عمر الخطيب *
سلسلة شهادات الناجين من مجزرة حافظ أسد في حماه 1982 لم تنقطع منذ آذنت الثورة ضد حكم بشار أسد عام 2011 لألسنة السوريين بالكلام… فالمجزرة لم تعد سراً جماعياً يحاول من شهدوا وقائعه نسيانه، بل صارت ذكراها مناسبة لفتح كل الدفاتر وسرد كل الوقائع لمحاكمة سفاحي العصر.
في الملف التالي… شهادات جديدة… وسردية جديدة… ومعلومات تعاد أو تستعاد… كي لا ننسى… وكي لا نسامح… وكي لا يكون شهداء حماه مجرد أرقام، في تاريخ حاول نظام أسد طمسه، فإذا به يلاحق ذكره بالعار، واسمه باللعنات! .. (أورينت نت)
ستار التعتيم الحديدي!
39 عاماً مرت على مجزرة حماة، تلك المجزرة التي تكشفت فصولها تباعاً عبر شهادات الناجين من تلك المجزرة الرهيبة، اذ سعى حافظ أسد ونظامه إلى التعتيم الكامل على ما جرى، فهدد الناجين وكمم أفواه أحبائهم، وهدد من تمكن من الخروج من سوريا بأهله المتبقين فيها.. بل وأجبرت أجهزته الطائفية الوحشية بعض من تبقى أن يخرج ليهتف لمن هدم مدينتهم، وقتل أهلهم، وعذب أولادهم في ساحات الموت الجماعي على مرأى من الأمهات والآباء، في انحطاط أخلاقي وإنساني لم يعرف له التاريخ مثيلاَ
بدأت مجزرة حماة في الثاني من شباط 1982 واستمرت لمدة 27 يوماً، حيث قام حافظ أسد بقصف المدينة بشكل مركز من البر والجو لمدة أربعة أيام، قبل اجتياح المدينة بقيادة “رفعت الأسد” الذي عـُيـّن قبل المجزرة بشهرين مسؤولاً عن الحكم العرفي في مناطق وسط سوريا وشمالها، ووضعت تحت إمرته قوة تضم 12 ألف عسكري، وتوزعت القوات التي اقتحمت المدينة على النحو التالي: “سرايا الدفاع، اللواء السريع الحركة التابع لسرايا الدفاع، اللواء 47 دبابات، اللواء الميكانيكي21، فوج الإنزال الجوي 21 (قوات خاصة)، عدة كتائب تابعة لسرايا الصراع بقيادة عدنان الأسد، عناصر مختلطة من مختلف أجهزة الأمن والمخابرات وفصائل حزبية مسلحة.”
أعلن النظام السوري بتاريخ 15 شباط 1982، وعقب عدة أيام من القصف العنيف، بأن “انتفاضة” حماه قد قُمعت. غير أن المدينة ظلت حينها محاصرة وجرى عزلها عن العالم الخارجي. وتلا ذلك كله قيام السلطات بحملة على مدار أسبوعين داهمت خلالها المنازل واحداً تلو الآخر تخللها موجة اعتقالات جماعية، وارتكبت فظائع بحق المدنيين حيث تعرضوا لعمليات قتل جماعية على أيدي رفعت أسد ورجاله الذين أصدر النظام أوامره لهم بإباحة كل ما في المدينة، وبعدم مساءلتهم عن أي فعل أو تجاوز يرتكبونه خطأ أو عمداً، فنسفت بيوت، ومسحت أحياء بكاملها عن الخارطة، وتسلى الجنود بقنص الهاربين، وقتل أولادهم أمام أعينهم قبل الإجهاز عليهم!
الجثث المتراكمة يلطخها الدم الحار!
