عبدالله السناوي *
يكاد المنطق أن ينتحر باسم «سلام مراوغ» ومقايضات مسمومة في الهرولة العربية إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل. بإغواء المقايضة دخلت دولتان عربيتان جديدتان، السودان والمغرب، إلى الحلبة المفتوحة للتطبيع على حساب ما كانت توصف لسبعة عقود بـ«قضية العرب المركزية». جرت المقايضة الأولى باسم رفع اسم السودان من اللائحة الأمريكية للدول الضالعة في الإرهاب.
وجرت المقايضة الثانية باسم الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء المتنازع عليها مع جبهة «البوليساريو» منذ عام (1975).
في المرتين تفاوضت الإدارة الأمريكية، بالنيابة عن إسرائيل، دون أن تتنازل الأخيرة عن شيء من الأراضي التي تحتلها منذ عام (1967)، لا أوقفت المستوطنات، ولا توقفت عن التوسع والاستعلاء وأحاديث الهيمنة على مقدرات المنطقة.
بدا مستغربا لإدارة تلملم أوراقها، قبل أن تغادر بالإجبار الدستوري مكاتبها في البيت الأبيض، أن تنخرط في ذلك النوع من مقايضات التطبيع، كأنها تريد أن تستثمر فيما تبقى من وقت للضرب على البطن الرخوة في العالم العربي لصالح إسرائيل وحدها.
مما يخاصم المنطق أن تندفع دول في العالم العربي للانضواء بالتتابع تحت العباءة الإسرائيلية في لحظة نقل سلطة بالولايات المتحدة، وفى لحظة ارتباك سياسية فى بنية الدولة العبرية نفسها، دون أن تكون مضطرة ومجبرة. إنها هزيمة استراتيجية كاملة.
تكاد تحصد إسرائيل بالتطبيع ما لم تحصده في كل الحروب التي خاضتها منذ عام (1948)، مرة بالتخويف من العدو الإيراني المفترض وباسم حماية مصادر النفط في الخليج، ومرة ثانية باسم مقايضات استراتيجية تسمح لدولة في المغرب العربي ودولة أخرى في حوض نهر النيل أن يتصورا بالوهم خروجا من أزمتين مقيمتين عبر البوابة الإسرائيلية. هكذا تتوالى بالتخويف، أو بالمقايضة، مشاهد الهرولة للتطبيع.
حسب تسريبات إسرائيلية هناك دول أخرى عربية وإسلامية تكاد أن تدخل الحلبة نفسها، دون مصلحة حقيقية أو متوهمة، كإندونيسيا وسلطنة عمان وسلطنة بروناي!
في المقايضة السودانية بدت الاشتراطات حاسمة ونهائية، إذا أراد ذلك البلد المنهك اقتصاديا واستراتيجيا أن يلملم جراحه فليس أمامه غير الباب الإسرائيلي لرفع العقوبات الأمريكية المفروضة عليه منذ تسعينيات القرن الماضي إثر تورط نظام «عمر البشير» فى عمليات وصفت بالإرهابية ضد أهداف أمريكية.
رغم أن ثورة قامت ونظام «البشير» سقط، وتقررت محاكمته أمام المحكمة الجنائية الدولية، إلا أنه لم يكن واردا أمريكيا رفع اسمه من لائحة الإرهاب، ولا إلغاء العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه قبل الاعتراف بإسرائيل والتطبيع معها.
كانت تلك مقايضة قاسية على الرأي العام السوداني، إذا ما قبلها فقد احترامه لنفسه وتاريخه ومعنى ثورته نفسها، وإذا ما رفضها فإن تفجير الوضع الداخلي ماثل وإفشال مشروع السلام بين مكوناته محتمل.
بصورة ما حاول الحكام الجدد اكتساب وقتا إضافيا، خشية ردات فعل شعبية قد تقلب المعادلات وموازين القوى في بنية النظام الجديد، بإحالة ملف التطبيع إلى المجلس التشريعي المقبل. كانت تلك مراوغة مكشوفة، فاللعبة بدأت، والإجراءات جارية.
كان اللقاء المفاجئ، الذى جرى فى عنتيبي بين رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، انقلابا على الثورة السودانية.
لا يقوم أحد بثورة تطلب الديمقراطية والسلام والعدل ويضحى من أجلها، كي يتنكر لتاريخه ويتخلى عن أي قيمة إنسانية في طلب العدالة لشعب شقيق تحت احتلال عنصري دون أي سلام، إلا ما يوصف بـ«سلام القوة».
استكملت الصفقة المفترضة مقوماتها في (14) كانون الأول/ديسمبر الماضي بسحب اسم السودان من لائحة الإرهاب.. وبقي أن ننظر في النتائج المرتقبة.
لا الرخاء سوف يحل، ولا السلام سوف يستتب، ولا المرحلة الانتقالية سوف تستكمل، على النحو الذى تصورته الوثيقة الدستورية، التي وقعت بين المجلس العسكري وقوى «إعلان الحرية والتغيير».
