورقيّة ومسكنات الألم والصبّار.
ستجد الراوي حارساً على أسوار مقبرة تنتظر موتاها، وساقياً في حانة للصيّادين العائدين بشباكهم الممزّقة وبسلال فارغة إلاّ من الحكايات والحزن، وستصادفه ناجياً وحيداً من جبهةٍ لمحاربين لم يكن من مبرّرٍ لموتهم سوى أنهم أرادوا الموت، وسيعلن لك بلسانه أنّ رفضه للأوسمة كان بسبب حبّه الأحمق للقهوة المرّة، ولامرأة غادرت شرفته بعد دقائق من الصمت لأنّه لم يكن رجلها على الحقيقة.
سماء الشعر
ثمّ ما لا يحفل به الشعر ولا يأبه لوجوده أو يلتفت إليه، ليس شيئاً محدّداً أو تفاصيل بعينها، لعلّه العاديّ حين لا يتخلّى عن محدوديّته، أو ربّما المتورّم الفارغ كطبلٍ أجوف، وقد يكون كلّ ما لا يملك شغفاً بالحقيقة والحرية والجمال، ونزوعاً نحو التمرّد والتجرّد والجلال.
الشعر تجربة الحواس المستترة ومغامرة اللحظة الشعورية التي نبتت فجأة كالتماعة خاطفة في أرض يباب، وانهمرت أسئلة ودهشة، سيجيب عنها ذلك الفيلسوف الطفل بحدوسه وبلغة تتشكل من حروف مائية، تترقرق وتقطر، وقد تدفق، من ينابيع لا تسمع لعروق الصخور التي انبجست منها صوتاً أو مجرّد هسيس.
سترى الشاعر ذاك الطفل الفيلسوف المشدوه بمعرفته وكشوفه وفيوض غياهبه، لن يغادر فضاء المجاز، ولن يكفّ عن الحفر في كهف رغباته، والصلاة على صدر الغياب، ستلقاه مادّاً أصابعه المدمّاة للقمر فيما تنوء حقائبه بأحلام وضوء.
الشعر طائر اللغة القصوى حين ترفرف بجناحين من موسيقى وخيال، إنّه الفنّ الذي لا يعلمك العيش لكنّه يفتح الأمداء أمامك، ويشير إلى أماكن بعيدة في الاتجاهات جميعها قائلاً: هناك حيث تسطع شموس روحك تنتظرك الحياة، اذهب فعشها. إنّ ملامسة حلم المتلقي وإثارة حواسه واستثارة حماسته في الحكاية ستدفعه للهجرة إلى أرض أخرى لكنّها أبداً لن تمكنه من التحليق في سماء لا حدود لزرقتها.
يقال إنّ ثمة نزوع نحو الرواية قراءة وكتابة في الوقت الذي يتسم به عصرنا بالسرعة والتسارع الشديدين بحيث أصبحت دقائق عمر البشرية تلهث راكضة للحاق بما تنتجه مصانع التقانات الجهنمية لفهمها واستيعابها والتعامل معها. اللافت أنّ من أكثر المروّجين لهذا الاعتقاد هم الشعراء، بل إنّ هؤلاء بالذات، أعني ممتهني الشعر، هم من أغلبية المهاجرين إلى مملكة الرواية على اعتبار انها أرض تعجّ بالمصطافين وبالباحثين عن الثراء وعن تيجان الذهب.
لا وقت لشيء ولا وقت للحياة
تعود في وقت متأخر من عملك مرهق الذهن والجسد، تكاد تسقط من فرط التوتر والإجهاد، ترمي قطع ملابسك في اتجاهات شتى، تدلف إلى الدشّ في محاولة يائسة لغسل الروح من أدران السأم والمنافقين، وللتخلص من جداول الملح التي خلفها العرق المتصبب على وجهك وبدنك، أما ما تغلغل في مسامات جسدك من غبار الطاقة وذبذبات الإلكترون فسيسلك طريقه بيسرٍ إلى تلافيف دماغك المنكمش من عجزٍ وخوف. سيكون عليك أن تخرس نداءات حواسك العديدة قبل أن تراجع كراسة الغد، وتغفو عند النقطة الأخيرة من السطر العشرين من سلم الواجب. لا وقت للشعر، لا وقت للرواية، لا وقت للآداب والفنون والموسيقى، لا وقت للحلم، لا وقت للحبّ أو لا معنى، لا فرق، ستكنس الريح المعاني من على أرصفة العسس والمتسوّلين، وستجرف الحبّ رياحٌ صفراء تكتظّ بعواء الحاجة والذعر من موتٍ يتربّص بالمحتاجين والمذعورين.
ذاك بالضبط مسار حياتك واقعاً أو متوقعاً، هو ذا خطها البيانيّ الأفقيّ ماضياً في رتابة وانتظام، يصحبه “مارش” عسكريّ تعزفه السنابك والطبول، ولسوف يصل بك حتماً إلى نهايةٍ تليق بجنديّ لا تهمّه نتائج حرب خاضها بكلّ تفانٍ وانضباط.
لا أحد ينكر الانحدار القيمي الذي أصاب النشاط الإنساني في قطاعاته المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا أحد يمكنه ادّعاء النجاة من الجوائح والكوارث المتلاحقة والمتراكبة التي تنوء بها الأرض، وبما تخلفه من مآسٍ وويلات يرزح تحت أسنّتها إنسانها، وبالرغم من انحسار المشهد الثقافي في منطقتنا وربما العالم، والعطالة العقليّة والروحيّة التي أنتجتها ممارسات الاستبداد في مجتمعاتنا العربية، ما تسبب في انكفائها الشديد عن التعاطي في قضايا الوجود والمعرفة وأسباب التخلّف والنهوض، وفي مزيدٍ من العزوف عن القراءة والمتابعة لما تضخّه وسائل النشر والإعلام، والالتهاء بتأمين لقمة الخبز، لا تزال بعض المعارك تطفو على السطوح الضيقة المتهالكة حول الأحقّيات والريادات وأسئلة الهويّة، ولعلّ من أوّل ضحايا هذه الحروب الصغيرة هي فسحة الأمل بهواءٍ نظيف، وباستعادة اسمٍ وهويّة.
قبل خمسين أو ربما مائة من السنين هل كان للعقل الطامح لمطلق المعرفة والتطوّر والكشف أن يتصوّر أو يقبل بأن تكون نتائج عمل النخب البشريّة ستفضي إلى ما آلت إليه حال الإنسان من حياة لا تشبه، بل لا تمتّ بصلةٍ للحياة.
المصدر: صحيفة اشراق
التعليقات مغلقة.