“كنت ضمن أعداد كبيرة بازدحام شديد حتى كادت تتقطع أنفاسنا، وسيق بنا إلى (سريحين)، حيث أمرنا بالنزول فنزلنا، وكان أول ما رأينا مئات الأحذية المتناثرة على الأرض، وأدرك الجميع أنها تعني مقتل مئات المواطنين من أبناء بلدنا، وأننا على الموت مقبلون!. فُتشنا بعد ذلك، وأُخذت منا الأموال القليلة التي معنا، وجُردنا من ساعاتنا، ثم أمرتنا عناصر السلطة بالتقدم نحو الخندق العميق الذي يمتد أمامنا إلى مسافة طويلة، وأمر قسم آخر منا بالنزول إلى خندق مجاور. وعندما تقدمتُ إلى موقعي أمام الخندق رأيت الجثث المتراكمة على بعضها يلطخها الدم الحار، وكان مشهداً رهيباً لم أستطع تحمله فأغمضت عيني وتحاملت على نفسي خشية الوقوع على الأرض.
وحدث ما كان متوقعاً، وانهال علينا الرصاص الغزير، وهوى الجميع إلى الخنادق مضرجين بدمائهم. أما القسم الذي أُنزل إلى الخنادق فقد أُطلقت عليهم النار داخله”.
رواية أحد الناجين من مجزرة “سريحين” الجماعية كما وردت في تقرير “اللجنة السورية لحقوق الانسان”.
سلسلة مجازر:
أكثر المجازر الجماعية ترويعاً، ما كان يحدث في الساحات العامة، وفي المقابر. ولم تسلم من هذه المجازر حتى المستشفيات والمدارس، وكل مبنى حُول إلى معتقل في فترة المجزرة. ويمكن القول إن مجزرة حماة كانت مجموعة من المجازر المتفرقة، التي أتت بمجملها في النهاية على نسبة تقترب من خُمس أبناء المدينة.
“تقصد الأسد الأب إنزال العقاب بمدينة حماة في صفاتها كافة، البشرية والاجتماعية والعمرانية والتراثية، على مستوى الأفراد والعائلات، والشوارع والأحياء، الأطفال والنساء والشيوخ قبل اليافعة والشبان والرجال… على سبيل الأمثلة، انطوت مجزرة حيّ ’حماة الجديدة‘ على تجميع الأهالي في الملعب البلدي، ونهب بيوتهم، ثمّ العودة إليهم وقتل قرابة 1500، بنيران الرشاشات؛ في مجزرة حيّ ’سوق الشجرة‘، قُتل 160 مواطناً، رمياً بالرصاص أو دفناً تحت الأنقاض، وحُشر 70 آخرون في متجر لبيع الحبوب، جرى بعدئذ إشعال النار فيه؛ مجزرة ’حي البياض‘ شهدت قتل 50 من المواطنين، وإلقاء جثثهم في حفرة مخصصة لمخلفات معمل بلاط؛ في مجزرة ’سوق الطويل‘، تمّ إعدام 30 شاباً على سطح السوق، و35 آخرين حُشروا في متجر للأدوات المنزلية؛ مجزرة ’حي الدباغة‘: حشر 35 مواطناً في منشرة للأخشاب، وإشعال النار فيها؛ مجزرة ’حي الباشورة‘: إعدام عائلات بأكملها، من آل الكيلاني والدباغ والأمين وموسى والقاسية والعظم والصمام وتركماني؛ وهكذا تكرّرت، أو تنوّعت، التفاصيل الرهيبة في مجازر أحياء العصيدة والشرقية والبارودية ومقبرة سريحين والمستشفى الوطني“. من مقال صبحي حديدي “العرى الوثقى في براميل حلب: من مجزرة حماة إلى اغتيال الحريري” المنشور في جريدة القدس العربي https://www.alquds.co.uk/العرى-الوثقى-في-براميل-حلب-من-مجزرة-حما/ .
” اقتلها يلي ببطنها رح يطلع اخونجي”
كانت “ حموية حرة ” في الرابعة عشر من عمرها حين قام نظام أسد باقتحام مدينتها، وهكذا في بضعة أيام تم تجريدها، كما كل أهل حماة، من حياتها كما ألفتها وأجبرت وهي لم تتجاوز الأربعة عشر بعد أن تعيش فصولاً من الرعب والخوف لا يمكن لأحد تخيلها.
