الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

حـوار العمـر.. أحاديث مع الياس مرقص … الحلقة الثانية

بالذكرى الثلاثين لوفاة المفكر المرحوم «الياس مرقص» موقع « الحرية أولاً » ينشر كتاب “ حـوار العمـر.. أحاديث مع الياس مرقص

أجراها وحررها: جاد الكريم الجباعي *

الحلقة الثانية: الفصل الأول/ أولاً ” نقد الكلمات.. وتحرير المفاهيم والمقولات

الثنائيات الفلسفية:

ـ تهيمن على الخطاب الفلسفي، ومن ثم، على الفكر السياسي، ثنائيات تناقضية من قبيل الفكر والواقع، الوعي والوجود، المثالي والواقعي، الذاتي والموضوعي، المجرد والمعين، المادة والروح، ومن بين هذا الثنائيات أو الأزواج التناقضية تستأثر ثنائية المادة والروح باهتمام خاص، إذ تنطلق منها السجالات والمعارضات بين العلمانيين واللاهوتيين، بين أنصار “الفكر العلمي” وأنصار “الفكر الديني”، بل بين الأيديولوجيات العلمانية والعلمانوية والأيديولوجيات الدينية والمذهبية. ويلفت النظر تحاشي العلمانيين عامة استعمال مفهوم الروح والتعبير عنه بأحد أقاربه أو أبناء عمه، في حين تؤكدون في أحاديثكم وكتاباتكم مركزية مفهوم الروح أو مقولة “الروح” إزاء مقولة “المادة”. أود أن أسالكم عن المادة والروح وعن المادية، وهل الدين وحده هو ميدان الروح أم أن الروح تنبسط في جميع ميادين المعرفة والعمل وأن هذا “الروح” هو الروح الإنساني الذي تمثلته وانطلقت منه ماركسية ماركس وإنجلز ولم يتبعهما في ذلك سوى قلة من “الماركسيين” في العالم أنت واحد منهم؟.

# بداية، أريد أن أقول: إنني لا أمثل في جوابي إلا نفسي، وأعطي رأيي الشخصي(1). ثانياً، أعتقد أن الماركسية الستالينية التي هيمنت علينا بعيدة جداً عن ماركس، بل بعيدة جداً عن ماركس وإنجلز ولينين. النقطة الثالثة أن ماركس عزيز عليّ، لكن الحقيقة أعز، ومن ثم، أريد تأكيد مبدأ الحقيقة، أريد الحقيقة مبدأ ومسعىً وهدفاً، دائماً وأبداً، المرة تلو المرة. وبتعبير آخر، الحقيقة فوقي وفوق كل إنسان، فوق كل حزب وكل دولة، بل فوق الجنس البشري. البشرية هي في سعي إلى الحقيقة، البشرية الناظرة، النظرية، البشرية المفكرة، الروحية هي أبداً في سعي إلى الحقيقة. وهنا أريد أن أذكر لحظتين ضروريتين للإنسان: الأولى، لحظة بروتاغوراس، أو، ماركسياً، لحظة الحقيقة الذاتية، لحظة السفسطائية، المحامين، المرافعين،، شعارها: الإنسان مقياس جميع الأشياء. والثانية، اللحظة النقيضة، السقراطية: الإنسان بوصفه كائناً مفكراً هو مقياس جميع الأشياء(2). ونعرف أن لينين في مخطوطاته الفلسفية عام 1915 كان يصفق لرد سقراط، لرد السقراطيين. نحن يجب أن نصفق مرتين، لأن سقراط المناقض لبروتاغوراس ما كان ليوجد من دون بروتاغوراس. كذلك عند الانتقال إلى العصر الحديث نصفق لهيغل، ولكن نصفق أيضاً، وأولاً لكانط فهيغل.

الانتلجنتسيا الروسية الثورية بنت شعب كان بعيداً عن الفلسفة، مثل العرب أو أكثر من العرب (اليوم). روسيا ليس لها علاقة بالفلسفة، بيزنطة نفسها لا علاقة لها بالفلسفة. الفلسفة شأن أوروبي غربي، وشأن يوناني قبل ذلك، وجزئياً شأن عربي في وقت من الأوقات. ما حصل في القرن التاسع عشر أن الروس كانوا يريدون ثورة، يريدون تغييراً، فأمسكوا بالفلسفة، لكنهم، في الواقع، أمسكوا بالجزء، بهيغل. بدؤوا بهيغل بلا كانط. هيغل، من دون كانط، يمكن تأويله استبدادياً، إرهابياً، إطلاقياً. من هنا أعود إلى القول: إن الحقيقة فوقنا وهي أمامنا وهي طريقنا، هي ما نسعى إليه، ثم أنتقل إلى سؤالك.

1 ـ مفهوم المادة :

يجب أن نتفق، قبل كل شيء، على أن المقولات التي ذكرتها في سؤالك، وخاصة مقولة المادة ومقولة الروح، هي مقولات فلسفية، ولا يجب أن تعامل إلا بصفتها كذلك. الستالينية السائدة تهرب من هذا وتهرب مما سأقوله الآن: ثمة ثلاث نقاط، ثلاث مقولات أنقل اثنتين منها عن لينين والثالثة عن إنجلز. عند لينين منذ سنة 1908 أي في كتابه “الفلسفة الأسوأ” المادة مقولة فلسفية، المادة مفهوم فلسفي، ويختم كتابه هذا بتسمية الواقع الخارجي المعطى لنا بالحواس. عندما نقل لنا ستالين هذه العبارة شطب عبارة: مفهوم فلسفي، فدفع القارئ إلى تصور أن المادة لا تحتاج إلى تعريف وليس لها مفهوم وأنها، أي المادة، هي الطاولة والكرسي والجبل والمغنطيس…. عدَّدها على هذا النحو، علماً بأن لتعريف لينين مزايا كثيرة أهمها أنه عرف المادة بعكسها فقال لنا: المادة مفهوم فلسفي يسمي الواقع الخارجي المعطى لنا بالحواس. فإذا أردنا أن نتبنى القسمة اللينينية، ولنتبن ذلك فعلاً، يتبين لنا أن عند لينين هناك المادة والكائن والطبيعة والفيزيقي وهناك الوعي والروح والفكر والإحساس (لينين يضم الإحساس) في الجهة المقابلة. المقولة الأولى المادة عُرِّفت بالمقولة الثانية. إذا أردنا الأخذ بهاتين المقولتين تكون المادة هي المعطى الأول، والفكر والروح والإحساس ..إلخ هي المعطى الثاني، (ولنأخذ بذلك) يجب أن نلاحظ مباشرة أن المعطى الأول معرف بالمعطى الثاني. وأستطيع القول إن موقف لينين يستحضر موقف أرسطو عندما عرف المادة مقابل الشكل بأن «المادة تتمتع بقابلية أن تحس، أي يمكن أن تحس». لسوء الحظ، لم تقف الماركسية مطلقاً عند أرسطو وعند ثنائية المادة والشكل، وكان تجاهلها أو جهلها خسارة كبيرة للفلسفة الماركسية. إنجلز عرف المادة بقوله: «المادة كمادة لا وجود لها في الواقع، المادة، كمادة، محض خلق من الفكر وتجريد محض». ماذا يعني بالمادة كمادة؟ يعني بذلك أنه إذا أخذنا أي شيء من الأشياء وجردناه من جميع كيفياته الخاصة ومن جميع خصائصه وصفاته (أو تعييناته.ج) إلى النهاية، نصل إلى المادة العامة، نصل إلى المادة كمادة(3). المادة تجريد محض، اختراع من الفكر. ورد هذا في “ديالكتيك الطبيعة” لإنجلز، الذي طبع في موسكو وباريس منذ 35 سنة كما أعتقد. نستطيع أن نبرهن الآن أن جميع كتب الشّراح السوفييت وغير السوفييت كانت تتجاهل كلام إنجلز. ومما يلفت نظري أن أول مرة قرأت فيها قول إنجلز كانت في كتاب سوفييتي هو “المادية والديالكتيك عند أينشتاين” للكاتب غريبانوف. هذا الكتاب طبعته دار الفارابي، غلاف أبيض وأصفر، وترجمه توفيق سلوم. يذكر غريبانوف قول إنجلز في السياق التالي، في معرض حديثه عن بيركلي وأينشتاين قال ما معناه: يجب ألا ننسى أننا نجد عند إنجلز قولاً شبيهاً بقول بيركلي. وأنا أريد أن أضيف نقطة عن لينين: يتصور القراء أن ما قاله لينين ضد بيركلي هو حكمه الأخير على بيركلي، أي بيركلي الرجيم، المثالي، الرجعي.. إلخ. ولو قرأنا مقال لينين حول الديالكتيك المكتوب عام 1916، وهو جزء من “الدفاتر الفلسفية” فإننا سنجد في نهاية هذا المقال حديثاً عن تاريخ الفلسفة مقسماً في دوائر، عدة دوائر، دائرة في العصر القديم، دائرة في العصر الحديث… وكل دائرة مؤلفة من ثلاثة، كأن الثلاثة تأكيد ونفي ونفي النفي، كأن يقول مثلاً: الدائرة القديمة أفلاطون أو ديمقريط فأفلاطون فهيرقليط. وإحدى هذه الدوائر تقول ما يلي: من هولباخ (أي المادية) إلى هيغل (أي الديالكتيك) عبر بيركلي وهيوم وكانط. بيركلي ليس منبوذاً. بيركلي وهيوم وكانط أخذوا أماكنهم في صلب الإشكالية، في صلب الدورة الصاعدة. طبعاً هذا يتضمن أيضاً أن لينين لم يكن يرى أن ديمقريط وأفلاطون عدوان وعلينا أن نختار أحدهما، ولا إلى الفلسفة على أنها أيديولوجية طبقية أو ما شابه، بات ينظر إلى الفلسفة ومذاهبها بصفتها زوايا نظر إلى الواقع وكلها مسوَّغة، فحين يقول لينين: أفلاطون ـ وديمقريط ـ هيرقليط فغير وارد أن يتبنى ديمقريط وينبذ أفلاطون أو يتبنى أفلاطون وينبذ ديمقريط، وغير وارد أن يتبنى هولباخ وينبذ بيركلي وهيوم وكانط.

