خالد بريش *
من نافلة القول إن اللغة العربية من اللغات الحية، وفي تفاعل مستمر لا يتوقف، وإلا لكانت اندثرت كلغات كثيرة عرفتها البشرية، مثل الآشورية، والسومرية، والفرعونية، والسنسكريتية، التي أصبحت اليوم مقصورة على قلة من المتخصصين والباحثين.
غير أن من يزور بعض بلاد العروبة اليوم، سوف يُصْدم، كون اللغة العربية تراجعت في مجتمعاتها، ولم يعد لها مركز الصدارة في التواصل بين شرائحها المثقفة، والمتعلمة تعليما عاليا، خصوصا الشرائح المتخصصة في العلوم التطبيقية والعملية.
ويعتقد البعض، أن المشكلة تكمن في بُنْية اللغة نفسها وقواعدها. بينما يعتبر آخرون، أن المشكلة في عدم تحديث القاموس العربي، بشكل مستمر، وافتقار اللغة العربية إلى المصطلحات المستجدة، في المجالات العلمية والتقنية. وفي خضم سيطرة لغات أجنبية عديدة في مقدمتها الإنكليزية والفرنسية، على الحياة الثقافية، والتواصل بين الأفراد في بعض أوساط مجتمعاتنا، واحتلالها للصدارة عوض اللغة العربية، تعلو أصوات تدعو لإنقاذ اللغة العربية من تقهقرها، أمام اللغات الأخرى. وللأسف فإنه في كل مرة تم فيها الإصلاح، كان على حساب اللغة العربية ودورها. كما حدث عندما أصلحت المناهج، وأبعدت عنها المتون التي كانت تسهل حفظ القواعد واستحضارها، ما أحدث فجوة في المناهج، وكذلك الأمر عندما أبعدت شواهد الشعر الجاهلي، والأبيات الحكمية، عن بعض مناهج البلاد العربية. وحلت محلها شواهد هزيلة، فخسر الطالب إضافات، وثراء لغويا، خصوصا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما كان يقوم به المدرس من شرح لتلك الأبيات، ومناسباتها، والأهم من كل ذلك إعرابها.
وكذلك علت أصوات أخرى تنادي بتطوير اللغة العربية، وهؤلاء لم يدركوا أن تطور اللغات لا يأتي من الخارج، بل هو ديناميكية ذاتية، وهم ينظرون إلى الموضوع من زاوية واحدة، بدون أن تكون لديهم نظرة شمولية واعية، بطبيعة اللغة العربية كلغة سامية. وأنها تشكل نظاما متكاملا؛ تركيبا وتناسق حروف، ولفظا وصوتا وإيقاعا. وإن دلت تلك الدعوات على شيء، فإنها تدل على عدم تعمق هؤلاء في دراسة هندسة اللغة العربية، ولا صوتيات حروفها، وقوالبها وتركيباتها اللغوية. وقد تضمنت دعوات التطوير هذه عدة مناح أهمها:
إضافة العامية إلى القاموس:
إن الدعوة إلى إدخال اللهجات العامية في القاموس العربي، واعتمادها في الكتابة، هي في أساسها دعوات استشراقية محضة، نادى بها أتباعهم من أبناء جلدتنا، في مطلع القرن الماضي في مصر ولبنان. دعوات تغيب ثم تعود، في كل مرة دبَّ الضعف في مجتمعاتنا. وقد ساعد على إطلالها برأسها في هذه المرحلة، انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، حيث لا رقيب ولا حسيب، ولا التزام بقاعدة لما يُكتب ويُنشر. ودعاة ذلك، يدركون أنهم سوف يخرجون من تحت عباءة الفصحى، التي من الممكن فهمها من قبل الجميع، ويُقْصون بذلك المحبين للعربية، والناطقين بها من غير العرب، في افريقيا وإندونيسيا والهند وباكستان وغيرها، الذين يكادون يتساوون مع العرب عددا. والحديث عن العامية وإدخالها في القاموس العربي، يدفعنا إلى التساؤل: أي عامية نُدْخل؟ إذ أن تبني عامية مقولبة، ومقننة في الكتابة، سوف يستدعي دخول عاميات كثيرة، ما يعني تشظيا بلا حدود في لغتنا الجميلة، هذا إذا علمنا أن المدينة الواحدة، توجد فيها عاميات، وليس عامية واحدة، وذلك بسبب التفاوت الاقتصادي والاجتماعي. ففي مدينة كالقاهرة مثلا، فإن ما يُسْتخدم في مصر الجديدة من تعابير عامية، يختلف عما يُسْتخدم في الحِلْمية، أو الزمالك، وأن اللفظة العامية الواحدة لا تلفظ بالطريقة نفسها، وهذا ينطبق على كل مدننا العربية بلا استثناء.