” كانت ليلة الثاني من شباط في عام 1982 تحت حكم حافظ أسد. كانت الساعة الثانية ليلاً عندما سمعنا أذاناً يخرج من مساجد حماه كلها وبعد الاذان تكبيرات عالية.
استفاق أهل حماه أجمعهم على تلك الأصوات ولم يعِ الكثير ماذا يحصل، ولكن الجميع عرف أنها أبواق الحرب. وللعلم النظام هو من افتعل الاذان لكي يقضي على اهل حماه بحجة قيام حرب عليه، لأن الصواريخ والأسلحة كانت جاهزة للقصف بعد ربع ساعة وطائرات الاسد تحوم في سماء المدينة.
خاف الجميع، وبدأت تظهر علامات الهم على الناس، وخصوصاً أهلي في بيتنا الذي كان يقبع على نهر العاصي في منطقة ما تحت قلعة حماه، وكان هناك العديد من المجازر المتتالية بحق المدنين وخصوصاً المثقفين في السنوات السابقة، وبعد نصف ساعة تقريباً بدأت الصواريخ تنهال على المدينة من قلعة حماة، وبدأت أصوات الرصاص تعلو في المكان، بدأ الخوف يسيطر على الناس، أغلقت أبواب حماة جميعها ليتمكنوا من قتل أكبر عدد من أهالي حماه المدنيين.
قُطعت الكهرباء والاتصالات الهاتفية لكي لا يستطيع الناس التواصل مع بعضهم، ولم ينتهي القصف لمدة خمسة عشر يوماً، ذقنا فيه شتى أنواع الرعب والجوع والهوان، لم يعد هناك خبز ولا أي نوع من أنواع الطعام، كنت في الرابعة عشر من عمري وأتذكر كيف كان عمي يجعلنا ننام تحت (الفرشات) لا فوقها خوفاً من أن ينهدم علينا البيت ونموت تحت القصف.
قصفت قوات نظام حافظ أسد وأخيه رفعت مناطق عديدة في حماه أهمها (الكيلانية) المنطقة الاثرية التي يعود تاريخها للملك ابي الفداء ومنطقة (الزنبقي) و(المرابط) و(سوق الشجرة) و(حارة الوادي) و(بستان السعادة) و(الحميدية) و(باب والحيرين) و(المناخ)، هذه المناطق هدّمت فوق رؤوس سكانها الأبرياء وماتوا تحت الأنقاض، وحُرقت منازل ومحلات بسكانها، هذا عدا المجازر الجماعية.
كانوا يُخرِجون الرجال شباباً وأطفالاً وشيباً ويصُفونهم صفوفاً ويفتحون نيران رشاشاتهم عليهم ليموتوا أمام أعين البقية الذين كانوا ينتظرون دورهم بالقتل.
قتل عن طريق التسلسل!
حادثة صغيرة يمكن أن أسرد تفاصيلها: لي صديقة لديها أربعة من الأخوة الشباب أخرجوهم جميعاً ليقتلوهم امام أعين والدهم، سألوا الوالد اي الشبان أحب إليك والسلاح في رأسه، قال: الأكبر.. فقتلوه أولاً. الاصغر كان ذو اربعة عشر ربيعاً أخفته أمه بين النساء ووضعت وشاحاً على رأسه لتخفيه من أعينهم فرآه أحد الجنود المجرمين، وسحبه من بين يديها ليقتله وهي تتوسل إليه بأن يبقيه لها.
ولدي صديقة أخرى دخل الجنود على بنايتهم وانزلوا كل العائلات للقبو، وضعوا كل خمسة اشخاص في مقعد واحد ليفتحوا عليهم نيران رشاشاتهم، لم يميزوا بين إمراة أو طفل أو شيخ.