نرجع الآن إلى الأطروحة الثالثة لهيغل ولينين في “خلاصة منطق هيغل”: المادة هي المجرد على وجه الامتياز. ما معنى مجرد على وجه الامتياز؟ إذا أردت مقولة مجردة مجردة مجردة فما عليك إلا بما قلته أنت** : مجردة بمعنى لاغية، تلغي، نافية إلى النهاية. الآن كل فلسفة المادية الجدلية الشهيرة لو عرضها ستالين والشراح، وعرضوا هذه العبارة: المادة هي المجرد على وجه الامتياز، المادة، كمادة، هي محض خلق من الفكر، لو أنهم بدؤوا بهذه العبارة كنا تجنبنا الخراب الذي ترتب على أنركابنا بمقولة المادة. لو قمنا باستفتاء أو سبر عند الماركسيين لوجدنا معظمهم يعتقدون أن المادة والكائن والطبيعة والوجود والفيزيقي مترادفات. ألم يضع لينين هذه كلها في جهة ووضع مقابلها الفكر والوعي والروح؟. هؤلاء الماركسيون يظنون مقولات الصف الأول مترادفات وكذلك مقولات الصف الثاني، وهذا غير صحيح. عند لينين هذه وهاتيك متقابلات(4). خارج هذا التقابل، بصورة مستقلة عن هذه المعارضة بين الطرفين كل مقولة تستعمل في سياقات معينة مختلفة متنوعة غير السياقات التي تستعمل فيها زميلاتها. لنقل مقولات الصف المادي ومقولات الصف الروحي والفكري، لكل واحدة منها استعمالها، فالمادة غير الكائن وغير الوجود والطبيعة غير المادة، يا سيدي، الفيزيقي غير المادة، فمن غير المعقول استعمال كلمة المادة محل كلمة الطبيعة أو بدلاً منها أو محل كلمة الكائن وبدلاً منها. فإذا سئلت عن الكائن أو الشيء الذي أمامي وأجبت أنه مادة لا أفيد شيئاً ولا أستفيد. وإذا قلت عن هذه الأشياء التي أمامي أو التي أراها وألمسها إن كلاً منها مادة أكون قد أعدمتها وأعدمت العالم، ها هنا خطورة المادة(5).

لنتساءل الآن: أليس للمادة امتياز أو امتيازات مقارنةً بالطبيعة وبالكائن؟ بلى لها امتياز كبير، وهذا الامتياز ضيعته “الماركسية” الشهيرة. أنا أسميه امتيازاً أرسطياً، أفلاطونياً: المادة متشاركة مع مقولة الشغل في شكلها الأولي(6)، شغل النجار والحذاء والحرفي.. وشغل بيتهوفن ورامبرانت أيضاً. ماذا يعمل هؤلاء، ماذا يعمل بيتهوفن؟ مع أي شيء يتعاملون؟ إنهم يتعاملون مع مادة ويشكلونها، النجار يتعامل مع الخشب والحذاء مع الجلد، وبيتهوفن مع الصوت، ورامبرانت مع اللون، هذا الفنان وذاك الحرفي يتعاملان مع المادة لكل شغل مادته يشكلها كما يريد. هنا لا يمكن لمقولة الطبيعة أو الوجود أو الكائن أن تنوب عن مقولة المادة (مادة العمل.ج). والآن لنقلب القضية على وجهها الآخر، والله إذا الزراع (زراع الحنطة أو البطاطا) أو الرفيق ستالين بصفته قائداً للزراعة السوفييتية وفيلسوفاً للاقتصاد والزراعة أو بصفته المزارع الأول، إذا أراد أن يتعامل مع الطبيعة على أنها مادة فإنه يخرب كل شيء. وإذا كانوا في الممارسة السياسية يتعاملون مع الواقع ومع البشر (المجتمع)، مع الواقع الكبير الذي له منطق وله بنية وسببية والغني جداً، إذا كانوا سيتعاملون مع المجتمع على أنه مادة، كما يتعامل النجار مع الخشب وبيتهوفن مع الأصوات.. فهذه مصيبة المصائب. الواقع ليس مادة إنه أكثر من المادة.

ثمة نقطة أخرى. أعتقد أنه عند أرسطو وأفلاطون وكذلك عند ماركس وإنجلز وهيغل، وعند أرسطو وماركس خاصة، المادة مقولة كمية رياضية. فعندما نسمي الأشياء المختلفة مادة يجب أن نميزها بكمية المادة التي هي قوامها، بمقدار ما تحمله من مادة. وعندما نعلم الفيزياء لأطفالنا نشرح لهم مفهوم الكتلة وحجومها المتفاوتة، وعندما يريد أستاذ الفيزياء أن يفهم طلابه أن الكتلة غير الوزن يعلمهم أن الوزن = الكتلة + الجاذبية. وإذا ركبنا سفينة فضائية فإن الوزن ينعدم (خارج مجال الجاذبية الأرضية) أما الكتلة فلا تتغير، لأن الكتلة أبسط من الوزن، الكتلة هي كمية المادة في الشيء‎، والمادة مفهوم عام. لذلك فإن مقولة المادة مقولة حسية خارجية، مجردة، رياضية، كمية، عددية، حجمية.

