عبد الحميد صيام *
عشر سنوات مرّت على حادثة محمد بوعزيزي في بلدة سيدي بوزيد التونسية، التي لم تؤد فقط إلى إشعال النار في جسده النحيل، بل أشعلت الحرائق في معظم أرجاء الوطن العربي، من الرباط غربا إلى المنامة شرقا. وقد تصدرت المشهد التحليلي للظاهرة منذ ذلك اليوم وحتى الآن نظريتان، الأولى على قلتها وركاكتها تقول إن كل ما جرى عبارة عن مؤامرة غربية، تم تحضيرها بعناية في مختبرات القوى الغربية والصهاينة وعملائهم. والنظرية الثانية التي حظيت بتحليلات واسعة جدا من لدن الأكاديميين والمثقفين المفكرين العرب وغير العرب، إن ما جرى كان نتيجة طبيعية للاحتقان والغضب والقهر، والذل والتهميش والعنف والعذاب المخزّن لدى الجماهير العربية في معظم البلدان العربية، كما سنفصل لاحقا.
هذه الثورات العفوية غير المنظمة أرسلت رسالة خطيرة لقوى الشر والطغيان وبؤر التآمر على الأمة، بأن لصبر الجماهير حدودا، فتحالفت كل تلك القوى لإجهاضها. إن الترويج لنظرية المؤامرة إهانة للشعوب العربية، التي نزلت بالملايين إلى الشوارع لتغلق ملف الطغاة الواحد بعد الآخر. فمن غير المقبول أن نتهم هذه الملايين بأنها تتحرك بناء على تعليمات ديفيد ليفي، أو ساركوزي أو سي آي أيه. إنها ثورات حقيقية شريفة، تحاول جادة أن تصل إلى النهاية السعيدة، رغم العديد من الأخطاء والمطبات والأفخاخ التي نصبت لها من الأيام الأولى.
شروط قيام الثورات الشعبية:
هناك أسباب موضوعية تؤدي، إذا ما تجمعت في بلد ما، إلى انطلاق ثورة شعبية، بغض النظر عن فرص نجاح الثورة واحتمالية انحراف مسارها، في ما بعد، أو نكوصها كليا. وعادة تمر الثورة في ثلاث مراحل: مرحلة الانفجار الذي يؤدي إلى انهيار النظام السابق، وقد تأخذ أسابيع أو شهورا أو أكثر. يلي ذلك المرحلة الانتقالية التي قد تأخذ عدة سنوات. ومرحلة النكوص أو الانقضاض على الثورة تأتي في هذه المرحلة من قبل قوى الثورة المضادة والمتضررين من التحول، وقد تتعرض هذه المرحلة إلى حركات تصحيحية متتالية، وقد تفشل كليا ويكون الوريث نظاما دمويا أكثر عنفا وسلطوية من النظام السابق. وبعد المرور من نفق المرحلة الانتقالية، تأتي المرحلة الثالثة، وهي مرحلة الاستقرار، التي ستأخذ وقتا أيضا لتصحيح ذيول المراحل السابقة وكسب ثقة الجماهير، واستتباب الأمن، وثبات المؤسسات التشريعية والقضائية واعتماد الدستور ونظام تبادل السلطة.
الوضع العربي عشية الانفجار:
لقد أجرى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عدة استطلاعات للرأي لنشرها في تقرير التنمية المستدامة للعالم العربي، وكان آخرها عام 2010 شمل أكثر من 30000 شخص في عشر دول، وغطى فئات عمرية متنوعة. لقد وضع هدف نهاية الاحتلال على رأس قائمة الأولويات للمستطلعة آراؤهم. وجاءت في المراتب الثلاث اللاحقة: حرية الرأي، وحرية التجمع وحرية الحركة، وهي من صلب العملية الديمقراطية، ثم التخلص من الجهل والحرية في الزواج والمساواة أمام القانون والتخلص من الفقر والحق في التملك والتخلص من الجوع. إذن الشعوب العربية كغيرها من شعوب الأرض تبحث عن حرية الرأي والكرامة، والعمل الشريف، ونظام لا يقوم على الفساد والمحسوبية، واستغلال الدين لخدمة الطاغية. كما أشارت العشرات من الدراسات الجادة التي ظهرت بعد انطلاق الربيع العربي، أن هناك ظواهر مشتركة عمت الوطن العربي من محيطه إلى خليجه، في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، خاصة ظاهرة «الرئاسة مدى الحياة» سواء كان الحاكم ملكا، أم رئيسا أم أميرا. كما أن الفساد نخر في أجسام هذه الدول، ليس على مستوى الطبقات الطفيلية والشرائح العليا، بل على كافة المستويات، بل أصبح الفساد هو الأمر الطبيعي، والانضباط للقانون ورفض الرشوة والتعيين على الكفاءة، هي الأمور الشاذة وغير المتبعة. لقد صنف العراق والصومال على مؤشر الفساد في المرتبة 176 من مجموع 179 دولة ومصر 111 وتونس 65 والسعودية 63 والأردن 49. كما همش شباب هذه الأمة الذين يزيدون عن 70% من السكان تصل نسبة البطالة بينهم إلى 40%. ففي مصر وحدها كان هناك سبعة ملايين جامعي بدون عمل عام 2010. ووصل عدد فقراء الأمة العربية إلى 40% أي نحو 140 مليون إنسان، بينما تحتفل دبي بافتتاح برج خليفة، وتصرف 25 مليون دولار على الألعاب النارية فقط.