كانت أم صديقتي حاملاً فبقروا بطنها قائلين ( اقتلها يلي بطنها رح يطلع أخونجي) اصيبت صديقتي بشظايا فقط هي وأختها الكبرى، ولكنهم مثلوا أنهم أمواتاً هرباً من الموت المحتم، رموا الجثث فوق بعضها وبدأوا يسرقون مصاغ النساء وتقدموا من صديقتي يريدون الحلق التي في أذنها، لم يستطع فكها فسحبها بكل قوته، ولازالت الطفلة تمثل دور الموت ولم تتحرك، تحملت كل أنواع الألم لتحيا بعدها تعاني من مرض نفسي.
3 أيام بين جثث أهلها:
بقيت مدفونة بين جثث أهلها لمدة ثلاثة أيام لا تستطيع حتى أن تنادي أحداً خوفاً من الموت، وعندما دخل الجار يريد تفقد ما حدث بعد أن هدأ القصف قليلاً صاح بأعلى صوته يا الله ما هذا حسبي الله ونعم الوكيل وهو يبكي.
فسمعت صوته الفتاة ونادت (عمو أنا هون) صعق الرجل وبدأ يبحث بين الجثث المتراكمة ليجدها تغرق بدم أهلها، وإذ بصوت خافت آخر ينادي (عمو انا هون كمان) وهي أختها الكبرى. ثلاثة أيام في الظلام ولا شيء سوى رائحة الموت تعم المكان ولم تنبت إحداهما ببنت شفة خوفاً من الموت.
وكان للمجازر أنواع، قتل ما يفوق على 400 شاب ووضعوا في حمام في وسط المدينة اسمها (حمام الحلق) ليهدموا فوقهم الحمام، كانت الجثث تمر في نهر العاصي تباعاً، كانوا يرمون الجثث في مصارف المياه، وعانى أهل منطقة البياض من فيضان البيوت لكثرة الجثث في مصارف المياه.
وفي لحظة سكون بعد 15 يوماً خرجنا نبحث عن الطعام في المؤسسات العسكرية والمحلات لنجد جثثاً متراكمة وأعضاء مقطعة تتناثر في كل مكان.
كانوا كل نصف ساعة يدخلون البيوت ليفتشوها، يسرقوها ويحرقوها ويغتصبوا نساءها، كانوا يبحثون عن الشباب ويُخرجونهم ليفتحوا عليهم نار رشاشاتهم عند أقرب حائط مدرسة.
ومن لم يمت معهم يسعفوه إلى المشفى ويشرحونه حياً ليستخرجوا قلبه ويشووه ويجعلونه مازة لسكرهم وعربدتهم، مجازر الرش كانت في بستان السعادة والزنبقي والملعب البلدي والعجزة والحاضر والمناخ وحي المرابط وابن رشد والحميدية وسوق الشجرة وجورة حوا.
قتلوا الآلاف من رجال وشباب المدينة، سرقوا سوق الصياغ بأكمله والمحلات، دمروا مدينة بأكملها اجتماعياً واقتصادياً ونفسياً، مقابر جماعية توجد تحت مبنى حزب البعث الحالي تحت فندق أفاميـا .
لا يمكن أن ينسى التاريخ تلك الأيام السوداء التي مرت علينا كأنها سنوات، ولا يمكن أن يمحو التاريخ تلك البصمة السوداء في تاريخ المجرمين ” .
زميل الاعتقال “حموي”:
تم اعتقال “أحمد العربي”، اسم مستعار، في أواخر سبعينيات القرن الماضي بسبب نشاطه السياسي، وكانت تلك الفترة شهدت تشديداً أمنياً وتم شن حملات اعتقال طالت الكثير من المدن والمحافظات السورية، يخبرنا “العربي” بأنه غادر المعتقل قبل المجزرة الكبرى بحماة بعدة أشهر، ولكن مقدمات تلك المجزرة كانت واضحة في المعتقل من خلال الأعداد الضخمة للدفعات الجديدة من المعتقلين، في يوم ما جاءتنا دفعات جديده وكثيره، المنفردة التي تتسع لواحد أو اثنين، يوضع بها خمسه أو أكثر، الجماعيات كغرف 4×4 تتسع لعشرين شخص، ينامون على حجمهم الشخصي، وضع بها أعداد تصل لمئة وأحيانا مئة وخمسين إنسان، الكل وقوف، النوم إما قرفصه لمدة ساعه وبالدور، أو اتكاء على الحائط.