في نهاية البند الأول من مقالتي “الإنسان، العقل والتاريخ” التي قدمتها في ندوة “الغزو الثقافي الاستعماري والصهيوني” قلت: على العرب أن ينتقلوا من المادة والجوهر والكم والحجم إلى العلاقة والعقل والروح. كان هذا عام 1980، في عام 1987 أعطانا الاتحاد السوفييتي كشوفات مهمة جداً، ولو أنه لم يعبر عنها فلسفياً، مثلاً، قال وزير الصحة الجديد: لدينا أكبر عدد من أسرة المستشفيات في العالم، ولكن حيز السرير مع الفراغ الذي حوله هو 4م مربع، في حين أن المقياس العالمي هو 7,2 متر مربع. لنقل هنا أن الستالينية مع المادة ضد الفراغ، وفي رأيي الفراغ أخو الحرية. وقال وزير الصحة أيضاً: بنينا مستشفيات وأنفقنا 80% من الميزانية على الخرسانة و20% على الأجهزة. هذا جنون المادية. أو مثلاً، حين يطلب كولخوز في تركستان أو في روسيا أربعة تركسات صغيرة الحجم يرسلون له أربعة كبيرة الحجم قائلين هذا أحسن، وهو في الواقع ليس أحسن، لذلك أقول يجب الانتقال من المادة والجوهر والماهية والحجم والكم إلى العقل والعلاقة والروح والعقالة. المادية الديالكتيكية الستالينية والتطبيق الاشتراكي البريجينيفي وقبله الستاليني، كل ذلك الواقع النظري والعملي كان محكوماً بفكرة الـ Maximum (الأقصى أو الأكثر). وبغياب فكرة الـ Optimum (الأمثل) كلما كان أكبر وأكثر كان أحسن. هناك قياس، علاقات قياس، هناك نسب وتناسبات لا بد من حساب النسب والتناسبات، ثمة دائماً حد أمثل بعده تصبح الخسائر أكثر من الفوائد، هناك فكرة الحد الأمثل (بين حدين أدنى وأقصى.ج)، هناك علاقة بين الكم والكيف، الكم وحده (صفر)، خطأ كبير. طبعاً في الاتحاد السوفييتي أكبر عدد من المهندسين في العالم وأكبر عدد من الأطباء وأكبر عدد من طلاب دور المعلمين وأكبر إنتاج للفحم، ووجدنا أن لديه أكبر جيش في العالم عدداً وأكبر جهاز مخابرات في العالم يفوق عدد أفراده ما في الدول الأوروبية مجتمعة. هذه جوانب مختلفة وسريعة أختصرها بالقول: 1 ـ مقولة المادة مهمة جداً ويجب أن تفهم.

ـ لا يجوز أن تستعمل مقولة الطبيعة أو مقولة الوجود بدلاً منها، أو  بمعناها.

# لعل خطر “المادية” الستالينية يكمن في النظر إلى الطبيعة وإلى المجتمع، على أنهما مادة للإرادة الثورية، تحكمهما معاً قوانين متماثلة، لعله أراد أن يخضع المجتمع لانضباط صارم كانضباط الطبيعة، وستالين هو سيد القانون والقانونية. هذا الاتجاه ينفي مقولة التقدم التي ليست مقولة التطور ولا مقولة التغير. مقولة التقدم مقولة إنسانية، ترتبط بالإنسان، الكائن القابل للتحسن بخلاف غيره من الكائنات. ستالين شطب مقولة التقدم، ومن ثم مقولة الإنسان، الإنسان والطبيعة عنده متماثلان يخضعان معاً لقوانين “المادية الجدلية” لقد أكرمنا ستالين بقوانين الواقع الموضوعي، ولكنه ضن علينا بالقوانين التي ينشدها البشر من أجل حياهم ومن أجل الحرية، ضن علينا بمبادئ عملية صنع القانون جيلاً بعد جيل وقرناً بعد قرن، عملية بناء عمارة القانون. جان فالجان (بطل رواية البؤساء لفكتور هوغو) حكم بالسجن والأشغال الشاقة عشر سنوات لأنه سرق رغيف خبز، اليوم لا يسجن في فرنسا من يسرق رغيف خبز لأنه جائع وليس لديه ثمن خبزه. في لندن حكمت قاضية على رجل سرق بنطلوناً أن يرده أو يدفع ثمنه، وعلى آخر سرق زجاجة عطر بالسجن ثلاثة شهور لأن لديه مالاً ورصيداً في البنك (وربما لأنه سرق شيئاً كمالياً لا تمس الحاجة إليه.ج). ولأننا لم نبن عمارة القانون جيلاً بعد جيل فنحن ننحدر، وعودتنا إلى عمر بن الخطاب هي من قبيل شد الأمور إلى الخلف فنحن لم نتخذ من موقف أو مواقف لعمر بن الخطاب شيئاً نبني عليه.

ـ الأعراف والقوانين يضعها البشر في زمان ومكان محددين للحفاظ على وحدة الجماعة وتنظيم علاقاتها الداخلية، في ضوء نسبة القوى الاجتماعية السياسية المحددة بشكل الملكية السائد أو بنمط الإنتاج، كما يقولون، ومع ذلك فالقانون هو مبدأ وحدة الجماعة، مبدأ وحدة المجتمع، ومبدأ وحدة الدولة. بيد أن النظرة الكلية تقضي أن القانون يوجد من أجل الإنسان ولا يوجد الإنسان من أجل القانون.

# سنعود إلى ذلك، ولكن، أريد أن أسأل: هل القانون عمارة تبنى أم إنه معطى قبْلي ناجز؟ وإذا كان القانون معطى قبلياً ناجزاً فما هي وظيفة الفقهاء والمشرعين؟ إذا كنا نعتقد أن القانون معطى قبلياً فنحن لا نؤمن بتقدم الإنسان. ولكي لا نشعب الموضوع دعنا نعد إلى الفلسفة المادية.

2 ـ المادية والفلسفة المادية :

# ما هي الفلسفة المادية؟ لقد اصطلح الفلاسفة، أو بعض الفلاسفة، واصطلح الأساتذة المدرسون والكتب أو كثير من الكتب على تقسيم الفلاسفة إلى ماديين ومثاليين(7)، ولسوء حظنا أن الرفيق لينين أولاً ـ ولم يعد النظر صراحة في ذلك ـ والرفيق ستالين ثانياً، والشراح بعد ذلك أعلنوا تبعيتهم لهذا التقسيم الذي عُدَّ أساساً للفلسفة، فإذا أردت أن تدرس فلسفة الصين أو فلسفة الهند، وتترك أوروبا، يجب أن تقسمها إلى مادية ومثالية. أنا أقول هذه حماقة. وكذلك إذا أردت أن تدرس فلسفة اليونان فإن أهم شيء أن تقول ماديين ومثاليين، في رأيي هذه حماقة. قطعاً هذه الحماقة تخف كثيراً في وقت معين من التاريخ. لينين وستالين اعتمدا على إنجلز وشوها إنجلز. فعندما يقول إنجلز المعسكران الرئيسان فإنه يعني أن في تاريخ الفلسفة، لمرحلة معينة طويلة نسبياً، كان هذان المعسكران رئيسين، هذه هي المسألة الفلسفية الكبرى أو العليا. أريد هنا أن أعيد النظر في هذه المسألة وأتساءل: إلى أي مدى هذا الكلام منقول عن الكتب البورجوازية؟ يا أخي إذا كانت الفلسفة البورجوازية (لا نملك تسمية أفضل) والجامعية الغربية اعتمدت هذه التسمية فليس من الضروري أن نعتمدها لنزايد عليهم. لماذا؟ لأننا في مشروع تحويل العالم انركبنا بالمادية.