انتشرت ظاهرة قمع الأجهزة الأمنية لكل صوت معارض، حيث تغولت أنظمة الطغاة فيها لدرجة خيالية، وأصبحت، معظمها إن لم يكن كلها، تشكل خطرا حقيقيا على شعوبها وعلى جيرانها، وراحت تفصل الدساتير على مقاسها ومقاس أولادها، وتقمع أي تحرك أو معارضة مباشرة أو غير مباشرة، ولجأ بعضها إلى العنف المفرط وتزوير الانتخابات وإثارة النعرات الطائفية، وافتعال أزمة مع بلد مجاور للتغطية على المصائب التي ألحقتها بالوضع الداخلي. كما انتشرت في هذه الدول جماعات سلفية، تهتم بهوامش الأمور وتبتعد عن نقد النظام وفساده وبطشه، وتدعو للحجاب أكثر مما تدعو للعدل والمساواة، بمساعدة قنوات فضائية هابطة، تصور المرأة إما راقصة بقليل من الثياب تتلوى أمام مغن تافه، أو ملفوفة بعباءة سوداء تحولها إلى «شيء» لا إلى إنسان. لقد تحولت الأنظمة الجمهورية إلى أنظمة ملكية سلطانية تورث أولادها أو تستعد لتوريثهم، وكادت تختفي الفروق بين أكثر الدول تخلفا، وأكثر الدول ادعاء بالثورية، فسوريا تديرها عائلة الأسد، كما تدير عائلة سعود السعودية، وجماهيرية العقيد تحولت إلى قطعة عقار لمعمر وأولاده، واليمن شركة خاصة لصالح وأولاده وإخوته وأصهاره، وتونس ملك شخصي لعائلة الطرابلسي، ومصر حولها مبارك إلى قطاع خاص لولديه وزوجته وعصابة صغيرة مستفيدة منه.
إذن مع نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين وصلت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسة في العالم العربي إلى حالة غير مسبوقة من التمزق والانهيار والتخلف وانتشار الفقر والأمية والبطالة، وتراجع التعليم والقراءة والصحافة المحلية، واتساع الهوة بين حفنة من الأغنياء وجموع من الفقراء. إسرائيل شنت حربا على المدن الفلسطينية عام 2002 واحتلت أمريكا العراق عام 2003 بمساعدة عربية، وشنت إسرائيل حربا على جنوب لبنان عام 2006، وحربا دموية على قطاع غزة بين 27 ديسمبر 2008 و18 يناير 2009 قتل وجرح فيها الآلاف، ووقف النظام العربي متفرجا يطلق أحيانا بيانا مهذبا، يدعو إلى ضبط النفس، بل تباهى أحمد أبو الغيط، وزير خارجية مصر آنذاك، بإفشال قمة عربية لنجدة غزة، وهو الذي وقف يدا بيد مع تسيفي ليفني يوم 26 ديسمبر لتعلن أمامه الحرب على غزة.
معركة الحرية والكرامة مستمرة:
لقد حذرنا منذ البداية من أن الثورات من السهل أن تخطف أو يتم حرف مساراتها أو الاتقضاض على الجماهير لإرهابها. لقد انبرت كل قوى الشر والظلام المجسد في ثالوث الإمبريالية والصهيونية وعملائهما من الرجعية العربية لضرب الثورات العربية جميعها. فسرقة الثورات وعكس أو تحويل مساراتها ظاهرة عالمية. فالشعب الإيراني بكل قواه الحية أطلق ثورة عظيمة ضد الشاه، لكن التيار الإسلامي استطاع أن يحوز الثورة لنفسه، ويعلق رؤوس المناضلين اليساريين والليبراليين على المشانق. وستالين ورث أعظم ثورات القرن العشرين من صانع الثورة لينين فحولها إلى مجزرة، ذهب ضحيتها الملايين، ونابوليون أعاد الديكتاتورية إلى فرنسا عام 1799 واضطرت الثورة الفرنسية أن تصحح مسيرتها مرتين عام 1830 و1841 حتى استقامت أمورها. وهذا ما كتبته عام 2012 محذرا من اختطاف الثورات: «إن قوى الشر لن تقف على السياج تتفرج، وعناصر الثورة المضادة لن تبقى مكتوفة الأيدي بانتظار نجاح الثورات، بل ستحاول أن تنقض عليها، وهي مازالت في طور البراعم حتى لا يشتد عودها». وهذا ما حدث مع جميع الثورات العربية إلا تونس، التي مازالت تتعرض يوميا لمحاولات إجهاض الثورة، مرة بالمال ومرات بالتدخلات والتفجيرات. لقد نجحت الثورة المضادة في البحرين ومصر وليبيا واليمن وسوريا عن طريق التدخل المباشر، أو تعويم الثورات السلمية بالإرهابيين والدماء حتى لا يبقى أمام الجماهير إلا خياران: إما الديكتاتورية على علاتها، أو الفوضى والدمار والموت. وكأن الشعوب العربية لا تستحق إلا أحد هذين الخيارين.
نحن نثق بالشعوب العربية العظيمة، التي أطلقت الطبعة الثانية من الربيع العربي عام 2019 في كل من السودان والجزائر والعراق ولبنان، وما زالت المعركة قائمة. وكي تحمي أنظمة الطغيان نفسها احتضنت الكيان الصهيوني، لا خوفا من النظام الإيراني كما تدعي، بل خوفا من الجماهير الهادرة عندما تكسر القيود وتصمم على استرداد حقها في الحرية والحياة الكريمة لأنهم يعرفون أن القدر سيستجيب.
* باحث فلسطيني ومحاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.