بعض الشباب يموت واقفاً، والبعض ينهار، والبعض يمثل رجل النظام . حتى هنا يوجد من يمتهن انسانيته، ويمثل سوط النظام وصوته، كنا نموت كل ثانية ألف مرة، أحسسنا أن النظام يريد سجن كل الشعب السوري.
ذكر “مُبين” الحموي الشاب الذي أحببته. قال لي أنهم (استلموني) لأربع ساعات متواصلة من الضرب .. وما قبل الموت. وقعوني على أوراق أني من الأخوان المسلمين، كان يضحك ويقول لي المهم يرفعوا القتل ولو أعدموني بعد حين.. يضحك ويبكي قلبي. “مُبين” هذا بعد أيام سيستدعى في منتصف الليل، وسينظر لي ممتلئاً خوفاً وأقول له الله معك، يعيدوه بعد ساعات كتلة مهشمة في بطانيه… ويموت بيننا بعد قليل” .
وحوش لا يؤتمن لهم!
بعد خروج “العربي” من المعتقل كانت تنتظره مفاجأة أخرى لم يكن ليتخيلها يوماً. كانت أخبار صديقه “محمد” ،الذي يؤدي خدمته العسكرية في لبنان، قد انقطعت لعدة أشهر، ليظهر من جديد بعد بضعة أسابيع من مجزرة حماة الكبرى .
” محمد صديق عمري كان في الجيش وأعلم أنه مع كتيبته كان يخدم في لبنان، انقطعت أخباره فجأة ودام ذلك لأشهر طويلة، بعد عودته لبيته طلبت من أهله رؤيته وقيل لي أنه يمر بأزمة نفسيه.
سارعت لمشاهدته، “محمد” كان يبدو وكأنه كبر لعدة سنوات، في عينه دمعة لا تسقط وشرود دائم، استقبلني بفتور، وعندما انفردنا ببعضنا رمى نفسه بحضني وأجهش بالبكاء لوقت طال قليلاً، وأخيراً بدأ بالكلام.
قال “محمد”: هؤلاء وحوش لا يؤتمن لهم، تصور أخذونا من لبنان مباشرة لحماه . كتيبتنا مدرعة، قبل الوصول بدأ الرمي، ننظر أمامنا إنها البيوت العامرة بأهلها . الناس تصرخ والشوارع خاليه ومن يصل إلينا يستلمه بعض العناصر ولا نعلم ما يحصل له.
بعد ساعات توقف قصفنا ورأينا على البعد الناس يرفعون الرايات البيض، بدأنا نتقدم وتتضح المعالم . القتلى بالشوارع الأطفال المرعوبين الأمهات الناحبة، مشهد يوم القيامة ولا من يرحم، وصلنا لمدرسة . دخلناها كقوة عسكريه وبدأنا نجمع أهل الحي كله، نطرد النساء والأطفال ونترك الرجال والشباب وحتى الكهول، لا كرامة لأحد.
وفي سلوك رادع قتل ضباطنا بعض الرجال الذين حاولوا أن يستوضحوا أو يتفاهموا. الكل هنا أخوان مسلمون يجب أن يقتلوا، نعم استحضروا آلة أشبه بعصارة كبيره، أو مكبس… كان يدخل الرجل أو الشاب أو الكهل من باب الغرفة . بالضرب والشتم ويوضع رأسه في الآلة ومطلوب أن يجيب عن سؤال واحد فقط . هل أنت من الأخوان .؟! ومن تعرف من الأخوان.؟!!… ويستمر الشد مهما كان الجواب، حتى ينفجر رأس المُستجوب ويموت، ويُسحب من باب آخر وهكذا دواليك.