هنا أقول: لا. يجب أن نحول العالم لفكرة، لهدف. أوهمتنا الستالينية أن “المادية” تعني الواقعية الأكيدة وتبين اليوم (بعد البيريسترويكا) أن هذه أكذوبة. اكتشفنا أن أبعد الناس عن الواقعية هم الذين أطلقوا على أنفسهم هذه التسمية (المادية)(8). لو تساءلنا: هل جبال الهمالايا في الهند أهم وأخطر أم أوهام الناس وأفكارهم؟ إجابتي المتواضعة أنني لا أعرف، يجب أن أدرس الموضوع. الماركسية لا تلزمني بجواب معين. قد يقول أحدهم جبال الهمالايا واقع وأوهام الناس وأفكارهم ليست واقعاً ويكون “مادياً”. على من نضحك؟! يمكن اليوم إزالة جبال الهمالايا بقنبلة ذرية، ولكن الأصعب هو إزالة أوهام الناس وأفكارهم. ما هي أوهام الناس؟ أوهام الناس هي أفكار الناس أيضاً، يجب أن أفهم ماذا وراء أفكار الناس. ثم لماذا أعتقد بأن أفكار الناس أوهام وأفكاري ليست أوهاماً؟ هذه قضية واسعة وشائكة. لينين هو الذي اخترع مصطلح “المادية الديالكتيكية” وليس ماركس أو إنجلز. وفي رأيي أن لينين أخطأ وتحايل على الموضوع. هنا أيضاً ثمة مسألة ترجمة، في مقال للينين عنوانه “عشرة أسئلة للمحاضر” يرد بها لينين على محاضر “محرِّف” قال: لماذا لا تقول أن ماركس وإنجلز وصفا Calfia مذهبهما بالمادية الديالكتيكية؟ قال وصفا Calfia ولم يقل سمّيا. الوصف غير التسمية. ثمة فرق بين أن تصف الشيء وأن تسميه. أن تسمي الشيء يعني أن تعطيه اسماً، عنواناً بصورة نهائية. إذا سألتني ما هي صفات مذهب ماركس؟ فإنني أقول: مادي، مادياني، واقعي، ديالكتيكي، ثوري، عقلاني(9)… وتستطيع أن تضيف أوصافاً كثيرة وهو، أي ماركس، يوافقك على كل هذه الأوصاف. وإذا أضفت أوصافاً أكثر قد يطمئن ماركس أن الناس لن ينركبوا بوصف واحد. وإذا بستالين يقول: المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية. وجئنا نحن العرب وترجمنا Materialism  بالمادية ولم نقل الماديانية فأصبح لدينا المذهب مادياً. تصور كيف نقول عن مذهب فكري، نظري أنه مذهب مادي، ونقول عن الطاولة وغيرها من الأشياء أنها مادية. في الفرنسية مثلاً الأمر مختلف تقول عن المذهب Materialist وعن الطاولة والكرسي Material. وأكثر من ذلك يبدو أن ماركس لم يصف مذهبه قط بالمادية التاريخية إنما قال عنه التصور المادي للتاريخ، التصور أو المفهمة الماديانية للتاريخ. وضع كلمة التصور أو المفهمة ليذكرنا بأن هذا فكر، وليذكرنا أنه، أي ماركس، وأفلاطون أخوة في الفكر. أما ستالين فهو خارج الفكر، والماركسي العادي يقول لك: نحن ماديون أي نحن موجودون مثل الطاولة والكرسي. ما أحلى هذا الوجود، الطاولة التي تنتهي وتحترق نمنحها الخلود. قيمة الطاولة ليست في ذاتها، بل في الشغل البشري والطابع الاجتماعي، إنها تقوم بدلالة الإنسان والمجتمع. (الإنسان مقياس القيم.ج). يبدو أن مثلنا الأعلى في الوجود بات وجود الأشياء وعناصر الطبيعة. ما هذا الكلام؟!.

أوري أرغون له كتاب جميل عن الماركسية وكتاب جميل آخر عن البوذية، (الهيْلَميون) العرب لا يتصورون شيئاً كهذا، لا تركب في ذهنهم قضية كهذه، وألف قضية من هذا النوع. أوري أرغون يقول ـ إن لم تخني الذاكرة ـ: كارل ماركس تردد بين الماديانية الجدلية والواقعية الجدلية. وريمون أرون يقول: إن مذهب ماركس ومذهب هيغل كلاهما مذهب منطق الواقع. هذا إعلان أن الواقع غير هدفي، غير رغبتي، ثمة واقع له منطق، هذا المنطق معطى وأكثر بكثير من معطى. كون الواقع معطى مباشراً يعني أنه كرسي وطاولة وجبل وواد.. لكن الأكسجين ليس معطى مباشراً تطلبت معرفته عملاً علمياً وتعباً. الإحساس مباشر، الإدراك ليس كذلك ولكن عند تحليل الإدراك تجد فيه عنصر الإحساس الذي هو استجابة عصبية. الواقع ليس ما نحسه، الواقع لـه منطق، ومنطقه غير منطقي أو منطقك أو منطق ستالين أو منطق حزب كذا ودولة كذا. كلمة ماديانية تعني هذا الأمر ويجب أن تعني هذا الأمر وهذا شيء عظيم.

قرأت مؤخراً أن كارل ماركس سخر من المادية، سخر من الكلمة والوصف ورأى أن المادية مذهب موليشوت وبوخنر وفوكت، أي المادية المبتذلة. في رسالة من ماركس إلى إنجلز يطلب فيها منه أن يكتب مقالة بتوقيعه دعاية لكتاب رأس المال، وينشرها في مجلة فوكت أو موليشوت، يقول فيها أن كتاب رأس المال مادياني لكي تفرح تلك الجماعة. وهكذا يتضح أن موقف ماركس كان سلبياً من مصطلح الماديانية. وتؤكد ذلك الأطروحات حول فيورباخ حيث يصف مذهبه بالماديانية قائلاً: إن الماديانية السابقة كلها بما فيها ماديانية فيورباخ لم تعرف الواقع أو الموضوع إلا على أنه موضوع وموضوع للرؤية والتأمل، ولم تنظر إليه من وجهة نظر عمل الإنسان ولم تنظر إليه (بصفته) ذاتياً (نشاطاً إنسانياً)(10) وأن هذا الجانب الأخير، الذاتية، والعمل البشري، قد بسطته وأنمته المثالية وهذه مأثرتها. وفي أطروحة أخرى عن فيورباخ يقول ماركس: إن وجهة نظر المادية السابقة هي المجتمع المدني، أما وجهة نظر الماديانية الجديدة (أي ماديانية ماركس وإنجلز) هي المجتمع الإنساني أو الإنسانية الاجتماعية. وكأنه هنا يسمي مذهبه الماديانية الجديدة في معارضة الماديانية القديمة(11). ويجب ألا ننسى عداء ماركس للعناوين فقد أكد أكثر من مرة أنه “ليس ماركسياً”. وإذا سألت ماركس عن رأي الماركسية في الفن الهندي سيقول: مدهش هذا السؤال. سلني عن رأيي، وإن قلت له ما رأيك، قد يقول: لا أعرف، أو يقول لك رأيي كذا وكذا. الغريب عندنا أن كل واحد يقول لك الماركسية تقول كذا وكذا والماركسية تقول كذا.. يجب أن نغير هذه الطريقة في الكلام، أو تجد من يقول لك نحن العرب كذا وكذا. اليوم تطرح المسألة كذلك في الندوات، لقد قلت لهم ليتكلم كل واحد باسمه، ما لكم تتكلمون باسم أمة من خولكم حق تمثيلها؟(12).