ما هو ظاهر من تفكك وتصدع وتنازع بين قوى «إعلان الحرية والتغيير» سوف يأخذ مداه حتى تزهق روح الثورة نفسها، وتؤول السلطة التي أنشأتها إلى ثورة مضادة تنزع عن السودان تطلعاته التي حلقت ذات يوم في سماء الخرطوم.
وفى المقايضة المغربية تختلف المقدمات والتداعيات، غير أن الحصاد المر نفسه سوف يجرى تجرعه.
وفق وزير الخارجية المغربي فإن ما يحدث ليس تطبيعا مع إسرائيل بقدر ما هو إعادة الاتصال، الذى كان موجودا حتى العام (2002).
كان ذلك التصريح تعبيرا جديدا عن انتحار المنطق بالتلاعب بالألفاظ والمعاني والتاريخ نفسه.
ما مغزى الربط بالتوقيت بين الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء مع تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وأن يعلن القرارين معا الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب، في خطاب واحد؟
هناك حقائق ثابتة لا يمكن نفيها بالادعاء، فالعلاقات السرية بين المغرب وإسرائيل أقدم من قصة مكتب الاتصال.
لم تكن الصلات مجهولة، أو غائبة عن الإدراك العام في العالم العربي، رغم تولى العاهل المغربي مسئولية رئاسة «لجنة القدس» بتوصية من المؤتمر السادس لوزراء خارجية البلدان الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي عام (1975).
حسب شهادات استخباراتية إسرائيلية متواترة، حصلت الدولة العبرية على تسجيلات كاملة لقمة عربية عقدت في المغرب منتصف ستينيات القرن الماضي، وفرت معلومات عسكرية على قدر من الخطورة جرى التداول فيها قبل نكسة (1967) بعامين. كانت تلك طعنة في الظهر في وقت حرج.
في أوقات متقاربة جرى تعاون استخباراتي بين الطرفين ساعد على التخلص من الزعيم المغربي المهدى بن بركة اختطافا وتذويبا لجسده بمواد كيميائية في باريس.
لم تكن الاستخبارات الفرنسية بعيدة عن تلك الجريمة البشعة في التاريخ المغربي، التي اعترف بها رسميا للتبرؤ من آثام الماضي.
وفى صيف (1977) جرى لقاء على الأراضي المغربية، تحت رعاية «الحسن الثاني» بين وزير الخارجية الإسرائيلية «موشى ديان» ونائب رئيس الوزراء المصري «حسن التهامي»، وهو رجل غريب الأطوار عهد عنه السلام على «سيدنا الخضر» أثناء اجتماعات مجلس الوزراء قائلا إنه قد مر من جانبه للتو!!. كان ذلك اللقاء تمهيداً مرتبكاً لاتفاقية «كامب ديفيد».
لم يكن العاهل المغربي محض مضيف لذلك اللقاء بقدر ما كان شريكاً في التمهيد لما جرى، قريباً من السياسات الإسرائيلية رغم ما هو معروف عن الشعب المغربي من دعم حقيقي ومتواصل للقضية الفلسطينية. ما الذى استدعى المقايضة بالحماس الذى استقبلت به؟
لا شيء تغير في معادلات وموازين القوى، ولا شيء له قيمة قانونية يترتب على الاعتراف الأمريكي، فهو لا يؤسس لحقائق جديدة في أزمة مزمنة استطالت لنحو نصف قرن بلا أفق حل، رغم كل القرارات الدولية والأفريقية التي صدرت وكل الوساطات والمفاوضات التي جرت. الاعتراف نفسه لا يلزم إدارة «جون بايدن» المقبلة.
الأخطر أنه يشعل النزاع المسلح على مساحة شاسعة تتنازع السيطرة عليها بالسلاح المغرب و«البوليساريو»، ويؤجج التوتر المزمن بين بلدين عربيين شقيقين، المغرب والجزائر، التي تدعم «البوليساريو» منذ بدأ نشاطها عام (1973) لإخراج قوات الاحتلال الإسباني وإقامة دولة مستقلة في الصحراء الغربية.
الأرجح أن يتمدد التوتر بين البلدين إلى الاتحاد الإفريقي، الذى انسحبت منه المغرب إثر اعترافه بالجمهورية الصحراوية، قبل أن تعود إليه مرة أخرى.
«عبرت الولايات المتحدة مرارا عن مساندتها للخطة التي طرحها المغرب لمنح الصحراء حكما ذاتيا باعتبارها واقعية وذات مصداقية».
لم يكن هناك جديد في تلك الصيغة باستثناء إنشاء قنصلية أمريكية في العيون.
من المتوقع دخول روسيا على الخط دعماً للجزائر بعد أن أعلنت رفضها لتصريحات ترامب.
كان ذلك حصاداً مراً جديداً في المقايضات المسمومة.
* كاتب صحفي مصري
المصدر: الشروق
التعليقات مغلقة.