نعم كانوا يراكمون الجثث (وبعضهم أحياء) في سيارة زيل، وعندما تمتلئ، كانت تذهب السيارة وأمامها بلدوزر أو حفار إلى خارج البلدة، ويُصنع حفرة وترمى الجثث وتطمر ونعود، لقد قتلنا أهلنا وجمعنا جثثهم وطمرناهم . حتى انتهت المنطقة التي كنت بها مع قطعتي العسكرية . وقال لنا قادتنا: عشتم يا أبطال لقد طهرنا المنطقة من العصابات المسلحة .
“محمد” عاود البكاء بمرارة . وهو يقول : كيف أواجه ربي. إني قاتل وجبان أيضاً . لماذا لم أوجه سلاحي لصدر قادتي الضباط وأنتقم منهم..؟!!. كنت جباناً ولم استطع .. ليس خوفاً لكن رعباً من فكرة القتل هكذا… إني خائف وضائع.. وأستحق الموت” .
كنت في المعتقل عند حدوث المجزرة!
كان “جمال سعيد” في المعتقل أثناء حدوث المجزرة، وكما قال فإن وجوده وقتها في سجن القلعة بدمشق أمن للمعتقلين إمكانية معرفة الأخبار وتتبع الأحداث.
” في شباط 1982 كنت قد نقلت، منذ عام، من فرع التحقيق إلى سجن القلعة المدني بعد إحالتي إلى محكمة أمن الدولة العليا وفي أيلول من العام نفسه تم خلع المحكمة ونقلت إلى سجن تدمر . تتيح الظروف في سجن القلعة لأي نزيل المزيد من الاتصال بالخارج، سواء عن طريق الزيارات أو من خلال التحادث مع الشرطة، ناهيك عن توفر جهاز راديو بل وتلفزيون في المهجع!
في أوائل شباط تسربت أخبار حول عمليات اقتحام ومداهمة لأحياء في مدينة حماه . تتبعنا محطات إذاعية عديدة، وعلمنا أن هناك مجازر ترتكب، دون أن نستطيع معرفة عدد القتلى وحجم المجازر.
تضاربت الأخبار المتعلقة بأرقام القتلى في نشرات أخبار الإذاعات التي تحدثت عن الاقتحامات والمداهمات في المدينة، وكنا ننتظر بفارغ الصبر زيارة أهل رفاقنا المعتقلين السياسيين من مدينة حماه.
نقل لنا الأهل جانباً من الهول الذي عاينوه: القتلى في الطرقات، والبيوت تقصف وتُدمّر في أحياء الحاضر وسوق الطويل وباب طرابلس وحماه مطوقة! ولأني لا أعرف حماه كنت أتخيل أحياء وأسأل وأمشي في جنازة تلك الأحياء وفي جنازات الناس، الذين لا أعرفهم.
كان التلفزيون السوري يبث برامجه وأخباره وكأن شيئاً لا يحدث في البلاد، وكذا حال الإذاعة . كنا نتابع بلهفة وحزن انتقال أعمال القتل من حي إلى حي طوال شهر شباط أثناء وجودنا في السجن المدني! وكنا نهنئ رفاقنا على سلامة أهلهم كل يوم اثنين (موعد الزيارة الأسبوعي) مع أن بعض الأهالي غادروا حماه في تلك الفترة ” .
أهوال المجزرة في سجن تدمر!
سيتم نقل “جمال سعيد” إلى “سجن تدمر” وسيسمع هناك ما لم يخطر ببال عن أحداث حماة، فما عاشه في سجن القلعة من أخبار متقطعة وقصص مبتورة ستكون هنا أمامه بأشخاص عاشوها لحظة بلحظة
” بعد سنوات وفي سجن تدمر التقيت بسجناء تحدثوا عن هول المجزرة، وقد نقلوا قصصاً تدل على مدى همجية الجنود الذين قاموا بعمليات قتل للأبناء أمام آبائهم، وبسرقات وانتهاكات للأعراض بغرض الإذلال . ومن بين الناجين من المجزرة التقيت معتقلاً، كان يخدم الإلزامية، ورفض أن يطلق النار، واستطاع حمايته من الإعدام ملازم كان معه!