ـ ما زال هناك كهنوت ماركسي:

# كهنوت ماركسي. هذا غير معقول. يا أخي! الكنيسة الكاثوليكية التي هي أعظم مؤسسة دينية في التاريخ تجد البابا فيها يذكر يوحنا وبطرس ومئة شاهد على مدى مئتي عام ويذكر التوراة إذا أراد أن يتكلم عن شيء. نحن ألغينا الدنيا واكتفينا بترديد قال لينين وقال ماركس، وننسى أن هناك شيئاً آخر في التاريخ. أقول ما الثمن الذي دفعناه نتيجة هذه “المادية”؟ في رأيي أن تعليم هذه “المادية” التي هي الماركسية كان تخفيضاً للفكر. نرى ذلك بوضوح في مبادئ ستالين، فإنه عندما يصل إلى المبدأ السادس من مبادئه السبعة تراه يقول: المادة، الطبيعة، الوجود، هي الأول والفكر والوعي هو الثاني، الفكر انعكاس المادة، الفكر هو انعكاس الواقع في دماغ الإنسان، الفكر نتاج الدماغ، نتاج المادة المنظمة.. عند ضم هذا الكلام بعضه إلى بعض نجده، عملياً، تخفيضاً للفكر وتعظيماً للمادة = الطبيعة، وخاصة المادة، المادة.. أما الفكر فهو مخفض. هنا لي ملاحظتان: أولاهما أننا لو عدنا إلى بداية كتاب ستالين، على امتداد طرحه للديالكتيك وحديثه عنه لم يتعامل إلا مع الطبيعة حتى ليتصور القارئ أن المادة ليست سوى الموضوعات الطبيعية وظاهرات الطبيعة وأغراض الطبيعة، في حين أن ما حولنا ليس سوى العمل البشري، المدن والأرياف والحقول والمزارع والغابات والسدود والمصانع.. كلها نتاجات عمل بشري خلاق ومتواصل. الفلسفة الستالينية قامت في البداية على إلغاء العمل الإنساني، ومن ثم، إلغاء الفكر الإنساني، خفض ستالين الشغل البشري، العمل الإنساني والفكر، خفضهما بالتلازم وراح يمتدح “الفكر الثوري” و”الفكر الطليعي” و”النظرية الطليعية”، باتت النظرية الثورية الطليعية قادرة على خلق مجتمع اشتراكي، وضن علينا أن يكون فكر النجار يصنع الطاولة وفكر الحذاء يصنع الحذاء، وأن عمل البشر المسلح بفكر الإنسان قد صنع المدن والقرى. الماديانية الستالينية المستندة إلى لينين وأحياناً من غير لينين حقّرت الفكر وخفضته.

المبدأ السابع عند ستالين يقول: المادية، بعكس المثالية، تؤمن بأن المعرفة ممكنة، وبأن معرفتنا لقوانين الطبيعة صحيحة ويقينية، وتؤمن بأن كانط وبقية المثاليين مخطئون وضالون. طبعاً هذا الكلام الذي أسنده ستالين إلى إنجلز مخالف لإنجلز نصاً وروحاً، وكله غلط. إنجلز لم يقل إن كانط مثالي ولم يقل إن المثاليين ينكرون إمكانية المعرفة، بل، على العكس، أكد أن المثاليين والماديين يؤكدون إمكانية المعرفة، والذين يطعنون في هذه الإمكانية قلائل وأعظمهم هو كانط. المعرفة التي تسقط في اليقينية المطلقة هذه حماقة. ومن المهم أن نلاحظ هنا على صعيد المصطلح، على صعيد المعجم أو قاموس المصطلحات، المفاتيح العائدة للماركسيين والتي سيستعملها الناس، أن ستالين رفع من شأن المعرفة والعلم والمعرفة العلمية وخفض من الفكر وحط من شأنه، واسمحوا لي أن أقول: هذا الموقف يكرره ألتوسير ويكرره ربما محمد عابد الجابري، تكرره ندوات العرب: المعرفة، معرفة، علم، عقل.. أنا أريد الفكر. الفكر هو المقولة العميقة الواسعة، فكر أفلاطون وفكر النجار، أفلاطون والنجار أخوة ماركس ولينين معهم(13)، الفكر شغل المزارع والفلاح والعالم الكبير، شغل كل إنسان، شغل العالم الكبير وعالم الرياضيات وغرامشي معهم.. هذا قاموس واضح جداً، صادق جلال العظم ليس معهم أي إنه وأمثاله مغرمون بالمعرفة والعلم والعقل، أما الفكر والذهن والذكاء هذا القاموس الذي في رأس الإنسان ما هو؟ هذا الذي قبل أن توجد الفلسفة والعلوم. الإنسان اخترع بيتاً وقرية ودجن الحيوان واستنبت الحنطة.. واخترع الدولاب.. ونستطيع القول إن العالم المدني الذي نحن فيه هو من إنتاج الفكر الإنساني. إن ثمة تناغماً بين الستالينية والمنظومة الثقافية والأيديولوجية العربية الإسلامية الشرقية كل منهما يعزز الآخر. إن تسعة أعشار الناس عندنا، ومنهم مثقفون يعادلون أو يماثلون بين مقولة العالم ومقولة الطبيعة. مرة قال لي صديق عزيز جداً: العالم يعني الطبيعة، فقلت له: والله الطبيعة مفهوم واسع وضيق، العالم اثنان. فيورباخ البعيد عن الديالكتيك وعن التاريخية التقط هذه النقطة وأمسك بها ولينين سجلها عنه، إن العالم اثنان: العالم الطبيعي والعالم المدني، والعالم المدني كله من صنع الإنسان: الزراعة وتربية الحيوان والمدن والجامعات ودور العبادة وثقب طبقة الأوزون ومرض السيدا والحرب والسلم.. هذا هو العالم المدني، هذا صنع بني آدم، ليس من صنعهم الواعي أي أنهم قبل 500 سنة لم يكونوا يعرفون إلى أين سيصل التطور، فلولا الوعي الإنساني لم يوجد الشغل ولم يوجد شيء. ولعله يحق لي أن أعتز أنني في مناقشتي مع ساطع الحصري ذكرت مقولة الشغل عند ماركس وتفريقه بين شغل الإنسان وشغل النحلة. تستطيع النحلة أن تصنع خلية لا يستطيع أن يصنع مثلها أفضل مهندس معماري، لكن أسوأ مهندس معماري يمتاز على النحلة بأنه يصنع الخلية في رأسه أولاً. ولنكمل الكلام: المنتوج مسبق الوجود مثالياً في مخيلة الشغّيل. ويمكن أن نقول، مؤقتاً، إن الفكر، ولا سيما إذا عنينا فعاليات الفهم والاستقراء والاستنتاج والتحليل والتركيب، والتجريب بمعنى العزل العادي، الفكر مشترك بين الإنسان والقرد، والمصطلح الذي لا يصح على الحيوان، ويصح على الإنسان فقط هو مصطلح الوعي أو بالأصح الوجدان والضمير والوعي. بمَ يمتاز الوعي؟ بأنه يحمل فكرة المستقبل. يوجد مستقبل أي يوجد ماض وحاضر. الوعي خاص بالإنسان، خاصية الإنسان. بتعبير آخر الفكر الإنساني فكر اختراعي. فإلى أي مدى نحن العرب مؤمنون بفكرة الإبداع. خصصت مجلة الوحدة أحد أعدادها للإبداع، فكانت المسألة الأساسية المطروحة أن الله وحده هو خالق الأمتين (العالمين الطبيعي والمدني). لنتناقش بصراحة، يا جماعة إذا كنتم تؤمنون بهذا حقاً فلا بأس، ولكن ما معنى أن الإنسان خليفة الله، كيف هو خليفته؟ هنا ينفتح النقاش. أما نحن فنؤمن بالإبداع أي إننا نؤمن بأن هناك شيئاً جديداً على الدوام. إذا لم يكن الأمر كذلك فما معنى الحديث الذي لا ينقطع عن الحداثة والتحديث؟ نحن على ما يبدو نحب الحديث ولا نحب الجديد أو فكرة الجديد. لقد باتت فكرة الحداثة والحديث توحي لي بالحدث، بالحادثة، بالمصادفة، مع أن كلمة جديد في العربية أخت كلمة Oregenal. إن تاريخ 5000 سنة وراءنا هو تاريخ الأنوجاد، أنوجاد العالم المدني، تاريخ نتوج هذه الأشياء والعالم المدني من شغل البشر ومن فعالية البشر. الماركسية الستالينية لعنت هذا كله. هذا تجده عند ماركس وكانط وفيخته وهيغل وعند ديكارت، وستراه عند بيركلي أيضاً، لكنك تراه في الذروة عند كانط وفيخته وهيغل زمن الثورة الفرنسية.