فصل تعليم اللغة العربية عن القرآن:
وهي دعوة، أشبه ما تكون بعملية استئصال للقلب من الجسد، كون اللغة العربية تفقد بذلك قلبها النابض، وأهم سند ومرجع. فيسهل في ما بعد هدم بنيانها. فالقرآن الكريم أعطى للعربية قيمة ميزتها على بقية اللغات الإنسانية.. وشكّل على مرِّ العصور الحصن الذي حماها، وحفظ قواعدها. وأصبحت محفوظة بحفظه. وأن كثيرا من التعابير والقوالب اللغوية والتراكيب، لولا تردادها في العبادات، وقراءة القرآن الكريم، لاندثرت. وكذلك شكّلت آياته التي لم تتغير أو تتبدل، شواهد على القواعد النحوية. وعلى مرّ التاريخ كان القرآن الكريم الملاذ، كلما توجهت السهام على اللغة. وتعتبر الجزائر مثالا حيا لما نقول، حيث شكل تعلم وتعليم القرآن بالنسبة للجزائريين، حصنا لغويا وثقافيا في مواجهة استعمار، مارس محو الهوية اللغوية والإنسانية. هادفا إلى تدمير كل ما يربطها بماضيها لغة وتاريخا ضمن خطط ممنهجة. وقبلها في بغداد، عندما تعرضت لهجوم كاسح من المغول، الذين هدموا مكتباتها وأحرقوا وأغرقوا في مياه دجلة، كتب اللغة والآداب، والعلوم المختلفة.
الكتابة بأحرف لاتينية:
ظهرت الدعوة إلى تغيير الحرف العربي، واستبداله باللاتيني، بعد سقوط السلطنة العثمانية، تقليدا لما حصل حينذاك في تركيا، ثم ما لبثت أن خبت. لتعود للظهور من جديد بحجة التماشي مع العصر، ولكون الجيل الجديد، أكثر تآلفا مع الحروف اللاتينية وكتابتها، ما يسهل عليه التواصل والكتابة، ما يعني انفصالنا بشكل كلي عن تراثنا الممتد أكثر من خمسة عشر قرنا. لتتحول بالتالي لغتنا العربية التي في بطون الكتب والمخطوطات بالنسبة للأجيال القادمة إلى طلاسم. كما هو حال اللغة التركية العثمانية (Turc ottoman) التي خسر الأتراك بتغييرهم لحروفها العربية، كما كبيرا لا يحصى من تراثهم وتاريخهم وآدابهم. وثمار علوم كتبت بالأحرف العربية. وانقطعت علاقتهم بها، وأصبح لا يجيد قراءتها إلا المختصون منهم، وهم قلة قليلة. وتبعهم في ذلك للأسف إخوتنا الأمازيغ، بينما رفض الإخوة الأكراد تغيير حروف لغتهم. على الرغم من المغريات الغربية، الأشبه بالضغوطات.
حذف بعض القواعد النحوية:
يعتقد فريق من الداعين إلى التطوير، أن إلغاء بعض قواعد النحو، سوف يُسهِّل دراسة اللغة العربية، وذلك كإلغاء قواعد الممنوع من الصرف. وتوحيد كتابة الهمزة، والأرقام. ومعلوم أن إلغاء أي قاعدة اليوم، سيكون مسوغا لإلغاء قواعد أخرى، لنصل إلى مرحلة تصبح فيه لغتنا عرضة للتلاعب والأهواء. ولا بد من الإشارة إلى أن مصاعب النحو ليست خاصة بلغتنا فقط، بل هي موجودة في كل اللغات الأخرى. ففي اللغة الفرنسية مثلا، نجد أن كل قاعدة من قواعدها، تحوي كما من الاستثناءات، وفي نهاية نص أي قاعدة، تطالعنا كلمة « mais / ولكن ». فغدا ذلك مثلا: « L’exception qui confirme la règle » أي، الاستثناء يؤكد القاعدة.