كان “وليد” وهو المجند الناجي، معتقلاً بتهمة الانتماء إلى رابطة العمل الشيوعي، يشعر بالإجهاد وهو يروي أحداثاً مر عليها سنوات، وخصوصاً عندما يتحدث عن تناثر دم ودماغ أحد الشبان على ثياب أمه.
وأذكر أنه قال لي أنه لم يعرف سر عداء أحد الجنود للمآذن، إذ كان يطلق النار عليها من سلاحه الفردي!! وبدت لي المآذن الصامتة أثناء الحصار، وكأنها أيادٍ يائسة ممدودة نحو السماء!!.
وحدثني “ماجد” وهو رهينة عن أخيه الذي فر إلى خارج البلاد، وكان مطلوباً بتهمة الانتماء إلى الطليعة المقاتلة من الأخوان المسلمين: “كانت الهيلوكوبتر ترعبني أكثر من الدبابات، كنت أظن أنها تراني، وتعرف أني استطعت الخروج من المدينة وأنها ستقتلني لا بد في مكان ما !!”.
التقيت في السجن أيضاً أحد الناجين من سجن المدرسة الصناعية ، وحدثني عن المدرسة الصناعية التي تحولت إلى سجن، يُرسل الجرحى إلى المشفى الوطني المجاور والذي يحتله الجنود، الذين كانوا يعالجون الجرحى بالإجهاز عليهم!!
في السجن كانت مجزرة حماه حاضرة وبقوة، مثل مجزرة تدمر التي راح ضحيتها مئات السجناء . وبسبب ما سمعناه عن المجزرتين من تفاصيل اعتقدنا أثناء إطلاق أفراد الشرطة العسكرية للنار ابتهاجاً بشفاء حافظ أسد عام 1984، أن رصاص الجنود سيمحي حياتنا بعد قليل” .
قتلهم بغاز السيانيد:
مقتطفات من التقرير الذي أرسلته منظمة العفو الدولية إلى حافظ أسد عام 1983:
“ويقول بعض المراقبين: إن الأحياء القديمة من المدينة ضربت بالقنابل من الجو لتسهيل دخول القوات العسكرية والدبابات خلال الطرق الضيقة، مثل حي (الحاضر) الذي محقت الدبابات بيوته خلال الأيام الأربعة الأولى من القتال . وفي 15 شباط بعد عدة أيام من قذف القنابل الشديد أعلن وزير الدفاع السوري اللواء مصطفى طلاس أن الفتنة قد أُخمدت.
غير أن المدينة بقيت محاصرة ومعزولة، واستمر التفتيش والاعتقال على نطاق واسع خلال الأسبوعين التاليين، وانتشرت أخبار متضاربة عن الفظائع التي ارتكبتها قوات الأمن، وقتل السكان الأبرياء بالجملة، وليس من السهل معرفة ما حدث على وجه التحديد، غير أن منظمة العفو الدولية قد سمعت عن إعدام جماعي لسبعين شخصاً خارج المستشفى المدني يوم 19 شباط / فبراير، وأن سكان (الحاضر) لقوا حتفهم على أيدي سرايا الدفاع في نفس اليوم .
وأن أوعية معبأة بغاز السيانيد قد رُبطت بأنابيب من المطاط في مداخل المباني التي يظن أنها مساكن المتمردين . ثم فتحت فيها وقضت على جميع سكانها، وأن الناس جُمعوا في المطار الحربي وملعب المدينة وفي الثكنات العسكرية وتُركوا في العراء أياماً بدون مأوى ولا طعام.