أعود فأقول: من ضرب ضرب ومن هرب هرب، نقول بعد وقوع الواقعة: لنكن واقعيين. الجريمة المتأتية عن الماديانية هي إلغاء الفكر أو تخفيضه لمصلحة المادة، والحزب والنظرية، ولمصلحة الطبيعة والعلم والعلمي، وعلم السوربون ولمصلحة الفقه.. كأن الماركسية اللينينية كفت عن كونها فكراً، فكراً قابلاً للخطأ والصواب. هذا لا يقبله نجارعاقل أو طبّاخة ماهرة. الطباخة حين تحضر الطعام تضيف إليه شيئاً من إبداعها.

أنتقل الآن من مقولة الفكر إلى مقولة الوعي التي رفعت لواءها ـ كما تعرفون ـ منذ عشرين سنة. ولا شك أن ما كنت أقوله قبل عشرين سنة أقل بكثير مما يمكن أن أقوله اليوم، ولو أنني أعتقد أنه لا توجد قطيعة في هذا المسار. في الفرنسية توجد كلمة واحدة هي (Conscince) وفي الإنكليزية توجد كلمتان (Conciousness و Conscience) Conscience هي الضمير الأخلاقي، وكذلك Conciousness هي الوعي النظري. في العربية عندنا ثلاث كلمات: الضمير والوجدان والوعي. أنا اقترحت أن يكون الوجدان مقابل الوجود كلمةً شاملة، ولها جانبان: الوعي النظري والضمير الأخلاقي. ولنرفع لواء الضمير الأخلاقي والوعي النظري عالياً. أكاد أقول هذه مهمتنا الدائمة التي لا يجوز أن يكون هناك مهمة أعلى منها استراتيجياً وتكتيكياً أيضاً. هذا هو مدخلنا إلى الناس (ومفتاح نفوسهم وعقولهم). (Conscience) الفرنسية تتضمن (Science)، علم، وعلم بالمعنى الواسع الرحب والمقصود بالعلم هنا ألا أنتظر السوربون أو الأزهر، العلم هو الوعي، منذ بدأت البشرية ترقى من الحيوانية قبل آلاف السنين أخذ يتكون وعي غير حيواني. هذه مسيرة طويلة جداً، وبالمفهوم الهيغلي كذلك. يجب أن نأخذ حذرنا. اتفقنا أنا وأبو هيثم (ياسين الحافظ) مع العروي (عبد الله العروي) واختلفنا معه. العروي قال جملة شهيرة: أصول الماركسية عند الماركسيين، منابع الماركسية عند الماركسيين. كلنا نؤيد هذا، ولكن إيانا أن نفهم أن الفلاسفة أعداء بعضهم لبعض، الواقع ليس كذلك. يجب أن نمسك بالقواسم المشتركة بين جميع الفلاسفة. إن لهم موّالهم فوق إدراك عامة الناس. وعندما تقول إن المتصوفة والباطنيين لهم موالهم الأعلى من إدراك عامة الناس أقول مرحى لهم، أنا معهم، وهذا ليس احتقاراً لعامة الناس وليس سراً باطنياً. يعجبني من الباطنيين واحد في أوروبا قال: الحقيقة لا تخفي نفسها، الحقيقة تقف في الساحة وتقول للجمهور هذه أنا. الحقيقة ليست قلعة شامخة ومحصنة كي نرتفع إلى مستواها، ولكن علينا أن لا نخفّضها. كل الباطنية التي تعني التقية كذب ونفاق.

———

هوامش الحلقة الثانية:

(1) دأب المفكر الراحل الياس مرقص، على تأكيد أنه لا يمثل في قوله إلا نفسه، لا لكي ينفي عن نفسه “شبهة” الانتماء إلى تيار بعينه، أو اتجاه بعينه، بل ليؤكد أن الماركسية بدون مزدوجين ليست كنيسة، وليس لها قول واحد ونهائي في أي شيء وفي كل شيء، وإنها ليست حقيقة ناجزة وليست الحقيقة، بل هي، هنا، منهج، نظرية معرفة، وليست المعرفة. وليؤكد أيضاً أن علم الإنسان ـ الفرد ناقص دوماً. ولعل الأهم من ذلك ميله إلى توكيد الـ أنا والـ “أنا أفكر” فمن دون أنا ليس هناك نحن. الأنا (الفرد) واقع عياني والـ نحن علاقة وعلاقات واجتماع وليس جمعاً. وإن التفكير دوماً فردي طابعه العام اجتماعي وإنساني، أو له بعدان اجتماعي وآخر إنساني ملازمان لوظيفته. وهو ما يظهر جلياً في العمل وفي الإنتاج الاجتماعي. ولا بد من الإشارة إلى أن الـ نحن الكلي هو أساس الـ أنا الفردي وحدُّه في الوقت ذاته، فليس للأنا أن يعدو أساسه أو يتجاوز حده. إن كل من يتحدث باسم الشعب أو الأمة أو الطبقة… إلخ بلا تفويض إنما يتجاوز حده. وإن الـ نحن من دون أنا عدم وخواء. لذلك كان يقول دوماً: عندما تصبح الأمة العربية مليوني أنا وأنا أفكر تكون قضية الوحدة العربية قد خطت خطوتها الأولى. في ضوء هذه الحيثية تبدو قضية الوحدة العربية قضية ديمقراطية.