والجدير بالذكر، أن غالبية الداعين إلى تطوير اللغة العربية من العرب، ينكرون وجود لغة عربية أصلا، ويعتقدون أن العربية تجمعت مفرداتها من لغات سامية كالآرامية والسريانية والعبرية… أو هي عبارة عن لهجة ملحقة بتلك اللغات، وأنها ليست لغة أصيلة قائمة بذاتها. وهذه المقولة في حقيقتها صدى لآراء المستشرقين غير المنصفين، من أبناء مدرسة الاستعمار، الذين أفلت شمسهم. فهم لا ينكرون على الفرنسية الأصول اللاتينية، والأخذ من اللغة الألمانية الجرمانية، والعكس، ويعتبرون ذلك تلاقحا طبيعيا بين اللغات، ولكن عندما يتعلق الأمر باللغة العربية، وعلاقتها باللغات السامية الأخرى، فهو حجة تؤيد آراءهم، وتنفي عن العربية صفة الاستقلالية وهناك أصوات أخرى تردد عدم مقدرة اللغة العربية على استيعاب العلوم التطبيقية، متناسين أن اللغات الأوروبية، المختلفة تضم في صفحات قواميسها، كما كبيرا من المفردات والمصطلحات العربية، في العلوم التطبيقية المختلفة، المستخدمة حتى يومنا هذا، التي لا تزال تحتفظ بصرير أقلام من نحتها واجترحها، وأن مقدرة اللغة العربية على استيعاب العلوم والمعارف، لا تحتاج إلى كثير عناء، لأن اللغة التي حملت على عاتقها العلوم والمعارف طيلة قرون، ما زالت قادرة على ذلك بجهد أقل من اللغة اليابانية والبلغارية والتركية، مع العلم أن سوريا تدرس هذه العلوم في جامعاتها حتى يومنا هذا بالعربية، وأن بلادا مثل بلغاريا وهنغاريا ورومانيا وبولونيا تدرس هذه العلوم بلغاتها الوطنية، إلى جانب الإنكليزية تبعا للجامعة. إن المشكلة اليوم، ليست في اللغة نفسها، بل في عدم وجود القرار السياسي الذي يفرضها، ويهيئ كل الأطر العلمية والإعلامية، لتعزيز مكانتها في المجتمع، من خلال إعداد جيد للمختصين والباحثين، والمدرسين المؤهلين إنسانيا ومعرفيا، وأنه لا بد من تفعيل مجامع اللغة العربية العديدة. وإعطائها الإمكانيات، والأدوات اللازمة، وإبعادها عن الشللية، والمناصب التشريفية، والتشجيع على الترجمة بشكل مستمر، لكل جديد في مجالات العلوم المختلفة، والآداب والفنون، بدون قيود وانتقائية ممجوجة.. وفرز سياسي وفكري، وإسناد ذلك إلى اختصاصيين فعليين في اللغتين.
لقد آن الأوان لإعادة النظر في مناهج تعليم اللغة العربية التي ثبت فشلها، وسد الثغرات فيها بالتشاور مع المدرسين والمختصين، الذين يعرفون أماكن الخلل، وأيضا من خلال تطوير طرق التدريس، وإعداد المدرسين، عبر الدورات التدريبية المكثفة، ولا بد من القيام أيضا بدورات تدريبية، ومحترفات لغوية، لقواعد النحو للناطقين بالعربية، من كل الفئات بشكل مستمر، من أجل تدعيم وضع اللغة العربية لدى الأفراد وفي المجتمعات. وأن يعمم ذلك على كل المدارس والجامعات والمدن والقرى، وأن يوضع لذلك مناهج خاصة، ويتم إعداد مدرسين ذوي كفاءة للقيام بهذه المهمة. وبالتوازي مع ذلك يجب أن تفرض اللغة العربية على الكليات والأقسام العلمية المختلفة كافة كمادة أساس. وتدريسها من خلال المصطلحات الخاصة بتلك التخصصات. عبر مناهج معدة خصيصا كمرحلة أولى. للوصول في مرحلة لاحقة، إلى تدريس كل المواد العلمية باللغة العربية.
* كاتب وباحث لبناني
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.