إن أحداث القتل والإعدام المجاوزة للقانون التي أوردناها هنا هي مخالفة خطيرة للحق في الحياة، ذلك الحق المقدس الذي نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية (المادة 16): لكل إنسان الحق الطبيعي في الحياة، ويحمي القانون هذا الحق، ولا يجوز حرمان أي فرد من حياته بشكل تعسفي”.
شالاندون: لم أسمع الآذان طوال الفترة التي قضيتها بحماة
استطاع مراسل صحيفة “ليبيراسيون” الفرنسية “سورج شالاندون” التسلل إلى مدينة حماة باسم مستعار “شارل بوبت” ووصفة كاذبة (باحث في الآثار) “فكان أوّل صحافي أجنبي يدخل المدينة الشهيدة، ويسجّل بأمّ العين الكثير مما حاق بأهلها وبعمرانها، القديم قبل الحديث، من قتل وتخريب وتدمير .
(الأموات أخذوا يُعدّون بالآلاف أوّلاً، ثمّ بالمئات، ثمّ بالآلاف خلال الساعات الأولى فقط. لقد رافقني أحد وجهاء المدينة، فتنقلنا من بيت إلى بيت، ورأينا العائلات الثكلى، والجثث التي تُجرّ من الأقدام، أو تُحمل على الأكتاف)، كتب شالاندون، متقصداً أن يخنق في داخله روح الروائي، هو المتمرّس في السرد القصصي والحائز على جوائز مرموقة في هذا المضمار، لكي ينتصر لواجب الإخبار الحقيقي الصرف، الأشدّ وقعاً في النفس الإنسانية من أي أفانين تخييلية” . من مقال “صبحي الحديدي” الذي سبق الاشارة إليه.
ومما جاء في الملف الذي أعده شالاندون عن زيارته لحماة:
” أما الأموات فإن أهاليهم يدفنونهم بسرعة، إذا أمكن، فيما أصبح يطلق عليه اليوم مقبرة الشهداء في الزاوية الكيلانية، والتي تم نسفها كلياً فيما بعد .
بضع طلقات نارية صوب الجنوب تتبعها رشقات قوية، وخلال عشر دقائق كانت القذائف تتساقط كالمطر أينما كان، وحيثما تسقط كنت تسمع صرخات الرعب ونداءات التوسل إلى الله على بضعة أمتار منا، شاهدنا رجلاً يتمزق تماماً ويسقط فوق جدار، كما لو أنه هيكل عظمي، ولم أصدق عيني، ولكن عندما ظهرت الطائرات من جديد فوقنا، دفعني مرافقي لتحت منزل، صارخاً.. ها هم يعودون .
في الطريق، يصادفنا رجل يقدمه مرافقي لي، إنه طبيب، وبكل سرعة يناولني الطبيب هذا بضع أوراق، ويكتب لي أسماء ضحايا!! كم قتيلاً؟؟ سألته، أجاب، لا أعرف!! ليس أقل من 8.000 أو 10.000، لقد رأينا ضحايا في كل مكان، أمسك، حتى يعرف العالم كله الحقيقة، سجل، مصطفى شامية، طارق عبد النور، أديب السبع، أحمد الشلبي،، وبإشارة أفهمه أنه لا فائدة من الاستمرار لأنني لا أستطيع أن أسجلهم كلهم ولكنه يستمر وبكل عصبية ويطلب مني بطريقة الأمر أن أسجل.. إبراهيم الطرقجي، فؤاد جودت، غسان جلوسي دهيمش .
أترك حماة بمزيج من الرعب والفزع، الفزع حين أتذكر أنه ولا مرة واحدة خلال هذه الأيام والليالي التي قضيتها هناك سمعت صوت المؤذن يدعو المؤمنين إلى الصلاة، كما لو أن المآذن نفسها قد انكمشت على نفسها تلقائياً!! ” .
* كاتب وصحفي سوري
المصدر: أورينت نت
التعليقات مغلقة.