 (2) اللحظتان المعنيتان هما: 1 ـ لحظة الإنسان محدداً بذاته، يستمد قيمته من ذاته بصفته كائناً نوعياً، وهو الذي يعطي الأشياء قيمتها. 2 ـ لحظة الإنسان محدداً بعلاقاته الضرورية بعالمه الطبيعي والاجتماعي يستمد قيمته من هذه العلاقات ذاتها. تناقض اللحظتين تناقض جدلي إذ لا تكون إحداهما من دون الأخرى وكل منهما تنقلب إلى نقيضها. ويمكن مقاربتهما بمقولتي الوجود الخالص والوجود المعيَّن، أو بالوجود والكينونة. هكذا يتأسس الديالكتيك على مفهوم الإنسان، ويغدو مفهوماً القول إن العالم الفعلي هو عالم الإنسان، وأن التاريخ هو تاريخه. ويتبين لنا الخيط الذي يصل ماركس ببروتاغوراس وسقراط وأرسطو وكذلك بكانط وفيخته وهيغل.

 (3) نصل بالفكر، بالتجريد، إلى اللامتعيِّن القابل للتعُّين والتشكُّل. هذا اللامتعيِّن، المادة، هو أساس المتعيِّن وحدُّه. هذا اللامتعيِّن هو المطلق واللامتناهي أساس النسبي والمتناهي. تجاهل هذا الأساس والحد أو جهلهما أو حذفهما هو حذف للروحية والفكرية والمفهومية وسقوط في الشيئية الوثنية سمة الوضعانية المعاصرة وأس الاستبداد. المادة والروح كلاهما  يقعان، بالتقابل، في دائرة المطلقÜ Üواللامتناهي ويحدان النسبي والمتناهي، هكذا يتأسس مفهوم الكينونة ومفهوم الإنسان. الإنسان هو وحدة المتناهي (الفرد) واللامتناهي (النوع).

** كنت قد أشرت هنا إلى أن التجريد هو حذف أو نفي الصفات أو التعيينات إلى النهاية والنفي لا يقع إلا على متعيِّن، فإذا نفينا عن الشيء جميع كيفاته وتعييناته إلى النهاية نصل إلى المادة، إلى الإيجاب الخالص أو الوجود الخالص (بحسب هيغل) (وكذلك إذا نفينا عن الفرد البشري جميع تعييناته نصل إلى الإنسان، إلى الروح الإنساني). والوجود الخالص القايل للتعين يحمل سلبه في ذاته، وهو الحد النهائي لعملية النفي. وعند هيغل الوجود الخالص هو العدم الخالص. في نهاية النفي هناك الإثبات. وتنتهي عملية النفي عندما لا يظل هناك ما يمكن نفيه فنصل إلى نفي النفي. ونفي النفي إثبات أو إيجاب. ويمكن أن نقول إزاء فكرة سبينوزا “كل تعيين هو نفي” إن كل نفي هو إثبات، وإلا انتهينا إلى العدمية والإلحاد. الإيجاب يضع السلب فلا يقوم إلا به.

 (4) ثمة صفان من المقولات/ المفاهيم، المادة والوجود والواقع والطبيعة، والكائن والفيزيقي من جهة والروح والوعـي والفكر وما فوق الطبيعـة ونظرية الكـائن والميتافيزيقي من Ü Ü جهة أخرى، وهما مصفوفتان على التقابل والتعارض أو التناقض: المادة/ الروح والوجود/ الوعي والواقع/ الفكر..إلخ. افتراض الترادف خلط وتلبيس. المادة تتحول إلى روح والروح يتحول إلى مادة، الوجود إلى وعي والوعي يتحول إلى وجود، الفكر يتحول إلى واقع والواقع يتحول إلى فكر، وذلك بتوسط الشغل والعمل والإنتاج. وثمة علاقة بين المادة والروح، بين الوعي والوجود، بين الفكر والواقع، علاقة في الاتجاهين، والعلاقة هي العقالة والعقل.

 (5) حين نقول عن هذا الشيء أو ذاك أنه مادة نكون قد أذبنا أو بخرنا جميع تعييناته وصفاته وخصائصه وهدمنا جميع الفروق/ الحدود التي تفرقه عن غيره من الأشياء، ونكون بذلك قد هدمنا المعرفة ذاتها التي تبدأ بتعيين الفروق ووضع الحدود: هذا الشيء غير ذلك، جميع الأشياء مختلفة ومتفارقة ومتماثلة في الماهية وليس في الهوية.

 (6) المادة في شكلها الأولي هي المادة المتعينة: الخشب والحديد والصلصال والألوان والأصوات.. إذ لا مادة بلا شكل ولا شكل بلا مادة، مثلما لا مادة بلا حركة ولا حركة بلا مادة. الشكل والحركة هما المكان والزمان ومن هنا كان التاريخ تنويعة على الأشكال، التاريخÜ Ü هو الحركة وتغير الأشكال إلى ما لا نهاية. والعمل البشري صانع التاريخ هو قوة العمل ومادته وأداته وغايته معاً.

وحدة العالم تتقوَّم بماديته (إنجلز). والعالم هنا هو عالم الإنسان يصنعه الإنسان بالعمل. المادة قابلة للتشكُّل، والعمل هو الذي يشكلها ويعيد تشكيلها. ليس بوسع الإنسان أن يضيف إلى العالم عنصراً أو يحذف منه عنصراً، ليس بوسعه سوى تغيير الأشكال.

 (7) قسمة الفلاسفة إلى ماديين ومثاليين لا تجوز إلا في المسألة الفلسفية الأولى، مسألة أيهما أولاً المادة أو الوعي، المادة أم الروح والفكر.. التعارض بين المادوي والمثالي في هذه المسألة فقط تعارض مطلق، كما يقول ماركس، أما في ما عدا ذلك فالتعارض نسبي والقسمة زائفة أو أيديولوجية ما أن تتجاوز هذه القسمة المسألة الفلسفية الأولى أو تتعداها. وما أن نتعدى هذه المسألة حتى نغدو أمام المسألة الفلسفية الكبرى المشتركة بين هؤلاء وأولئك أعني مسألة العلاقة بين الذات والموضوع، بين الفكر والواقع، بين الإنسان والعالم. في هذه المسألة تتعدد زوايا النظر وتختلف الرؤى والأفكار وكلها مشروعة ومسوغة عقلياً، وهذان التعدد والاختلاف هما مصدر الغنى والتنوع في الفكر البشري وفي العمل البشري.

 (8) لعله يريد هنا أن الإرادوية المقترنة بالنظر إلى المجتمع على أنه “مادة” وموضوع للإرادة الثورية هي نقيض الواقعية. لا سيما أن الإرادوية تستند إلى مرجعية أيديولوجية تحمل غالباً تصوراً وهمياً وإيهامياً عن الواقع يسوغ سياسات السلطة وأفعال القادة وأعمالهم، وتحمل على الانطلاق من الهدف إلى الواقع، من دون مساءلة الذات ونقد الهدف. لا شك أن عملية تحويل العالم هدف مسوغ أخلاقياً، ولكن، في أي اتجاه؟ في اتجاه دكتاتورية الحزب وإقامة دولة الامتيازات والفساد، أم في اتجاه جعل العالم إنسانياً. كان ماركس يتحدث عن نهاية الفلسفة بجعل العالم فلسفياً أي بجعل قيم الخير والحق والجمال التي حملتها الفلسفة واقعاً محققاً. وكان يتحدث كذلك عن نهاية الدين بجعل القيم التي حملها الدين كالمحبة والرحمة والإخاء والعدل Ü    Üوالمساواة.. واقعاً فعلياً، أي بدحض أوهام الواقع وجعله لا   يحتاج إلى أوهام. فقط حين   يتحرر الإنسان ذاتياً وموضوعياً لا يعود في حاجة إلى أوهام، لا يعود في حاجة إلى خلاص وهمي.

 (9) في العربية، وغيرها من اللغات، تتعدد الصفات للموصوف الواحد. فالوصف أو النعت تعيين، حد وفرق. وكل تعيين هو نفي. والشيء المعيَّن هو الذي اكتملت تعييناته (صفاته ونعوته) وحدوده التي تميزه من غيره وتربطه به وفق مبدأ المجموعات. فحين أصف طاولتي بأنها مستطيلة أنفي عنها التربيع والتدوير، وحين أصفها بأنها خشبية  أميزها من الطاولات المعدنية أو البلاستيكية، وحين أصفها بأنها مصنوعة من خشب السنديان أميزها من الطاولات المصنوعة من أنواع الخشب الأخرى، إلى آخر ما هنالك من الصفات والتعيينات. وفيÜ  Ü العربية، وغيرها، تتعدد الأحوال، ويتعدد خبر المبتدأ، ولذلك صلة وثيقة بالمنطق منطق الواقع مجموعة الطاولات الخشبية عامة، وإلى مجموعة الطاولات المصنوعة من خشب السنديان عامة..إلخ. إذ كل واحدة من صفاتها تربطها بجميع العناصر الأخرى المشابهة والمماثلة، فالاختلاف قائم في التشابه والتماثل لا ينفك عنهما ولا يقوم من دونهما. وقل مثل ذلك في كل شيء وفي كل فرد. وربما الأهم من ذلك كله أن الموصوف لا يستنفد في الصفة. هذه بداية المعرفة.

 (10) بما أن هذه الأحاديث اعتمدت على الذاكرة فقط، فإن الأطروحة الأولى حول فيورباخ تقول: إن النقيصة الرئيسية في المادية السابقة بأسرها، بما فيها مادية فيورباخ، هي أن الشيء (Gegnestand)، الواقع، الحساسية لم تعرض فيها إلا بشكل موضوع (Objekt) أو بشكل تأمل (Anschavung) لا بشكل نشاط إنساني حسي، لا بشكل نشاط، لا من وجهة النظر الذاتية، ونجم عن ذلك أن الجانب العملي، بخلاف المادية، إنما طورته المثالية لكن فقطÜ Ü بشكل تجريدي، لأن المثالية لا تعرف، بطبيعة الحال، النشاط الواقعي الحسي كما هو. وفيورباخ يريد الموضوعات الحسية التي تتميز في الحقيقة عن الموضوعات الفكرية، ولكنه لا ينظر إلى النشاط الإنساني نفسه بوصفه نشاطاً واقعياً (Gegenstandliche). ولهذا لم يعتبر في كتابه “جوهر المسيحية” شيئاً إنسانياً حقاً إلا النشاط النظري، في حين أنه لم ينظر إلى النشاط العملي ولم يحدده إلا من حيث شكله التجاري الوسخ، ولهذا لا يدرك أهمية النشاط “الثوري” النقدي العملي. (إنجلز ـ لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكيةالألمانية ـ دار التقدم ـ موسكو ص66). ولا يخفى على القارئ أن الترجمة إلى العربية ملتبسة هنا أيضاً، لكن الشاهد في هذه الأطروحة أن النشاط الإنساني النشاط الفكري هو نشاط واقعي.

 (11) تقول الأطروحة العاشرة حول فيورباخ: إن وجهة نظر المادية القديمة هي المجتمع “المدني”؛ ووجهة نظر المادية الجديدة هي المجتمع الإنساني، أو الإنسانية التي تتسم بطابع اجتماعي. (المصدر السابق نفسه ص69).

 (12) أجل في الخطاب العربي السياسي والثقافي على السواء تسمع دائماً نحن العرب فعلنا كذا وكذا في الماضي أو نحن العرب نريد كذا وكذا اليوم. أولاً ليس هناك “نحن” من دون أناÜ Ü والأنا أبدأ لأنها تحيل على الواقع العياني واقع التعدد والاختلاف والتعارض. ثانياً عرب اليوم ليسوا عرب الأمس، عرب اليوم لم يفتحوا الهند والسند والأندلس.. لم يبنوا امبراطورية مترامية الأطراف. عرب اليوم عربان يتخبطون في ليل التأخر والهزيمة. وعرب اليوم ليسوا كذلك الذين أطلقوا محاولة النهضة الأولى، بل هم أولادهم وأحفادهم. قلما يتحدث الخطاب العربي عن عرب اليوم بل يتحدث عن أمة عربية ومجتمع عربي بالمفرد ولا يقبل المتحدث أن تكون الأمة والمجتمع على نحو مختلف عن الصورة التي في ذهنه عنهما.

 (13) أفلاطون وماركس والنجار والحرفي والزارع والصانع أخوة في الفكر. لعل هذه الأخوة في الفكر، لعل هذا الاشتراك في الفكر يمت بصلة للديمقراطية، إن لم أقل إنه جذرها المعرفي. الإنسان خطّاء والفكر ليس منزهاً ولا معصوماً. البشر متماثلون في الفكر، وفيÜ   Üقابلية الخطأ والصواب، ذلكم هو الأساس المعرفي للديمقراطية باعتقادي.. الاعتراف بإمكانية خطأ الذات هو الضمانة الأساسية لقبول الآخر والاعتراف بحقه في الكلام وباحتمال أن يكون محقاً في رأيه. يبدو لي أن إعلاء شأن الفكر وإقامة الحد على “اليقين العلمي” وعلى “النظرية العلمية” (ما أكثر الذين يعرفون الماركسية بأنها نظرية علمية) وعلى معصومية العلم هو إعلاء لشأن الإنسان وحرية الفرد وتوكيد العلاقة بين الفكر والعمل، بين الفكر والواقع، بين الوعي والوجود. فالعمل البشري فكر متحقق بالفعل وفكره عمل موجود بالقوة لا يتحقق بالفعل إلا بتضافره مع قوة العمل ومادته وأدواته وغايته التي هي تلبية حاجة بشرية اجتماعية. واعتراف بعدم وجود حقيقة ناجزة ونهائية، ونزع لطابع العصمة والقداسة عن الأفكار والنظريات والأيديولوجيات والقادة والأحزاب..إلخ وإعلاء شأن الفكر إعلاء لشأن الإبداع واعتراف بأنه أي الإبداع قسمة مشتركة بين البشر. فكل عامل في حقل من الحقول أو ميدان من الميادين يتوفر على إمكانية الإبداع أو ملكة الإبداع والأسرة والمجتمع والدولة هي التي ترعى هذه الملكات وتتعهدها بالتربية بشرط أن تعترف الأسرة والمجتمع والدولة بحرية الفكر وقيمة الإبداع وذلك بأن تعترف اعترافاً مبدئياً ونهائياً بقيمة الفرد وحريته وبحقوق الأفراد المتساوية بغض النظر عن الفروق كائنة ما كانت. وأن تعترف بأن الأعراف والقونين والتشريعات والشرائع توجد من أجل الإنسان ولا يوجد الإنسان من أجلها. ثم إن أخوة ماركس وأفلاطون والنجار والحرفي.. تعني أن كلاً منهم يقوم بعمل ضروري للآخرين، بوظيفة اجتماعية ضرورية. إن ذلك التماثل يؤسس هذا الاختلاف.

……………….

جاد الكريم الجباعي

مفكر سوري، مجاز في علوم اللغة العربية وآدابها من جامعة دمشق، مهتم بالفلسفة المدنية وقضايا الديمقراطية والمجتمع المدني والدولة الوطنية وحقوق الإنسان والمواطن، له عشرات المقالات والأبحاث والدراسات والكتب.

 

—————
يتبع.. الحلقة الثالثة: الفصل الأول/ ثانياً

التعليقات مغلقة.